روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

القاعدين عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين ، و (تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون ماضيا ، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي ، ويحتمل أن يكون مضارعا ، وأصله ـ تتوفاهم ـ فحذفت إحدى التاءين تخفيفا ، وهو لحكاية الحال الماضية ، ويؤيد الأول قراءة من قرأ توفتهم ، والثاني قراءة إبراهيم (تَوَفَّاهُمُ) بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم ، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها ، وإلى ذلك أشار ابن جني ، والمراد من التوفي قبض الروح ، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه.

وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار ، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه ، وهم ـ كما في البحر ـ ستة : ثلاثة لأرواح المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين ، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه ، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد ، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى ، وإلى ملك الموت ، وإلى أعوانه ، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي ، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب ، والقاطعون لتعلقها بذلك ، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها ، وفي القرآن (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) [الزمر : ٤٢] و (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السجدة : ١١] و (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] ومثله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بترك الهجرة ، واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين ، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعانتهم الكفرة ، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية».

وأخرج ابن جرير عن الضحاك «أن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليدة بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا ، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، و (ظالِمِي) منصوب على الحالية من ضمير المفعول في (تَوَفَّاهُمُ) وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا ، والأصل ظالمين أنفسهم (قالُوا) أي الملائكة عليهم‌السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف ـ ما ـ الاستفهامية المجرورة وفاء بالقاعدة ، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة. ولهذا تكتب ـ إلى وعلى وحتى في إلام وعلام وحتام بالألف ما لم يوقف على ـ م ـ بالهاء ، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى : (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا ، أو لم نكن في شيء ، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل : فما ذا قال أولئك المتوفون؟ في الجواب ، فقيل : قالوا في جوابهم : كنا مستضعفين فى أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء.

والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا ، أو تعللوا عن الخروج معهم ؛ والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم

١٢١

كانوا مقهورين تحت أيديهم ، وأنهم فعلوا ذلك كارهين ، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه : (قالُوا) أي الملائكة (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة ، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم (فَأُولئِكَ) الذين شرحت حالهم الفظيعة (مَأْواهُمْ) أي مسكنهم في الآخرة (جَهَنَّمُ) لتركهم الفريضة المحتومة ، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام ، وعن السدي كان يقول : من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام ، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر ، وإنما النص التقييد بعدمه ، واسم الإشارة مبتدأ أول ، و (مَأْواهُمْ) مبتدأ ثان ، و (جَهَنَّمُ) خبر الثاني وهما خبر الأول ، والرابط الضمير المجرور ، والمجموع خبر إن ، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط ، وقوله سبحانه : (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) في موضع الحال من الملائكة ، وقد معه مقدرة في المشهور ، وجعله حالا ـ من الضمير المفعول بتقدير قد أولا ، ولهم آخرا بعيد ، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم ، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في خبره ، ولا يصح جعل شيء من قالوا الثاني ، والثالث خبرا لأنه جواب ، ومراجعة ـ فمن قال : لو جعل قالوا : الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد ـ وهم ، وقيل : الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه ، و «تهاجروا» منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى : (وَساءَتْ) من باب بئس أي بئست (مَصِيراً) والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم ، أو جهنم.

واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه ، وهو مذهب الإمام مالك ، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا ، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها ، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلا من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره ، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه ، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون ، وقيل : إنه متصل ، والمستثنى منه «أولئك مأواهم جهنم» وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا (مِنَ الرِّجالِ) كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد (وَالنِّساءِ) كأم الفضل لبابة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس وغيرها (وَالْوِلْدانِ) كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم ، والجار حال من المستضعفين ، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء ، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار ، أو يقال : إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر ، وأن المراد بهم المراهقون ، أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف ، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان ، أو المراد بهم العبيد والإماء.

(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي لا يجدون أسباب الهجرة ومبادئها (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل ، والجملة صفة لما بعد من ، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء

١٢٢

كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة ، أو حال منه ، أو من الضمير المستتر فيه ، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا (فَأُولئِكَ) أي المستضعفون (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبا ، ولا يأمن ، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها.

(وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها ، والمراد من المراغم ، المتحول والمهاجر ـ كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان ، وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم ، وعن مجاهد : إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره ، وقيل : متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين ، وقيل : طريقا يراغم بسلوكه قومه ـ أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب ، وقرئ مرغما (وَسَعَةً) أي من الرزق ، وعليه الجمهور ، وعن مالك سعة من البلاد.

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار ، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة ، وثمّ لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى ، وهو معطوف على فعل الشرط ، وقرئ (يُدْرِكْهُ) بالرفع ، وخرجه ابن جني كما قال السمين ، على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم ، والموت فاعله ، والجملة خبر لمبتدإ محذوف أي ـ ثم هو يدركه الموت ـ وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى :

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين : في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسامحون في التابع ، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع ، وقال عصام الملة : ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل (مَنْ) موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون (يَخْرُجْ) أيضا مرفوعا ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ ، فالأولى أن الرفع بناء على توهم رفع (يَخْرُجْ) لأن المقام من مظان الموصول ، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا ، وقيل : إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها ، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله :

عجبت والدهر كثير عجبه

من عنزي يسبني لم أضربه

وهو كما في الكشف ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا ، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة ؛ والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء ، وقرأ الحسن «يدركه» بالنصب ، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار أن نظير ما أنشده سيبويه من قوله :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فاستريحا

ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه ، والآية ـ لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب ـ كانت أقوى من البيت ، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد

١٢٣

الواو والفاء كقوله :

ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى القاع يزلق

وقاسوا عليهما ثم ، وليس ما ذكر في البيت نظير الآية ، وقيل : من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل ـ أكرمني وأكرمك ـ أي ليكن منك إكرام ومني ، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط ، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة ، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم ، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل : كان مقتضى الظاهر ـ ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه ـ إلا أنه اختير «ومن يخرج مهاجرا من بيته» على ـ ومن يهاجر ـ لما أشرنا إليه آنفا ، ووضع (يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) موضع ـ يمت ـ إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى ، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت ، وجيء ـ بثم ـ بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة ، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة ، وأقيم (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) مقام ـ يثبه ـ لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت ، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع ؛ وعن الزمخشري : إن فائدة (ثُمَّ يُدْرِكْهُ) بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت ، واختلف فيمن نزلت ؛ فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة ، وكان بلغه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسلميها فقال لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي الطريق ، وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ؛ ويقول : اللهم هذه لك ، وهذه لرسولكصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبايعك على ما بايع عليه رسولك ، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا : ليته مات بالمدينة فنزلت ، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في أكثم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات ، وروي غير ذلك ، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب ، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك ، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» ، واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة ، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج (رَحِيماً) مبالغا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.

ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) أي وما ينبغي لمؤمن الروح (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) وهو مؤمن القلب إلا أن يكون قتلا خطأ ، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا (وَمَنْ قَتَلَ) قلبا (مُؤْمِناً) خطأ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة السر

١٢٤

الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى (فَإِنْ كانَ) المقتول بالتجلي (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) بأن كان من قوى النفس الأمارة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها ، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) واجبة على عاقلة الرحمة (إِلى أَهْلِهِ) أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي فعليه الإمساك عن العادات وترك المألوفات ستين يوما ، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإرشاد عباده (فَتَبَيَّنُوا) حال المريد في الرد والقبول (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) للسالكين إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادئ طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمنّ الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه بمقتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمنّ على هؤلاء بما منّ به عليكم ، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم.

والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادئ الأمر : اترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة ، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه (قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم قالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم ، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب ، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه : توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي الله تعالى ، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس ، وهم إما سعداء وإما أشقياء ، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب وأما توفي الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه

١٢٥

يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عزوجل ، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة ، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) الطبيعة (وَساءَتْ مَصِيراً) لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ) وهم كما قال بعض العارفين : أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود (وَالنِّساءِ) أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى ، قيل : وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» (وَالْوِلْدانِ) أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) لعدم علمهم بكيفية السلوك (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا) عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة (غَفُوراً) يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) عن مقار النفس المألوفة (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض استعداده (مُراغَماً كَثِيراً) أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه (وَسَعَةً) أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات (وَرَسُولِهِ) بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي الانقطاع (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) حسبما توجه إليه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المئونة ما يؤكد العزيمة على ذلك ، فقال سبحانه وتعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم أيّ سفر كان ، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة ، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح ـ كسفر التجارة ـ والطاعة ـ كسفر الحج ـ ويخرج سفر المعصية ـ كقطع الطريق والإباق ـ فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة ، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع ، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه ، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية ، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة ، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه ، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول.

والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر ، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي حرج وإثم (أَنْ تَقْصُرُوا) أي في أن تقصروا ، والقصر خلاف المد يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر ، فقوله تعالى : (مِنَ الصَّلاةِ) ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا و (مِنَ) زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات ، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة ـ على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه ـ أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى

١٢٦

وصف الجزء بوصف الكل ، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها ، وقرئ «تقصروا» من أقصر ومصدره الإقصار.

وقرأ الزهري «تقصروا» بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى ، وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور ـ عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ـ مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر ، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر ، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا ، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور.

وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث ، والشافعي رحمه‌الله تعالى في قول : بيوم وليلة ، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : أحد وعشرون فرسخا.

وقال آخرون ثمانية عشر ، وآخرون خمسة عشر ، والصحيح عدم التقدير بذلك ، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها ، والدليل على هذه المدة ما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمم الرخصة الجنس ، ومن ضرورته عموم التقدير ، والقول بكون «ثلاثة أيام» ظرفا للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه ، وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود ، وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية «ثلاثة» للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث ، وحينئذ ـ يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضادصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة ، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد ، وهو ضعيف عند النقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم ، واحتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام ، وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدار قطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصر في السفر ويتم» وما أخرجه النسائي والدار قطني وحسنه البيهقي وصححه «أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال : أحسنت يا عائشة» وبما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر ، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة ، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل ، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ، وهو قول مالك ، وأخرج النسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أول ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه ؛ وقالت : أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي الله تعالى عنه من إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها ، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه ،

١٢٧

والقول : بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤول بأن الفرض في قولها : «فرضت ركعتين» بمعنى البيان وقد ورد بهذا المعنى ك (فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢].

وقال الطبري : معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين ، وهذا كما قيل في الحاج : إنه مخير في النفر في اليوم الثاني والثالث ، وأيا فعل فقد قام الفرض وكان صوابا ، وقال النووي : المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في الحضر ركعتان على سبيل التحتم ، وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وحيث ثبتت دلائل الإتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الأدلة ، وقال ابن حجر عليه الرحمة : والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب ، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة ، وفيه : وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار ، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية ، ويؤيده قول ابن الأثير : إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة ، وهو مأخوذ من قول غيره : إن نزول آية الخوف فيها ، وقيل : القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي ، وقال السهيلي : إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه ، وقيل : بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة انتهى.

واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك ، وقال آخرون منهم : إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام ، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب ، وحجية العام المخصوص مختلف فيها ، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار ، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بها يقوي القول بالوجوب ووردوه بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ، ركن عند الشافعي رحمه‌الله تعالى ، وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إلخ ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف ، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها ، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضا ؛ وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أخرج النسائي ، والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «صلينا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين» وأخرج الشيخان ، وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال : «صليت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» إلى غير ذلك ، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط ، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا ، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه.

وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة ، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى ، وقد خرج الشرط هاهنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما

١٢٨

حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) [البقرة : ٢٢٩] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام ، وقال بعضهم : إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان ، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا ، وقيل : إن قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ) إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله.

فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : «سأل قوم من التجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى الظهر فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فنزلت صلاة الخوف» ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم ، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر : فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم ، والمشهور أنه كعبد الله أسقط (إِنْ خِفْتُمْ) فقط ، وأيا ما كان فإن (أَنْ يَفْتِنَكُمُ) في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل : شرع لكم ذلك كراهة (أَنْ يَفْتِنَكُمُ) إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة لاقتدار الكافرين على إيقاع الفتنة ، وقوله تعالى: (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر ، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء ، و (عَدُوًّا) كما قال أبو البقاء: في موضع أعداء ، وقيل : هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول ، و (لَكُمْ) حال منه ، أو متعلق بكان.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التجريد ، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن زيد ، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف ، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام ، والنووي في المهذب ، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوابه وقوّام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال : «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال : أيكم صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة : أنا ، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم» وهذا يحل محل الإجماع ، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أي أردت أن تقيم بهم الصلاة (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة ولظهور ذلك ترك (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة المذكورة القائمة معك (أَسْلِحَتَهُمْ) مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة

١٢٩

هي الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر ، والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للايذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداء (فَإِذا سَجَدُوا) أي القائمون معك أي إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ) أي فلينصرفوا للحراسة من العدو.

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) بعد وهي التي كانت تحرس ، ونكرها لأنها لم تذكر قبل (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) الركعة الباقية من صلاتك ، والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ ، والمعنى ـ ولم يبين في الآية الكريمة ـ حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين ، وقد بين ذلك بالسنة ، فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سالم عن أبيه في قوله سبحانه : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) هي صلاة الخوف صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، ثم انصرفت التي صلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وركعة بعد سلامه.

وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا ، ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان ، وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى في صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم وإن كانوا في ثانيته عليه الصلاة والسلام في مقابلة العدو إلا أنهم في الصلاة وفي حكم المتابعة فكانت قراءة الإمام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولا كذلك الطائفة الأخرى لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته فلا بد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ ، وذهب بعضهم إلى أن صلاة الخوف هي ما في هذه الآية ركعة واحدة ونسب ذلك إلى ابن عباس وغيره ، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : «فرض الله تعالى على لسان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، وأخرج الأولان وابن أبي حاتم عن يزيد الفقير «قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما فقال : الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الأولون فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية» ، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة ركعة فإذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون في وجهه والإمام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم ، وهذه ـ كما رواه الشيخان ـ صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذات الرقاع ، وهي أحد الأنواع التي اختارها الشافعي رضي الله تعالى عنه ، واستشكل من ستة عشر نوعا ، ويمكن حمل الآية عليها ، ويكون المراد من السجود الصلاة ؛ والمعنى فإذا فرغوا من الصلاة (فَلْيَكُونُوا) إلخ ، وأيد ذلك بأنه لا قصور في البيان عليه ، وبأن ظاهر قوله سبحانه : (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام ، وليس فيه إشعار بحراستها

١٣٠

مرة ثانية وهي في الصلاة البتة ، وتحتمل الآية ، بل قيل : إنها ظاهرة في ذلك أن الإمام يصلي مرتين كل مرة بفرقة وهي صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما رواه الشيخان أيضا ـ ببطن نخل ، واحتمالها للكيفية التي فعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان بعيد جدا ، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام ـ كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما ـ صف الناس خلفه صفين ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم سجد بالصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع عليه الصلاة والسلام فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم ، ثم انصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتمام الكلام يطلب من محله.

(وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة الأخرى (حِذْرَهُمْ) أي احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ ، ولا يضر عطف قوله سبحانه :

(وَأَسْلِحَتَهُمْ) عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز في التخييل في الإثبات والنسبة لا في الطرف على الصحيح ، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى : (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] ، وقال بعض المحققين : إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكناية التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور ، وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام ، ولعل زيادة الأمر بالحذر ـ كما قال شيخ الإسلام ـ في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شغل شاغل ، وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب.

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح ، والخطاب للفريقين بطريق الالتفاف أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيحملون عليكم جملة واحدة ، والمراد بالأمتعة ما يمتع به في الحرب لا مطلقا وقرئ ـ أمتعاتكم ـ والأمر للوجوب لقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض ، وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) أي بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة ، واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب ، وقيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل ، أما لو خاف وجب الحمل على الأوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود ، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة ، وإلا حرم ، وبه يجمع بين إطلاق كراهته وإطلاق حرمته ، والآية كما أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا ، وذكر أبو ضمرة ، ورواه الكلبي عن أبي صالح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا محاربا وبني أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزهم الذراري والمال ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أصحابه فجلس في ظل سمرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال : قتلني الله تعالى إن لم أقتله وانحدر من الجبل ؛ ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده ، فقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله عزوجل ؛ ثم قال : اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فانكب عدو الله تعالى لوجهه وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ سيفه فقال : يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال : لا أحد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال : لا ، ولكني أعهد إليك

١٣١

أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيفه فقال له غورث : لأنت خير مني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا : يا غورث لقدر رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال : الله عزوجل أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من لزجني بين كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي وسبقني إليه محمد عليه الصلاة والسلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادي أن سكن ، فقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الآية.

(إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) تعليل للأمر بأخذ الحذر أي أعدّ لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب ، وقيل : لا يبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة ، ولا يخفى بعده (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) أي فإذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفرغتم منها.

(فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي فداوموا على ذكره سبحانه في جميع الأحوال حتى في حال المسابقة والمقارعة والمراماة ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال عقب تفسيرها : لم يعذر الله تعالى أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله ، وقيل : المعنى وإذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان ، وهو الموافق لمذهب الشافعي من وجوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت ، ويعذر المصلي حينئذ في ترك القبلة لحاجة القتال لا لنحو جماح دابة وطال الفصل ، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة إليه كتنبيه من خشي وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الإعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولا قضاء بعد الأمن فيه ، نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو بإخبار عدل عدوا فبان أن لا عدو وأن بينهم وبينه ما يمنع وصوله إليهم كخندق ، أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به من غير أن يحاصرهم فيه قضوا في الأظهر ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك في غاية البعد (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) أي أقمتم ـ كما قال قتادة ومجاهد ـ وهو راجع إلى قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ولما كان الضرب اضطرابا وكني به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الإقامة ، وأصله السكون والاستقرار أي إذا استقررتم وسكنتم من السير والسفر في أمصاركم (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أدوا الصلاة التي دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعوا شروطها وحافظوا على حدودها ، وقيل : المعنى فإذا أمنتم فأتموا الصلاة أي جنسها معدلة الأركان ولا تصلوها ماشين أو راكبين أو قاعدين ، وهو المروي عن ابن زيد ، وقيل : المعنى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج ، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) أي مكتوبا مفروضا (مَوْقُوتاً) محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلا بدّ من إقامتها سفرا أيضا ، وقيل : المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلا بدّ أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه ، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال.

١٣٢

(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع إنكم أولى بالصبر منهم حيث إنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة ، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة.

وجوز أن يحمل الرجاء على الخوف فالمعنى ـ ان الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفا من الله تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن ـ ولا يخلو عن بعد ، وأبعد منه ما قيل : إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه ، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى.

وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أن لا تهنوا لأن تكونوا تألمون ؛ وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ) تعليل للنهي عن الوهن لأجله ، وقرئ ـ تئلمون كما يئلمون ـ بكسر حرف المضارعة ، والآية قيل : نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد ، وقيل : نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد ، وروي ذلك عن عكرمة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) مبالغا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر ، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينحله بعض العرب ، ويقول : قال فلان كذا ، وقال فلان كذا فإذا سمع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال :

أو كلما قال الرجال قصيدة

أضموا (١) فقالوا : ابن الأبيرق قالها

وكانوا أهل حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك (٢) ابتاع منها فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق : ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق ، وقال : أنا أسرق فو الله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا : إليك عنا أيها الرجل فو الله ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سأنظر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم

__________________

(١) أضم. كفرح. غضب ا ه منه.

(٢) الدرمك. كجعفر. دقيق الحواري ا ه منه.

١٣٣

يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : الله تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) إلخ فلما نزل أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله تعالى (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء : ١١٥] الآية ، ثم إن حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه هجا سلافة فقال :

فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت

ينازعها جلد استها وتنازعه

ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبي عنده الوحي واضعه

فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت : أهديت إليّ شعر حسان ما كنت تأتيني بخير ، وأخرج ابن جرير عن السدي ـ واختاره الطبري ـ أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ودفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال : انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه ، وقال طعمة : أتخونونني فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة : أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقولوا له : ينضح عني ويكذب حجة اليهود ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهمّ أن يفعل فأنزل الله تعالى الآية فلما فضح الله تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابن عمي أردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل الله تعالى فيه (وَمَنْ يُشاقِقِ) إلخ ، وعن عكرمة أن طعمة لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا : ابن سبيل منقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات ، وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه الله تعالى عليه فقتله ، وقيل : إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقي في البحر.

هذا وفي تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما أن في إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند ، وتقديم المفعول الغير الصريح للاهتمام والتشويق ، وقوله سبحانه : (بِالْحَقِ) في موضع الحال أي إنا أنزلنا إليك القرآن متلبسا بالحق (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) برهم وفاجرهم (بِما أَراكَ اللهُ) أي بما عرفك وأوحي به إليك ، و «ما» موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول ـ لأرى ـ وهي من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة ، وقيل : إنها من الرأي من قولهم : رأي الشافعي كذا وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أي بما أراكه الله تعالى حقا وهو بعيد ، وأما جعلها ـ من رأى البصرية مجازا ـ فلا حاجة إليه (وَلا تَكُنْ

١٣٤

لِلْخائِنِينَ) وهم بنو أبيرق ، أو طعمة ومن يعينه ، أو هو ومن يسير بسيرته ، واللام للتعليل ، وقيل : بمعنى عن أي لا تكن لأجلهم أو عنهم (خَصِيماً) أي مخاصما للبرآء ، والنهي معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل : إنا أنزلنا إليك الكتاب فاحكم به (وَلا تَكُنْ) إلخ ، وقيل : عطف على أنزلنا بتقدير قلنا ، وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) مما قلت لقتادة ، أو مما هممت به في أمرت طعمة وبراءته لظاهر الحال ، وما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتادة ، وكذا الهمّ بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصمة الله تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه ـ أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحدود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض ، وقيل : يحتمل أن يكون المراد (وَاسْتَغْفِرِ) لأولئك الذين برءوا ذلك الخائن (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره ، وقيل : لمن استغفر له (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم ، ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام ، وقيل : الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه ، والمراد بالموصول إما السارق أو المودع المكافر وأمثاله ، وإما هو ومن عاونه فإنه شريك له في الإثم والخيانة ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عليه الصلاة والسلام المقصود بالنهي ، والنهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه ، وقد يقال : إن ذلك من قبيل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ومن هنا قيل : المعنى لا تجادل أيها الإنسان.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) كثير الخيانة مفرطا فيها (أَثِيماً) منهمكا في الإثم ، وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بني أبيرق وقومهم في الخيانة والإثم.

وقال أبو حيان : أتي بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد ، وليس بشيء ، وإرداف الخوان بالأثيم قيل : للمبالغة ، وقيل : إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة ، والثاني باعتبار تهمة البريء ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له ، أو لأن وقوعهما كان كذلك ، أو لتواخي الفواصل على ما قيل : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم ، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين (يَخْتانُونَ) على الأظهر ، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ، وقيل : هي في موضع الحال من «من» (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه ، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه. وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة (وَهُوَ مَعَهُمْ) على الوجه اللائق بذاته سبحانه ، وقيل : المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه ؛ والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به ما قبله ، وقيل : متعلق ب (يَسْتَخْفُونَ).

(ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري : وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي ؛ وأما عند غيرهم فمجاز ، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه ، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ) أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية (مُحِيطاً) أي

١٣٥

حفيظا ـ كما قال الحسن ـ أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت ـ كما قال غيره ـ وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(١٢٥)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع ، والجملة مبتدأ وخبر ، وقوله سبحانه : (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة ، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، و (جادَلْتُمْ)

١٣٦

صلته ، فالحمل حينئذ ظاهر ، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل ، ومنه قيل للصقر : أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا.

(فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ) يومئذ (وَكِيلاً) أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه ، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه ، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه ، و (أَمْ) هذه منقطعة كما قال السمين ، وقيل : عاطفة كما نقله في الدر المصون ، والاستفهام كما قال الكرخي : في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا.

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختص به كالإنكار ، وقيل : السوء ما دون الشرك ، والظلم الشرك ، وقيل : السوء الصغيرة ، والظلم الكبيرة. (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لما استغفره منه كائنا ما كان (رَحِيماً) متفضلا عليه ، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار ، قيل : وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه (وَمَنْ يَكْسِبْ) أي يفعل (إِثْماً) ذنبا من الذنوب (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بكل شيء ومنه الكسب (حَكِيماً) في كل ما قدر وقضى ، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى ، وقيل : (عَلِيماً) بالسارق (حَكِيماً) في إيجاب القطع عليه ، والأول أولى (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي صغيرة ، أو ما لا عمد فيه من الذنوب.

وقرأ معاذ بن جبل (يَكْسِبْ) بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب (أَوْ إِثْماً) أي كبيرة ، أو ما كان عن عمد ، وقيل : الخطيئة الشرك والإثم ما دونه ، وفي الكشاف : الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه ، وفي الكشف كأن هذا أصله ، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) [الشورى : ٣٧ ، النجم : ٣٢] ، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) أي يقذف به ويسنده ، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل : (ثُمَّ يَرْمِ) بأحد الأمرين ، وقيل : إنه عائد على (إِثْماً) فإن المتعاطفين ـ بأو ـ يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو (إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وعلى المعطوف نحو (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) [التوبة : ٣٤] ، وقيل : إنه عائد على الكسب على حد (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، وقيل : في الكلام حذف أي ـ يرم بها وبه ـ و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة ، وقرئ بهما (بَرِيئاً) مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل ، أو بأبي مليك (فَقَدِ احْتَمَلَ) بما فعل من رمي البريء ، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل ، وقيل : افتعل بمعنى فاقتدر وقدر (بُهْتاناً) وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته ، وقيل : هو الكذب الذي يتحير في عظمه ، والماضي ـ بهت ـ كمنع ، ويقال في المصدر : بهتا وبهتا وبهتا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة ـ لإثما ـ وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه.

وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية

١٣٧

ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه ، أما كونه بهتانا فظاهر ، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك ، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان ؛ فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة ، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم ، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال ، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط ـ كذا قاله شيخ الإسلام ـ ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ) إلخ : لأنه بكسبه الإثم آثم ، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه ، وإن أجيب عنه فافهم.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق ، وقيل : لو لا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة ، وقيل : لو لا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي ؛ وقيل : المراد لو لا حفظه لك وحراسته إياك.

(لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من الذين يختانون ، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها ، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس ، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن ، وقيل : المراد بهم وفد ثقيف ، فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة ، فلم يجبهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت».

وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته (أَنْ يُضِلُّوكَ) أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق ، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام ، أو بأن يهلكوك ، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى ، ومنه على ما قيل : قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] والجملة جواب (لَوْ لا) وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية ، وقيل : المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة.

وقال الراغب : إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم ؛ وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير ـ ولو لا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك ـ ثم استأنف بقوله سبحانه : (لَهَمَّتْ) أي لقد همت بذلك (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم ، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم ، والجملة اعتراضية ، وقوله تعالى : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) عطف عليه وعطفه على (أَنْ يُضِلُّوكَ) وهم محض ؛ و (مِنْ) صلة ، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم ، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك ، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك ، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي القرآن الجامع بين العنوانين ، وقيل : المراد

١٣٨

بالحكمة السنة ، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك ، والجملة على ما قال الأجهوري : في موضع التعليل لما قبلها ، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. (وَعَلَّمَكَ) بأنواع الوحي (ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور ، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين ، أو من أمور الدين وأحكام الشرع ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أو من الخير والشر ـ كما قال الضحاك ـ أو من أخبار الأولين والآخرين ـ كما قيل ـ أو من جميع ما ذكر ـ كما يقال ..

ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى ، واستظهر في البحر العموم.

(وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة ، ومن ذلك النبوة العامة والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي الذين يختانون ، واختار جمع أن الضمير للناس ، وإليه يشير كلام مجاهد ، و ـ النجوى ـ في الكلام كما قال الزجاج : ما يتفرد به الجماعة ، أو الاثنان ، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا؟ قولان : وتكون بمعنى التناجي ، وتطلق على القوم المتناجين ـ كإذ هم نجوى ـ وهو إما من باب رجل عدل ، أو على أنه جمع نجي ـ كما نقله الكرماني ـ والظرف الأول خبر (لا) والثاني في موضع الصفة للنكرة أي كائن (مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ) أي إلا في نجوى من أمر (بِصَدَقَةٍ) فالكلام على حذف مضاف ، وبه يتصل الاستثناء ، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين ، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير ، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه ، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه ـ بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ ، فإنه في كثير من نجواه خير ـ فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع ، وجوز رحمه‌الله تعالى ، بل زعم أنه الأولى أن يجعل (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل ، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر ، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير (أَوْ مَعْرُوفٍ) وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه ، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف ، وإرشاد ضال إلى غير ذلك ، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع ، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه ، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح ، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين ـ وهي الحالقة للدين ـ كما في الخبر ، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب ، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك ، ولا كذلك الأمر بالإصلاح ، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس ، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة ، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف ، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ولا يخفى ما فيه ، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف ، نعم أبيح الكذب لذلك ، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ، وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في

١٣٩

ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها».

وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة ، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال : بلى قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا» ، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال.

ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى قال : إصلاح ذات البين» ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب ، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي المذكور من الصدقة وأخويها ؛ والكلام تذييل للاستثناء ، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى ، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل : حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول : نعم ما فعلت ، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى (يَفْعَلْ) حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب ، ولا يتوقف ذلك على اللفظ ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر (وَمَنْ يَفْعَلْ) الأمر واحدا ، وقيل : لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة ، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل : ومن يمتثل (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لأجل طلب رضاء الله تعالى (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ) بنون العظمة على الالتفات ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء (أَجْراً عَظِيماً) لا يحيط به نطاق الوصف ، قيل : وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات ، وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان ، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي وقال الغزالي : إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا ، وقيل :

هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص ، وفي دلالة الآية ـ على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان ـ نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه ، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه ـ من الشق فإن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر ، ولظهور الانفكاك بين الرسول ـ ومخالفة فك الإدغام هنا ، وفي قوله سبحانه في [الأنفال : ١٣] (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ـ رعاية لجانب المعطوف ، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر : ٤] (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ).

وقال الخطيب : في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول ، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول ، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد ، وما ذكرناه أولى ، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة ، وتعليل الحكم الآتي بذلك ، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها ، وقيل : في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا ، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد

١٤٠