روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

اللام مع الشر دون على ، وهو خلاف ما في الآية ، وقيل : المراد لكل ، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغني باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب ـ وهو كما ترى ـ ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين.

وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمنّ خلاف ما قسم له (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل : لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا ، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء ، أو لكونه معلوما من السياق ، أي واسألوا مثله ، ويقال لذلك : غبطة. وقيل : (مِنْ) زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله ، وقد ورد في الخبر «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله» وذهب بعض العلماء ـ كما في البحر ـ إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه ، فلا يجوز عنده أن يقول : اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول : اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي ، ولا يتعرض لمن فضل عليه ، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته ، وقيل : المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه ، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين ، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول : قد نهاكم الله تعالى عن هذا ويتلو الآية ، والظاهر العموم ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج» وقال ابن عيينة : لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم.

ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان ، أو لكل قوم ، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده : الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام ، فيكون (مِمَّا تَرَكَ) متعلقا بموالي أو بفعل مقدر ، و (مَوالِيَ) مفعولا أولا ـ لجعل ـ بمعنى صير ، و (لِكُلٍ) هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض ، وفاعل (تَرَكَ) ضمير كل ، ويكون (الْوالِدانِ) مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ومن الوارث؟ فقيل : هم (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) ، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان ، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه : (الْوالِدانِ) كأنه قيل : ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) في الأول وارثون ، وفي الثاني موروثون ، وعليهما فالكلام جملتان ، والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث ـ مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ـ أي موروثين ، ـ فالمولى ـ الموروث و (الْوالِدانِ) مرفوع ب (تَرَكَ) وما بمعنى من ، والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل ، والكلام جملة واحدة ، والرابع أنه على التقدير الثاني معناه ، ولكل قوم جعلناهم (مَوالِيَ)

٢١

نصيب ـ مما تركه والداهم وأقربوهم ، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم ؛ والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل ، وموالي : إما مفعول ثان ، أو حال و (مِمَّا تَرَكَ) صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها.

ونظيره قولك : لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى ، أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى ، والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه ، ويكون (لِكُلٍ) متعلقا ـ بجعل ـ و (مِمَّا تَرَكَ) صفة كل ، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال : إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم ، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنه نادر ، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها ، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي ، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل ، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد ، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] ؛ وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا ، وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا ، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين : أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن ، أو في ، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر ، وما ذكر داخل فيه دون الآية ، وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده ، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم ، فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح ، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط. فالحق أنه أغلبي لا كلي ، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو ـ بكل رجل مررت تميمي ـ وفي جوازه نظر ، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما ـ بأتخذ ـ العامل في غير ، فهذا أولى ، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه ، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله ، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم ، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين ، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك ، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) هم موالي الموالاة.

أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال : كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم ، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) [الأنفال : ٧٥].

٢٢

وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره ، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا ، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام ، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى ، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود ، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين ؛ وقرأ الكوفيون (عَقَدَتْ) بغير ألف ، والباقون «عاقدت» بالألف ، وقرئ بالتشديد أيضا. والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم ، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد ، وفي الموصول أوجه من الإعراب : الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والثاني أنه منصوب على الاشتغال ؛ قيل : وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا. ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه مؤخرا أفاد الاختصاص ، وإن قدر مقدما فلا يفيده ، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص ، والثالث أنه معطوف على (الْوالِدانِ) فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من ـ فآتوهم ـ على ـ موالي ـ وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على (مَوالِيَ) وعلى الوالدين وما عطف عليهم ، قيل : ويضعفه شهرة الوقف على (الْأَقْرَبُونَ) دون (أَيْمانُكُمْ) ، والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم فلما نزلت (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسخت ، ثم قال : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والرفادة والنصيحة ـ وقد ذهب الميراث ويوصى له ـ وروي عن مجاهد مثله ، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الإرث (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع «على الإيتاء والمنع ، ويجازي كلّا من المانع والمؤتى حسب فعله ، ففي الجلة وعد ووعيد (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك ، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم ، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق ، وعلل سبحانه الحكم بأمرين : وهبي وكسبي فقال عز شأنه : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فالباء للسببية وهي متعلقة ب (قَوَّامُونَ) كعلى ولا محذور أصلا ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة ، وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن ، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل ، أو متلبسين بالتفضيل ، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية ، وقيل : للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء ، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل ، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين ، والرجال بعكسهن كما لا يخفى ، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر ، وبالإمامة الكبرى والصغرى ، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم ـ والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية ـ وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك

٢٣

(وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى ، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف ، و (مِنْ) تبعيضية أو ابتدائية متعلقة ـ بأنفقوا ـ أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق ـ كما قال مجاهد ـ المهر ، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه ، والنفقة عليهن ، والآية – كما روي عن مقاتل ـ نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء ، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم: لتقتص من زوجها ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا هذا جبرائيل عليه‌السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير».

وقال الكلبي : نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة ، وقال بعضهم : نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وذكر قريبا منه ، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى ، وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة ، وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها ، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح ، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨] واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له (فَالصَّالِحاتُ) أي منهن (قانِتاتٌ) شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن ، والمراد (فَالصَّالِحاتُ) منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن ، قال الثوري ، وقتادة : أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال ، فاللام بمعنى في ، والغيب بمعنى الغيبة ، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي ، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة ، فاللام على ظاهرها ، وقيل : المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة ، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر ، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام ، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الرِّجالُ قَوَّامُونَ) إلى الغيب» يبعد هذا القول ؛ ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول (بِما حَفِظَ اللهُ) أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن ، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج ، وقيل : بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولو لا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن ـ فما ـ إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر (بِما حَفِظَ اللهُ) بالنصب ، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة ـ كدين الله ، وحقه ـ لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد ، وما موصولة أو موصوفة ، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله ، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل : فمن (١) حفظ الله ، وجعله ابن جني كقوله :

فإن الحوادث أودى بها

__________________

(١) قوله : «فمن» إلخ كذا بخطه ولعله سبق قلم ، والأصل «بمن» تأمل.

٢٤

ولا يخفى ما فيه من التكلف ، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى ، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر ، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده ، وقد نص على ذلك في الدر المصون.

وقرأ ابن مسعود ـ فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن ، وأخرج ابن جرير عنه زيادة ـ فأصلحوا إليهن ـ فقط (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم ، من النشز ـ بسكون الشين وفتحها ـ وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع (فَعِظُوهُنَ) أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه ، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن ، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير (تَخافُونَ) بتعلمون ، وبه قال الفراء ـ كما نقله عنه الطبرسي ـ وجاء الخوف بهذا كما في القاموس ، وقيل : المراد (تَخافُونَ) دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد.

واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن ، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي مواضع الاضطجاع ، والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وقيل : المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفوا إليهن ، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع ، وقيل : المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن ، وقيل : (فِي) للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة ، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى ، فالهجران على هذا بالمنطق ، قال عكرمة : بأن يغلظ لها القول ، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار ، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء ، وقال ابن المنير : لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى : (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما ، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع ، فإطلاق الزمخشري لها أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى ، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر ، ولعد تركه من التفريط ؛ وقرئ في المضطجع والمضجع (وَاضْرِبُوهُنَ) يعني ضربا غير مبرح ـ كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما.

وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه ، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح ، ثم تهجر ، ثم تضرب إذ لو عكس استغني بالأشد عن الأضعف ، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في (فَعِظُوهُنَ) لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع ، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر ، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج ، فإنما النص هو الدال على الترتيب.

هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة ، والزوج يريدها ، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه ، وترك الصلاة في رواية والغسل ، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي ، وقيل : له أن يضربها متى أغضبته ، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها ، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي ، فقد أخرج ابن سعد ، والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق

٢٥

رضي الله تعالى عنه قالت : «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلى بينهم وبين ضربهن ، ثم قال : ولن يضرب خياركم» وذكر الشعراني قدس‌سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب ، وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان. وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ، وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» وللخبر محمل آخر لا يخفى (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن ، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن ، فالبغي إما بمعنى الطلب ، و (سَبِيلاً) مفعوله والجار متعلق به ، أو صفة النكرة قدم عليها ، وإما بمعنى الظلم ، و (سَبِيلاً) منصوب بنزع الخافض ، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة ، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن ، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن ، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد ، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن (وَإِنْ خِفْتُمْ) الخطاب ـ كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما ـ للحكام ، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة ، وقيل : لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما ، وروي ذلك عن السدي ، والمراد فإن علمتم ـ كما قال ابن عباس ـ أو فإن ظننتم ـ كما قيل ـ (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي الزوجين ، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها ، والرجال والنساء عليهما ، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، و ـ بين ـ من الظروف المكانية التي يقل تصرفها ، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله : يا سارق الليلة أهل الدار. أو الفاعل كقولهم صام نهاره ، والأصل ـ شقاقا بينهما ـ أي أن يخالف أحدهما الآخر ، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه ، وقيل : الإضافة بمعنى في وقيل : إن ـ بين ـ هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف ، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء ، ولم يرتض ذلك المحققون.

(فَابْعَثُوا) أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين (حَكَماً) أي رجلا عدلا عارفا فأحسن السياسة والنظر في حصول المصلحة (مِنْ أَهْلِهِ) أي الزوج ، و «من» إما متعلق ـ بابعثوا ـ فهو لابتداء الغاية ، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض (وَحَكَماً) آخر على صفة الأول (مِنْ أَهْلِها) أي الزوجة ، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض ، وإرادة صحبة ، أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب ، وإن نصبا من الأجانب جاز ، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل : لهما ـ وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير ، وبه قال الشعبي ـ فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال : «جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم عليّ كرم

٢٦

الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ) إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي ، وقيل : ليس لهما ذلك ، وروي ذلك عن الحسن.

فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه ، وأما الفرقة فليست بأيديهما ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، ونسب إلى الإمام الأعظم ، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال : للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.

وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس ، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم ، وعن الشافعي روايتان في المسألة ، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه ، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها ، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.

وقال ابن العربي في الأحكام : إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له (إِنْ يُرِيدا) أي الحكمان (إِصْلاحاً) أي بين الزوجين وتأليفا (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما ؛ فالضمير أيضا للحكمين ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي.

وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق ، وأن يكون الأول للحكمين ، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة ، وأن يكون الأول للزوجين ، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم ، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه ، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا ، وفيها ـ كما قال ابن الفرس ـ رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين ، وقال : تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة ، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس ، وقدم الأمر بما

٢٧

يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم ، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك ، والعبادة أقصى غاية الخضوع ، و (شَيْئاً) إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره ، فالتنوين للتعميم.

واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم ـ أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير ـ ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود ، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق ، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا ، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع ، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل : ولعل الأوضح أن يقال : إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل : «واعبدوا الله مخلصين له». ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر ، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام ـ وأحسن ـ يتعدى بالباء وإلى واللام ، وقيل : إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف.

والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ، ولا يخشن في الكلام معهما ، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. (وَبِذِي الْقُرْبى) أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك ، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر : لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد ، وذلك في بني إسرائيل.

(وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) من الأجانب (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي الذي قرب جواره (وَالْجارِ الْجُنُبِ) أي البعيد من الجنابة ضد القرابة ، وهي على هذا مكانية ، ويحتمل أن يراد ـ بالجار ذي القربى ـ من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين ـ وبالجار الجنب ـ الذي لا قرابة له ولو مشركا ، أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد الله ـ وفيه ضعف ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب» ، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

والظاهر أن مبنى الجوار على العرف ، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره ، وروي مثله عن الزهري ، وقيل : أربعين ذراعا ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : إلى أقربهما منك بابا ، وقرئ ـ والجار ذا القربى ـ بالنصب أي وأخص الجار ، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار.

وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وفيما سمعه عبد الله كفاية ، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو الرفيق في السفر ، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وكلا القولين عن ابن عباس ، وقيل : الرفيق في أمر حسن ـ كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ـ وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى

٢٨

صحبة التأمت بينك وبينه ، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم.

وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه ـ الصاحب ـ بالجنب ـ المرأة ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب ، والعامل فيه الفعل المقدر (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر أو الضيف.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم ، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كان عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم (فَخُوراً) يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما ، والجملة تعليل للأمر السابق.

أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال : «كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ هذه الآية (إِنَّ اللهَ) إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ فقال : يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال : فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس» والأخبار في هذا الباب كثيرة.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)(٤٣)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) فيه أوجه من الإعراب : الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل ، الثاني أن يكون صفة لها بناء على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا ، والزجاج يقول به ، الثالث أن يكون نصبا على الذم ، الرابع أن يكون رفعا عليه ، الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون ، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك ـ مما يؤخذ من السياق ـ وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب ، وتقديره بعد تمام الصلة أولى ، السابع أن يكون كما قال أبو البقاء : مبتدأ (وَالَّذِينَ) الآتي معطوفا عليه ، والخبر (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) على معنى لا يظلمهم ، وهو بعيد جدا.

٢٩

وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها ، وعلى الثاني منقطع جيء به لبيان أحوالهم ، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه ، وفي البخل أربع لغات : فتح الخاء والباء ـ وبها قرأ حمزة والكسائي ـ وضمهما ـ وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر وفتح الباء وسكون الخاء ـ وبها قرأ قتادة ـ وضم الباء وسكون الخاء ـ وبها قرأ الجمهور ـ (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من المال والغنى ، أو من نعوته صلّى الله تعالى عليه وسلّم.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى ، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء ، ويجوز حمل الكفر على ظاهره ، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم ، وغضب الحليم وخيم ، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها ، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) إلى قوله سبحانه : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) ، وقيل : نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره ، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية : هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال ، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم ، وأمرهم الناس أي اتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة ، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) أي للفخار ، ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال ، والموصول عطف على نظيره ، أو على الكافرين ، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم ، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي.

و (رِئاءَ) مصدر منصوب على الحال من ضمير (يُنْفِقُونَ) وإضافته إلى (النَّاسِ) من إضافة المصدر لمفعوله أي مراءين الناس (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) القادر على الثواب والعقاب (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود ، وروي ذلك عن مجاهد ، أو مشركو مكة ، أو المنافقون ـ كما قيل ـ (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته ، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار ، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن (لَهُ قَرِيناً) أي صاحبا وخليلا في الدنيا (فَساءَ) فبئس الشيطان أو القرين.

(قَرِيناً) لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار ـ وساء ـ منقولة إلى باب ـ نعم ، وبئس ـ فهي ملحقة بالجامدة ؛ فلذا قرنت بالفاء ، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير «قد» كقوله سبحانه : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم ، فحملهم على ذلك وزينه لهم ، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي ما الذي عليهم ، أو أي وبال وضرر يحيق بهم.

٣٠

(لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا) على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى ـ كما يشعر به السياق ـ ويفهمه الكلام (مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) من الأموال ، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه ، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا ، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا ، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها ، ومن ذلك قول من قال :

ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل ، ألا ترى أن من قال للأعمى : ما ذا عليك لو كنت بصيرا ، وللقصير ما ذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره.

واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة ، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل ـ وليست واجبة ـ وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة ، و «لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي ـ لو آمنوا لم يضرهم ـ وإما بمعنى أن المصدرية ـ كما قال أبو البقاء ـ وعلى الوجهين لا استئناف.

وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه ، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها ، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم ، ولو قيل : أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم ، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به ، وقيل : فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا ، ولا بأس بأن يراد ـ كان عليما بهم ـ وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية ـ كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال مفعال من الثقل ، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل : جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا ، وعلى مطلق المقدار ـ وهو المراد هنا ـ ولذا قال السدي : أي وزن ذرة ـ وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى.

وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد ، وعن الأول أنها رأس النملة ، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة ، وقريب منه ما قيل : إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة ، وقيل : هي الخردلة ، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ـ مثقال نملة ـ ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر ، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة ، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة ، والعظم كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم ، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول ، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف إليه مقامهما ، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة.

٣١

قال السمين : وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب ، أو ينقص فعدوه لاثنين.

وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه ، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا ، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهي عنه مما ينبغي أن يجتنب.

واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة ، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا ، واعترض على ذلك بقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه ، قال في الكشف : وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول : الباري عزّ وعلا ليس بجسم ولا عرض ، وأمّا ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار ، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم ، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات ، لكن الحكمة ـ وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي ـ مانعة ، وعن هذا قالوا : الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة ؛ والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح ، ونحن نقول : إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناء على وعده المحتوم ، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى ، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما ، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق ، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما ، والخلف ممتنع لذاته ، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك ، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم.

(وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال ، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة ، وقيل : لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو كما شرقت صدر القناة من الدم. أو صفة له نحو (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) [الأنعام : ١٥٨] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس ، وقيل : أنث الضمير لتأنيث الخبر ، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور ، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته ، والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو ـ الكلام هو الجملة ـ وقيل : الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء ، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد ، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما كثر دوره ، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله.

فإن لم تك المرآة أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة ، وقرأ ابن كثير «حسنة» بالرفع على أن (تَكُ) تامة أي وإن توجد أو تقع (حَسَنَةً يُضاعِفْها) أضعافا كثيرة حتى يوصلها ـ كما مر عن أبي هريرة ـ إلى ألفي ألف حسنة ، وعنى التكثير لا

٣٢

التحديد ، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل ، وإن ذهب إليه بعض المحققين ، وما في الحديث ـ من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل ـ محمول على هذا للقطع بأنها أكلت ، واحتمال إعادة المعدوم بعيد ، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا ، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية ، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى ضعفه بحسب المقدار ، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد ، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية ، وجعل قوله تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به ، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر ، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه ، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله ، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة ـ وليس بشيء ـ لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف ، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل : وعد الكريم دين ، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد ، والداعي إليه عدم التكرار ، وقال الإمام أيضا : إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة ، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة.

وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية ، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية ، ولا يخلو عن حسن ، و ـ لدن ـ بمعنى عند ، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال : لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند ، وتقول : هذا القول عندي صواب ، ولا تقول : لدي. ولدني ـ كما قاله الزجاج ـ ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى : (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥]. اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير ـ يضعفها ـ بتضعيف العين وتشديدها ، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى ، وقال أبو عبيدة : ضاعف يقتضي مرارا كثيرا ، وضعف يقتضي مرتين ، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة ، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) الفاء فصيحة ، وكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف ، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال ـ كما هو رأي سيبويه ـ أو على التشبيه بالظرف كما هو رأي الأخفش ـ والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام ، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون ، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه ، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم ، أو كيف يصنعون ، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال ـ وهو نبيهم؟؟؟ (وَجِئْنا بِكَ) يا خاتم الأنبياء (عَلى هؤُلاءِ) إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر (شَهِيداً) تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأوصلوا ، وقيل : إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم‌السلام ، أو كما يشهدون على أممهم ، وقيل : إلى المؤمنين

٣٣

لقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت «على» عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل ، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ عليّ قلت : يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلخ فقال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان» فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة ، فما ذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه.

(يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها ، وتنوين إذ عوض ـ على الصحيح ـ عن الجملتين السابقتين ، وقيل : عن الأولى ، وقيل : عن الأخيرة ، والظرف متعلق ـ بيود ـ وجعله متعلقا بشهيد ، وجملة (يود) صفة ، والعائد محذوف أي فيه بعيد ، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل ، وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه ، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا. والمراد من (الرَّسُولَ) الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظاما أوليا ، و (عَصَوُا) معطوف على (كَفَرُوا) داخل معه في حيز الصلة ؛ والمراد عصيانهم بما سوى الكفر ، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة ، وقال أبو البقاء : إنه في موضع الحال من ضمير (كَفَرُوا) وقد مرادة ، وقيل : صلة لموصول آخر أي والذين عصوا ، فالإخبار عن نوعين : الكفرة والعصاة ، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء ، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدّته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا.

(لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) إما مفعول (يَوَدُّ) على أن (لَوْ) مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم ، أو تسوى عليهم كالموتى ، وقيل : يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق ، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء ، وقيل : تصير البهائم ترابا فيودون حالها.

وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطئونهم بأقدامهم كما يطئون الأرض ، وقيل: يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية ، وإما مستأنفة على أن (لَوْ) على بابها ومفعول (يَوَدُّ) محذوف لدلالة الجملة ، وكذا جواب (لَوْ) إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم (لَوْ تُسَوَّى) لسروا.

وقرأ نافع وابن عامر ويزيد (تُسَوَّى) على أن أصله تتسوى ، فأدغم التاء في السين لقربها منها ، وحمزة والكسائي (تُسَوَّى) بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال : سويته فتسوى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) عطف على (يَوَدُّ) أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا ، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم ، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان ، وإنما يقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] في بعض المواطن قاله الحسن ، وقيل : الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن (تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على (تُسَوَّى) على معنى ـ يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثه في الدنيا ـ كما روي عن عطاء بعيد جدا. وأقرب منه العطف على مفعول (يَوَدُّ) على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).

٣٤

هذا «ومن باب الإشارة» (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم ، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين ، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه ، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمراتب استعدادكم (حَكِيمٌ) ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة (أَنْ تَمِيلُوا) إلى السوي (مَيْلاً عَظِيماً) لتكونوا مثلهم (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أثقال العبودية في مقام المشاهدة ، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي ، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة ، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه.

والصبر يحمد في المواطن كلها

إلا عليك فإنه مذموم

وكان الشبلي قدس‌سره يقول : إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (لا تَأْكُلُوا) أي تذهبوا (أَمْوالَكُمْ) وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي (بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك ، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات (إِنَّ اللهَ كانَ) في أزل الآزال (بِكُمْ رَحِيماً) فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى ، والسكون في مقام الكرامات ، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها.

وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) وهي حضرة عين الجمع (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له ، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) بنور استعدادهم (وَلِلنِّساءِ) وهم الناقصون القاصرون (نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) حسب استعدادهم (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم ـ وهما الروح والقلب ـ والأقربون ـ وهم القوى الروحانية ـ (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) وهم المريدون (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بالاستعداد (وَبِما أَنْفَقُوا) في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه (مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي قواهم

٣٥

أو معارفهم (فَالصَّالِحاتُ) للسلوك من النساء بالمعنى السابق (قانِتاتٌ) مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة ، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية (بِما حَفِظَ اللهُ) لهم من الاستعداد (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن (فَعِظُوهُنَ) بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع (وَاضْرِبُوهُنَ) بعصا القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده (وَإِنْ خِفْتُمْ) أيها المرشدون الكمل (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي بين الشيخ والمريد (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) ويقصداه (يُوَفِّقِ اللهُ) تعالى (بَيْنِهِما) وهمة الرجال تقلع الجبال.

ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة ، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها ، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية (وَاعْبُدُوا اللهَ) بالتوجه إليه والفناء فيه (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه (وَبِالْوالِدَيْنِ) الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا (إِحْساناً) فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه (وَبِذِي الْقُرْبى) وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية (وَالْيَتامى) المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب (وَالْمَساكِينِ) العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) القريب من مقامك في السلوك (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد مقامه عن مقامك (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) الذي هو في عين مقامك (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة ، وقيل : الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه.

ومن هنا قال الجنيد قدس‌سره : أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته ، وأول (الْجارِ ذِي الْقُرْبى) بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن ، وقيل : هو النفس الأمارة ، وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة ، وأول (ابْنِ السَّبِيلِ) بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره ، وقال بعض العارفين : وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات (وَالْيَتامى) بالقوى الروحانية ، (وَالْمَساكِينِ) بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) بالعقل (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بالوهم

٣٦

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) بالشوق والإرادة (وَابْنِ السَّبِيلِ) بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة ، وباب التأويل واسع جدا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) يسعى بالسلوك في نفسه (فَخُوراً) بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) قالا أو حالا (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فلا يشكرون نعمة الله ، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة (عَذاباً مُهِيناً) يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) أي يبرزون كمالاتهم (رِئاءَ النَّاسِ) مراءين الناس بأنها لهم (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا لله الواحد القهار (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) النفس وقواها (لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) لأنه يضله عن الحق كهؤلاء (وَما ذا عَلَيْهِمْ) ما كان يضرهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) ولم يروا كمالا لأنفسهم (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) مقدار ما يظهر من الهباء (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له (يُضاعِفْها) بالتأييد الحقاني (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وهو الشهود الذاتي ، أو العلم اللدني (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقدة فيكشف عن حاله (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ) وهم المحمديون (شَهِيداً) ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالاحتجاب (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) بعدم المتابعة (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها ، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش.

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط ، ويجوز أن يقال : لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا هاهنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون ، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم الله تعالى وجهه قال : «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت».

وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة ، والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناء بشأن الحكم ، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة ، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة ، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر ، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت ، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرءونه فيها ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى ـ لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا

٣٧

ما تقرءونه في صلاتكم ـ ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي ، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار (ما تَقُولُونَ) على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي ، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) فإنه يدل عليه بحسب الظاهر ، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له ، وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ويأباه ظاهر قوله تعالى : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين ، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به ، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك ـ وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم ، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها ـ وفيه بعد ـ وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك ، وأيّا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه ، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا.

والحاصل كما قال الشهاب : إنه مكلف بها في كل حال ، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه ، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها ـ وقد نص عليه الجصاص في الأحكام ـ وفصله انتهى ، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا ، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول ، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ، وقرئ «سكارى» بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى.

وقرأ الأعمش «سكرى» بضم السين على أنه صفة ـ كحبلى ـ وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى ، والنخعي «سكرى» بالفتح ، وهو إما صفة مفردة جماعة كما في الضم ، وإما جمع تكسير كجرحى ، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل ، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه ، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع ، ورجح الأول (وَلا جُنُباً) عطف على قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سُكارى) فإنه في حيز النصب كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا ـ قاله غير واحد ـ وقال الشهاب نقلا عن البحر : إن هذا حكم الاعراب ، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاءوا وهم سكارى إذ معنى الأول جاءوا كذلك ، والثاني جاءوا وهم كذلك باستئناف الإثبات ـ ذكره عبد القاهر ـ ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه ، ويجوز تقدمه واستمراره. ولذا قال السبكي في الأشباه : لو قال : لله تعالى عليّ أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان ، ولو قال : وأنا صائم أجزأه ، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة ، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو ـ جاء زيد وقد طلعت الشمس ـ والحال المفردة صفة معنى فإذا قال : لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان ، ولو قال : صائما نذر صومه فلا يصح فيه ؛

٣٨

وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها ، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه.

ولم يبين رحمه‌الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة ، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال : فائدتها ـ والعلم عند الله تعالى ـ الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين ، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: (حَتَّى تَعْلَمُوا) إلخ ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب ، ومن ثمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا ، ـ والجنب ـ من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث. والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه ـ كما قاله بعض المحققين ـ ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب ، واشتقاقه كما قال أبو البقاء : من المجانبة وهي المباعدة (إِلَّا عابِرِي) أي مجتازي (سَبِيلٍ) أي طريق ، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير (لا تَقْرَبُوا) باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى ، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة ، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية ، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل ، وقد ورد عقيبه على طريق البيان ، قاله المولى شيخ الإسلام ، وقيل : هو صفة لجنبا على أن (إِلَّا) بمعنى غير ، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي ، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب ، وقد خالفه فيه النحاة ، ورجح بعضهم الوصفية بناء على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية ، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤول ـ كما ستعرفه ـ ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد ، ـ وبه قال الشافعي رحمه‌الله تعالى ـ والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا ، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناء على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر ، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي ، وإن نقله البعض ، ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه ، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد ، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة ، ولعل تقديم الاستثناء عليه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان ، وقيل : لما لم يكن لقوله سبحانه : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه ، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال ، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرض الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار ، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص

٣٩

للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي (١) يدور عليها أمر الرخصة ، ولهذا قيل : المراد بغير (عابِرِي سَبِيلٍ) غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته.

وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر ـ وإنما لم يقل : إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما ـ لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل ، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام ، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله ، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال : المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها ، وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع : أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم ، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك ـ كالمبطون ـ أو بالاستعمال ـ كمن به حصبة أو جدري ـ ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه ، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر ، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه ، وفي الهداية : ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم ، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء ـ كما أشار إليه شيخ الإسلام ـ بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته ، وقيل : ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال ، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها ، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل ، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ويبتدئون بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ) إلخ بل التعبير بالقرب يومئ إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب (عابِرِي سَبِيلٍ) هناك ، وب (عَلى سَفَرٍ) هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه. وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره ، وقيل : لأنه سبب النزول ، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال : «نال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الآية كلها» وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع «حين عرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها ، وقال حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول : ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر ـ وفي رواية ـ يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا» وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان المنخفض ، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء ، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى

__________________

(١) قوله «الذي» كذا بخطه ، ولعله «التي» ا ه.

٤٠