روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

السلام ، ولا أرى للاستبعاد محلا ، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل.

وقيل : إنهما عليهما‌السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه ، وأن الدعاء ـ وقد أجيب ـ كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا ، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح ، فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه‌السلام معهم فيه كما لا يخفى (فَلا تَأْسَ) أي فلا تحزن لموتهم ، أو لما أصابهم فيه من الأسى ـ وهو الحزن ـ (عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم ، فالخطاب لموسى عليه‌السلام كما هو الظاهر ، وإليه ذهب أجلة المفسرين.

وقال الزجاج : إنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد ـ بالقوم الفاسقين ـ معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل : هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٣٧)

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ) موسى إلخ ، وتعلقه به قيل : من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به

٢٨١

من البينات وقيل : من حيث إن في الأول الجبن عن القتل ، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية ، وضمير (عَلَيْهِمْ) يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم ، وقيل : الضمير عائد على هذه الأمة أي اتل يا محمد على قومك (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) هابيل عليه الرحمة ، وقابيل عليه ما يستحقه ، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه‌السلام لصلبه.

وقال الحسن : كانا رجلين من بني إسرائيل ـ ويد الله تعالى مع الجماعة ـ وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه‌السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ، وكان قابيل صاحب زرع ، وهابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه ، وقال : هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى ، فقال لهما : قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها ، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز ، ثم غاب عليه‌السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض : فأبت ، وقال للجبال : فأبت ، فقال لقابيل : فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه‌السلام قربا قربانا ؛ فقرب هابيل جذعة ، وقيل : كبشا ، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وكان ذلك علامة القبول ، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب ، وقال : لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى (بِالْحَقِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر (اتْلُ) أي اتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة ، أو حال من فاعل (اتْلُ) أو من مفعوله أي متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين ، وقوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ظرف لنبأ ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل ، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل ، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه ، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في عامله وهو (اتْلُ) المستقبل ، و (إِذْ) لما مضى فلا يتلاقيان ، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره ، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل.

وقيل : إنه بدل من (نَبَأَ) على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت ، ورده في البحر بأن (إِذْ) لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ و (نَبَأَ) ليس بزمان ، وأجيب بالمنع ، ولا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ (إِذْ) وكل منهما صحيح معنى وإعرابا ، ودعوى ـ جواز الأول سماعا دون الثاني ـ دون إثباتها خرط القتاد ، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها ـ كالحلوان ـ اسم لما يحلى أي يعطى ، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر ، وقيل : تقديره إذ قرب كل منهما قربانا (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) لأنه سخط حكم الله تعالى ، وهو عدم جواز نكاح التوأمة (قالَ) استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل : فما ذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل : قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عزوجل كما يدل عليه الكلام الآتي ، وقيل : على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء (لَأَقْتُلَنَّكَ) أي والله تعالى (لَأَقْتُلَنَّكَ) بالنون المشددة ، وقرئ بالمخففة (قالَ) استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى جسد أخيه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ) أي القربان والطاعة (مِنَ الْمُتَّقِينَ) في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم ، وليس

٢٨٢

المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل ، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي ، فلم تقتلني وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان.

وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته ، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه ، وقيل : مراده الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة ، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده ، ولا يخفى بعده ؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم ، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ، فقد كنت وكنت؟ قال : إني أسمع الله تعالى يقول : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) قيل : كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت ، وفي تلك الشريعة ـ كما روي عن مجاهد ـ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ـ قال : كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه ، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء على جوازه إذ ذاك ، قال بعض المحققين : واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل ، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره : إن المعنى في الآية (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) على سبيل الظلم والابتداء (لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ) على وجه الظلم والابتداء ، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج : منسوخة ، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام ، والدليل عليه قوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) [الحجرات : ٩] وغيره من الآيات والأحاديث ، وقيل : إنه لا يلزم ذلك بل يجوز ، واستدل بما أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه ، وأما من منع ذلك الآن مستدلا بحديث : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة.

وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض ، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله ، فكأنه قال له : لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ) في جواب (لَئِنْ بَسَطْتَ) للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به ، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال : (بِباسِطٍ) للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه ، وقدم الجار والمجرور المتعلق ـ ببسطت ـ إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه ، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل ، وقوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله ، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه ، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) تعليل آخر لامتناعه عن البسط ، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تامة ، وأصل البوء اللزوم ، وفي النهاية : أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع

٢٨٣

وأقر ، والمعنى أني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له ، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل ، وإثمك حيث بسطت إلي يدك ، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» أي على البادئ إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ دافع عن عرضه ، ألا ترى إلى قوله : «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم كذا في الكشاف ، قيل : وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادئ إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادئ ، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه ، وليس في اللفظ ما يشعر بها ، ورده في الكشف بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «فعلى البادئ» مخصص ظاهر ، وقول الكشاف : «إلا أن الإثم محطوط» تفسير لقوله : «فعلى البادئ» وقوله : فعليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله : ما قالا ، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه ساقط.

هذا ثم قال : ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل ، والمعنى إثم سبابهما على البادئ ، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والقول : بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادئ إثم ، فكيف يقال : إثم سبابهما ، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادئ إثما وليس على البادي ، وليس بمناف لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧] لأنه بحمله عليه عد جانيا ، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة ، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل ، والحاصل أن سب غير البادئ يترتب عليه شيئان ، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء ، والثاني بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداء لا أنه لا يعفى ، وأورد في التحقيق أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافئ غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم ، والجواب إن صريح الحديث يدل على ما ذكر في الكشاف ، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم ، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم ـ كنحو الرمي بالكفر والفسق ـ فله أن يعارضه بالمثل ، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة : «دونك فانتصري» أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره ، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لم يعتد المظلوم» يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى ، وهو تفصيل حسن ، وقيل : معنى (بِإِثْمِي) بإثم قتلي ، ومعنى «بإثمك» إثمك الذي كان قبل قتلي ، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك ، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل ، وعن الجبائي ، والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر ، وقيل : معناه بإثم قتلي (وَإِثْمِكَ) الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل ، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قبله ، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب ، والأمر فيه سهل ، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل (تَبُوءَ) أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما ، ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة ، وقيل : المراد بالإثم ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة ، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) على تلك

٢٨٤

الإرادة ، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر ، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده ـ كما قال شيخ الإسلام ـ قوله سبحانه : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها ، والجملة تذييل مقرر لما قبله ، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر ، وقيل : بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع ، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ) لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله ـ وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر ـ لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد ، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه ، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له ، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه ، وقرأ الحسن ـ فطاوعت ـ وفيها وجهان : الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره ، وهو أوفق بالقراءة المتواترة ، والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه ، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته ، و (لَهُ) للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء (فَقَتَلَهُ) أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد ، وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم ، وأخرج عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رءوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب ، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة ، واختلف في موضع قتله ، فعن عمر الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران ، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون ، وقيل : عند عقبة حراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم ، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات ، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنت عليه وكيلا ، قال : بل قتلته ولذلك اسود جسدك ، وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال : إن آدم عليه‌السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة ، فقيل له : حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام ، فعند ذلك ضحك ، وذكر محيي السنة أنه عليه‌السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه‌السلام ، وتفسيره ـ هبة الله ـ يعني أنه خلف من هابيل ، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها ، وأنزل عليه خمسين صحيفة ، وصار وصي آدم وولي عهده ، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : لما قتل ابن آدم عليه‌السلام أخاه بكى آدم عليه‌السلام ورثاه بشعر ، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور.

وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال : من قال : إن آدم عليه‌السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية ، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا ، وذكر بعض علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا ، أو إقواء ، أو ارتكاب ضرورة ، والأولى عدم

٢٨٥

نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة.

(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) دنيا وآخرة ، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» ، وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم» وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة ، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا.

وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة ، فقال : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار ، والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة ، واستدل بعضهم بقول سبحانه : (فَأَصْبَحَ) على أن القتل وقع ليلا ـ وليس بشيء ـ فإن من عادة العرب أن يقولوا : أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران ، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت ، وإنما لم يقل سبحانه ـ فأصبح خاسرا ـ للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال : لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله ، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه ؛ وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه‌السلام ، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه ، وقيل : إن أحد الغرابين كان ميتا.

والغراب : طائر معروف ، قيل : والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة ، وقال بعضهم : إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في ـ يريه ـ لله تعالى ، أو للغراب ، واللام على الأول متعلقة ـ ببعث ـ حتما ، وعلى الثاني ـ بيبحث ـ ويجوز تعلقها ببعث أيضا ، و (كَيْفَ) حال من الضمير في (يُوارِي) قدم عليه لأن له الصدر ، وجملة (كَيْفَ يُوارِي) في محل نصب مفعول ثان ـ ليرى ـ البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني ، وقيل : إن ـ يريه ـ بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة (كَيْفَ يُوارِي) موقع حسن ، وتكون الجملة في موقع مفعولين له ، وفيه نظر ، و ـ البحث ـ في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا ، أو في التراب ، والمراد به هنا الحفر ، والمراد ـ بالسوأة ـ جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير ، وقيل : العورة لأنها تسوء ناظرها ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد ، والأول أولى ، ووجه التسمية مشترك ، وضمير (أَخِيهِ) عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم ، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر ، وبعثه حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته ، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته ، وتعلم قابيل ، ففعل مثل ذلك بأخيه ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما ، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل ، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه (قالَ يا وَيْلَتى) كلمة جزع وتحسر ، والويلة ـ كالويل ـ الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي ، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه ، والألف بدل من ياء المتكلم أي ـ يا ويلتي ـ وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع

٢٨٦

كونه أشرف منه (فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) عطف على (أَكُونَ) وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام ، واعترضه كثير من المعربين ، وقال أبو حيان : إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك ، فإن تقديره إن تزرني أكرمك ، ولو قيل هاهنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي ـ لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه ، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي ، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك ، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين ، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول ، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار ، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو ، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب ، ثم قال : فإن قلت : الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع ، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه ، أما على العفو والمواراة فلا قلت : التوبيخ على جعل كل واحد سببا ، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى ، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد ، وقيل في توجيه ذلك إن الاستفهام للإنكار ـ وهو بمعنى النفي ـ وهو سبب ، والمعنى إن لم أعجز واريت ، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي ، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث ، قال الشهاب : والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام ، والكلام في الثاني ، فكيف يرد الأول نقضا ، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل ـ عجزت ـ بلم اهتد ، وقد قال في التسهيل : إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول ، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى.

ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي ، والنفي من الخفاء ، وكذا في تأويل ـ عجزت ـ بلم أهتد هنا فليفهم ، وقرئ «أعجزت» بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز ، وقرئ ـ فأواري ـ بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف ، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد ، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا ، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية ، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح ، وهو الاستئناف لها انتهى ، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر ، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير ، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) أي صار معدودا من عدادهم ، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل. وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) أي ما ذكر في تضاعيف القصة ، و (مِنْ) ابتدائية متعلقة بقوله تعالى : (كَتَبْنا) أي قضينا ، وقيل : بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع ، و (كَتَبْنا) استئناف ، واستبعده أبو البقاء وغيره.

و ـ الأجل ـ بفتح الهمزة وقد تكسر ، وقرئ به ـ لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرئ بنقل الفتحة إليها في الأصل ـ الجناية يقال : أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية ، وفي معناه جر عليهم جريرة ، ثم استعمل في تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره.

(عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم.

٢٨٧

وقيل : إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل ، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فكأنه قيل : بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل ، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون.

ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح ـ كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم ـ على أن ابني آدم عليه‌السلام كانا من بني إسرائيل ، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغنى عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن ـ تأبى ذلك (أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ قَتَلَ نَفْساً) واحدة من النفوس الإنسانية (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص ، والباء للمقابلة متعلقة بقتل ، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا ، وهو عطف على ما أضيف إليه ـ غير ـ والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد ، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل : من قتل نفسا بغير أحدهما (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه ، وقرئ ـ أو فسادا ـ بالنصب بتقدير أو عمل فسادا ـ أو فسد فسادا (وَمَنْ أَحْياها) أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، وقيل : المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ ، وما في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها ، و (جَمِيعاً) حال من (النَّاسَ) أو تأكيد ، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس ، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ) أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه.

والجملة مستقلة غير معطوفة على (كَتَبْنا) وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها ، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة.

(ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ) المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال ، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة ، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن ، و (ثُمَ) للتراخي في الرتبة والاستبعاد (فِي الْأَرْضِ) متعلق بقوله تعالى : (لَمُسْرِفُونَ) وكذا بعد فيما قبل ، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك ، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به ، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي ، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك ، وقيل : إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما ، وإنما قال سبحانه : و (إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم قليل من كثير ، وذكر (الْأَرْضِ) مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم ، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه ، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه

٢٨٨

إجمالا من الفساد المبيح للقتل ، فقال جل شأنه : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ذهب أكثر المفسرين ـ كما قال الطبرسي ، وعليه جملة الفقهاء ـ إلى أنها نزلت في قطاع الطريق ، والكلام ـ كما قال الجصاص ـ على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧].

ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام ، وقيل : المراد يحاربون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عزوجل ، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم ، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول ، وقيل : ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عزوجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له وترفيعا لشأنهم ، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيد وفيه ما لا يخفى ، والحرب في الأصل السلب والأخذ ، يقال : حربه إذا سلبه ، والمراد به هاهنا قطع الطريق ؛ وقيل : الهجوم جهرة باللصوصية وإن كان في مصر (وَيَسْعَوْنَ) عطف على يحاربون ، وبه يتعلق قوله تعالى : (فِي الْأَرْضِ) ، وقيل : بقوله سبحانه : (فَساداً) وهو إما حال من فاعل (يَسْعَوْنَ) بتأويله بمفسدين ، أو ذوي فساد ، أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل ، وإما مفعول له أي لأجل الفساد ، وإما مصدر مؤكد ـ ليسعون ـ لأنه في معنى يفسدون ، و (فَساداً) إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر ، وقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ) مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا) أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل ، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أو لا ، والإتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي ، وكذا التصليب في قوله سبحانه : (أَوْ يُصَلَّبُوا) لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ ، وقيل : صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير ، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا ، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل ، قيل : إنه يوم واحد.

وقيل : حتى يسيل صديده ، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الإقدام على مثل هذه المعصية.

وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلّا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة ، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي ، وقطع الأيدي لأخذ المال ، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد ، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والسجن ؛ والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله ، وقد قال بعض المسجونين :

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

عجبنا ، وقلنا : جاء هذا من الدنيا

٢٨٩

ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه ، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع ، وبه قال ابن عباس والحسن والسدي رضي الله تعالى عنهم وابن جبير وغيرهم ، وإليه ذهب الإمامية ، وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط ، وقيل : إلى بلد أبعد ، وكانوا ينفونهم إلى ـ دهلك ـ وهو بلد في أقصى تهامة ـ وناصع ـ وهو بلد من بلاد الحبشة ، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه ، وإخراجه من الدنيا غير ممكن ، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو أشد عليه.

هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه ـ فأو ـ للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح ، وقيل : إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق ، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير ، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها ، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى ، والظاهر أنه أوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا التنويع والتفصيل ، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق ، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام وفيه تأمل فتأمل (ذلِكَ) أي ما فصل من الأحكام والأجزية ، وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (لَهُمْ خِزْيٌ) جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدإ ، وقوله سبحانه : (فِي الدُّنْيا) متعلق بمحذوف وقع صفا لخزي ، أو متعلق به على الظرفية ، وقيل : (خِزْيٌ) خبر ـ لذلك ـ و (لَهُمْ) متعلق بمحذوف وقع حالا من (خِزْيٌ) لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا ، و (فِي الدُّنْيا) إما صفة ـ لخزي ـ أو متعلق به كما مر آنفا والخزي الذل والفضيحة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابا أيضا ، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها ، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها ، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة ، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة ، وهو مشكل مع هذه الآية ، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى ، وأما حقوق العباد فلا ، وهاهنا حقان لله تعالى والعباد ، ونظر فيه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأما ما هو من حقوق العباد ـ كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه ـ فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّا ، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا ، فإنهم إن شاءوا عفوا ، وإن أحبوا استوفوا.

وقال ناصر الدين البيضاوي : إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه ، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة ، وأفرد له تنبيها فقال ـ بعد نقله ـ وهو عجيب ، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له لا واجب مطلقا ، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه

٢٩٠

قصاصا ، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى.

وتعقبه ابن قاسم فقال : ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه ، وقوله : إذ لا يتصور إلخ قلنا : لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه ـ وهو صحيح ـ على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين ، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه ، وقوله : لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط ، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا ، وقوله : فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى.

وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر ، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب ، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار ، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلموا واجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف ، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) إلخ ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة ، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها ، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه.

وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك ، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا ، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة ـ كما تقرر ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال : كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر؟ قال : وإن كان حارثة بن بدر ، فقال : هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال : نعم ، فجاء به إليه فبايعه ، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا ، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه ، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفعله في غير أولئك ، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال : إنما سمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء ، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم ، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة وقال : بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ

٢٩١

فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح ، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) بحسب الدواعي والمقتضيات (كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ) عن الناس في أنفسكم (مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) إذا لم تدع إليه داعية (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء (وَكِتابٌ) خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال ، وهما إشارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي بواسطته (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي من أراد ذلك (سُبُلَ السَّلامِ) وهي الطرق الموصلة إليه عزوجل.

وقد قال بعض العارفين : الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية (إِلَى النُّورِ) وهو نور الرضا والتسليم (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو طريق الترقي في المقامات العلية ، وقد يقال : الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال ، والثانية إلى توحيد الصفات ، والثالثة إلى توحيد الذات (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه ـ وهو الوجود المطلق ـ حتى عن قيد الإطلاق (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فإن كل ذلك من التعينات والشئون والله من ورائهم محيط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ويظهر ما أراد من الشئون (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار ، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه ، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين ، فقال الواسطي : ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون ، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) منهم فضلا (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) منهم عدلا (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) بالولاية ومعرفة الصفات ، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة ، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي ، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانكم ، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه‌السلام (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وهي حضرة القلب (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) في القضاء السابق حسب الاستعداد (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) في الميل إلى مدينة البدن ، والإقبال عليه بتحصيل لذاته (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) لتفويتكم أنوار القلب وطيباته (قالُوا يا مُوسى إِنَّ (١) فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) وهي صفات النفس (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة ، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) حينئذ (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ) سوء عاقبة ملازمة الجسم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالهداية إلى الصراط السوي ـ وهما العقل النظري والعقل العملي ـ (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) أي باب قرية القلب ـ وهو التوكل بتجلي الأفعال ـ كما أن باب قرية الروح هو الرضا (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) بخروجكم عن أفعالكم وحولكم ، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالحقيقة وهو الإيمان عن

٢٩٢

حضور ، وأقل درجاته تجلي الأفعال (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض الطبيعة ، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس ، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) القلب اللذين هما هابيل العقل ؛ وقابيل الوهم (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) وذلك كما قال بعض العارفين : إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات ، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية ، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل ، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع ، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان ، فقربا قربانا (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته ، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح ، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته ، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية ـ الذي به الحياة ـ عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) الذين يتخذون الله تعالى وقاية ، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي أني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة ، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولو لا الأمل بطل العمل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) وهي نار الحجاب والحرمان (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً) وهو غراب الحرص (يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي أرض النفس (لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) عند ظهور الخسران وحصول الحرمان (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع ، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج ، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها ، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي أولياءهما (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) بتثبيط السالكين (أَنْ يُقَتَّلُوا) بسيف الخذلان (أَوْ يُصَلَّبُوا) بحبل الهجران على جذع الحرمان (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ) عن أذيال الوصال (وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) عن الاختلاف والتردد إلى السالكين (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ

٢٩٣

الْأَرْضِ) أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) وهوان (فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم جنايتهم ، وقد جاء ـ أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب ، ومن آذى وليا فقد آذنته بالمحاربة ـ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته ـ وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب ـ أمر المؤمنين بتقواه عزوجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد ، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ) أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه (الْوَسِيلَةَ) هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عزوجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء ، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه ، وقيل : متعلق بالفعل قبله ، وقيل : بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة إليه ، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة ، فإنه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير ، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد ، وقيل : الجملة الأولى أمر بترك المعاصي ، والثانية أمر بفعل الطاعات ، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة ، وأنشد له قول عنترة :

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السماوات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة ، وفسر بعضهم ـ الوسيلة ـ بمنزلة في الجنة ، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على ما رواه مسلم وغيره «أنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة» وكون الطلب هنا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم ، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى ، واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال : اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا ، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين : يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا ، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ، ويروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ـ إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور ، أو فاستغيثوا بأهل القبور ـ وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول ، فقد صح أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة : «لا تنسنا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له ، وأمر أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه ، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف ، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة ؛ فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ـ وهم أحرص الخلق على كل خير ـ أنه طلب من ميت شيئا ، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا : السلام عليك يا رسول الله ؛ السلام عليك

٢٩٤

يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا ـ وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة ـ نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش ، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام ، فعن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة ، وقال بعضهم : يستقبل وقت السلام ، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء ، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة ، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار ، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما ذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد ، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟! وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال : اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي ، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه سيد ولد آدم ، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته ، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير ، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع الله تعالى أن يعافيني ، فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في ، ونقل عن أحمد مثل ذلك.

ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ؛ ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام ، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففيه جعل الدعاء وسيلة ـ وهو جائز ـ بل مندوب ، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث : «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك ، وقد شنع التاج السبكي ـ كما هو عادته ـ على المجد ، فقال : ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى.

وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت ، أو نحو ذلك ـ كما تسمع إن شاء الله تعالى ـ ومن ادعى النص فعليه البيان ، وما رواه أبو داود في سننه وغيره «من أن رجلا قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك ، فسبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه ، فقال : ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك» لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله : «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله : «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب الدعاء منه ، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى ، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وميتا ، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه الصلاة

٢٩٥

والسلام بجامع الكرامة ، وإن تفاوت قوة وضعفا ، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام ، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع ، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به ، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص ، ولعل النص على خلافه ، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه ، فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون ـ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره ، بل كانوا يقولون : اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس ، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك ، فعدولهم هذا ـ مع أنهم السابقون الأولون ، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع ، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير ، وإنزال الغيث بكل طريق ـ دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره.

وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التفاوت في الكرامة ـ الذي لا ينكره إلا منافق ـ مما لا يكاد يسلم ، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال : إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا وكذا بغيره كذلك ، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه : كنا نتوسل بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما الثاني فلقوله : إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل : إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع ، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته ، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا ، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح ، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته ، وذلك مما لا محذور فيه ، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه ـ وهذا هو محل النزاع ـ وقد علمت الكلام فيه ، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل ـ اللهم أسألك بجاه فلان ـ فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك ، وقال : إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال : أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله ، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث ، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة ، وما يذكره بعض العامة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ـ إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم ـ لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا هو شيء في كتب الحديث ، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس‌سره ـ أنه قال لتلامذته : إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله ـ الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين ، وأما ما رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة ، ففي سنده العوفي ـ وفيه ضعف ـ وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال فيه : إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم ، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم ، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] ، وفي الصحيح من حديث معاذ ـ حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحقهم عليه

٢٩٦

إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ـ فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية ، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته.

وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عزوجل بأعمالهم ، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود ، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا ، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها ، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى ، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير ، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير ، وتوحي إليهم شياطينهم خبر ـ إذا أعيتكم الأمور ـ إلخ ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجماع العارفين بحديثه ، لم يروه أحد من العلماء ، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عن ـ اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك ـ فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

وعن أبي يزيد البسطامي قدس‌سره أنه قال : استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون ، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله ، ومن دعاء موسى عليه‌السلام ـ وبك المستغاث – وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى ، الخبر ، وقال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله تعالى حيا وميتا ، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى ، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته ، فيكون معنى قول القائل : إلهي أتوسل بجاه نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تقضي لي حاجتي ، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي ، ولا فرق بين هذا وقولك : إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا ، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المعنى ، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه ، ولا يجري ذلك ـ في التوسل والإقسام بالذات ـ البحت ، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك ـ وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام ـ شيء ، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين ، وقد ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح ، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم ـ كما يزعمه البعض ـ في التوسل بجاه عريض الجاهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة ، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم ، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا «بقي هاهنا أمران» الأول أن التوسل بجاه غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته ، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه ، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى ، الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات

٢٩٧

وغيرهم ، مثل يا سيدي فلان أغثني ، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء ، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه ، وقد عدّه أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه ، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه ، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم ، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد (١) ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا المنافق فجاءوا إليه ، فقال : إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور ـ الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه ـ أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه ، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عزوجل ، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به ، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه ، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام ، وبعض الجهلة يقول : إن ذلك من تطور روح المستغاث به ، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون ، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة ، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك ، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) مع أعدائكم بما أمكنكم.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة ، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه ، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب (لَوْ أَنَّ لَهُمْ) أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) [يونس : ٥٤] إلخ ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا : لجميعهم (ما فِي الْأَرْضِ) أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة ، وهو اسم (إِنَ) و (لَهُمْ) خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه ، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد (لَوْ) ، وقيل : الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان ، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت لهم ما في الأرض ، وقوله تعالى : (جَمِيعاً) توكيد للموصول أو حال منه ، وقوله سبحانه : (وَمِثْلَهُ) بالنصب عطف عليه ، وقوله عزوجل : (مَعَهُ) ظرف وقع حالا من المعطوف ، والضمير راجع إلى الموصول ، وفائدة التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر ، واللام في قوله تعالى : (لِيَفْتَدُوا بِهِ) متعلقة بما تعلق به خبر (إِنَ) وهو الاستقرار المقدر في (لَهُمْ) وبالخبر المقدر عند من يراه ، وبالفعل المقدر بعد (لَوْ) عند الزجاج ومن نحا نحوه ، قيل : ولا ريب في أن مدار الاقتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له ، والباء في (بِهِ) متعلقة بالافتداء ، والضمير راجع إلى الموصول (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا ، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك ، وقيل : هو راجع إلى الموصول ، والعائد إلى

__________________

(١) هذا هو الحق وهو أنه يجتنب ذلك مطلقا ، وما مال إليه المصنف قبل من الجواز هو رأي له غير مقبول فتنبه.

٢٩٨

المعطوف ـ أعني مثله ـ مثله ، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

وقد جوز أن يكون نصب ، ومثله على أنه مفعول (مَعَهُ) ناصبه الفعل المقدر بعد (لَوْ) تفريعا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه ، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد ، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير ، وقال بعض النحاة : الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير مع مثله (مَعَهُ) ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر (مَعَهُ) معه لملازمة معية كل منهما للآخر ، وأجاب الطيبي بأن (مَعَهُ) على هذا تأكيد ، وقال السفاقسي : جوابه أن التقدير ليس كالتصريح ، و ـ الواو ـ متضمنة معنى مع ، وإنما يقبح لو صرح ـ بمع ـ وكثيرا ما يكون التقدير بخلاف التصريح ، كقولهم : رب شاة وسخلتها ، ولو صرحت ـ برب ـ فقلت : ورب سخلتها لم يجز ، وأجاب الحلبي بأن الضمير في (مَعَهُ) عائد على (مِثْلَهُ) ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد ، نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به ، وهو هنا (ما) أو ضميرها ، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر ، وأما صحته على تقدير جعله لهم ، أو متعلقه على ما قيل ، فممتنع أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال : وأما هذا لك وأباك فقبيح ، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل ، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لا تعمل في المفعول معه ، وقوله تعالى : (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.

(ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك ، وهو جواب (لَوْ) وترتيبه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال : وافتدوا به ، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مبادئه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر ، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر ، أو للمبالغة في تحقق الرد ، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠] حيث لم يقل فأتى به فلما رآه إلخ ، وما في قوله سبحانه : (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) [يوسف : ٣١] من غير ذكر خروجه عليه‌السلام عليهن ورؤيتهن له ، وقال بعض الأفاضل : إنما لم يكتف بقوله : إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه ـ كما هو شأن من هو بصدد أمر ـ ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة ، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ ، والجملة الامتناعية بحالها خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه ، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم ، فلما كانت هذه الجملة ، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها ، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا ، ولعل مراده ـ على ما ذكره القطب ـ ما ذكره ، وقال بعض المحققين : لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم ، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى ، وبهذا الاعتبار يقال له : كناية ، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال : إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من

٢٩٩

العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قيل : محله النصب على الحالية ، وقيل : الرفع عطفا على خبر إن ، وقيل : إنه معطوف على (إِنَّ الَّذِينَ) فلا محل له من الإعراب مثله ، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته ، وقيل : إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام ، وكذلك قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل ، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله ، كأنه قيل : فكيف يكون حالهم ، أو ما ذا يصنعون؟ فقيل : (يُرِيدُونَ) إلخ ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار ، والإرادة قيل : على معناها الحقيقي المشهور ، وذلك أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به ، وروي ذلك عن الحسن ، وقال الجبائي : الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك.

وقيل : المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم ، وهذا كقوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] أي يكاد ويقارب ، لا يقال : كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول : الهول يومئذ ينسيهم ذلك ، وعلى تقدير عدم النسيان يقال : العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك ، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه.

(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) إما حال من فاعل (يُرِيدُونَ) أو اعتراض ، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة ـ بما ـ الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها ، فإن الجملة الاسمية الإيجابية ـ كما مرت الإشارة إليه ـ كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت ، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام ، وقرأ أبو واقد (أَنْ يَخْرُجُوا) بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج ، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى : (بِخارِجِينَ) دون بمخرجين ، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار ، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان.

وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة ، قال يزيد الفقير : فقلت لجابر : يقول الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) قال : اتل أول الآية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) ألا إنهم الذين كفروا ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما : تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار ، ورواية أنه قال له : يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء ، فحقق ما قيل : رمتني بدائها وانسلت ، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها ، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقوله المعتزلة تبا لهم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا.

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا

٣٠٠