روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المائدة

وتسمى أيضا العقود والمنقذة ، قال ابن الفرس : لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي : إنها مدنية إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] فإنه نزل بمكة.

وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال : «نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من ثقل الوحي» وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : المائدة آخر سورة نزلت ، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح ، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة ، ولعل كلا ذكر ما عنده ، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» وهو غير واف بالمقصود لمكان «من».

واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء ، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي الله تعالى عنهما ، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود ، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ) [المائدة : ٢] ، وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين ، وثلاث وعشرون عند البصريين ، واثنان وعشرون عند غيرهم ، ووجه اعتلاقها بسورة النساء ـ على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة ـ أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا ، فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان ، والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة ، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل : يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود ، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [النساء : ١] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي ، وأول هذه (يا أَيُّهَا

٢٢١

الَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ١] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني ، وتقديم العام وشبه المكي أنسب.

ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران ، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما ، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.

وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك ، وافتتحت النساء ببدء الخلق ، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء ، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى ، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه ، ويقال : وفى ووفى وأوفى بمعنى ، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد ، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن العهد الموثوق ، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد ، بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين ، والعهد قد يتفرد به واحد ، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال : أحدها أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن

٢٢٢

أسلم ، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم ، وروي ذلك عن مجاهد ، والربيع وقتادة وغيرهم ؛ ورابعها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه التصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح ، وعليه فالمراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) مؤمنو أهل الكتاب ؛ وهو خلاف الظاهر ، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية ، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به ، أو يحسن دينا ، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا ، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة.

واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه ـ كما في الكشف ـ من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال ، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم ، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم يكن إلا (تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) و (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] لكفى ، وتعقب بما لا يخلو عن نظر.

وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء ، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين ، وفي القول بالعموم رغب الراغب ـ كما هو الظاهر ـ فقد قال : العقود باعتبار المعقود ، والعاقد ثلاثة أضرب ، عقد بين الله تعالى وبين العبد ، وعقد بين العبد ونفسه ، وعقد بينه وبين غيره من البشر ، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان : ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل ، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) [الأعراف : ١٧٢] الآية ، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذلك ستة أضرب ، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه ، والثاني أربعة أضرب : فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول : عليّ أن أصوم إن عافاني الله تعالى ، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك ، والثالث يستحب ترك الوفاء به ، وهو ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه» ، والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول : عليّ أن أقتل فلانا المسلم ، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها ، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش ، و ـ البهيمة ـ من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه.

ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس‌سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها ، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر ، وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها ، واعترض بأن البهيمة اسم جنس ، والأنعام نوع منه ، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة ، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة ـ كمدينة بغداد ـ فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان

٢٢٣

مسماه وتوضيحه ـ وكشجر الأراك ـ فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن ، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل ، ولذا لا يقال : النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به ، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس ، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر الوحش ، وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وروي ذلك عن الكلبي والفراء ، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما ، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما ، أي بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به ، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل : أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم ، وقيل : المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ـ وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم ـ فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها ، وبه قال الشافعي ، واستدل عليه بغير ما خبر ، ويفهم منها حل الأنعام ، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر.

وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا : لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم.

وزعموا لعنهم الله أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور ، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم ، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولو لا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف.

وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم ، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر ، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية ، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء ، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون ، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم ، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة ، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه ، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة ، وقال بعض المحققين : لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار ، وقال بعض الناس : الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل ، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان ، نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه ، ويسري الإجمال إلى ما تقدم ، ولكن ذاك ليس محل النزاع ، والاستثناء متصل من (بَهِيمَةُ) بتقدير مضاف محذوف م (ما يُتْلى) أي إلا محرم (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، وعني بالمحرم الميتة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة ، أو من فاعل (يُتْلى) أي (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ)

٢٢٤

آية تحريمه لتكون (ما) عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو ، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد ؛ وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد ـ كما قال الشهاب ـ جدا ، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن المتلو لفظ ، والمستثنى منه ليس من جنسه ؛ والأكثرون على الأول ، ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) حال من الضمير في (لَكُمْ) على ما عليه أكثر المفسرين ، و (الصَّيْدِ) يحتمل المصدر والمفعول ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو المحرم ، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد ، أو أكل الصيد في الإحرام ، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال : كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) لئلا يكون عليكم حرج ، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه ، وقد يقال : إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر ، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة الله تعالى عليه.

واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم ، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره ، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم.

وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك ، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من (الْأَنْعامِ) ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت ، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش ، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة ـ غابة التنزيل ـ أن يقصده من مراصد عباراته ، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب (غَيْرَ) على الحالية من ضمير (أَوْفُوا) وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة ، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج ، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال ـ مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا ـ وجه.

وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا ، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام ، ثم قال : ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ويستلزم جعل (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ.

وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه ، فقد قالوا : لو قلت : أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين : بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا ، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في (عَلَيْكُمْ) ويرده أن الذي (يُتْلى) لا يتقيد بحال انتفاء

٢٢٥

إحلالهم الصيد وهم حرم ، بل هو يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها ، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء ، وذكر أن فيه تعسفا ، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناء لكان إما من الضمير في (لَكُمْ) أو في (أَوْفُوا) إذ لا جواز لاستثنائه من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها ، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء ، وأن يجعل قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في (مُحِلِّي) ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين ، فسوق العبارة يقتضي أن يقال : وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين ، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة ، وعلى الثاني يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج ، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي ، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى ، وكأنه رحمه‌الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء ، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد ـ كما قاله القرطبي وأبو حيان ـ لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال ، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) على وجه عينه ؛ وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه‌الله تعالى : إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم (مُحِلِّي) بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل ، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول ، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة ، وأصل غير محلين الصيد.

والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) من باب قولهم : حسان النساء ، والمعنى النساء الحسان ، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل ، والمحلّ صفة للصيد لا للناس ، ووصف الصيد بأنه محل ، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل ، وأحرم أي دخل في الحرم ، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى ، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب ، فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم ، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت ، وأغد البعير ، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناء ثانيا ، ثم إن كان المراد ب (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أنفسها فهو استثناء منقطع ، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين ، «فإن قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟.

قلت : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم ، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم.

فإن قلت : ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها.

قلت : قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه» بالألف ، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى.

وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء ، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم ، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس ، وقال الحلبي : إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا غير إلا حالا ، وإنما اختلفوا في صاحبها ، ثم قال السفاقسي : ويمكن فيه تخريجان : أحدهما أن يكون غير استثناء منقطعا ، و (مُحِلِّي) جمع على بابه ، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد ، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد ، والثاني أن يكون متصلا من (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، وفي الكلام حذف مضاف ، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فلا يحل ، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل ، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف ، أي إلا صيد محلي الاصطياد (وَأَنْتُمْ

٢٢٦

حُرُمٌ) ، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل ، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا ، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم ، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير ، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد ، وهو تخريج حسن.

هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة ، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار ، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا ، وضمن (يَحْكُمُ) معنى يفعل ، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر ، وهو جمع شعرة ، وهي اسم لما أشعر ، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى ، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر ، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها ، والمراد منه التهاون بحرمتها ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه ، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام ، وقيل : هي الصفا والمروة ، والهدي من البدن وغيرها ، وروي ذلك عن مجاهد (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين ـ كما روي عن ابن عباس وقتادة ـ أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي ، والأول هو الأولى بحال المؤمنين.

واختلف في المراد منه فقيل : رجب ، وقيل : ذو القعدة ، وروي ذلك عن عكرمة ، وقيل : الأشهر الأربعة الحرم ، واختاره الجبائي والبلخي ، وإفراده لإرادة الجنس (وَلَا الْهَدْيَ) بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله ، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء ، وهو جمع هدية ـ كجدي وجدية ـ وهي ما يحشى تحت السرج والرحل ، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس ، ولأنه مالي قد يتساهل فيه ، وتعظيما له لأنه من أعظمها (وَلَا الْقَلائِدَ) جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له ، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن ، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها ، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى ، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد ، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة ، وروي ذلك عن الحسن ، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم ، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله ، وقال الفراء : أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر ، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما ، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان ، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم (آمِّينَ).

وقرئ ـ ولا آمي البيت الحرام ـ بالإضافة ، و (الْبَيْتَ) مفعول به لا ظرف ، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر ، وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) حال من المستكن في (آمِّينَ) ، وجوز أن يكون صفة ،

٢٢٧

وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء ، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول ، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره ، وتنكير (فَضْلاً وَرِضْواناً) للتفخيم ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بنفس الفعل ، أو بمحذوف وقع صفة ـ لفضلا ـ مغنية عن وصف ما عطف عليه بها ، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم ، والمراد بهم المسلمون خاصة ، والآية محكمة.

وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا قيل ، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال ، ولذا قال الحسن وغيره : المراد بالآمين هم المشركون خاصة ، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم ، ومن الرضوان ما في زعمهم ، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى ، ويؤيد هذا القول إن الآية نزلت ـ كما قال السدي وغيره ـ في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند ، وذلك أنه أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فقال : حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده ، فلما خرج قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم ، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

قد لفها بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بخوار على ظهر قطم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم

مدملج الساقين ممسوح القدم

فطلبه المسلمون فعجزوا ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا. وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون : يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء ، دعنا نغير عليهم ، فأنزل الله سبحانه الآية» واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ وعدمه ، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال ، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم ، وقال أبو مسلم : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، وقيل : بآية السيف ، وقيل : بهما ، وقيل : لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد ، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة.

وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول ، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين ، وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين ، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في (لا تُحِلُّوا) على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها ، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط ، وقال

٢٢٨

شيخ الإسلام : إن إضافة الرب إلى ضمير (آمِّينَ) على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى ، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى (وَإِذا حَلَلْتُمْ) من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاصْطادُوا) أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع ، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها ، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير.

وقال صاحب القواطع : إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن ، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة ، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة ، ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه ، ووروده بعد الحظر لا تأثير له ، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في المحصول ، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية ، ثم قال : وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين ، وثالثها الوقف بينهما ، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر ، ولا يبعد على ـ ما قاله الزركشي ـ أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل ، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال : إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال : إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب ، وقيل : إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل : اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء ، وقرئ ـ أحللتم ـ وهو لغة في حل ، وعن الحسن أنه قرئ (فَاصْطادُوا) بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها ، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس ، وقيل : إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء ، وإن كانت من المستعلية (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة ، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما ، وأنشدوا له بقوله :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن تغضبا

فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه ، وإلى الآخر بعلى ، وقال الفراء وأبو عبيدة : المعنى لا يكسبنكم ، وجرم جار مجرى كسب في المعنى ، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال : جرم ذنبا نحو كسبه ، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه ، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني ، ومنه الجريمة ، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه ، وقد يقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة عبد الله «لا يجرمنكم» بضم الياء (شَنَآنُ قَوْمٍ) بفتح النون ؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ، وإسماعيل عن نافع بسكونها ، وفيهما احتمالان : الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة ـ كجولان ـ ولا يكون لفعل متعد كما قال : س ، وهذا متعد إذ يقال : شنئته ، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد ، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو ـ لويته ليانا ـ بمعنى مطلته ، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران ، وبالفتح ورد فيها قليلا ـ كحمار قطوان عسر السير ، وتيس عدوان كثير العدو ـ فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما ، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم ، والأول أظهر ـ كما في البحر ـ وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض ، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة ـ للشنآن ـ أي لأن صدوكم عام الحديبية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن (أَنْ) شرطية ، وما قبلها دليل الجواب ، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه ، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.

٢٢٩

وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض ، وذلك كقوله تعالى : (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) [الزخرف : ٥] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم ، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن (يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) بعد ظهور الإسلام وقوته ، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن زيارته والطواف به للعمرة ، وهذه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ آية بينة في عموم (آمِّينَ) للمشركين قطعا ، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم (أَنْ تَعْتَدُوا) أي عليهم ، وحذف تعويلا على الظهور ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم ، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا ، والمحل بعده إما جر ، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي ، أو لا حذف ، والمنسبك ثاني مفعولي (يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم ، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده ، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية ، ويقال : لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور.

ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم ، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.

وقال شيخ الإسلام : لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية ، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى ، ولعله الأولى (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) عطف على (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) من حيث المعنى كأنه قيل : لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء ، وقال بعضهم : هو استئناف والوقف على (أَنْ تَعْتَدُوا) لازم ، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا ، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام ، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج ، فقد قال تعالى : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا ، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي ، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه ، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم ، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي ، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني.

(إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن لا يتقيه ، وهذا في موضع التعليل لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) والمراد تحريم أكل الميتة ، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه (وَالدَّمُ) أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه ، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح ، وأما الطحال فالأكثرون على

٢٣٠

إباحته ، وأجمعت الإمامية على حرمته ، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) إقحام اللحم لما مر ، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره ، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال : «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب ، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار ، وفيه تأمل (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه ، والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له ـ كاللات والعزى ـ (وَالْمُنْخَنِقَةُ) قال السدي : هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت ، وقال الضحاك وقتادة : هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين ، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي التي تضرب حتى تموت ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والسدي ، وهو من وقذته بمعنى ضربته ، وأصله أن تضربه حتى يسترخي ، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت (وَالنَّطِيحَةُ) أي التي ينطحها غيرها فتموت ، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء ، وقال بعض الكوفيين : إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل ـ كف خضيب وعين كحيل ـ وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه ، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل ، وقرئ والمنطوحة (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي ما أكل منه السبع فمات ؛ وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه ؛ وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن ، وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد ، وقال بعضهم : يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل : أن يضطرب بعد الذبح لا وقته ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره ، وقيل : هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم.

وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة ، واختاره الجبائي ، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد ، والتفصيل في الفقه ، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل.

وقرأ الحسن : «السبع» بسكون الباء ، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وأكيل السبع .. (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جمع نصاب كحمر وحمار ، وقيل : واحد الأنصاب كطنب وأطناب ، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا ، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ـ فعلى ـ على أصلها ، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى ؛ وقيل : هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى ، و (عَلَى) إما بمعنى اللام ، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام.

واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) والأمر في ذلك هين ، والموصول معطوف على المحرمات ، وقرئ (النُّصُبِ) بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا ، وقرئ بفتحتين ، وبفتح فسكون (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) جمع زلم ـ كجمل ـ أو زلم ـ كصرد ـ وهو القدح ، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح

٢٣١

وذلك أنهم ـ كما روي عن الحسن وغيره ـ إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح ، مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم ، وإن خرج الناهي تجنبوا ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام ، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل.

وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما ، وقيل : لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد ـ بربي ـ الله تعالى ، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم ، وقيل : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به ، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام ، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه ، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى ، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة ، ولا قائل به.

وقال الإمام رحمه‌الله تعالى : لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب ، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا ، ومعلوم أن كل ذلك باطل ، وتعقب القول ـ بجواز الاستخارة بالقرآن ـ بأنه لم ينقل فعلها عن السلف ، وقد قيل : إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه ومعاذ رضي الله تعالى عنه.

وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ـ من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] سبع مرات ، وليقل ثلاث مرات : اللهم بكتابك تفاءلت ، وعليك توكلت ، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك ، ثم يتفاءل بأول الصحيفة ـ ففي النفس منه شيء.

وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه ، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلا ، وفي إخراج النساء لأنا نقول : إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة ، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره ، وفي استعمال القرعة النقل ، وخالف الشافعي في ذلك ، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره ، وظواهر الأدلة معه ، وتحقيق ذلك في موضعه.

والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب ، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد ، وأنه لا يخلو عن تشاؤم ، وليس بتقاول محض ، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن ، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول ، وتركها أحب إليّ لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح ، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه ، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب ، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب : أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء ، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الثاني أن يخبره بما يطرأ ويكون في

٢٣٢

أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد ، وهذا لا يبعد وجوده ، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون ، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام ، الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها ـ كالزجر والطرق بالحصى ـ وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة ، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى.

ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام ، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب ، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض ، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع ، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم ، وقيل : المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى عنهم ، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام ، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها.

وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج (ذلِكُمْ) أي الاستقسام بالأزلام ، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر (فِسْقٌ) أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن (ذلِكُمْ) إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق (الْيَوْمَ) أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، وقيل : يوم نزول الآية ، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد ، وكان ـ كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه ـ عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع ، وقيل : يوم دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع ، وقيل : سنة ثمان ، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى : (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.

والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها ، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله.

وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الموقف فلم ير إلا مسلما ، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس (وَاخْشَوْنِ) أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه ، وهذا كما تقول : تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، وعن ابن عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم ، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع ، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما ، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليل ولا تحريم ، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما ، ومضى ـ روحي فداه ـ إلى الرفيق الأعلىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام : صدقت» ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال

٢٣٣

القياس ـ كما زعم بعضهم ـ لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه ، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد ، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ) حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين ـ واختاره الطبري ـ وقال : يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت ، واعترض بالمنع ، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم ، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) وليس الجار فيه متعلقا ـ بنعمتي ـ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله ، وقيل : متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا ، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة ، ودخولها آمنين ظاهرين ، وهدم منار الجاهلية ومناسكها ، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان ، وقيل : بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما ، وقيل : بإكمال الدين ، وقيل : بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم ، وقيل : معنى (أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي اخترته لكم من بين الأديان ، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار.

وأخرج ابن جبير عن قتادة قال : «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة ، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول : رب أنت السلام وأنا الإسلام ، فيقول : إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي» وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام ، ومنهم من جعل الجار ـ صفة لدين ـ قدم عليه فانتصب حالا ، و (الْإِسْلامَ) و (دِيناً) مفعولا (رَضِيتُ) إن ضمن معنى صير ، أو (دِيناً) منصوب على الحالية من الإسلام ، أو تمييز من (لَكُمْ) والجملة ـ على ما ذهب إليه الكرخي ـ مستأنفة لا معطوفة على (أَكْمَلْتُ) وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا ، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف ، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم. وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم : من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي ، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم ، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر ، نعم ثبت عندنا أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك : من كنت مولاه فعلي مولاه وزاد على ذلك ـ كما في بعض الروايات ـ لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد.

وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه ، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها ، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه (فَمَنِ اضْطُرَّ) متصل بذكر المحرمات وما بينهما ، وهو سبع جمل ـ على ما قال الطيبي ـ اعتراض بما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسق عظيم ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي ، والاضطرار الوقوع في الضرورة ، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو مبادئه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه ، فإن ذلك حرام ـ كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم ـ وبه قال أهل العراق ، وقال أهل

٢٣٤

المدينة : يجوز أن يشبع عند الضرورة ، وقيل : المراد غير عاص بأن يكون باغيا ، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته ، وروي هذا أيضا عن قتادة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة ، وقد أقيم سببه مقامه ، وقيل : إنه مقدر في الكلام (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات ، أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال : «جاء جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام : قد أذنا لك قال : أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت ، وجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية.

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان ، وقد ضمن السؤال معنى القول ، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول ، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له ، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان ، فاندفع ما قيل : إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر ، فيقال : سئل عن كذا ، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ما ذا ، والأول مختار الأكثرين ، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول : أقسم زيد ليضربن ، ولو قلت : لأضربن جاز ، والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل ، وقيل : إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ، وإلى ذلك ذهب البلخي ، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد ، وقيل : ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس ، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه ، والطيب ـ على هذين القولين ـ بمعنى الحلال ، وعلى الأول بمعنى المستلذ ، وقد جاء بالمعنيين (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن (ما) موصولة ، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه ، قيل : والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على (الطَّيِّباتُ) من عطف الخاص على العام ، وقيل : الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل ، ويحتمل أن تكون (ما) شرطية مبتدأ ، والجواب فكلوا ، والخبر الجواب ، والشرط على المختار ، والجملة عطف على جملة (أُحِلَّ لَكُمُ) ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.

ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه ، وقال تقديره لا يبطل كون (ما) شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه ـ كما تقول ـ غلام من يضرب أضرب ـ كما تقول ـ من يضرب أضرب ، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل (مِمَّا أَمْسَكْنَ) من وضع الظاهر موضع ضمير (ما عَلَّمْتُمْ) فافهم ، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا ، والخبر كلوا ، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر ، و (مِنَ الْجَوارِحِ) حال من الموصول ، أو من ضميره المحذوف ، و (الْجَوارِحِ) جمع جارحة ، والهاء فيها ـ كما قال أبو البقاء ـ للمبالغة ، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف ، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير ، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم ، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ، وقيل : سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا.

وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والسدي والضحاك – وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة ـ أنها

٢٣٥

الكلاب فقط (مُكَلِّبِينَ) أي معلمين لها الصيد ، والمكلب مؤدب الجوارح ؛ ومضربها بالصيد ، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه ؛ أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل ، فقد أخرج الحاكم في المستدرك ـ وقال : صحيح الإسناد ـ من حديث أبي نوفل قال : «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ـ أو كلبك ـ فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال : إني أخاف دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به» ، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا ، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه.

وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به ، وانتصابه على الحالية من فاعل (عَلَّمْتُمْ) ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه ، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرءوا (مُكَلِّبِينَ) بالتخفيف من أكلب ، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال من ضمير (مُكَلِّبِينَ) أو استئنافية إن لم تكن (ما) شرطية وإلا فهي معترضة ، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير (عَلَّمْتُمْ) ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر ، ولم يستحسن جعلها حالا من (الْجَوارِحِ) للفصل بينهما.

(مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من الحيل وطرق التعليم والتأديب ، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه ، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا ، وقيل : المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.

ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا ، و ـ من ـ أجلية ، وقيل : تبعيضية أي بعض ما علمكم الله (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره ، أو جواب للشرط ، أو خبر للمبتدإ ، و ـ من ـ تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك ، وقيل : «زائدة على رأي الأخفش ؛ وخروج ما ذكر بديهي ؛ و (ما) موصولة أو موصوفة ، والعائد محذوف أي أمسكنه ، وضمير المؤنث للجوارح ، و (عَلَيْكُمْ) متعلق بأمسكن ، والاستعلاء مجازي ؛ والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على أنفسهن ، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه ؛ وقد أشار إلى ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال : «سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك ، فإن أكل منه فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه» وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وعكرمة ، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه : إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل ، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل ، لأن الكلب تستطيع أن تضربه ، والصقر لا تستطيع أن تضربه ، وعليه إمام الحرمين من الشافعية ، وقال مالك والليث : يؤكل وإن أكل الكلب منه ، وقد روي عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الضمير ـ لما علمتم ـ كما يدل عليه الخبر السابق ، والمعنى سموا عليه عند إرساله ؛ وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والسدي ، وقيل : ـ لما أمسكن ـ أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، وقيل : للمصدر المفهوم من ـ كلوا ـ أي سموا الله تعالى على الأكل ـ وهو بعيد ـ وإن استظهره أبو حيان ، والأمر

٢٣٦

للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، وللندب عند الشافعي ، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق (وَاتَّقُوا اللهَ) في شأن محرماته ، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي سريع إتيان حسابه ، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه ، فقد جاء ـ أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم ـ والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم ، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة ، والمحتاجون للصيد ـ الحافظون لدينهم ـ أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه.

فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي قال : يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى ، وعن الصلاة في جماعة ، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحله لأن الله تعالى قد أحله ، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى» واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار ، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك ، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة ، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس ، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال : لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوس ، وإنما قال الله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده ، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس.

وقال النيسابوري : فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره ، والأول أولى. (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) أي حلال ، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة ـ كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائي والبلخي وغيرهم.

وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين ، وقيل : إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وبه قال جماعة من الزيدية ، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء ، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وقال صاحباه : الصابئة صنفان : صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب ، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال : «كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم» وهو وإن كان مرسلا ، وفي إسناده قيس بن الربيع ـ وهو ضعيف ـ إلا أن إجماع أكثر المسلمين ـ كما قال البيهقي ـ عليه يؤكده ، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم

٢٣٧

غير الله تعالى ـ كعزير وعيسى عليهما‌السلام ـ فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : لا تحل وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل ـ وهو قول الشعبي وعطاء ـ قالا : فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.

وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل ، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) قال الزجاج وكثير من المتأخرين : إن هذا خطاب للمؤمنين ، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم ، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم ، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين ، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)؟ وعن بعضهم فإن قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم ، ثم نسخ ذلك في شريعتنا ، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا : هو حلال في شريعتنا ، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره ، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم ، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين. (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات ، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء ، والمراد بهن عند الحسن ، والشعبي وإبراهيم العفائف ، وعند مجاهد الحرائر ، واختاره أبو علي ، وعند جماعة العفائف والحرائر ، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق ، وكذا نكاح غير العفائف منهن ، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وإن كن حربيات كما هو الظاهر ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يجوز نكاح الحربيات ، وخص الآية بالذميات ، واحتج له بقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] قال الجصاص : وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة ، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب ، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ولقوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠]. وأولو هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن ، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات ، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك ، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم ، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين ، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة ، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر ، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك ، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة ، نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى

٢٣٨

عنهما قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام».

وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله «أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن.

وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال : ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة ، قال الرجل : وما المسافحة؟ قال : هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينة اتبعته» (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن ـ كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ـ وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز ، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا ، ولعله أقرب من الأول ، وإن كان المآل واحدا ، و «إذا» ظرف لحل المحذوف ، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) حللن لكم. (مُحْصِنِينَ) أي إعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل (آتَيْتُمُوهُنَ) وكذا قوله تعالى : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، وقيل : هو حال من ضمير (مُحْصِنِينَ) ، وقيل : صفة ـ لمحصنين ـ أي غير مجاهرين بالزنا ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي ولا مسرين به ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى ، وقيل : الأول نهي عن الزنا ، والثاني نهي عن مخالطتهنّ ، و (مُتَّخِذِي) يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على (مُسافِحِينَ) وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير ، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على (غَيْرَ مُسافِحِينَ) باعتبار أوجهه الثلاثة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي من ينكر المؤمن به ، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة ، ويمتنع عن قبولها (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين ، والآية تذييل لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) إلخ تعظيما لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه ، وتغليظا على من خالف ذلك ، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف ـ كما قيل ـ أي بموجب الإيمان ، وهو الله تعالى ليس بشيء ، وإن أشعر به كلام مجاهد ، وضمير الرفع مبتدأ ، و (مِنَ الْخاسِرِينَ) خبره ، و (فِي) متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق ، وقيل : بمحذوف دلّ عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة ، وقيل : بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها ، وقيل : يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله :

ربيته (١) حتى إذا ما تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإيمان العلمي (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أي بعزائم التكليف ، وقال أبو الحسن الفارسي : أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات ، والرياضات في المحاسبات ، والحراسة في الخطرات ، والرعاية في المشاهدات ، وقال بعضهم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عقد القلب بالمعرفة ، وعقد اللسان بالثناء ، وعقد الجوارح بالخضوع ، وقيل : أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه ، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) من

__________________

(١) قوله : «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر ، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه.

٢٣٩

التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) فليرض السالك بحكمه ليستريح ، ويهدي إلى سبيل رشده (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك ، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه (وَلَا الْهَدْيَ) وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة ، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها ، أو تكليفها بما يكون سبب مللها (وَلَا الْقَلائِدَ) وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها ، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) وهم السالكون ، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) بتجليات الأفعال (وَرِضْواناً) بتجليات الصفات ، (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك (أَنْ تَعْتَدُوا) عليها ، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها ، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) بتدبير تلك القوى وسياستها ، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) فإن ذلك يقطعكم عن الوصول ، وعن سهل أن (الْبِرِّ) الإيمان (وَالتَّقْوى) السنة و (الْإِثْمِ) الكفر (وَالْعُدْوانِ) البدعة ، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه (الْبِرِّ) الايمان (وَالتَّقْوى) الإخلاص (وَالْإِثْمَ) الكفر (وَالْعُدْوانِ) المعاصي ، وقيل : (الْبِرِّ) ما توافق عليه العلماء من غير خلاف (وَالتَّقْوى) مخالفة الهوى (وَالْإِثْمَ) طلب الرخص (وَالْعُدْوانِ) التخطي إلى الشبهات (وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه الأمور (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيعاقبكم بما هو أعلم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة (وَالدَّمُ) وهو التمتع بهوى النفس (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها ، (وَالْمَوْقُوذَةُ) وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان (وَالنَّطِيحَةُ) وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا : لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي (ذلِكُمْ فِسْقٌ) خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي ، والاتكال على المقدر يجعلهما عبثا (الْيَوْمَ) وهو وقت حصول الكمال (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) بأن يصدّوكم عن طريق الحق (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فإنهم لا يستولون عليكم بعد (وَاخْشَوْنِ) لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ببيان ما بينت (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بذلك أو بالهداية إليّ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ) أي الانقياد للانمحاء (دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول لذة في مخمصة ، وهي الهيجان الشديد للنفس (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منحرف لرذيلة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق.

٢٤٠