من هم قتلة الحسين عليه السلام ؟ شيعة الكوفة ؟

السيّد علي الحسيني الميلاني

من هم قتلة الحسين عليه السلام ؟ شيعة الكوفة ؟

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2501-97-7
الصفحات: ٤٨٧

الفصل الأوّل :

مواقف الولاة من الإمام

١٦١
١٦٢

وهكذا نجد معاوية حائراً مع الإمام عليه‌السلام ، فلا هو أهل للمساومة ، ولا التهديدات ترعبه ، وهو إنْ بقي بين أظهر الناس وفي عاصمة الإسلام ومدينة جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلن يتمّ الأمر ليزيد ...

من بنود الصلح أن لا يغتال الحسن أو الحسين

ومن جهةٍ أُخرى ، فقد تعهّد في بنود الصلح ـ كما تقدّم ـ على أن لا يصيب الحسن والحسين عليهما‌السلام بضرر أو أذىً ولا يمسّهما بسوءٍ.

فهو وإنْ نكث العهد باغتيال الإمام الحسن عليه‌السلام ، إلّاأنّه قد أقدم على ذلك بواسطة زوجته ظنّاً منه أنّ ذلك سيبقى سرّاً لا يطّلع عليه أحدٌ ، فجعل يخطّط للقضاء على الإمام الحسين عليه‌السلام على يد أهل العراق بالتنسيق مع الخوارج في الكوفة ومع أنصار الأُمويّين هناك ، هذا من جهةٍ ، ومع ولاته في المدينة ومكّة والكوفة من جهةٍ أُخرى ...

وصيّة معاوية حول الحسين عليه‌السلام

ولذا نراه يكتب إلى مروان أن اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك

١٦٣

عداوته ؛ وسيأتي نصّه الكامل.

ثمّ إنّه يوصي يزيد بأن لا يتعرّض للإمام عليه‌السلام ، ويخبره بدعوة أهل الكوفة إيّاه وأنّهم سيكفونه أمره ، في حين يوصيه بشدّة ويغلّظ عليه بأن يقطّع ابن الزبير إرباً إرباً إنْ ظفر به وتمكّن منه (١).

نعم ، لقد مات معاوية في النصف من رجب سنة ستّين من الهجرة (٢) وكان قد أوصى يزيد ـ في ما اتّفقت المصادر عليه ـ أنْ لا يمسّ الإمام عليه‌السلام بسوء ، وأنّ الّذين قتلوا أباه وأخاه سيدعونه إلى العراق وهم الّذين سيقتلونه!

«أمّا الحسين بن عليّ ، فأحسب أهل العراق غير تاركيه حتّى يخرجوه ، فإن فعل فظفرت به ، فاصفح عنه ...» (٣).

«انظر حسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنّه أحبّ الناس إلى الناس ، فَصِلْ رحمه وارفق به يصلح لك أمره ، فإن يك منه شيء ، فإنّي أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه ...» (٤).

__________________

(١) انظر : تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣

(٢) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٢٤ ، البداية والنهاية ٨ / ١١٥ ، أنساب الأشراف ٣ / ٣٦٨

(٣) انظر : الأخبار الطوال : ٢٢٦ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٦٠ ، المنتظم ٤ / ١٣٧ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٢ ـ ٢٣

(٤) انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٢٣ ، العقد الفريد ٣ / ٣٦٠ ، تهذيب الكمال ٤ / ٤٨٨ رقم ١٣٠٥ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٩٥ رقم ٤٨ ، تاريخ الإسلام ٢ / ٣٤١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٦٢ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣ ، بغية الطلب في تاريخ حلب ٦ / ٢٦٠٧

١٦٤

وفي رواية الخوارزمي :

«وأمّا الحسين بن عليّ ، فأوّه أوّه يا يزيد! ماذا أقول لك فيه؟! فاحذر أنْ تتعرَّض له إلّابسبيل خير! وامدد له حبلاً طويلاً ، وذره يذهب في الأرض كيف يشاء ولا تؤذه ، ولكن أرعِد له وأبرِق ، وإيّاك والمكاشفة له في محاربةٍ بسيف ، أو منازعة بطعن رمح» (١).

وكان الوالي يومئذ على المدينة : الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، بعد أنْ كان عليها مروان بن الحكم ، الذي كان يكتب إلى معاوية في الإمام عليه‌السلام ويثيره ويهيّجه ضدّه ، بل كانت هذه حالته ضدّ الإمام حتّى في إمارة الوليد ، كما سنرى.

سعي الحكومة وراء خروج الإمام من المدينة

وبينما كانت الرسل والكتب تدعوه إلى الخروج إلى العراق ، فقد كانت الحكومة تسعى وراء خروجه من المدينة إلى مكّة المكرّمة.

قال البلاذري :

«وكان رجال من أهل العراق وأشراف أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين ، يجلّونه ويعظّمونه ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم ويقولون : إنّا لك عضد ويد ؛ ليتّخذوا الوسيلة إليه ، وهم لا يشكّون في أنّ معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسينٍ أحداً.

فلمّا كثر اختلاف الناس إليه ، أتى عمرُو بن عثمان بن عفّان مروانَ ابن الحكم ـ وهو إذ ذاك عامل معاوية على المدينة ـ فقال له : قد كثر

__________________

(١) مقتل الحسين ١ / ٢٥٧ ف ٩

١٦٥

اختلاف الناس إلى حسين ، ووالله إنّي لأرى أنّ لكم منه يوماً عصيباً.

فكتب مروان ذلك إلى معاوية.

فكتب إليه معاوية : بأن اترك حسيناً ما تركك ولم يُظهر عداوته ويبدِ صفحته ، واكمن عنه كمون الشرى ، إن شاء الله ، والسلام» (١).

ثمّ اقترح مروان على معاوية أن يُبعد الإمام من المدينة إلى الشام ، فقد ذكروا أنّه : «دعا معاوية مروانَ بن الحكم فقال له : أشِر علَيَّ في الحسين.

قال : تخرجه معك إلى الشام ، فتقطعه عن أهل العراق وتقطعهم عنه.

قال : أردتَ ـ والله ـ أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرتُ عليه صبرتُ على ما أكره ، وإنْ أسأتُ إليه كنتُ قد قطعتُ رحمه. فأقامه.

وبعث إلى سعيد بن العاص فقال له : يا أبا عثمان! أشِر علَيَّ في الحسين.

قال : إنّك ـ والله ـ ما تخاف الحسين إلّاعلى مَن بعدك ، وإنّك لتخلّف له قرناً إنْ صارعه ليصرعنّه ، وإن سابقه ليسبقنّه ، فذر الحسين منبتَ النخلة ، يشرب من الماء ، ويصعد في الهواء ، ولا يبلغ إلى السماء» (٢).

نعم ، كانت الخطّة أنْ يُترك الإمام عليه‌السلام ولا يؤذى ؛ لأنّ أهل العراق غير تاركيه حتّى يخرجوه ، ما لم يُثر ويظهر العداوة للحكومة ، والإمام عليه‌السلام يعلن للناس إباءه عن البيعة ، يصرّح بذلك لكلّ من

__________________

(١) أنساب الأشراف ٣ / ٣٦٦ ـ ٣٦٧

(٢) العقد الفريد ٤ / ٨٢ ، وانظر : مناقب آل أبي طالب ٤ / ٨٩

١٦٦

يسأله ، كقوله لأخيه محمّد بن الحنفية :

«يا أخي! والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ، لَما بايعت يزيد ابن معاوية أبداً» (١).

وقوله عليه‌السلام لمروان بن الحكم لمّا قال له : «إنّي آمرك ببيعة يزيد ، فإنّه خير لك في دينك ودنياك» ، قال :

«إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام ، إذْ قد بليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد ، ولقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان» (٢).

وفي هذه الظروف ، نرى أنّ الكتب من الكوفة تترى ، يدعونه ويطلبون منه القدوم إليهم ، والإمام يقول : «لا أراهم إلّاقاتليّ» (٣).

وبدأ الحكّام يسعون وراء خروج الإمام من الحجاز ...

مواقف الولاة من الإمام ومن نائبه في الكوفة

ومات معاوية والوالي على المدينة هو «الوليد بن عتبة بن أبي سفيان» ، قال الذهبي : وكان معاوية يولّي على المدينة مرّةً مروان ومرّةً الوليد بن عتبة ... فعزل قبيل موته مروان وولّى الوليد ... وقد عرفنا باختصار موقف مروان من الإمام عليه‌السلام.

وأخبر يزيد ـ في أوّل خطبةٍ له بعد موت معاوية ـ عن الحرب مع

__________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ـ ٥ / ٢٣

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف : ٩٩

(٣) تاريخ دمشق ١٤ / ٢١٦ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٦ ، البداية والنهاية ٨ / ١٣٥ حوادث سنة ٦٠ ه

١٦٧

أهل العراق ، وأنّه سينتصر عليهم بواسطة عبيد الله بن زياد (١).

وكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة يأمره بأخذ البيعة من أهل المدينة وخاصّةً من الإمام عليه‌السلام ، وجماعة ، كعبد الله بن الزبير ، وسيأتي الكلام على نصّ كتاب يزيد.

بين الوليد والإمام

لكنّ الوليد لم يستعمل الشدّة مع الإمام عليه‌السلام ، فضلاً على أن يقدِم على قتله ، وإنّما بعث إليه وأخبره بوفاة معاوية ، ودعاه إلى البيعة ليزيد ، فقال له الإمام : نصبح وننظر ؛ فلم يشدّد الوليد على الإمام (٢) ، بل قال له : «انصرف على اسم الله» (٣).

هذا ، وقد اختلفت روايات المؤرّخين لنصّ كتاب يزيد إلى الوليد بن عتبة ، فمنهم من روى أنّه أمره بقتل الإمام ، ومنهم من روى أنّه أمره بأخذ البيعة منه ، بل منهم من روى أنّه أمره بالرفق معه ...

إلّا أنّ أحداً لم يتردّد في أنّ يزيد قد أمر ابن زياد بقتل الإمام عليه‌السلام ، وأنْ يبعث إليه برأسه الشريف.

وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في ما بعد ...

قال الشيخ المفيد :

«فقال مروان للوليد : عصيتني ، لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.

__________________

(١) الفتوح ـ لابن أعثم ـ ٥ / ٦ ـ ٩ ، مقتل الحسين ١ / ٢٦١

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٥٣٤ رقم ١٣٩

(٣) انظر حوادث سنة ٦٠ ه‍ في : تاريخ الطبري ٣ / ٢٧٠ ، البداية والنهاية ٨ / ١١٨

١٦٨

فقال الوليد : الويح لغيرك يا مروان ، إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ، والله ما أُحبُّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنّي قتلت حسيناً.

سبحان الله! أقتلُ حسيناً إنْ قال لا أُبايع؟! والله إنّي لأظنّ أنّ امرَأً يحاسَب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.

فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت في ما صنعت. يقول هذا وهو غير الحامد له على رأيه» (١).

قال المفيد :

«فأقام الحسين عليه‌السلام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستّين ، واشتغل الوليد بن عتبة بمراسلة ابن الزبير في البيعة ليزيد وامتناعه عليه.

وخرج ابن الزبير من ليلته عن المدينة متوجّهاً إلى مكّة ، فلمّا أصبح الوليد سرّح في أثره الرجال ، فبعث راكباً من موالي بني أُميّة في ثمانين راكباً فطلبوه فلم يدركوه ، فرجعوا.

فلمّا كان آخر نهار يوم السبت ، بعث الرجال إلى الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ليحضر فيبايع الوليد ليزيد بن معاوية ، فقال لهم الحسين : أصبِحوا ثمّ ترون ونرى ؛ فكفّوا تلك الليلة عنه ، ولم يلحّوا عليه.

فخرج عليه‌السلام من تحت ليلته ، وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجّهاً نحو مكّة ...» (٢).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٣ ـ ٣٤ ، وانظر : تاريخ الطبري ٣ / ٢٧٠ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٧٨ ، البداية والنهاية ٨ / ١١٨

(٢) الإرشاد ٢ / ٣٤

١٦٩

وقال محمّد بن أبي طالب الموسوي :

«وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه‌السلام لينظر أخَرجَ من المدينة أم لا؟ فلم يصبه في منزله فقال : الحمد لله الذي خرج ولم يبتلني بدمه ...» (١).

هذا ، وقد جاء في رواية البلاذري أنّ الوليد قد قال للإمام عليه‌السلام ـ في كلامٍ بينهما ـ : «لو علمت ما يكون بعدنا لأحببتنا كما أبغضتنا» (٢).

وهذا الكلام جديرٌ بالتأمّل جدّاً.

أقول :

والذي نراه أنّ الوليد كان مأموراً بما فعل ، وأنّ ما فعله كان تطبيقاً لِما أُمر به ، لكنّ مروان كان يجهل الأمر ، أو كان يريد غير ذلك.

وممّا يشهد لِما ذكرناه أُمور :

١ ـ إنّه لمّا خرج ابن الزبير وجّه الوليد في إثره حبيب بن ذكوان في ثلاثين فارساً ، وقيل : ثمانين ، فلم يقعوا له على أثر ، وشغلوا يومهم ذلك كلّه بطلب ابن الزبير (٣) ليعمل بوصيّة معاوية ؛ وأمّا الإمام ، فلمّا علم الوليد بخروجه عليه‌السلام من المدينة المنوّرة قال : «الحمد لله».

٢ ـ إنّه لو كان مأموراً بقتل الإمام لَما قال له لمّا أبى أن يبايع :

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٨ ب ٣٧

(٢) أنساب الأشراف ٣ / ٣٦٩

(٣) انظر : الأخبار الطوال : ٢٢٨ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٦٩ ، البداية والنهاية ٨ / ٩٣ ، المنتظم ٤ / ١٣٧

١٧٠

«انصرف على اسم الله» ؛ كما مرّ سابقاً عن الطبري وابن كثير (١).

٣ ـ إنّ الكلام الذي دار بينه وبين مروان ، يدلّ دلالة واضحة على كون مروان هو المصرّ على القتل إن لم يبايع الإمام.

٤ ـ إنّنا لم نجد أيّةَ عقوبة للوليد من يزيد ... فلو كان أمره بقتل الإمام ولم يمتثل لعاقبه ، ولا أقلّ من أن لا يولّيه شيئاً من المناصب ؛ والحال أنّ يزيد قد ولّاه المدينة مرّتين ، وأقام الموسم غير مرّة ، آخرها سنة ٦٢ ، كما ذكر الذهبي (٢).

٥ ـ إنّ الوليد هو الذي صلّى على جنازة معاوية بن يزيد (٣).

٦ ـ أرادوه للخلافة بعد معاوية بن يزيد ، فأبى (٤).

والحاصل :

إنّ عزله عن المدينة لم يكن إلّالمصلحةٍ خاصّة ، وسيأتي نظيره في والي الكوفة ، ولم يكن لتفريطه في هذا الأمر كما ذكر بعض المؤرّخين ، اللهمّ إلّاأن يكون لتفريطه في أمر ابن الزبير الذي أوصى معاوية يزيد بأنْ يقطّعه إرباً إرباً إن قدر عليه (٥).

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٦٨ ه‍ ٣

(٢) العبر ١ / ٥٢

(٣) الإنباء بأنباء الأنبياء (تاريخ القضاعي) : ٢١٠

(٤) دول الإسلام : ٤١

(٥) انظر : تاريخ الطبري ٣ / ٢٦٠ ، العقد الفريد ٣ / ٣٦٠ ، المنتظم ٤ / ١٣٧ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٣ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٦٩ ، البداية والنهاية ٨ / ٩٣

١٧١

الإمام في مكّة المكرّمة

قال المفيد :

فسار الحسين عليه‌السلام متوجّهاً إلى مكّة وهو يقرأ «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ولزم الطريق الأعظم ، فقال له أهل بيته : لو تنكّبت عن الطريق كما فعل ابن الزبير ، كيلا يلحقك الطلب؟ فقال : لا والله لا أُفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض.

ولمّا دخل الحسين عليه‌السلام مكّة ـ وكان دخوله إيّاها يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان ـ دخلها وهو يقرأ «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَني سَوَاءَ السَّبِيلِ» ، ثمّ نزلها.

وأقبل أهلها يختلفون إليه ، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها ، قد لزم جانب البيت ، وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ، ويأتي الحسين عليه‌السلام في من يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كلّ يومين مرّةً ، وهو عليه‌السلام أثقل خلق الله على ابن الزبير ؛ لأنّه قد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين في البلد ، وأنّ الحسين أطوع في الناس منه وأجلّ.

هذا ، وقد كان الوالي على مكّة : عمرو بن سعيد الأشدق ، وكان هو الوالي على المدينة ـ أيضاً ـ بعد عزل الوليد.

قال الطبري ـ في عمّال يزيد ـ :

وكان عامله على مكّة والمدينة في هذه السنة ـ بعدما عزل الوليد بن عتبة ـ عمرو بن سعيد ، وعلى الكوفة والبصرة وأعمالها عبيد الله بن

١٧٢

زياد ... (١).

وكتب يزيد إلى عبد الله بن العبّاس كتاباً جاء فيه :

«أمّا بعد ، فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ الله ابن الزبير إلتويا ببيعتي ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة ، معرّضين أنفسهما للهلكة ، فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفنا وقتيل السيف غداً.

وأمّا الحسين ، فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه ، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد بلادك ، فالقه فاردده عن السعي في الفتنة ، فإن قبل منك وأناب ، فله عندي الأمان والكرامة الواسعة ... أُجري عليه ما كان أبي يجريه ...».

فكتب إليه ابن عبّاس في الجواب :

«أمّا بعد ، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة.

فأمّا ابن الزبير ، فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه ، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره ، يوري علينا وري الزناد ، لا فكّ الله أسيرها ، فارأ في أمره ما أنت راء.

وأمّا الحسين ، فإنّه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه ، سألته عن مقدمه ، فأخبرني أنّ عمّالك بالمدينة أساؤوا إليه ، وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش ، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به ، وسألقاه في ما أشرت إليه ، ولن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٢٧٢ حوادث سنة ٦٠ ه

١٧٣

أدع النصيحة في ما يجمع الله به الكلمة ، ويطفئ به النائرة ، ويخمد به الفتنة ، ويحقن به دماء الأُمّة.

فاتّق الله في السرّ والعلانية ، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ، ولا ترصده بمظلمة ، ولا تحفر له مهراة ، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه ، وكم من مؤمّل أملاً لم يؤت أمله ، وخذ بحظّك من تلاوة القرآن ، ونشر السُنّة ، وعليك بالصيام والقيام ، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها ، فإنّ كلّ ما اشتغلت به عن الله يضرّ ويفنى ، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى. والسلام» (١).

وكان الأشدق جبّاراً من جبابرة بني أُميّة ، وقد تعرّض لابن الزبير في خطابٍ له فقال : «فوالله لنغزونّه ، ثمّ لئن دخل الكعبة لنحرقنّها عليه ، على رغم أنف من رغم» (٢).

وهكذا كان ... كما هو معلوم من التاريخ.

أمّا بالنسبة إلى الإمام ، فقد ذكر أنّه جاء إليه وقال له : «ما أقدمك»؟!

قال : «عائذاً بالله وبهذا البيت» (٣).

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٤ / ٢١٠ ـ ٢١١ ، بغية الطلب ٦ / ٢٦١٠ ـ ٢٦١١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٣١ ـ ١٣٢

(٢) تاريخ الإسلام ٢ / ٢٦٨

(٣) انظر عن كتاب الإمام عليه‌السلام إلى أهل الكوفة وما قاله لمسلم ، ممّا يدلّ على عدم وثوقه بأجواء الكوفة :

تاريخ الطبري ٣ / ١٢١ ـ ١٢٢ ، المنتظم ٤ / ١٤٢ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٩٣ رقم ٤٨ ، أنساب الأشراف ٣ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ، الأخبار الطوال : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، مقاتل

١٧٤

ولم نجد في التواريخ المعتبرة شيئاً آخر من الأشدق ـ هذا الجبّار العنيد ـ ضدّ الإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة.

كتب أهل الكوفة ، والإمام يبعث مسلماً

وما زالت الكتب تصل إلى الإمام يدعونه إلى الكوفة ... (١).

هنالك دعا مسلمَ بن عقيل رضي الله عنه وأرسله إلى الكوفة ، وأمره بتقوى الله وكتمان الأمر واللطف ...

فأقبل مسلم حتّى دخل الكوفة ، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه وأكثروا حتّى عُلم مكانه ...

فبلغ النعمان بن بشير ذلك ـ وكان والياً على الكوفة من قِبَل معاوية فأقرّه يزيد عليها ـ فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا بعد ، فاتّقوا الله ـ عباد الله ـ ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفُرقة ، فإنّ فيها يهلك الرجال ، وتُسفك الدماء ، وتُغتصب الأموال ، إنّي لا أُقاتل من لا يقاتلني ، ولا آتي على مَن لم يأت علَيَّ ، ولا أُنبّه نائمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقَرف ولا الظنّة ولا التُّهمة ، ولكنّكم إن أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر.

__________________

الطالبيّين : ٩٩ ، تهذيب الكمال ٤ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، الاصابة ٢ / ٧٨ ، الفتوح ٥ / ٢٩ ـ ٣٨ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٦ ـ ٢٧ ، مروج الذهب ٣ / ٥٤

(١) انظر : تاريخ الطبري ٣ / ٢٧٤ ـ ٢٧٨ ، تاريخ دمشق ١٤ / ٢١٢ ، البداية والنهاية ٨ / ١٢١ ـ ١٢٢

١٧٥

أما إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي ، حليف بني أُميّة ، فقال : إنّه لا يصلح ما ترى إلّاالغشم ، إنّ هذا الذي أنت عليه في ما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين.

فقال له النعمان : أكون من المستضعفين في طاعة الله ، أحبُّ إليّ من أكون من الأعزّين في معصية الله. ثمّ نزل.

وخرج عبد الله بن مسلم فكتب إلى يزيد بن معاوية : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة ، فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ ، فإن يك لك في الكوفة حاجةٌ ، فابعث إليها رجلاً قويّاً ، ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ، فإنّ النّعمان بن بشير رجلٌ ضعيفٌ أو هو يتضعَّفُ.

ثمّ كتب إليه عمارة بن عُقبة بنحوٍ من كتابه.

ثمّ كتب إليه عُمر بن سعد بن أبي وقّاص مثل ذلك (١).

__________________

(١) انظر عن موقف النعمان من مسلم بن عقيل وشكوى شيعة بني أُميّة منه :

تاريخ الطبري ٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٤٩ رقم ٣٦١٥ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ، الفتوح ٥ / ٣٩ ـ ٤٠ ، الأخبار الطوال : ٢٣٣ ، تهذيب الكمال ٦ / ٤٩٤ رقم ١٣٠٥ ، الإصابة ٢ / ٧٨ ـ ٧٩ ، المنتظم ٤ / ١٤٢ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٧ ، البداية والنهاية ٨ / ١٢٢ ، تاريخ ابن خلدون ٣ / ٢٧ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ ١ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، وغيرها

١٧٦

الفصل الثاني :

تولية يزيد ابن زياد على الكوفة

١٧٧
١٧٨

فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد ، دعا سرجون مولى معاوية فقال : ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد وجّه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان بن بشير ضعفٌ وقول سيّئ ، فمن ترى أنْ أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد.

فقال له سرجون : أرأيت معاوية لو نُشر لك حيّاً ، أما كنت آخذاً برأيه؟

قال : نعم.

قال : فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال : هذا رأي معاوية ، مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فضُمّ المصرَين إلى عبيد الله بن زياد.

فقال له يزيد : أفعل ، ابعثْ بعهد عبيد الله إليه (١).

__________________

(١) تجد خبر عهد معاوية بتولية ابن زياد على الكوفة وإشارة سرجون بذلك في :

أنساب الأشراف ٥ / ٤٠٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢٨٠ ، الفتوح ٥ / ٤٠ ـ ٤١ ، العقد الفريد ٣ / ٣٦٤ ، مقتل الحسين ١ / ٢٨٧ ، البداية والنهاية ٨ / ١٢٢ ، الإصابة ٢ / ٧٩ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٤٩ رقم ٦١٥ ، الإمامة والسياسة ٢ / ٨ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٣٢ ، تاريخ دمشق ٣٧ / ٤٣٨ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٧ ، تهذيب الكمال ٤ / ٤٩٤ رقم ١٣٠٥

١٧٩

ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله بن زياد معه :

أمّا بعد ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبروني أنّ ابن عقيل بها ، يجمع الجموع ويشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا ، حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه. والسلام.

وسلّم إليه عهده على الكوفة (١).

ولمّا سمع مسلم بن عقيل رحمه‌الله بمجيء عبيد الله بن زياد الكوفةَ ، ومقالته التي قالها ، وما أخذ به العرفاء والناس ، خرج من دار المختار حتّى انتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها ، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستُّرٍ واستخفاءٍ من عبيد الله ، وتواصَوا بالكتمان (٢).

من هو النعمان بن بشير؟

ويبقى أن نعرف النعمان بن بشير؟ ومتى نصب على الكوفة؟ وهل كان ضعيفاً كما توهّم القوم؟ وهل غضب عليه يزيد؟

لقد كان الوالي قبله على الكوفة : عبد الله بن خالد ، فعزله معاوية وولّى النعمان بن بشير (٣). ثمّ لمّا ولّى يزيد عبيدَ الله بن زياد على الكوفة ـ إضافةً إلى البصرة ـ ارتحل النعمان بن بشير نحو وطنه بالشام (٤).

__________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ ـ ٤٣

(٢) الإرشاد ٢ / ٤٥

(٣) الأخبار الطوال : ٢٢٥

(٤) الأخبار الطوال : ٢٣٣

١٨٠