تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

١
٢

٣

٤

سورة آل عمران

مدنية

وآاتها مئتان

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤)

* * *

معاني المفردات

(اصْطَفاكِ) : اختارك للكرامة الربانية. وقد مرّ الاصطفاء سابقا.

(اقْنُتِي) : أديمي الطاعة لله سبحانه. ومعنى القنوت : دوام الطاعة.

(أَقْلامَهُمْ) : أقواسهم وسهامهم التي يقترعون بها ، وإلقاء الأقلام طريقة خاصة كانت تمثل عملية الاقتراع آنذاك. وقيل : أقلامهم التي يكتبون بها التوراة حيث ألقوها في النهر.

* * *

٧

أجواء مغمورة باللطف الإلهي

... وتبقى مريم في أجواء روحيّة مغمورة باللطف الإلهي ، فقد أراد الله لها أن تعيش في حياتها السرّ الكبير الذي تتجلى فيه قدرة الله بأسلوب جديد لم يألفه البشر ، ولا بدّ لهذه الإنسانة التي اختارها الله من بين الناس ، من أن تعدّ نفسها لذلك إعدادا روحيّا مميّزا يوحي بالطهر والقداسة والاطمئنان ، وذلك في نطاق المشاعر العميقة برعاية الله لها وعنايته بها وحمايته لها من كل سوء ؛ فكان لها ذلك الجو الذي عاشته في حضانة زكريا وكفالته .. وامتدّ في حياتها بما أنزل الله لها من رزق يوحي بالكرامة في أجواء الغيب الذي ترفرف فيه الملائكة من خلال ما تحس به هذه الإنسانة الطاهرة ، مما قد يبعث في داخلها الدهشة والطمأنينة معا .. وبدأت الملائكة تحدثها ، في اللحظات التي أريد لها أن تقترب من موعد السر الكبير ، لتشعر بالحماية الإلهية قبل أن تدهمها المفاجأة التي تدخلها في التجربة الصعبة ..

وأخبرتها الملائكة بأن الله اختارها لكرامته وجعلها طاهرة من الدنس ، ليتعمّق في إحساسها الشعور بالطهر فلا يداخلها أيّ وهم طارئ بسبب ما ينتظرها من موقف غير مألوف ، لأن ذلك هو معنى عملية الاصطفاء من خلال ما توحي به من التميّز والتقدّم ... وربما كان في تكرار كلمة «الاصطفاء» تأكيد للفكرة وإيحاء بأنّ ما يحدث لها لم يحدث ولن يحدث لغيرها من نساء العالمين ... فهنّ لا يحملن إلّا بالوسائل الطبيعية للحمل ، أمّا هي فستحمل بوسيلة جديدة من وسائل القدرة الإلهيّة لولادة الإنسان ، الذي سيكون مميّزا ومعجزة في طريقة خلقه ونموّه العقلي والروحي.

وربما أثار هذا النداء في نفسها شعورا بالحيرة أمام هذا السّر الخطير الذي يلفّه الغموض والإبهام ، فهي تعرف أنه سرّ عظيم ، ولكنها تجهل كنهه ، وتريد أن تعي ماذا يجب عليها أن تفعله من فروض الشكر له على هذه الكرامة الخفيّة؟

... وحدّثتها الملائكة أن عليها أن تبقى في أجواء عبادة الله لتبقى في

٨

الأجواء الروحيّة التي تبتعد بها عن حدود المادة ، فتقنت في ما يمثله القنوت من معنى الطاعة عن خضوع ، وتركع وتسجد لله ، في ما يمثله هذا الانحناء من الشعور بالانسحاق الذاتي أمام عظمة الله ... فذلك هو الذي يحميها من كل مشاعر الضعف والقهر والاضطهاد مع الآخرين ، وهو الذي يساعدها على الانتظار في ظل الغموض الشاحب.

وتتوقف الآيات هنا ، لتلتفت إلى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتوحي إليه بأن ما قصّه الله عليه من قصّة مريم هو من أنباء الغيب التي أوحى بها الله ، فهو لم يعشها ولم يعرفها عن حسّ ومشاهدة ، ولم يقرأها ، لأنّه لم يمارس القراءة والكتابة ... وربما لم تكن بعض تفاصيلها معروفة حتى عند أهل الكتاب ، لأنها غير مذكورة بدقائقها في الإنجيل. وقد يكون في قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) إشارة إلى أن المراد بالغيب عدم الحضور ، في ذلك الوقت الذي وقف فيه القوم ليلقوا أقلامهم وهي القداح والسهام التي يقترعون بها عند ما اختصموا في كفالة مريم لمن تكون. ولعل في التأكيد على ذلك ما يوحي بقيمة هذه الحادثة لعلاقتها بالنمو الروحي لمريم عليها‌السلام.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) الذين أراد الله لهم أن يبلغوا إلى مريم رسالة روحية تفتح قلبها وتقوي روحيتها ، وتبلغ بها قمة السعادة المنفتحة على حب الله ، (يا مَرْيَمُ) أيتها الروح الملائكة في صورة إنسان ، التي تحررت من ضغط الشهوة فتمردت على كل عناصر الإغراء والإغواء ، فكانت السيدة على نفسها قبل أن تكون السيدة على الآخرين ، أيتها الإنسانة الطاهرة التي عاشت في شخصيتها طهارة العقل والروح والجسد ، أيّتها العابدة التي عاشت العبادة في حياتها انطلاقة عبودية لله في عمق إحساسها بمعنى الربوبية ، وخفقة روح بحب الله ، ونبضة قلب يحمده ويشكره ، وهزة شعور ينفتح عليه ... أيتها الضعيفة في جسدها ، القوية في روحها ، الكبيرة بإيمانها ، أيها الطهر الذي لا يقترب إليه دنس ، والنقاء الذي لا يصيبه كدر ، والصفاء الذي لا يطوف به العكر ... (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لتكوني محل كرامته ومظهر قدرته ومعجزة إرادته ، (وَطَهَّرَكِ)

٩

من كل رجس معنوي ، لتكوني رمز الطهر الأبيض بياض الثلج ، النقي نقاء النور ، (وَاصْطَفاكِ) من بين خلقه (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). فقد أعدّك إعدادا روحيا أخلاقيا لتكوني القدوة للجميع ، فلم تحصل امرأة من كل جيلك من النساء على ما حصلت عليه من الملكة الروحية والكرامة الإلهية ، وأنبتك نباتا حسنا في حركة النمو الطبيعي الواعد بأفضل النتائج وأطيب الثمار. ف (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) واستمري في خط الطاعة ، فلا بد من أن تبقي معه في صوفية الروح ، وعبادة الذات ، وخشوع الإحساس ، وحركية الكيان ... فإنك كلما عبدت الله وأطعته أكثر كلما فاضت ألطافه عليك أكثر ، وأحبّك أكثر ، (وَاسْجُدِي) في حالة انسحاق الذات أمامه كتعبير عن ذوبان الوجود في وجوده ، (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) بما يمثله الركوع من انحناء الإرادة أمام إرادة الله من خلال انحناء الجسد أمامه ؛ فإن قصة العبودية في حضرة الألوهية هي قصة الذوبان الروحي والجسدي في معنى الانسحاق الكلي في السجود لله والانحناء الكلي في الركوع له ، ليعيش الإنسان مع كل الراكعين في انحناء وجودي شامل يقف فيه الإنسان بكل وجوده خاضعا لله في عملية تكامل في معنى العبودية بين يدي الرب (١).

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لتعيش التاريخ الرسالي في حركته الروحية وفي نماذجه المميزة ، كما لو كنت في زمانه ، فتنطلق التجربة الحية في رسالتك لتكون منطلقا للسموّ والصفاء ، وانفتاحا على العبرة الواعية التي تمنح الحاضر درسا متحركا في تجربته من خلال الماضي في عملية تواصل بين الزمانين كمظهر للتواصل بين الرسالات (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) التي يكتبون بها ، أو أقواسهم التي كانوا يقترعون بها بما جعلوه عليها من

__________________

(١) اختلف المفسرون في تفضيل مريم على نساء العالمين ، هل المقصود نساء عالمها ـ وعليه أكثر المفسرين ـ أو نساء العالمين أجمع ـ وعليه الزجاج وغيره ، والظاهر أن القول الأول أصح لورود كثير من الروايات الصحيحة ، بأن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، كما أن طبيعة الاختيار توحي بذلك باعتبار أنه يحصل في دائرة النساء الموجودة في ذلك الزمن ؛ والله العالم.

١٠

علامات يعرفونها بها (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ويرعاها ويحفظها ويربيها بعد أن فقدت أباها وأمها ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) فقد كان التنافس بينهم شديدا حتى بلغ حدّ الخصومة ، لأن الظاهر أن كفالة مريم كانت تمثل لهم امتيازا يمنحهم الشرف ، وينفتح بهم على الخير ، وهكذا كانت النتيجة خروج القرعة على اسم زكريا عليه‌السلام ، الذي أراد الله له أن يكون الكفيل لمريم عليها‌السلام ، لأنّه يمثل الإنسان ـ النبي الصالح الذي يمكن أن يحقق لها النمو الطبيعي والتربية الصالحة.

* * *

شرعية القرعة

وقد نستفيد من هذه الآية شرعية القرعة كحلّ للمنازعات التي قد تحدث بين الناس إذا لم يكن هناك أساس معتبر للجدّ ، أو فرصة مناسبة للتفضيل في الواقع ، وأريد العدل في التحديد أو في القسمة بحسب حالة النزاع التي لم يتفق فيها الأشخاص المعنيّون على شيء معين بالتفاهم والتوافق ، كما في هذه القضية التي وقعت موضعا للخصومة الشديدة ، فلم يجد القوم سبيلا للوفاق إلّا الأخذ بالقرعة التي ارتضوا بها باعتبار أنها الطريقة المعروفة لديهم في مثل هذه الأمور. وهذا هو ما حدث ليونس عند ما اقترع الركاب في السفينة لتحديد الشخص الذي يقدّم للحوت الذي يهدّد السفينة بالغرق إلا إذا قدّم إليه أحدهم ليلتقمه ؛ وذلك هو قوله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١]. وروي أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقترع بين نسائه عند ما كان يريد السفر لاختيار واحدة منهن لصحبته ، كما أنه أمر بها في بعض الموارد ، وقد أقرّها علماء الإمامية من ناحية المبدأ ، استنادا إلى ما ورد في الكتاب والسنة ، وما أثر عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك ، فقد ورد عن محمد بن حكيم قال : سألت أبا الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام عن شيء فقال : «كل مجهول ففيه القرعة ، قلت له : إن القرعة تخطئ وتصيب ، فقال : كل ما حكم

١١

الله به فليس بمخطئ» (١) ، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : ما تقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحق ، وقال : «وأيّ قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله عزوجل؟ أليس الله تبارك وتعالى يقول : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)» (٢) [الصافات : ١٤١] ، وقد تعددت الروايات عن عليّ أنه استعملها في كثير من أقضيته.

أمّا أبو حنيفة وأصحابه ، فقد استبعدوا الأحاديث الواردة فيها ، واعتبروها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.

وقد أثير خلاف حول ما إذا كانت القرعة تحدّد الواقع المجهول إذا اشتبه أمره بين شيئين ، بحيث يختص موردها بما إذا كان الحق معينا في الواقع واشتبه علينا ظاهرا لعارض ، أو يشمل ما كان مرددا بين شيئين أو أكثر ولم يكن معينا في الواقع أيضا ويطلب فيه الشيئان ، ومن هذا القسم ما كان من الأمور المشتركة بين ذوي حقوق ولم يتراضوا بسهم عيّنه بعضهم بغير معين. والظاهر أن القرعة قاعدة عقلانية جرى عليها العقلاء في أمورهم العامة والخاصة كوسيلة من وسائل حسم الأمور المتنازع فيها ، إذا لم يكن هناك وسيلة خاصة معتبرة للوصول إلى نتيجة حاسمة ، وذلك من خلال ما ينطلقون به في تنظيم أمورهم في النظام العام الذي يلتزمونه بشكل عام ، بحيث يلومون ويؤنّبون الخارج عن هذا النظام. وقد درج العقلاء على الرجوع إلى أمارات خاصة ووسائل معينة لتحديد القضايا وحلّ المشكلات ، مما قرروه من وسائل الإثبات في القضاء وغيره ، ولكنهم قد يواجهون في حياتهم بعض المواقف التي لا يملكون فيها أية وسيلة معينة للتعيين أو للتحديد ، فكانت القرعة حلّا حيث لا حلّ ، من دون فرق بين ما إذا كان هناك واقع يراد تعيينه ، أو كانت المسألة موضع إشكال أو

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م. م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، ص : ٤٧٠ ، باب : ٢١ ، رواية : ٦.

(٢) (م. ن) ، م : ٣٧ ، ج : ١٠١ ، باب : ٢١ ، ص : ٤٧٠ ، رواية : ٥.

١٢

تنازع للأخذ بخيار خاص ، لأن الأساس فيها هو أن لا تبقى القضية بعيدة عن الحسم الذي يحلّ به النزاع ويرتفع به الإشكال.

وفي ضوء ذلك ، فإن القضية من القواعد العقلانية الإنسانية التي لا يختلف فيها شعب عن شعب ، فهي من القضايا التي تدفع إليها الحاجات البشرية العامة في حل المنازعات على قاعدة يرضى بها الجميع.

وربما كان أخذ الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بها منطلقا من صفتهم العقلائية ، إما من باب الإمضاء للبناء العقلائي الذي يعني إقرار العقلاء على ما يسيرون عليه في نظام حياتهم ، فيكون الحكم الشرعي إمضائيا ، وإما من باب أن الشريعة لا تحتاج إلى التشريع في مثل القرعة لأن للعقلاء شريعة منطلقة من فطرتهم الصافية بإلهام من الله ، فتكون القضية تماما كالقضايا الأخرى في طريقة طعامهم وشرابهم ولباسهم وسكنهم التي لم يحدد الله للناس فيها طريقة معينة ، بل ترك الأمر لهم في خط النظام العام من دون أن يصدر فيه حكما شرعيا خاصا ، إذ لا مقتضى له بعد أن كان الواقع العقلاني واقعا موافقا للمصالح العامة للناس.

* * *

القرعة : عبادة وابتهال

وقد جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت لتجعل للقرعة معنى دينيا في أسلوب دعائي ابتهالي ، يرجع فيه المقترعون إلى الله ، طالبين منه أن يلهمهم الصواب ويخرج لهم الحق ، فقد ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في الصحيح في رواية الفضيل بن يسار المروية في الكافي والتهذيب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء؟ قال : يقرع الإمام أو المقرع يكتب على سهم (عبد الله) وعلى سهم (أمة الله) ، ثم يقول الإمام والمقرع : اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك ما كانوا فيه يختلفون ، فبيّن لنا أمر هذا المولود كيف يورّث ما

١٣

فرضت له في الكتاب؟ ثم يطرح السهمان في سهام مبهمة ، ثم يجال السهام على ما خرج ، وورّث عليه (١).

وهكذا تتحول القرعة في مضمونها الديني الجديد إلى عملية تتضمن معنى العبادة والدعاء ، فهي ـ في هذا الجو ـ وسيلة من وسائل تفويض الأمر إلى الله ، عند ما تتعقد الأمور وتدفع إلى الشلل والحيرة ، وتخرج ـ بذلك ـ عن دائرة الأزلام المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستقسمون بها ، وهذا ما يجعل للطمأنينة النفسية في نتائجها أساسا في العقيدة التوحيدية التي تدعو الناس إلى التفويض إلى الله والرضى به. ولهذا فإنها لا يمكن أن تقع على سبيل التجربة التي لا تنطلق من الجدّية في الوصول إلى الحل ؛ وهذا ما رواه في التهذيب صحيحا عن جميل قال : قال الطيار لزرارة : ما تقول في المساهمة «القرعة» أليس حقا؟ فقال زرارة : بل هي حق. فقال الطيار : أليس قد رووا أنه يخرج سهم المحق؟ قال : بلى. قال : فتعال حتى أدّعي أنا وأنت شيئا ثم نساهم عليه وينظر هكذا هو ، فقال زرارة : إنما جاء الحديث بأنه ليس قوم فوّضوا أمرهم إلى الله ثم أقرعوا إلّا خرج سهم المحق ، فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب ، فقال الطيار : أرأيت إن كان جميعا مدّعيين ادعيا ما ليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة : إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح ، فإن كان ادعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح (٢).

وهذه الثقة بالنتائج ليست منطلقة من طبيعة العملية كلعبة خاصة يحاول اللاعبون أن يجربوا فيها حظهم ، بل هي قضية إخلاص روحي في الرجوع إلى الله ، ليختار لهم ما فيه صلاحهم أو ما فيه تعيين الحق في الواقع ، ممّا يجعل للمسألة بعدا إيمانيا في الروح ، لا مجرد بعد إلهيّ في الوسائل.

* * *

__________________

(١) الكليني ، محمد بن يعقوب ، الكافي ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ، ج : ٧ ، ص : ١٥٨ ، رواية : ٢. والتهذيب ، ج : ٦ ، باب : ٢٢ ، ص : ٢٣٩ ، رواية : ١٩.

(٢) التهذيب ، ج : ٦ ، باب : ٢٢ ، ص : ٢٣٨ ، رواية : ١٥.

١٤

الآيات

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

* * *

معاني المفردات

(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) : بإرادة الله التكوينية المعبّر عنها بالأمر الإلهي في كلمة (كن) ، لما لولادته من خصوصية عدم وجود المقتضى وهو الزوج والاقتراب.

(الْمَسِيحُ) : عيسى عليه‌السلام قيل : سمي بذلك لأنه كان مسيحيا باليمن والبركة ، أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، أو لأنه كان يمسح ذوي العاهة فيبرءون ، إلى ما هناك من وجوه أخرى. والأقرب أن كلمة المسيح معرّبة ، وتعني المبارك أو الملك أو ما شبه ذلك ، قال تعالى : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم : ٣١] ومهما كان المعنى الأصلي في اللغة ، فإن الكلمة

١٥

تحوّلت إلى علم على السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، وغلبت عليه بحيث لم يلتفت أحد إلى المناسبة بين المعنى اللغوي وبينه.

(وَجِيهاً) : ذا جاه وقدر وشرف ومنزلة في الدنيا من خلال واقعه الرسالي ، وفي الآخرة جزاء لجهاده وعطائه. ويقال : له وجاهة عند الناس وجاه ، أي منزلة رفيعة. والوجيه الكريم على من يسأله فلا يردّه لكرم وجهه عنده ، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيردّ ، ويطلق الوجه على صدر الشيء وأوّله ، أو على الشيء الذي يتوجه إليه.

(الْمَهْدِ) : ما يهيّأ للصبي من الفراش ، ويمهّد لنومه.

(وَكَهْلاً) : الكهل : ما بين الشاب والشيخ ، والكهولة : ما بين الشباب والشيخوخة ، وهو ما يكون الإنسان فيه تاما وقويا .. يقال : اكتهل النبت إذا طال وقوي والمرأة كهلة. وقيل : الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة ، ومنه الكاهل ما فوق الظهر إلى ما يلي العنق.

* * *

وجود يمثل إرادة التكوين

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

... وتأتي البشارة ـ المفاجأة من الله على لسان الملائكة بالإنسان ـ الكلمة ، ولكنها ليست كلمة من نوع الحروف التي تتألف منها الكلمات ، بل هي الوجود المتفجّر بالحياة ، النّابض بالحركة ، الذي يمثل إرادة الله في التكوين المعبّر عنها لإيضاح الفكرة بالأمر الإلهي في كلمة «كن» ، وبذلك تتحول الكلمة ـ الإرادة إلى إنسان اسمه المسيح عيسى بن مريم عليهما‌السلام. وإذا كانت الوجودات كلها خاضعة لإرادة التكوين ، فإن خصوصية الوجود هنا أنها لا تخضع للأسباب الطبيعية في ولادة الأشياء ، بل

١٦

هي مرتبطة بالإرادة بشكل مباشر أو غير مألوف ؛ لأمر الذي يجعل نسبته إلى الكلمة أقرب من نسبة سائر الأشياء إليه. أما كلمة المسيح فالأقرب أنّها معرّبة ، وتعني المبارك أو الملك أو ما يقرب من ذلك ، وذلك ما ينقله المفسرون ، وربما يوحي بذلك ما ورد في آية أخرى ، في ما حكاه الله عن قول عيسى : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) [مريم : ٣١] وقد نسب إلى أمّه للإيحاء بأنه بلا أب.

ويثير المفسرون ـ في هذا المجال ـ مشكلة الحديث عن الملائكة بصيغة الجمع ... مع أن سورة مريم تتحدث عن ملك واحد وذلك في قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ، ولكن هذه الآية لا توحي أنه كان وحده ، فربّما كان هو الشخص الرئيس والآخرون معه كأتباع. وربّما كانت هناك وجوه أخرى تبرّر ذلك ممّا لا نطيل الحديث فيه.

ويفيض الملائكة الحديث عن صفاته ، للإيحاء بأهميّة هذا المولود وما يحققه للحياة من خير وبركة ، وما يمنحه لأمّه من شرف ورفعة : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) فستكون له الوجاهة في الدنيا من خلال موقعه الرسالي في ما يثيره من قضايا ومواقف ، ومن خلال إيمان الناس بنبوّته ورسالته ، وتبجيلهم وتقديسهم له ، (وَالْآخِرَةِ) وسيحصل على الوجاهة في الآخرة في ما يرفعه الله من درجات جزاء لجهاده وتضحياته وآلامه القاسية التي تحمّلها في سبيل الله (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وسيكون من المقرّبين إلى الله ، انطلاقا من قربه الروحي والفكري والعملي إلى الله في خشوع العبادة وخضوع العمل ...

وتتجسد المفاجأة أمامها وتأخذها الدهشة حتى لا تكاد تصدّق ما تسمع من الملائكة ، فهم يقولون لها : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) ويحدّثهم ويحاورهم ، مما لم يألفه الناس في أولادهم ... ويسترسلون في الحديث ، كأنّهم لم يتحدثوا بشيء غريب يفرض التوقّف على المتكلم والسامع من أجل الخروج من جوّ الدهشة والغرابة : (وَكَهْلاً) فإنه سيعيش إلى عمر الكهولة ، (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) يعيش حياة متحركة مع الناس ، وسيبقى رمزا للصلاح في خطواته وأعماله كما يعيش الصالحون في الحياة.

١٧

وتقف العذراء عليها‌السلام للتساؤل ، بعد أن عاشت غيبوبة روحيّة لذيذة خاشعة مع هذه البشارة الكبيرة ومعناها. وكيف يكون لها ولد ؛ وهي بعد لما تتزوّج ولم يمسها بشر لتتحقق من خلال ذلك الوسيلة الطبيعية لولادة هذا المولود العجيب؟ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) في مناجاة تشبه الاستغاثة وتتوسّل في جلاء غموض هذا السرّ. ويأتيها الجواب من الله : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فليست هناك حدود للوسائل التي تحقق الوجود ، لأن مشيئته هي كل شيء في الخلق ، فإذا أراد الشيء وجد ، فليس هناك إلا مشيئته فهي سرّ الوجود وسرّ الحياة (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). وترجع إلى إيمانها في هدوء واستسلام ، ولكنها تظل في جوّ الأسرار الذي يحيط بها من كل جانب ، فهي تؤمن أن القضية كل القضية هي مشيئة الله ، ولكنها لم تعرف ـ حتى الآن ـ كيف تتحرك المشيئة في ولادة هذا المولود العجيب.

* * *

إشكالات وملاحظات

وهنا ملاحظة ، وهي أن الآية تحدثت عن امتداد عمر عيسى عليه‌السلام إلى مرحلة الكهولة ، ولكن الأناجيل تصرّح أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة ، وقد حاول البعض أن يتحدث عن بلوغه السن المذكورة بعد نزوله من السماء ، ويتحدث بعض آخر عن أن عيسى عليه‌السلام بلغ أربعا وستين سنة خلافا للأناجيل.

وربّما أوّل بعض المفسرين الآية بأن المراد بها هو أن عيسى عليه‌السلام يكلم الناس في المهد بالطريقة التي يكلمهم فيها كهلا ، لأن قضية تكليمه للناس في المهد ـ وهي مرحلة السنة الثانية ـ ليس أمرا عجيبا ، لأن أغلب الأطفال يتكلمون بطريقة طفولية معينة ، ولكن العجيب أن يكلّمهم كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل ، فهذا هو الخارق للعادة.

١٨

وقد يلاحظ على ذلك بأن عيسى عليه‌السلام تكلّم بكلام مفيد بالطريقة العقلانية شكلا ومضمونا في أول ولادته ، وذلك هو قوله تعالى في سورة مريم : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا* يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٧ ـ ٢٩].

وهناك ملاحظة أخرى ، وهي أنه قد يقال : إن الله عبّر بكلمة «يخلق» هنا ، بينما جاء التعبير في قصة زكريا بقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ، فما هو وجه الاختلاف؟

وقد يجاب بأن حالة زكريا ليست حالة غير طبيعية في علاقة المسبب بالسبب ، لأن الولادة ـ على تقديرها ـ تحصل بالطريقة الطبيعية للتناسل ، لكن هنا مانعا يمنع من فعليتها وهو الشيخوخة والعقم ، أما حالة مريم فإنها تخالف طبيعة القانون العام لولادة الإنسان لأنها بلا زوج ، مما يجعل القضية لديها قضية «خلق» ، بينما هي في قضية زكريا قضية «فعل» من خلال رفع المانع ، ولكن في هذه الملاحظة تأمّلا ، لأن مسألة الخلق صادقة على وجود الإنسان ، سواء كان ذلك بالطريقة الطبيعية في القانون العام أو بالطريقة الخارقة للعادة ، فقد عبّر الله عن خلق آدم عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام كما عبر به عن خلق الإنسان بالطريقة العادية ، وذلك هو قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩].

* * *

١٩

الآيتان

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

* * *

معاني المفردات

(الْأَكْمَهَ) : هو الذي ولد أعمى ، وقد يطلق على من فقد بصره. والكمه : العمى.

(وَالْأَبْرَصَ) : من أصيب بمرض البرص ، وهو مرض يصيب الجلد.

* * *

٢٠