روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٤٥)

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى ، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال ، والكلام جملتان ـ عند سيبويه ـ إذ التقدير فيما يتلى عليكم ـ السارق والسارقة ـ أي حكمهما ، وجملة عند المبرد ، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر ـ لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه ـ قاله الزمخشري ، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب.

وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته ، فنقول : قال فيه : المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح ، وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها ، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه ، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل ، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب ، وملخصها : أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب ، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب : وأما قوله عزوجل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عزوجل : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمد : ١٥] ثم قال سبحانه بعد : (فِيها أَنْهارٌ) منها كذا ، يريد سيبويه تمييز هذه

٣٠١

الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها ، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل ، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب ، ثم قال : وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا ، فكأنه قال : ومن القصص ـ مثل الجنة ـ فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم ، وكذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) لما قال جل ثناؤه : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] قال جل وعلا في جملة الفرائض : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ثم جاء (فَاجْلِدُوا) بعد أن مضى فيهما الرفع ـ يريد سيبويه ـ لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد ، بل بني على محذوف متقدم ، وجاء الفعل طارئا ، ثم قال : كما جاء ـ وقائلة : خولان ـ فانكح فتاتهم ، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر ، وكذلك (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) فيما فرض عليكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث ، وقد قرأ أناس (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة ، ولكن أبت العامة إلا الرفع ، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم ، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع ، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم ، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع ، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم ، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب ، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه ، والباب مع القرائن مختلف ، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب ، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل ، والرفع متعين ـ لا أقول أرجح ـ حيث يبنى الاسم على كلام متقدم ، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده ، ألا ترى إلى قوله : لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضرب ، كيف رجح النصب على الرفع ، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل ، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم ، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار ، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير ، بل كان يرفعه على الابتداء ، ويجعل الأمر خبره ـ كما أعربه الزمخشري ـ فالملخص ـ على هذا ـ أن النصب على وجه واحد ، وهو بناء الاسم على فعل الأمر ، والرفع على وجهين : أحدهما ضعيف وهو الابتداء ، وبناء الكلام على الفعل ، والآخر قوي بالغ كوجه النصب ، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق ، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع ، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه‌الله تعالى ورضي عنه انتهى.

والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة ، وقيل : زائدة وكذا على الوجه الضعيف ، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت ، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين : زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش ، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط ، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما ، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه ، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، والفاء أيضا ـ كما قال ابن جني ـ لما في الكلام من معنى الشرط ، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه ، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة ، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) إلخ ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا ، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأن لا يدل على الوجوب المراد ، وقال أبو حيان : إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما (فَاقْطَعُوا) ، وقيل : إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وليس بشيء ، وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل : إن سبب الخلاف السابق في

٣٠٢

مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط ، وغيرهما لا يشترط ذلك ، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ ، والسرقة أخذ مال الغير خفية ، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز ، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها ، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع ، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدا ، وقال بعضهم : لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم ، واختاره أبو علي الجبائي ، قيل : يجب القطع في القليل والكثير ـ وإليه ذهب الخوارج ـ والمراد بالأيدي الأيمان ـ كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ـ ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ أيمانهما ـ ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] اكتفاء بتثنية المضاف إليه كذا قالوا ، قال الزجاج : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه ، فإذا قلت : أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط.

وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع ، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة ، وكذا قال أبو حيان ، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر ؛ واليد اسم لتمام العضو ، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف ، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع ، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعى ، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى ، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه» والمخاطب بقوله سبحانه : (فَاقْطَعُوا) على ما في البحر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ولاة الأمور كالسلطان ، ومن أذن له في إقامة الحدود ، أو القضاة والحكام ، أو المؤمنون أقوال أربعة ، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر (جَزاءً) نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء ، أو على أنه مصدر ـ لاقطعوا ـ من معناه ، أو لفعل مقدر من لفظه ، وجوز أن يكون حالا من فاعل ـ اقطعوا ـ مجازين لهما (بِما كَسَبا) بسبب كسبهما ، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى : (نَكالاً) مفعول له أيضا ـ كما قال أكثر المعربين ـ وقال السمين : منصوب كما نصب (جَزاءً) ، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام ، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع ، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه ، وقال الحلبي وبعض المحققين : إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة ، وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة ، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن ، وقال عصام الملة : إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما ـ كما في هذا خلو حامض ـ والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد ، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى ، ولا يخفى ما فيه فتأمل ، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا أتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا ، وقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ) في شرع الردع (حَكِيمٌ) في إيجاب القطع ، أو (عَزِيزٌ) في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي (حَكِيمٌ) في فرائضه وحدوده ، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.

٣٠٣

ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى أنه قرأ ـ والسرق والسرقة ـ بترك الألف وتشديد الراء ، فقال ابن عطية : إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف ، وقيل في توجيهها : إنهما جمع سارق وسارقة ، لكن قيل : إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث ، فلو قيل : إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب ، واعترض ـ الملحد ـ المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل ، فقال :

يد بخمس مئين عسجد وديت

ما بالها قطعت في ربع دينار

تحكم : ما لنا إلا السكوت له

وأن نعوذ بمولانا من النار

فأجابه ـ ولله دره ـ علم الدين السخاوي بقوله :

عز الأمانة : أغلاها وأرخصها

ذل الخيانة ، فافهم حكمة الباري

وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه ، وقيل : كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله ، وعلى الثاني مؤكد للنسخ (فَمَنْ تابَ) من السرّاق إلى الله تعالى (مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) الذي هو سرقته ، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته (وَأَصْلَحَ) أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله ، وقيل : المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة ، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه ، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه ، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة ، وأكد ذلك بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهو في موضع التعليل لما قبله ، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد يصلح له ، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي : اتصال الحجاج ، والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد ، وقال شيخ الإسلام : المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى ـ على ما سيأتي ـ من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته ، والجار والمجرور خبر مقدم ، و (مُلْكُ السَّماواتِ) مبتدأ ، والجملة خبر (أَنَ) وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور ، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم ، وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه ، وإما خبر آخر ـ لأن ـ وكان الظاهر لحديث «سبقت رحمتي غضبي» تقديم المغفرة على التعذيب ، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة ، والمغفرة للتائب منها ، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق ، أو لأن المراد بالتعذيب القطع ، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى ، والأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، فجيء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد ، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة ، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور ، وفي التعذيب إباء بين (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ، ووجه الإظهار كالنهار (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خوطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن ، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة ، وإيثار كلمة (فِي) على ـ إلى ـ للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون ، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه

٣٠٤

إلى بعض آخر منها ، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك.

والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن ، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسارعتهم في الكفر ـ لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة ، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله.

وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن وهي لغة ، وقرئ «يسرعون» يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا ـ كما قيل ـ من شرهم وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم ، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) بيان للمسارعين في الكفر ، وقال أبو البقاء : إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل (يُسارِعُونَ) أو من الموصول أي كائنين (مِنَ الَّذِينَ) إلخ ، والباء متعلقة ـ بقالوا ـ لا ـ بآمنا ـ لظهور فساده وتعلقها به على معنى ـ بذي أفواههم ـ أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) جملة حالية من ضمير (قالُوا) ، وقيل : عطف على (قالُوا) وقوله سبحانه وتعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) عطف على (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين : منافقين ويهود ، فقوله سبحانه وتعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف أي هم (سَمَّاعُونَ) ، والضمير للفريقين أو للذين يسارعون ، وجوز أن يكون ـ للذين هادوا ـ واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل ـ كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ـ وكذا جعل غير واحد (وَمِنَ الَّذِينَ) إلخ خبرا على أن (سَمَّاعُونَ) صفة لمبتدإ محذوف ، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم ، على أنه قد قرئ ـ سماعين ـ بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية العطف ، فالوجه ذلك ، واللام للتقوية كما في قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧ ، البروج : ١٦] وقيل : لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه ، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام.

وقد قال الزجاج : يقال : لا تسمع من فلان أي لا تقبل ، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده ، وكلام الجوهري يخالفه أيضا ، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين ، وقال عصام الملة : إن القبول أيضا متعد بنفسه ففي القاموس : قبله ـ كعمله ـ وتقبله بمعنى أخذه ، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من ، كما في ـ سمع الله لمن حمده ـ أي قبل الله تعالى ممن حمده ، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع.

وجوز أن تكون اللام للعلة ، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم ، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم ، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية ـ على ما قيل ـ مجرى التعليل للنهي ، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب ، وقوله تعالى شأنه : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) خبر ثان للمبتدإ المقدر للأول ، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين ، واللام هنا مثلها في ـ سمع الله لمن حمده ـ والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين ، واختاره شيخ الإسلام.

٣٠٥

وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين ، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم ، وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي ، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه ، نعم ما قيل : من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن (سَمَّاعُونَ) الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد ، و (آخَرِينَ) صفة (لِقَوْمٍ) وجملة (لَمْ يَأْتُوكَ) صفة أخرى ، والمعنى لم يحضروا عندك ، وقيل : هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك ، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرط عداوتهم ، واحتمال كونها صفة (سَمَّاعُونَ) أي (سَمَّاعُونَ) لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقوله سبحانه وتعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) صفة أخرى (لِقَوْمٍ) وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي ، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال ، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى ، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر ، وقيل : الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم ، وقيل : إلى الفريقين ، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة ، أو كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله ، أو تغيير وضعه ، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده.

ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) دون عن مواضعه ، وقال عصام الملة : إن إدراج لفظ (بَعْدِ) للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع ، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه ، ولا يخفى بعده ، وقال بعضهم : إن (مِنَ) للابتداء ، ولفظ (بَعْدِ) للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد ، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى ، وقرأ إبراهيم ـ يحرفون الكلام (١) عن مواضعه ـ وقوله سبحانه وتعالى : (يَقُولُونَ) كالجملة السابقة في الوجوه ، ويجوز أن تكون حالا من ضمير (يُحَرِّفُونَ) وجوز كونها كالتي قبلها صفة ـ لسماعون ـ أو حالا من الضمير فيه ، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخاطب به ممن يحضره ، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا ، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم ، فالحق الذي لا محيد عنه ـ وعليه درج غالب المفسرين ـ أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم (إِنْ أُوتِيتُمْ) من جهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو الظاهر (هذا فَخُذُوهُ) واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) من جهته بل أوتيتم غيره (فَاحْذَرُوا) قبوله وإياكم وإياه ، أو فاحذروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى ، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله

__________________

(١) قوله : «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه ؛ وحرر قراءة إبراهيم.

٣٠٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ لم يظهر عليهم ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وقوة منكم ، فأما إذ قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ففكرت العزيزة فقال : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم ، فدسوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه ، فدسوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وما ذا أرادوا فأنزل (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) الآية ، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة.

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ـ وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت ـ فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما ، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية ـ وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ـ ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه ، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه ، فأتوه فقالوا : يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما ، فمشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس فقال : يا معشر يهود اخرجوا إلى علمائكم ؛ فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة ، فخلا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ـ فألظ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسألة يقول : يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلخ.

وأخرج الحميدي في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد الله أنه قال : «زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، فسألوه عن ذلك فقال : أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم ، فجاءوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا : بلى ، قال : فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه‌السلام وأنزل المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، فقال أحدهما للآخر : ما أنشدت بمثله قط قالا : نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه بيدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كذلك فأمر به فرجم.

وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع ، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام ـ كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام ، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة ، واختاره الجبائي وأبو مسلم ، أو

٣٠٧

إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك ، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج ، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه ـ كما قيل ـ وليس بشيء ، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا ، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ) فلن تستطيع له (مِنَ اللهِ شَيْئاً) في دفع تلك الفتنة ، والفاء جوابية ، و (مِنَ اللهِ) متعلق ـ بتملك ـ أو بمحذوف وقع حالا من (شَيْئاً) لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى ، أو بدل الله عز اسمه ، و (شَيْئاً) مفعول به ـ لتملك ـ وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا (أُولئِكَ) أي المذكورون من المنافقين واليهود ، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا ، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه : (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من رجس الكفر وخبث الضلالة ، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداء ، وفيها ـ كالتي قبلها على أحد التفاسير ـ دليل على فساد قول المعتزلة : إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد ، وقول بعضهم : إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب ، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان ـ كما قال البلخي ـ لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام.

ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال : معنى ـ من يرد الله فتنته ـ من يرد تركه مفتونا وخذلانه (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا ، ومعنى (لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع انتهى.

وقد تعقبه ابن المنير بقوله : كم يتلجلج والحق أبلج ، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر ، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد ، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب ، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع ، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله : لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون ، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع ، فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟!

وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى ، وتفصيهم عن ذلك عسير (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أما المنافقون فخزيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين ، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته ، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء بني النضير من ديارهم ، وتنكير (خِزْيٌ) للتفخيم وهو مبتدأ و (لَهُمْ) خبره ، و (فِي الدُّنْيا) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب ، كأنه قيل : فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) وكذا الحال في قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي مع الخزي الدنيوي (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها ، وضمير (لَهُمْ) في الجملتين ـ لأولئك ـ من المنافقين واليهود جميعا ، وقيل : لليهود خاصة ، وقيل : (لَهُمْ) إن استأنفت بقوله سبحانه : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) وإلا فللفريقين ،

٣٠٨

والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد ، ولذلك كرر قوله سبحانه : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ، وقيل : إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) إلخ. أو توطئة لما بعده ، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار ، ويؤيده الفصل بينهما.

(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام من سحته إذا استأصلته ، وسمي الحرام سحتا ـ عند الزجاج ـ لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار ، وقال الجبائي : لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا ، وقال الخليل : لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان ، والمراد به هنا ـ على المشهور ـ الرشوة في الحكم ، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن.

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ، قيل : يا رسول الله وما السحت؟ قال : الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هدايا الأمراء سحت» وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال : لا ، ولكن كفر ، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية ، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال : الرشا ، فقيل له في الحكم ، قال : ذاك الكفر ، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك ، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ست خصال من السحت : رشوة الإمام ـ وهي أخبث ذلك كله ـ وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن» ، وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر.

قيل : ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر ، وجاء من طرق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما».

ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا ـ ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة ـ السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى ـ حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين ـ بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه ، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء ، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ ، والنجش بالصدقة ، والسحت بالهدية ، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما».

هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين ، وهما لغتان ـ كالعنق والعنق.

وقرئ «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد ، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين (فَإِنْ جاؤُكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح (فَإِنْ جاؤُكَ) متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بما أراك الله تعالى (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) غير مبال بهم ولا مكترث ، وهذا كما ترى تخيير له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الأمرين ، وهو معارض لقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص ـ في كتاب الأحكام ـ أن العلماء اختلفوا ، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وإليه ذهب أكثر السلف : قالوا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أولا مخيرا ، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، وقيل : إن هذه الآية فيمن لم

٣٠٩

يعقد له ذمة ، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام ، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا.

وقال أصحابنا : أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه ، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين ، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه ، واختلف في مناكحتهم ، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : يقرون عليها ، وخالفه ـ في بعض ذلك ـ محمد وزفر ، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا ، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم ، وتمام التفصيل في الفروع (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهما ، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر ، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك (فَلَنْ يَضُرُّوكَ) بسبب ذلك (شَيْئاً) من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي أمرت به ، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام ، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال : ـ لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم ـ إن صح يراد منه لازم المعنى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به ، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به ، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون ، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) حال من فاعل (يُحَكِّمُونَكَ) ، وقوله تعالى : (فِيها حُكْمُ اللهِ) حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد ـ كما قال السمين ـ على ذي الحال لكن قال : جعل التوراة ـ مرفوعا بالظرف المصدر بالواو ـ محل نظر ، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة ، أو أنه لا يقرن بالواو ، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن سيبويه.

وقيل : استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، وأنثت التوراة معاملة لها ـ بعد التعريب ـ معاملة الأسماء العربية الموازنة لها ـ كموماة ودوداة ـ (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ) عطف على (يُحَكِّمُونَكَ) داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم ، وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة ، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا ، والأول أولى ، وقوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب ، وقوله عزوجل : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) تذييل مقرر لفحوى ما قبله ، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة ، أي (وَما أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر (بِالْمُؤْمِنِينَ) بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا ، أو بك وبه ، وقيل : هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحكمه أصلا.

وقيل : المعنى ـ وما أولئك بالكاملين في الإيمان ـ تهكما بهم (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه (فِيها هُدىً) أي إرشاد للناس إلى الحق (وَنُورٌ)

٣١٠

أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم ـ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ.

وقال الزجاج : (فِيها هُدىً) أي بيان للحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَنُورٌ) أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق ، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى ، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم ، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز ، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك ، وقد يقال : إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بناء على ما قال الزجاج ـ باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا ، والظرف خبر مقدم ، و (هُدىً) مبتدأ ، والجملة حال من (التَّوْراةَ) أي كائنا فيها ذلك ، وكذا جملة (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) في قول إلا أنها حال مقدرة ، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها ، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل ، وكان بين النبيين عليهما‌السلام ألف نبي.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم‌السلام ، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة ، والمراد يحكم بأحكامها النبيون (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيين ـ كما قيل ـ على سبيل المدح ، والظاهر لهم ، ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه ، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم ، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما ؛ فإن أقل متبعيه كذلك ، ثم قال : فالوجه ـ والله تعالى أعلم ـ أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها ، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر ، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها ، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم‌السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم‌السلام ، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته ، وكذلك قيل في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] ، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره ، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة ، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا ، كيف لا؟! وهم ـ عند ربهم ـ كما في الخبر ، ثم قال جل وعلا : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين ، فلذلك ـ والله تعالى أعلم ـ جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به ، ولقد أحسن القائل : أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف ، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله :

ما إن مدحت محمدا بمقالتي

لكن مدحت مقالتي بمحمد

والإسلام ـ وإن كان من أشرف الأوصاف ، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه ـ إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة ؛ فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح ، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس ، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله :

شمس ضحاها هلال ليلتها

در مقاصيرها زبرجدها

فنزل عن الشمس إلى الهلال ، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا

٣١١

أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها ، والله تعالى الموفق للصواب انتهى.

وفي المفتاح : والتخليص إشارة إلى ما ذكره ، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب ، نعم قد يقال : إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام ، على أنه قد ورد في الفصيح ـ بل في الأفصح ـ ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات ، ومن ذلك (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ وغيرها] حيث كان متضمنا نكتة ، وقال عصام الملة : إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه ، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشإ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم ، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة ، فغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج عن هذا المسلك انتهى ، وفيه تأمل ، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد ، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم (لِلَّذِينَ هادُوا) أي تابوا من الكفر ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ـ والمراد بهم اليهود ـ كما قال الحسن ـ والجار إما متعلق ـ بيحكم ـ أي يحكمون فيما بينهم ، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم ، كأنه قيل : لأجل الذين هادوا ، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه ، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين ، وقيل : من باب (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] وإما متعلق ـ بأنزلنا ـ ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر ، وقيل : بأنزل على صيغة المبني للمفعول ، وحذف لدلالة الكلام عليه ، وتكون الجملة حينئذ معترضة ، وعلى هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم ، وقيل : الجار متعلق ـ بهدى ونور ـ وفيه فصل بين المصدر ومعموله ، وقيل : متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي (هُدىً وَنُورٌ) كائنان لهما ، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي العباد والعلماء قاله قتادة ، وقال مجاهد : (الرَّبَّانِيُّونَ) العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار ، وعن ابن زيد (الرَّبَّانِيُّونَ) الولاة ، (وَالْأَحْبارُ) العلماء ، والواحد: حبر بالفتح والكسر ، قال الفراء : وأكثر ما سمعت فيه الكسر ، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين ، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه ، ومن ذلك الحبر ـ بكسر الحاء لا غير ـ لما يكتب به ، وهذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها ، وتوسيط المحكوم لهم ـ كما قال شيخ الإسلام ـ بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها ، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون ، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم‌السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها ، والجار متعلق «بيحكم» ، وما موصولة ، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار ، وقوله تعالى : (مِنْ كِتابِ اللهِ) بيان ـ لما ـ وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة ، وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها ، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه (مِنْ كِتابِ اللهِ) حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه ، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا ، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له ، وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر ، و (مِنْ) لتبيين مفعول محذوف ـ لاستحفظوا ـ والتقدير بسبب أمر (اسْتُحْفِظُوا) به

٣١٢

شيئا (مِنْ كِتابِ اللهِ) وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى ، وقيل : الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغني عن تقدير العائد ، وحينئذ لا يتأتى القول بأن (مِنْ) بيان لها ، ومن الناس من جوز كون (بِمَا) بدلا من بها ، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل ، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم ، فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى ، وحديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك ، وقيل : إن (الرَّبَّانِيُّونَ) فاعل بفعل محذوف ، والباء صلة له ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) عطف على (اسْتُحْفِظُوا) ومعنى (شُهَداءَ) رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه ، أو (شُهَداءَ) عليه أنه حق.

ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون (الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة ، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى ، وإرجاع ضمير (كانُوا) للنبيين مما لا يكاد يجوز ، وقيل : عطف على (يَحْكُمُ) المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى.

وكانوا شهداء عليه ، ويجوز على هذا ـ بلا خفاء ـ أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه ، وأمر التعدي بعلى سهل ، ولعل المراد به شيء وراء الحكم ، وقيل : الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه ، والعطف إما على (اسْتُحْفِظُوا) أو على (يَحْكُمُ) وتوهم عبارة البعض ـ حيث قال وبسبب كونهم شهداء ـ أن العطف على ـ ما ـ الموصولة فيؤوّل (كانُوا) بالمصدر ، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا ، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى ، وإرجاع ضمير (عَلَيْهِ) إلى حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات ، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه ، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه ، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدي والكلبي ، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة ، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) كائنا من كان ، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار ، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد (وَاخْشَوْنِ) في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي ، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي) أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم (ثَمَناً قَلِيلاً) من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية ، فإنه وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر ، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي.

وعن ابن مسعود ـ وهو الوجه كما في الكشف ـ أنه عام ، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار ، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية ، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين ، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (فَأُولئِكَ) إشارة إلى (مِنْ) والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها ، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه : (هُمُ الْكافِرُونَ) ويجوز أن

٣١٣

يكون (هُمُ) ضمير فصل ، و (الْكافِرُونَ) هو الخبر ، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير ، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن ، ووجه الاستدلال بها أن كلمة (مِنْ) فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى ، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى ، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر ، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى ، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس ، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره ، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إنما أنزل الله تعالى ـ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ـ في اليهود خاصة ، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ) إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك ، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة ، فلإنكارهم ذلك وصفوا ـ بالكافرين ـ ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا ـ بالظالمين ـ ولخروجهم عن الحق وصفوا ـ بالفاسقين ـ أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم ، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر ، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق ، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال : الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى ، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل : إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه.

ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث : إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر ، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم ، وهو مخرج مخرج التغليظ ، أو يلتزم أحد الجوابين ، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات ، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين ، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين ، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه ـ أن الآيات الثلاث ذكرت عنده ، فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل ، فقال حذيفة : نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك ـ يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم ، ويحتمل أن يكون كما قيل : ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين ، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال : كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك.

هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) بمحو الصفات والفناء في الذات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالمطلوب ، وقيل : ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله :

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي

فليس إلى معن سواه شفيع

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي ما في الجهة السفلية (جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) الكبرى (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية

٣١٤

من المعارف والحقائق النورية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة (جَزاءً بِما كَسَبا) من تناول ما لا يحل تناوله لها (نَكالاً) أي عقوبة من الله عزوجل (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) ووساوس شيطان النفس (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) وهم القوى النفسانية (لَمْ يَأْتُوكَ) أي ينقادوا لكم ، أو (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ) يسنون السنن السيئة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) وهي التعينات الإلهية (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني ، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة ـ كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه ـ وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى ، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات ، ونحن نبرأ إلى الله عزوجل من ذلك فإنه كفر صريح ، وإنما نقول : المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) قال ابن عطاء : من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي بالمراقبة والمراعاة ، وقال أبو بكر الوراق : طهارة القلب في شيئين : إخراج الحسد والغش ، وحسن الظن بجماعة المسلمين (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وهو ما يأكلونه بدينهم (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم ، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق.

(وَكَتَبْنا) عطف على (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) والمعنى قدرنا وفرضنا (عَلَيْهِمْ) أي على الذين هادوا ، وفي مصحف أبيّ وأنزلنا على بني إسرائيل (فِيها) أي في التوراة ، والجار متعلق بكتبنا ، وقيل : بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها ، وقيل : صفة لمصدر محذوف أي (كَتَبْنا) كتابة مبينة (فِيها). (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق ، ويقدر في كل مما في قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ (١) بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ) ما يناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع ، ومنهم من قدر الكون المطلق ، وقال : إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك.

وقرأ الكسائي : (الْعَيْنَ) وما عطف عليه بالرفع ، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى ـ كتبنا عليهم أن النفس بالنفس ـ قلنا لهم : النفس بالنفس ، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل ، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس ، وقيل : إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية ، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة ، وقيل : إنه مندرج فيه أيضا على هذا ، والتقدير وكذلك ـ العين بالعين ـ إلخ لتتوافق القراءتان.

وقال الخطيب : لا عطف ، والاستئناف بمعناه المتبادر منه ، والكلام جواب سؤال كأنه قيل : ما حال غير النفس؟ فقال سبحانه : (الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلخ ، وقيل : إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا ، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى ، وضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد ، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة.

وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم

٣١٥

على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل ، وهو يقتضي أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر ، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم.

واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر ، ويقال : ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص ، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير ، وتصغيرها نفيسة لا غير ، والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة ، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال : هذه عين هؤلاء الرجال ، وأنت تريد الخيار ، والأذن مثلها ، والأنف مذكر لا غير ، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب ، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض ، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران ، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله :

وهاك من الأعضاء ما قد عددته

تؤنث أحيانا وحينا تذكر

لسان الفتى والإبط والعنق والقفا

وعاتقه والمتن والضرس يذكر

وعندي الذراع والكراع مع المعى

وعجز الفتى ثم القريض المحبر

كذا كل نحوي حكى في كتابه

سوى سيبويه وهو فيهم مكبر

يرى أن تأنيث الذراع هو الذي

أتى ، وهو للتذكير في ذاك منكر

وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث ، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر ، وليس ذاك بمطرد فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين ، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد ، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال ، والكف أولى بمقتضى الحال هذا (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) بالنصب عطف على اسم إن ، و (قِصاصٌ) هو الخبر ، ولكونه مصدرا كالقتال ، وليس عين المخبر عنه يؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله ، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا ، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء ، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية ، واستدل بعموم (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) من قال : يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة ، ومن خالف استدل بقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) [البقرة : ١٧٨] وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر» وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه ، والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده ، والعطف يقتضي المغايرة ، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي ، وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر ، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم ، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم ، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام ، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب ، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى.

وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك ، فقال قال الأصحاب : لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد ، وكذا كفره باعث على الحرب لأنه على قصد الرجوع ،

٣١٦

ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح ، ويقتل قياسا للمساواة ، ولا الرجل بابنه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقاد الوالد بولده» وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله : يقاد إذا ذبحه ذبحا ، ولأنه سبب لإحيائه ، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه ، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن ، والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه ، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب ، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا ، ولا الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه ، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم ، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) بالإفراد ، وأجيب بأن حكمة القصاص ـ وهو صون الدماء والأحياء ـ اقتضت القتل ، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص ، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل (فَمَنْ تَصَدَّقَ) أي من المستحقين للقصاص (بِهِ) أي بالقصاص أي فمن عفا عنه ، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب (فَهُوَ) أي التصدق المذكور (كَفَّارَةٌ لَهُ) للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين ، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية فقال : «هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده ، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه ، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه ، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها».

وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت» وقيل : الضمير عائد إلى الجاني ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة ، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط ، وإليه ذهب العلامة الثاني ، وقيل : إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ ، فالتعين ليس بمسلم ، وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص ، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب ، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجاني نفسه ، وفيه بعد ظاهر ، وقرأ أبيّ فهو كفارته له ، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق ، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك ، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء ، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان ، وفيه ترغيب في العفو ، والآية نزلت ـ كما قال غير واحد ـ لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة ، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم ، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا ، وقال الضحاك : لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح ، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية.

٣١٧

وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٥٨)

(وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) شروع في بيان أحكام الإنجيل ـ كما قيل ـ إثر بيان أحكام التوراة ، وهو عطف على (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) وضمير الجمع المجرور ـ للنبيين الذين أسلموا ـ كما قاله أكثر المفسرين ، واختاره علي بن عيسى والبلخي وقيل : للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره ، وحكي ذلك عن الجبائي ـ وليس بالمختار ـ والتقفية الاتباع ، ويقال : قفا فلان أثر فلان إذا تبعه ، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه ، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فالفعل كما قيل : متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء ، والمفعول الأول محذوف ، و (عَلى آثارِهِمْ) كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به ، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد ، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف ، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل ،

٣١٨

وقد جاء منه ألفاظ قالوا : صك الحجر الحجر ، وصككت الحجر بالحجر ، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته دافعا له.

وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية ، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يا عيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء ، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) عطف على (قَفَّيْنا) ، وقرأ الحسن بفتح الهمزة ، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب ، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح ، وأما إفعيل بالكسر فله نظائر ـ كإبزيم وإحليل ـ وغير ذلك (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) كما في التوراة ، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل ، وقوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) عطف على الحال وهو حال أيضا ، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير ، وقوله عزوجل : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية ، وجعل كله هدى ـ بعد ما جعل مشتملا عليه ـ مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر ، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه ، وجوز نصب (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته (وَهُدىً) إلخ ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) آتيناه ذلك (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها ـ كما قرره شيخ الإسلام قدس‌سره ـ واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي ، وقيل : هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على ـ آتيناه ـ أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل ، وحذف القول ـ لدلالة ما قبله عليه ـ كثير في الكلام ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] واختار ذلك علي بن عيسى.

وقرأ حمزة (وَلْيَحْكُمْ) بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة ، والمصدر معطوف على (هُدىً وَمَوْعِظَةً) على تقدير كونهما معللين ، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل ، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى ، وفاعل هذا أهل الكتاب ، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في (هُدىً وَمَوْعِظَةً) أي وآتيناه ليحكم إلخ ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال ، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف ، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا ـ بأنزل ـ ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر.

وعن أبي علي أنه قرأ ـ وأن ليحكم ـ على أن ـ أن ـ موصولة بالأمر كما في قولك : أمرته بأن قم ، ومعنى الوصل أن ـ أن ـ تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته ، ووصل ـ أن ـ المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف ، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا ، كأنه قيل : وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم ، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه ، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان ، وقد مر تحقيقه ، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام ، وأن عيسى عليه‌السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما

٣١٩

في التوراة خاصة ، ويشهد لذلك أيضا حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وخالف في ذلك بعض الفضلاء ، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه‌السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه‌السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما ، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام ، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا (بِما أَنْزَلَ اللهُ) تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة ، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية ـ وهو القرآن العظيم ـ فاللام للعهد ، والجملة عطف على (أَنْزَلْنا) وما عطف عليه ، وقوله تعالى : (بِالْحَقِ) حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (أَنْزَلْنا) ، وقيل : حال من الكاف في (إِلَيْكَ) وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) حال من (الْكِتابَ) أي حال كونه مصدقا لما تقدمه ، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك ، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد ، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله ، وقوله سبحانه : (مِنَ الْكِتابِ) بيان (لِما) واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز ـ كما قال غير واحد ـ أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر ، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) قال الخليل وأبو عبيدة : أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم : أي شاهدا عليه بأنه الحق ، والعطف حينئذ للتأكيد ؛ وهاؤه أصلية ، وفعله هيمن ، وله نظائر ـ بيطر وخيمر وسيطر ـ وزاد الزجاج : بيقر ، ولا سادس لها ، وقيل : إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن ـ كهراق ـ وقال المبرد وابن قتيبة : إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى ، فصغر وأبدلت همزته هاء ، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر ، وكذا كل اسم معظم شرعا ، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرءا (مُهَيْمِناً) بفتح الميم على بنية المفعول فضمير (عَلَيْهِ) على هذا يعود على الكتاب الأول ، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل ، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتاب ـ كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه ، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية ، وتقديم (بَيْنَهُمْ) للاعتناء بتعميم الحكم لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم ، وترهيبا عن المخالفة ، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الزائغة.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) الذي لا محيد عنه ، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل : لا تعدل (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ)

٣٢٠