من هم قتلة الحسين عليه السلام ؟ شيعة الكوفة ؟

السيّد علي الحسيني الميلاني

من هم قتلة الحسين عليه السلام ؟ شيعة الكوفة ؟

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2501-97-7
الصفحات: ٤٨٧

القسطنطينية في الجيش الذي كان أميره يزيد بن معاوية» (١)!

بل إنّ مثل هذا الكلام الباطل ، الذي أرسله ابن عساكر بلا سندٍ ، يصلح لأنْ يكون قرينةً أُخرى على كذب أصل الدعوى.

حديث أنّ الإمام مَدَحَ معاوية!

وكحديث مدح الإمام عليه‌السلام لمعاوية :

روى ابن عساكر ، بإسناده عن أبي عمرو الزاهد ، قال :

أخبرنا عليّ بن محمّد بن الصائغ ، حدّثني أبي ، قال : رأيت الحسين بن عليّ بن أبي طالب بعينيَّ وإلّا فعميتا ، وسمعته بأُذنيّ وإلّا فصمّتا ، وفد على معاوية بن أبي سفيان زائراً ، فأتاه في يوم جمعة وهو قائم على المنبر خطيباً ، فقال له رجل من القوم : يا أمير المؤمنين! ائذن للحسين بن عليّ يصعد المنبر.

فقال معاوية : ويلك ، دعني أفتخر!

فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله ، أليس أنا ابن بطحاء مكّة؟!

فقال الحسين : إي والذي بعث جدّي بالحقّ بشيراً.

ثمّ قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله ، أليس أنا خال المؤمنين؟!

فقال : إي والذي بعث جدّي نبيّاً.

ثمّ قال : سألتك بالله يا أبا عبد الله ، أليس أنا كاتب الوحي؟!

فقال : إي والذي بعث جدّي نذيراً.

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٤ / ١١١

٤٠١

ثمّ نزل معاوية.

وصعد الحسين بن عليّ ، فحمد الله عزوجل بمحامد لم يحمده الأوّلون والآخرون ، ثمّ قال :

حدّثني أبي ، عن جدّي ، عن جبريل عليه‌السلام ، عن ربّه عزوجل ، أنّ تحت قائمة كرسي العرش ورقة آس خضراء مكتوب عليها : لا إله إلّاالله محمّد رسول الله ، يا شيعة آل محمّد! لا يأتي أحد منكم يوم القيامة يقول : لا إله إلّاالله ، إلّاأدخله الله الجنّة.

فقال معاوية بن أبي سفيان : سألتك بالله يا أبا عبد الله ، من شيعة آل محمّد؟

فقال : الّذين لا يشتمون الشيخين أبا بكر وعمر ، ولا يشتمون عثمان ، ولا يشتمون أبي ، ولا يشتمونك يا معاوية (١).

هذا هو الحديث ..

وقد كفانا ابن عساكر مؤنة التحقيق عن سنده بقوله : «هذا حديث منكَر ، ولا أرى إسناده متّصلاً إلى الحسين» (٢).

أقول :

وقد حقّقتُ في «شرح منهاج الكرامة» أنْ لا أصل لوصف معاوية ب «خال المؤمنين» و «كاتب الوحي» ، لا من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا من كلام أحدٍ ممّن يُعنى بكلامه.

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٤ / ١١٣ ـ ١١٤

(٢) تاريخ دمشق ١٤ / ١١٤

٤٠٢

أمّا في الوصف الأوّل ، فقد اعترف ابن تيميّة ـ أيضاً ـ اعترافاً ضمنيّاً بما ذكرناه ، وإنّما قال في وجه توصيف معاوية به أنّه : «صار أقوام يجعلونه كافراً أو فاسقاً ، ويستحلّون لعنه ونحو ذلك ، فاحتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتّصال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليُرعى بذلك حقّ المتّصلين» (١).

هذا غاية ما عند القوم.

وهو مردود بأنّ من كفّر معاوية ولعنه ، إنّما تأسّى في ذلك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتّبع كبار السادة في الإسلام ، وذلك نفي للاتّصال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهو منقوض ـ أيضاً ـ بأنّه إذا صحَّ أن يكون إخوة أزواج النبيّ أخوالاً للمؤمنين ، فمحمّد بن أبي بكر ـ الذي هو أخ أفضل أزواجه عند القوم ، وهو أفضل من معاوية قطعاً ـ أحقّ بأنْ يوصف بالوصف المذكور ، ويُراعى حقّ اتّصاله برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على رغم أنف من رَغم.

وأمّا في الوصف الثاني ، فإنّ معاوية لم يكتب من الوحي حرفاً واحداً ، حتّى إنّ ابن تيميّة ـ ونصبه معروف ـ لم يدّع ذلك ، وإنّما قال : «فما الدليل على أنّه لم يكتب له كلمةً واحدةً من الوحي ؛ وإنّما كان يكتب له رسائل؟!» (٢).

وهذا كلام جاهل بأُصول البحث والتحقيق كما لا يخفى على أهله ...

والذي في «كتاب مسلم» ، في حديث طلب أبي سفيان من النبيّ

__________________

(١) منهاج السُنّة ٤ / ٣٧٢

(٢) منهاج السُنّة ٤ / ٤٢٧

٤٠٣

ثلاثة أُمور ، قال : «ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك» (١) ، فليس فيه كتابة الوحي.

لكنّ هذا الحديث نصَّ الأئمّةُ ـ كذلك ـ على سقوطه ..

فقال النووي : هذا الحديث من الأحاديث المشهور بالإشكال (٢).

وقال ابن القيّم : غلط لا خفاء فيه (٣).

وقال ابن الجوزي : وهم من بعض الرواة لا شكّ فيه ولا تردّد (٤).

وقال الذهبي : منكَر (٥).

وقال ابن حزم : هو موضوع بلا شكّ (٦).

ثمّ جاء بعضُ الوضّاعين فأضاف جملة «كان يكتب الوحي» أو نحوها في كلام مَن وصف معاوية بالكتابة للنبيّ من المؤرّخين ، ومن ذلك ما جاء في «تطهير الجَنان» لابن حجر الهيتمي المكّي ، قال : «قال المدائني : كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ، وكان معاوية يكتب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ما بينه وبين العرب. أي : من وحيٍ وغيره ، فهو أمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وحي ربّه» (٧).

فإنّه كذب وتدليس وإيهام ؛ ففي «الإصابة» لابن حجر العسقلاني : «قال المدائني : كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ، وكان معاوية يكتب للنبيّ

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ / ١٧١ ، وانظر : صحيح مسلم بشرح النووي ١٦ / ٥٢ ح ٢٥٠١

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ١٦ / ٥٣ ذ ح ٢٥٠١

(٣) زاد المعاد ١ / ٦٢

(٤) زاد المعاد ١ / ٦٢ ـ ٦٣

(٥) سير أعلام النبلاء ٧ / ١٣٧

(٦) زاد المعاد ١ / ٦٢

(٧) تطهير الجَنان واللسان ـ ملحق ب «الصواعق المحرقة» ـ : ١٢

٤٠٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما بينه وبين العرب» ؛ انتهى (١).

فالزيادة كذب وتدليس وإيهام من ابن حجر الهيتمي المكّي ، ولو كان موضوعها صحيحاً لنوّه به العسقلاني ؛ لتوفّر الداعي على نقله!

لم يصحّ في فضل معاوية شيءٌ

وبصورةٍ عامّة ... هل صحّ في فضل معاوية شيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق القوم؟

لقد نصَّ غير واحدٍ من كبار حفّاظهم المتقدّين على أنّه لم يصحّ عن رسول الله في فضله شيءٌ ..

قال البخاري : «باب فضائل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) فذكرهم ، حتّى إذا وصل إلى معاوية قال : «باب ذِكر معاوية» (٣) ..

فقال الحافظ بشرحه : «تنبيه : عبّر البخاري في هذه الترجمة بقوله : (ذِكر) ، ولم يقل : (فضيلة) ولا (منقبة)» ؛ لأن شيخه إسحاق بن راهويه قد نصَّ على أنّه لم يصحّ في فضائل معاوية شيء.

ثمّ أشار ابن حجر إلى قصّة النسائي وقصّة الحاكم ، وذكر أنّ ابن الجوزي أورد في كتاب «الموضوعات» جملةً ممّا وُضع لمعاوية ، ثمّ قال : «وأخرج ابن الجوزي ـ أيضاً ـ من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي : ما تقول في عليٍّ ومعاوية؟ فأطرق ثمّ قال : اعلم أنّ عليّاً كان كثير الأعداء ، ففتّش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا ، فعمدوا إلى رجلٍ قد

__________________

(١) الإصابة في معرفة الصحابة ٦ / ١٥٣ ترجمة معاوية بن أبي سفيان

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٦٢

(٣) صحيح البخاري ٥ / ١٠٥

٤٠٥

حاربه فأطروه كيداً منهم لعليّ».

قال ابن حجر : «فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل ممّا لا أصل له ، وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكنْ ليس فيها ما يصحّ من طريق الإسناد ، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما» (١).

وقال النسائي مستنكراً ما روي من فضائل معاوية : «أمَا يكفي معاوية أن يذهب رأساً برأس حتّى يروى له فضائل؟!» (٢).

وقال ابن تيميّة : «طائفة وضعوا لمعاوية فضائل ، ورووا أحاديث عن النبيّ صلّيغ الله عليه وسلّم في ذلك كلّها كذب» (٣).

وقال العجلوني : «باب فضائل معاوية ليس فيه حديث صحيح» (٤).

وقال العيني : ليس فيها حديث يصحّ من طريق الإسناد» (٥).

وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : «لا يصحّ في فضل معاوية حديث» (٦).

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٣١ ب ٢٨ ذ ح ٣٧٦٦

(٢) البداية والنهاية ١ / ١٠٤ حوادث سنة ٣٠٣ ه

(٣) منهاج السُنّة ٤ / ٤٠٠

(٤) كشف الخفاء ٢ / ٤٢٠

(٥) عمدة القاري ١٦ / ٢٤٩ ح ٢٥٤

(٦) الفوائد المجموعة : ٤٠٧ ح ١٥٥ ، اللآلئ المصنوعة ١ / ٣٨٨

٤٠٦

الفصل الثاني :

في الأكاذيب والتحريفات

٤٠٧
٤٠٨

ومن أساليبهم في الدفاع عن يزيد : الكذب والتحريف للوقائع والأقوال ... نذكر ها هنا بعضها على سبيل التمثيل بالإجمال :

١ ـ ندم الإمام عليه‌السلام!!

لقد جاء في المصادر المعتبرة لدى الشيعة والسُنّة قول الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : «لا والله ، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل ...» (١) ، ومن رواته : ابن الجوزي في «المنتظم» ، وابن كثير في «البداية والنهاية».

وحتّى الّذين خرجوا لقتاله اعترفوا بذلك ، فمثلاً : يقول زحر بن قيس ليزيد :

«فسألناهم أن يستسلموا ، أو ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد ، أو القتال ، فاختاروا القتال على الاستسلام» (٢).

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٦٧ ه‍ ٢

(٢) الإرشاد ٢ / ١١٨ ، وانظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٦ / ٤٤٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٣٨ ، تاريخ دمشق ١٨ / ٤٤٥ ، البداية والنهاية ٨ / ١٥٣.

وقد تقدّم الخبر في الصفحة ٢٠٨

٤٠٩

وقد تقدّم ـ أيضاً ـ ما رواه الليث بن سعد ، من أنّ الإمام أبى الاستسلام (١).

فكلّ ما يكون على خلاف هذا فهو كذب ..

كالخبر الذي في «مقاتل الطالبيّين» : «فذكر مَن حضره يوم قُتل وهو يلتفت إلى حرمه وإخواته وهنّ يخرجن من أخبيتهنّ جزعاً لقتل من يقتل معه وما يرينه به ، ويقول : لله درّ ابن عبّاس في ما أشار علَيَّ به (٢). يعني : منعه من الخروج إلى العراق.

فمن هذا الرجل الثقة الذي كان حاضراً عند الإمام عليه‌السلام يوم عاشوراء ـ وهو بين أهله وحريمه ـ فسمع منه هذا الكلام ، ونقله إلى بني أُميّة ولا علم لأهل البيت بذلك أصلاً؟!

وفي «الصواعق» ، عن الإمام الحسن عليه‌السلام ، أنّه قال له : «إيّاك وسفهاء الكوفة أن يستخفّوك ، فيخرجوك ويسلموك ، فتندم ولات حين مناص» قال : «وقد تذكّر ذلك ليلة قتله ، فترحّم على أخيه الحسن» (٣).

فمن هو الراوي لنصيحة الإمام الحسن عليه‌السلام هذه؟!

وعلى من اعتمد ابن حجر في قوله : «وقد تذكّر ذلك ...»؟!

وقد سبق ابنُ تيميّة في الافتراء على الإمام الحسن عليه‌السلام في أنّه نصح أباه أمير المؤمنين عليه‌السلام أنْ لا يقاتل معاوية ، قال : وقد تذكّر عليٌّ ذلك ليلة صِفّين ، وأنّه قال : لله درّ مقام عبد الله بن عمر ... ثمّ قال

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٢١

(٢) مقاتل الطالبيّين : ١١٠

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٩٨

٤١٠

ابن تيميّة : هذا رواه المصنّفون (١).

هذا ، والحال أنّ كبار حفّاظهم يروون عن الإمام عليه‌السلام أنّ قتاله مع الناكثين والقاسطين والمارقين كان عهداً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه قد أمره بذلك ... وقد صحّ عند الحاكم والهيثمي والذهبي وغيرهم أسانيد هذه الروايات (٢).

فانظر ، كيف يكذبون على الأئمّة دفاعاً عن معاوية ويزيد وأشياعهما ، وتبريراً لأفعالهم!!

٢ ـ همّ الإمام بالرجوع وهو في الطريق!!

إنّه لمّا بلغ الإمام عليه‌السلام ـ وهو في الطريق ـ نبأ استشهاد مسلم ابن عقيل رضي الله عنه ... التفت إلى بني عقيل وقال :

ما ترون ، فقد قتل مسلم؟

فقالوا : والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق.

فقال عليه‌السلام : لا خير في العيش بعد هؤلاء.

هكذا روى الخبرَ العلماءُ من الفريقين (٣).

لكنْ في تاريخ ابن الجوزي : «فهمَّ أن يرجع» فقالوا :

__________________

(١) منهاج السُنّة ٨ / ١٤٥

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٤ ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨

(٣) انظر : الإرشاد ٢ / ٧٥ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٠٣ ، الإصابة ٢ / ٨٠ رقم ١٧٢٦ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٨ رقم ٤٨ ، تهذيب الكمال ٤ / ٤٩٦ رقم ١٣٠٥ ، البداية والنهاية ٨ / ١٣٥ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ ١ / ٣٢٨

٤١١

«لا نرجع» (١)!!

٣ ـ اختاروا منّي خصالاً ثلاثاً ؛ قاله ليلة عاشوراء!!

وجاء في تاريخ الطبري : إنّ الإمام عليه‌السلام قال لعمر بن سعد وأصحابه :

«إختاروا منّي خصالاً ثلاثاً : إمّا أنْ أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، وإمّا أنْ أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه ، وإمّا أنْ تسيّروني إلى أيّ ثغرٍ من ثغور المسلمين شئتم ، فأكون رجلاً من أهله ، لي ما لهم وعلَيَّ ما عليهم».

قال الطبري : «قال أبو مخنف : فأمّا عبد الرحمن بن جندب فحدّثني عن عقبة بن سمعان ، قال : صحبت حسيناً ، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة ، ومن مكّة إلى العراق ، ولم أُفارقه حتّى قُتل ، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ، ولا بمكّة ، ولا في الطريق ، ولا بالعراق ، ولا في عسكرٍ ، إلى يوم مقتله إلّاوقد سمعتها.

ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون ، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ، ولا أنْ يسيّروه إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين ، ولكنّه قال : دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة ، حتّى ننظر ما يصير أمر الناس» (٢).

فانظر ، كيف يصنعون الأكاذيب ثمّ يشيعونها بين الناس ، بل حتّى

__________________

(١) انظر : المنتظم ٤ / ١٤٥

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٣١٢

٤١٢

الذهبي ، لم يذكر من الخصال إلّاالثالثة ، فقد روى الخبر عن ابن سعدٍ ، فجاء في ما رواه : «وقال الحسين : يا هؤلاء! دعونا نرجع من حيث جئنا. قالوا : لا.

وبلغ ذلك عبيد الله فهمَّ أنْ يخلّي عنه ، وقال : والله ما عرض لشيء من عملي ، وما أراني إلّامخلٍ سبيله يذهب حيث يشاء.

فقال شمر : إنْ فعلت وفاتك الرجل ، لا تستقيلها أبداً.

فكتب إلى عمر :

الآن حيث تعلّقته حبالنا

يرجو النجاة ولات حين مناص

فناهضه ، وقال لشمر : سِرْ! فإنْ قاتل عمر وإلّا فاقتله وأنت على الناس.

وضبط عبيد الله الجسر ، فمنع من يجوزه لمّا بلغه أنّ ناساً يتسلّلون إلى الحسين» (١).

وجاء في رواية الخوارزمي :

«ثمّ كتب إلى ابن زياد : بسم الله الرحمن الرحيم ، إلى الأمير عبيد الله بن زياد من عمر بن سعد : أمّا بعد ، فإنّي نزلت بالحسين ، ثمّ بعثت إليه رسولاً أسأله عمّا أقدمه إلى هذا البلد ؛ فذكر أنّ أهل الكوفة أرسلوا إليه يسألونه القدوم عليهم ليبايعوه وينصروه ، فإنْ بدا لهم في نصرته فإنّه ينصرف من حيث جاء ، فيكون بمكّة أو يكون بأيّ بلدٍ أمرتَه ، فيكون كواحدٍ من المسلمين ، فأحببتُ أن أُعلم الأمير بذلك ليرى رأيه ؛ والسلام.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٠

٤١٣

فلمّا قرأ عبيد الله كتابه فكّر في نفسه ساعة ، ثمّ أنشد :

ألآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص

ثمّ قال : أيرجو ابن أبي تراب النجاة؟! هيهات هيهات ، لا أنجاني الله من عذابه إن نجا الحسين منّي!

ثمّ كتب إلى عمر : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك وما ذكرت فيه من أمر الحسين ، فإذا أتاك كتابي فاعرض عليه البيعة لأمير المؤمنين يزيد ، فإنْ فعل وبايع ، وإلّا فأتني به ؛ والسلام.

فلمّا ورد الكتاب على عمر وقرأه ، قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إنّ عبيد الله لا يقبل العافية ، والله المستعان.

قال : ولم يعرض ابن سعد على الحسين بيعة يزيد ؛ لأنّه علم أنّ الحسين لا يجيبه إلى ذلك أبداً (١).

٤ ـ عدد القتلى في جيش ابن زياد

ومن الأكاذيب : ما وجدته في غير واحدٍ من المصادر ـ كالكامل في التاريخ ـ أنّ عدد القتلى في جيش عمر بن سعد ٨٨ شخصاً فقط ، قال : فصلّى عليهم عمر ودفنهم (٢).

__________________

(١) مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ ١ / ٣٤٣ ف ١١ ح ٧

(٢) الكامل في التاريخ ٤ / ٨٠

٤١٤

الفصل الثالث :

في التناقضات في الكلمات

٤١٥
٤١٦

وحار أذناب بني أُميّة وأتباعُهم المدافعون عنهم أمام هذه القضيّة ، واضطربت كلماتهم ، واختلفت أساليبهم ، ووقعوا في تناقض شديد ..

فمنهم : من حاول تبرئة يزيد ، والمنع من لعنه ، بتكذيب كلّ ما وقع!

ومنهم : من اعترف ، وتكلّم في الإمام ، وصوّب فعل يزيد!

ومنهم : من جعل يلفّ ويدور ، ويطرح الاحتمالات والتأويلات ، فلا يكذّب ، ولا يقول الحقّ ، ويدعو إلى الإمساك عن لعن يزيد ، بل عن كلّ مجرمٍ حتّى إبليس!!

وإلى القارئ الكريم هؤلاء :

ابن تيميّة

يقول ابن تيميّة :

«إنّ يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتّفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى ابن زياد أنْ يمنعه عن ولاية العراق ، والحسين رضي الله عنه كان يظنّ أنّ أهل العراق ينصرونه ... فقاتلوه حتّى قتل شهيداً مظلوماً ، رضي الله عنه.

ولمّا بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع على ذلك ، وظهر البكاء في داره.

ولم يَسبِ له حريماً أصلاً ، بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتّى ردّهم

٤١٧

إلى بلدهم ...

وقد اتّفق الناس على أنّ معاوية رضي الله عنه وصّى يزيد برعاية حقّ الحسين وتعظيم قدره ... وإذا قيل : إنّ معاوية رضي الله عنه استخلف يزيد ، وبسبب ولايته فعل هذا. قيل : استخلافه إنْ كان جائزاً لم يضرّه ما فعل ، وإن لم يكن جائزاً فذاك ذنب مستقلّ ولو لم يقتل الحسين ...» (١).

أقول : وفي كلامه :

١ ـ إنّ يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتّفاق أهل النقل.

٢ ـ إنّه لمّا بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع ...

٣ ـ إنّ يزيد لم يسب له حريماً أصلاً.

٤ ـ إنّ معاوية ليس له دور في هذه القضيّة.

ثمّ لماذا تعرّض للدفاع عن معاوية؟!

لأنّ المرتكز في أذهان الناس أنّه لولا استخلاف معاوية يزيد الخمور والفجور ، وبتلك الأساليب البشعة والماكرة ـ التي تقدّم ذِكر بعضها في الفصل الأوّل ـ لَما فعل يزيد هذا ...

ولا بُدّ من الدفاع عن معاوية!! ..

لأنّ معاوية ـ أيضاً ـ منصوب من قِبَل عمر بن الخطّاب على الشام ... ولولا ذلك لَما فعل ما فَعَل ، ولَما وصلت النوبة إلى يزيد ...

أمّا نحن ... فقد استظهرنا من الأخبار أنّ لمعاوية ـ نفسه ـ دوراً في قتل الإمام عليه‌السلام ، وأنّ كلّ ما حدث ووقع فقد خطّط له معاوية

__________________

(١) منهاج السُنّة ٤ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣

٤١٨

مباشرةً ...

ولعلّ ابن تيميّة وأمثاله يرون ـ أيضاً ـ هذه الحقيقة ...

وعلى أيّة حال ...

فلا سبيل لإنكار دور معاوية في القضيّة ...

ولا يمكن إنكار انتهاء الأمر إلى الأعلى فالأعلى ...!!

وهذا هو السبب في اضطراب القوم ...

فابن تيميّة أجاب بجوابٍ هو في الواقع التزامٌ بالحقيقة ...

ابن العربي المالكي

ورأى ابن العربي المالكي أنّ حماية معاوية ومن فوقه متوقّفة على القول بأنّ الحسين لم يقتل إلّابسيف جدّه (١) ...

وحكى ذلك عنه المناوي حيث قال :

«قيل لابن الجوزي ـ وهو على كرسي الوعظ ـ كيف يقال : يزيد قتل الحسين ، وهو بدمشق ، والحسين بالعراق؟!

فقال :

سهم أصاب وراميه بذي سلم

مَن بالعراق لقد أبعدتَ مرماكا

وقد غلب على ابن العربي الغضّ من أهل البيت حتّى قال : قتله بسيف جدّه» (٢).

وقال ابن خلدون منكِراً على ابن العربي كلامه في هذا الشأن :

__________________

(١) انظر : العواصم من القواصم : ٢١٤

(٢) فيض القدير ١ / ٢٦٥ ح ٢٨١

٤١٩

«وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سمّاه (العواصم من القواصم) ، ما معناه أنّ الحسين قُتل بشرع جدّه ، وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ؛ ومَن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!» (١).

وقال ابن حجر المكّي في كلامٍ له عن يزيد :

«قال أحمد بن حنبل بكفره ، وناهيك به ورعاً وعلماً يقضيان بأنّه لم يقل ذلك إلّالقضايا وقعت منه صريحةً في ذلك ثبتت عنده ، وإنْ لم تثبت عند غيره :

كالغزّالي ، فإنّه أطال في ردّ كثير ممّا نُسب إليه ، كقتل الحسين ، فقال : لم يثبت من طريقٍ صحيح أنّه قتله ولا أمر بقتله. ثمّ بالغ في تحريم سبّه ولعنه.

وكابن العربي المالكي ، فإنّه نقل عنه ما يقشعرّ منه الجلد ، إنّه قال : لم يقتل يزيدُ الحسينَ إلّابسيف جدّه. أي : بحسب اعتقاده الباطل أنّه الخليفة ، والحسين باغ عليه ، والبيعة سبقت ليزيد ، ويكفي فيها بعض أهل الحلّ والعقد ، وبيعته كذلك ، لأنّ كثيرين أقدموا عليها مختارين لها.

هذا ، مع عدم النظر إلى استخلاف أبيه له ، أمّا مع النظر لذلك فلا يشترط موافقة أحد من أهل الحلّ والعقد على ذلك» (٢).

إذاً ، رجع الأمر مرّةً أُخرى إلى معاوية!!

__________________

(١) مقدّمة ابن خلدون : ١٧١. لكنْ يظهر من كلام الحافظ الهيثمي كما سيأتي عن الحافظ السخاوي أنّ ابن خلدون كان يقول بقول ابن العربي فذكر الحافظ ابن حجر أنّ ذلك كان في النّسخة التي رجع عنها من تاريخه

(٢) المنح المكّيّة ـ شرح القصيدة الهمزية : ٢٧١

٤٢٠