السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2501-97-7
الصفحات: ٤٨٧
أمّا الإمام الحسن السبط عليهالسلام ... فلأنّ معاوية قد عاهده على رجوع الأمر إليه من بعده ، حتّى إنّ الأحنف بن قيس أيضاً قد ذكّره بذلك (١) ... فكان أن صمّم على القضاء عليه ، فدسّ إليه السمّ على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس ، في قضيّة مفصّلةٍ اتّفق على روايتها رواة الفريقين ...
تجد ذلك في سائر كتب أصحابنا ، كالكافي والإرشاد ومناقب آل أبي طالب ، وغيرها (٢).
وقال ابن عبد البرّ : «قال قتادة وأبو بكر ابن حفص : سمّ الحسن بن علي ، سمّته امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقالت طائفة : كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك ...
قال : ذكر أبو زيد عمر بن شبّة وأبو بكر بن أبي خيثمة ، قالا : حدّثنا
__________________
(١) فقد قال له : إنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً» ؛ انظر : الإمامة والسياسة ١ / ١٩١
(٢) الكافي ١ / ٤٦٢ باب مولد الحسن عليهالسلام ح ٣ ، الإرشاد ٢ / ١٥ ، مناقب آل أبي طالب ٤ / ٤٧ ـ ٤٨ ، كشف الغمّة ١ / ٥٨٤ ـ ٥٨٥ ، الاحتجاج ٢ / ٧١ ـ ٧٣ ح ١٥٩ و ١٦٠.
وانظر من كتب الجمهور ـ مثلاً ـ : المنتظم ٤ / ٤٨ ـ ٤٩ ، البداية والنهاية ٨ / ٣٥ ، تاريخ الخميس ٢ / ٢٩٣ ، العقد الفريد ٣ / ٣٥١
موسى بن إسماعيل ، قال : حدّثنا أبو هلال ، عن قتادة ، قال : دخل الحسين على الحسن ، فقال : يا أخي إنّي سُقيت السمَّ ثلاث مرار ، لم أُسْقَ مِثْل هذه المرّة ، إنّي لأضَعُ كَبدي.
فقال الحسين : مَنْ سقاك يا أخي؟
قال : ما سؤالك عن هذا؟! أَتريدُ أن تقاتلهم؟! أَكِلُهُم إلى الله.
فلمّا مات ورَد البريد بموته على معاوية ، فقال : يا عجباً من الحسن ، شرب شربةً من عسل بماء رومة ، فقضى نحبه.
وأتى ابن عبّاس معاوية ، فقال له : يا بن عبّاس! احتسب الحسن ، لا يحزنك الله ولا يسوؤك.
فقال : أمّا ما أبقاك الله لي يا أمير المؤمنين فلا يحزنني الله ولا يسوؤني.
قال : فأعطاه على كلمته ألف ألف وعروضاً وأشياء ، وقال : خُذها واقْسِمْها على أهلك.
حدّثني عبد الوارث ، حدّثنا قاسم ، حدّثنا عبد الله بن رَوح ، حدّثنا عثمان بن عمر بن فارس ، قال : حدّثنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : كنّا عند الحسن بن عليّ ، فدخل المخرج ثمّ خرج ، فقال : لقد سُقِيت السمَّ مراراً وما سُقيتُه مثلَ هذه المرة ، لقد لفظتُ طائفة من كبدي ، فرأيتني أَقلِبُها بعودٍ معي.
فقال له الحسين : يا أخي! مَنْ سقاك؟!
قال : وما تُريد إليه؟! أتريد أن تقتله؟!
قال : نعم.
قال : لئن كان الذي أظنُّ فالله أشدُّ نقمة ، ولئن كان غيره ما أحِبُّ أن تقتل بي بريئاً» (١).
وقال أبو الفرج الأصبهاني : «ودسّ معاوية إليه حين أراد أن يعهد إلى يزيد وإلى سعد بن أبي وقّاص سمّاً ، فماتا منه في أيّام متقاربة ، وكان الذي تولّى ذلك من الحسن زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس لمالٍ بذله لها معاوية» (٢).
وقال ابن أبي الحديد : «قال أبو الحسن المدائني : وكانت وفاته في سنة تسع وأربعين ، وكان مرضه أربعين يوماً ، وكانت سنّه سبعاً وأربعين سنة ، دسّ إليه معاوية سمّاً على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن وقال لها : إنْ قتلتيه بالسمّ فلك مئة ألف وأُزوّجك يزيد ابني. فلمّا مات وفى لها بالمال ولم يزوّجها من يزيد قال : أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله» (٣).
وقال البلاذري : «إنّ معاوية دسّ إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس امرأة الحسن ، وأرغبها حتّى سمّته» (٤).
وقال الزمخشري : «جعل معاوية لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن مئة ألف حتّى سمّته ، ومكث شهرين وإنّه ليرفع من تحته كذا طستاً من دم ،
__________________
(١) الاستيعاب ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ رقم ٥٥٥.
الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٣٨٦ رقم ١٣٧٣ ، أُسد الغابة ١ / ٤٩٢ رقم ١١٦٥ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٧٤ رقم ٤٧ ، الإصابة ٢ / ٧٤ رقم ١٧٢١
(٢) مقاتل الطالبيّين : ٦٠
(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ / ١١
(٤) أنساب الأشراف ٣ / ٢٩٥
وكان يقول : سُقيت السمّ مراراً ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرّة ، لقد لفظت كبدي فجعلت أُقلّبها بعود كان في يدي» (١).
وقال المسعودي : «وذُكر أنّ امرأته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي سقته السمّ ، وقد كان معاوية دسّ إليها : إنّك إن احتلت في قتل الحسن وجّهت إليك بمئة ألف درهم وزوّجتك من يزيد ؛ فكان ذلك الذي بعثها على سمّه ، فلمّا مات وفى لها معاوية بالمال وأرسل إليها : إنّا نحبّ حياة يزيد ، ولولا ذلك لوفينا لك بتزويجه» (٢).
وقال ابن تيميّة ـ في مقام الدفاع عن معاوية ـ : «والحسن رضي الله عنه قد نقل عنه أنّه مات مسموماً ، وهذا ممّا يمكن أنْ يعلم ، فإنّ موت المسموم لا يخفى ، لكن يقال : إنّ امرأته سمّته ، ولا ريب أنّه مات بالمدينة ومعاوية بالشام ، فغاية ما يظنّ الظانّ أنْ يقال : إنّ معاوية أرسل إليها وأمرها بذلك ... فإنْ كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال بعضهم بعضاً ...» (٣).
وإذا كان ابن تيميّة يشكّك في الحقائق الواقعة ، فإنّ بعض المتعصّبين قد صرّح بتكذيب ذلك ، فقد قال ابن خلدون : «وما يُنقل من أنّ معاوية دسّ إليه السمّ مع زوجته جعدة بنت الأشعث ، فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية من ذلك» (٤).
هذا ، وقد ذكروا أنّ معاوية لمّا أتاه خبر وفاة الإمام الحسن عليه
__________________
(١) ربيع الأبرار ٤ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩
(٢) مروج الذهب ٢ / ٤٢٧
(٣) منهاج السُنّة ٤ / ٤٦٩ ـ ٤٧١
(٤) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٦٢٠
السلام ، أظهر فرحاً وسروراً ، حتّى سجد ...!
قالوا : «فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتّى سجد ، وسجد من كان معه ، فبلغ ذلك عبد الله بن عبّاس ـ وكان بالشام يومئذٍ ـ فدخل على معاوية ، فلمّا جلس قال معاوية : يا بن عبّاس ، هلك الحسن بن عليّ.
فقال ابن عبّاس : نعم هلك ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ترجيعاً مكرّراً ، وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته. أما والله ما سدّ جسده حفرتك ، ولا زاد نقصان أجله في عمرك ، ولقد مات وهو خير منك ، ولئن أُصبنا به لقد أُصبنا بمن كان خيراً منه ، جدّه رسول الله ، فجبر الله مصيبته ، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة ...» (١).
وفي لفظ ابن خلّكان : «ولمّا كتب مروان إلى معاوية بشكاته كتب إليه : أن أقبل المطي إلي بخبر الحسن ؛ ولمّا بلغه موته سمع تكبيراً من القصر ، فكبّر أهل الشام لذلك التكبير! فقالت فاختة زوجة معاوية : أقرّ الله عينك يا أمير المؤمنين ، ما الذي كبّرت له؟
قال : مات الحسن.
قالت : أعَلى موت ابن فاطمة تكبّر؟!
قال : والله ما كبّرتُ شماتةً بموته ، ولكن استراح قلبي!
وكان ابن عبّاس بالشام فدخل عليه فقال : يا بن عبّاس ، هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟
قال : لا أدري ما حدث ، إلّاأنّي أراك مستبشراً ، وقد بلغني تكبيرك
__________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ، مروج الذهب ٢ / ٤٣٠ ، العقد الفريد ٣ / ٣٥١ ، ربيع الأبرار ٤ / ١٨٦ ـ ١٨٧ و ٢٠٩
وسجودك!
قال : مات الحسن.
قال : إنّا لله ، يرحم الله أبا محمّد ثلاثاً ؛ ثمّ قال : والله يا معاوية ، لا تسدُّ حفرتُه حفرتَك ، ولا يزيد نقص عمره في يومك ، وإنْ كنّا أُصبنا بالحسن لقد أُصبنا بإمام المتّقين وخاتم النبيّين ، فسكّن الله تلك العبرة ، وجبر تلك المصيبة ، وكان الله الخلف علينا من بعده» (١).
__________________
(١) وفيات الأعيان ٢ / ٦٦ ـ ٦٧ رقم ١٥٥
الفصل الخامس :
بين الإمام الحسين عليهالسلام ومعاوية
وهكذا ... تمكّن معاوية من القضاء على كلّ من يحتمل أن يكون وجوده مزاحماً لولاية يزيد أو يكون معارضاً ، وتمكّن من إكراه الناس على البيعة.
وقد نصّ العلماء ـ كالحافظ الذهبي ـ على أنّه قد أكره الناس على بيعة يزيد (١).
هذا ، ولقد كان معاوية يقول : «لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي وعرفت قصدي» (٢).
ثمّ قال ليزيد : «يا بني! إنّي قد كفيتك الرحلة والرجال ، ووطّأت لك الأشياء ، وذلّلت لك الأعزّاء ، وأخضعت لك أعناق العرب» (٣).
وفي لفظٍ آخر : «يا بني! إنّي قد كفيتك الشدّ والترحال ، ووطّأت لك الأُمور ، وذلّلت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب ، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد» (٤).
__________________
(١) تاريخ الإسلام ـ حوادث سنة ٦٠ ـ : ١٦٧
(٢) الفتوح ـ لابن أعثم ـ ٤ / ٢٤٩ ، نسب قريش : ١٢٧ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ١٥٦ رقم ٢٥
(٣) البداية والنهاية ٨ / ٩٣ حوادث سنة ٦٠ ه
(٤) الكامل في التاريخ ٣ / ٣٦٨ ، وانظر : الفتوح ـ لابن أعثم ـ ٤ / ٣٥٤ ، نهاية الأرب ٢٠ / ٣٦٥
وفي رواية ابن الأعثم : «إنّي من أجلك آثرت الدنيا على الآخرة ، ودفعت حقّ عليّ بن أبي طالب ، وحملت الوزر على ظهري» (١).
وفي رواية الذهبي : «روى الواقدي : حدّثنا ابن أبي سبرة ، عن مروان ابن أبي سعيد بن المعلّى ، قال : قال معاوية ليزيد ـ وهو يوصيه ـ : اتّق الله ، فقد وطّأت لك الأمر ، ووليت من ذلك ما وليت ، فإنْ يك خيراً فأنا أسعد به ، وإنْ كان غير ذلك شقيت به ، فارفق بالناس ، وإيّاك وجبه أهل الشرف والتكبّر عليهم ...
وروى يحيى بن معين ، عن عبّاس بن الوليد النرسي ـ وهو من أقرانه ـ ، عن رجل ، أنّ معاوية قال ليزيد : إنّ أخوف ما أخاف شيئاً عملته في أمرك ، وإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلّم يوماً أظفاره وأخذ من شعره ، فجمعت ذلك ، فإذا متُّ فاحشُ به فمي وأنفي.
وروى عبد الأعلى بن ميمون بن مهران ، عن أبيه : إنّ معاوية قال في مرضه : كنت أُوضّئ رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوماً ، فنزع قميصه وكسانيه ، فرقعته وخبّأت قلامة أظفاره في قارورة ، فإذا متّ فاجعلوا القميص على جلدي ، واسحقوا تلك القلامة واجعلوها في عيني ، فعسى الله أن يرحمني ببركتها» (٢).
أقول :
وهذا الخبر ـ إن صحّ ـ دلّ على تبرّك الصحابة بآثار رسول الله صلّى
__________________
(١) الفتوح ٤ / ٣٥٤
(٢) تاريخ الإسلام ٢ / ٣٢٣
الله عليه وآله وسلّم ، واعتقادهم بنفعها في القيامة!!
إلّا أن أساليبه المختلفة لم تنتج مع سيّدنا أبي عبد الله عليهالسلام وعبد الله بن الزبير ، وكلامنا الآن في ما دار بينه وبين الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام :
من الكتب بين الإمام الحسين عليهالسلام ومعاوية
وذكر ابن قتيبة ما كتب به معاوية إلى الإمام الحسين عليهالسلام :
«أمّا بعد ، فقد انتهت إليَّ منك أُمور ، لم أكن أظنّك بها رغبةً عنها ، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة مَن كان مثلك ، في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع إلى قطيعتك ، واتّق الله ولا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأُمّة محمّد (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَايُوقِنُونَ) (١)» (٢).
قال : «وكتب إليه الحسين رضي الله عنه : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي أُمور ، لم تكن تظنّني بها رغبة بي عنها ...» (٣).
فذكر الإمام عليهالسلام جملةً من مساوئ معاوية ومخازيه وما ارتكبه من الظلم والقتل للأخيار ، في كتابٍ طويل ... جاء في آخره :
«واعلم ، أنّ لله كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّاأحصاها ، واعلم ،
__________________
(١) سورة الروم ٣٠ : ٦٠
(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٠١
(٣) الإمامة والسياسة ١ / ٢٠٢
أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة ، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلّاوقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعيّة» (١).
ومن كلام الإمام الحسين عليهالسلام عن يزيد بن معاوية
وكان ممّا قاله الإمام عليهالسلام ـ في جواب معاوية عندما ذكر يزيد وجعل يمدحه ويعدّد له الفضائل ـ بعد حمد الله والصلاة على رسوله :
«وفهمت ما ذكرته عن يزيد ، من اكتماله وسياسته لأُمّة محمّد ، تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلمٍ خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد في ما أخذ فيه ، من استقرائه الكلاب الهارشة عند التهارش ، والحمام السبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي ، تجده باصراً.
ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أنْ تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور وحنقاً في ظلم ، حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلّاغمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يومٍ مشهود ، ولات حين مناص ...» (٢).
__________________
(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤
(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩
الفصل السادس :
كتب أهل العراق
إلى الإمام عليهالسلام
في حياة معاوية
وفي مثل هذه الظروف وعلى عهد معاوية! وردت على الإمام الحسين عليهالسلام كتبٌ من الكوفة.
قال ابن كثير : «قالوا : لمّا بايع الناس معاوية ليزيد ، كان حسين ممّن لم يبايع له ، وكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم في خلافة معاوية ، كلّ ذلك يأبى عليهم ، فقدم منهم قوم إلى محمّد بن الحنفيّة يطلبون إليه أن يخرج معهم ، فأبى ، وجاء إلى الحسين يعرض عليه أمرهم ، فقال له الحسين : إنّ القوم إنّما يريدون أنْ يأكلوا بنا ويستطيلوا بنا ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا ...» (١).
وقد كتب إليهم عليهالسلام كتاباً يأمرهم بالصبر ، ويقول لهم في ما رواه البلاذري وغيره : «فالصقوا بالأرض ، وأخفوا الشخص ، واكتموا الهوى ، واحترسوا ... ما دام ابن هند حيّاً ، فإن يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي» (٢).
__________________
(١) البداية والنهاية ٨ / ١٢٩ حوادث سنة ٦٠ ه ، وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٢٢ رقم ١٣٧٤ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ رقم ٤٨
(٢) أنساب الأشراف ٣ / ٣٦٦ ، الأخبار الطوال : ٢٢٢
ريبة الإمام في الكتب وأصحابها
لكنّ الذي يلوح الناظر في كلماته وكتاباته عليهالسلام هو الريب في تلك الكتب وأصحابها ... فقد رأينا قوله لأخيه محمّد : «إنّ القوم إنّما يريدون أنْ يأكلوا بنا ويستطيلوا بنا ...».
ومن العجيب : أنّ هذا الذي قاله عليهالسلام لأخيه في المدينة وعلى عهد معاوية ، قد سمعه في طريقه إلى العراق من بعض القادمين من الكوفة لمّا سأل عن أهلها ، فقد أجاب الإمامَ بقوله : «أمّا الأشراف ، فقد عظمت رشوتهم ... وما كتبوا إليك إلّاليجعلوك سوقاً ومكسباً ...» (١).
وما زال الإمام عليهالسلام في ريب ممّا وصلته من الكتب وجاءه من الرسل ، حتّى إنّه لمّا بعث إليهم ابن عمّه مسلم بن عقيل ، كتب إلى أهل الكوفة كتاباً يدلّ دلالة واضحةً على عدم وثوقه بهم وبالكتب التي أتته من قبلهم ، فقد كتب إليهم : «وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ، فإنْ كَتبَ إليَّ بأنّه قد اجتمع رأي مَلَئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قَدمَتْ به رسلكم وقَرأتُ في كتبكم ، أقدمُ عليكم وشيكاً إن شاء الله ...» (٢).
وروى ابن سعد ـ صاحب «الطبقات» ـ ، بإسناده عن يزيد الرشك (٣) ، قال : «حدّثني مَن شافه الحسين ، قال : إنّي رأيت
__________________
(١) انظر : البداية والنهاية ٨ / ١٣٩ حوادث سنة ٦١ ه ، الحسين والسُنّة : ٥٨
(٢) الإرشاد ٢ / ٣٩ ، وانظر : بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٤
(٣) هو : أبو الأزهر البصري ، يزيد بن أبي يزيد ، الضبعي ولاءً ، المعروف بالرَّشك ،
أخبيةً (١) مضروبةً بفلاة من الأرض ، فقلت : لمن هذه؟
قالوا : هذه للحسين.
فأتيته ، فإذا شيخ يقرأ القرآن ، قال : والدموع تسيل على خدّيه ولحيته ؛ قال : قلت : بأبي وأُمّي يا بن رسول الله ، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟!
قال : هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلّاقاتليّ ؛ فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمةً إلّاانتهكوها ، فيسلّط الله عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة. يعني مقنعتها (٢)» (٣).
__________________
وثّقه ابن سعد وابن حجر ، توفّي سنة ٣٠ ه وله من العمر مئة سنة.
انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٩ / ٢٤٤ رقم ٤٠١٥ ، تهذيب التهذيب ١١ / ٣٧١ ـ ٣٧٢ رقم ٧١٥
(١) في لفظ : أبنية
(٢) الفَرم ـ اصطلاحاً ـ : هي خرقة الحيض التي تحملها المرأة في فرجها ؛ انظر : لسان العرب ١٠ / ٢٥١ مادّة «فرم»
(٣) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٣١ رقم ١٣٧٤ ، وانظر : تاريخ الطبري ٣ / ٣٠٠ ، بغية الطلب ٦ / ٢٦١٥ ـ ٢٦١٦ ، البداية والنهاية ٨ / ١٣٥
البابُ الثاني :
موت معاوية
وبدء تطبيق مخطّطاته
ضدّ الإمام الحسين عليهالسلام
في فصلين :