روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

بَيْنَ النَّاسِ) بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الإفاضة حسب الاستعداد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) بتطهير كعبة تجليه ـ وهو القلب ـ عن أصنام السوي (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم.

وربما يقال : إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة : فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت ، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه ، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن فهم بيانه ، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى تعالى ، وليطعه فيما أمر ونهى ، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) أنتم والمشايخ ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) تعالى «والرسول» فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة ، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة ، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن فيه بحار علوم الحقائق ، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مردود (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من علم التوحيد (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من علم المبدأ والمعاد (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ويخالفوه (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) وهو الطاغوت (أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) وهو الانحراف عن الحق (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك (ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً) بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك (وَتَوْفِيقاً) أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تقبل عذرهم (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتغالهم بحظوظها (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) بإمداده إياهم بأنوار صفاته (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها.

وقال ابن عطاء في هذه الآية : أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قال بعضهم : أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ، ألا ترى كيف قال حسان :

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرض محمود وهذا محمد

وقال آخرون : سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن لم يمش تحت قبابه

٨١

فليس من الله تعالى في شيء ، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها ، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى ، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) وهم أهل التوفيق والهمم العالية ، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم : أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال : إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لما فيه من الحياة الطيبة (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) بالاستقامة بالدين (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) وهو كشف الجمال (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو التوحيد (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بما لا يدخل في حيطة الفكر (مِنَ النَّبِيِّينَ) أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم (وَالصِّدِّيقِينَ) الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير دليل ولا توقف (وَالشُّهَداءِ) أهل الحضور (وَالصَّالِحِينَ) أهل الاستقامة في الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخلقوا بأخلاقه (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) شدة في السير (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ) حيث لم أفعل كما فعلوا (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) أي حسدا لكم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ) دونهم (فَوْزاً عَظِيماً) وأنال ذلك وحدي (وَمَنْ يُقاتِلْ) نفسه (فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) بسيف الصدق (أَوْ يَغْلِبْ) عليها بالظفر لتسلم على يده (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الوصول إلينا (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وخلاص المستضعفين (مِنَ الرِّجالِ) العقول (وَالنِّساءِ) الأرواح (وَالْوِلْدانِ) القوى الروحانية (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ) وهي قرية البدن (الظَّالِمِ أَهْلُها) وهي النفس الأمارة (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يلي أمورنا ويرشدنا (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس ، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه.

(الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عزوجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه (فَقاتِلُوا) يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ). جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ) [الصف : ٤] وهو سبحانه وليكم ، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها ، وفائدة (كانَ) التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف ، وقيل : هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام ، وقيل : إنها زائدة وليس بشيء.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) نزلت كما قال الكلبي : في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا

٨٢

وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك ، وفي رواية : إني أمرت بالعفو. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). واشتغلوا بما أمرتم به ، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود ، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه ، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض ، وقيل : للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ) أي الكفار أن يقتلوهم ، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك (كَخَشْيَةِ اللهِ) أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه ، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين ، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل : ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه ـ بمقتضى البشرية ـ جماعة منهم ، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى ، و (إِذا) للمفاجأة وهي ظرف مكان ، وقيل : زمان وليس بشيء ، وفيها تأكيد لأمر التعجيب ، و (فَرِيقٌ) مبتدأ ، و (مِنْهُمْ) صفته ، و (يَخْشَوْنَ) خبره ، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا ، والخبر (إِذا) و (كَخَشْيَةِ اللهِ) في موقع المصدر أي خشية كخشية الله ، وجوز أن يكون حالا من فاعل (يَخْشَوْنَ) ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه ، وقيل ـ وفيه بعد ـ إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم (أَشَدَّ خَشْيَةً) من أهل خشية الله ، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم ، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية ـ على ما قيل بناء على أن (خَشْيَةً) منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية ، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم ، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه ـ على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ـ ويكون كقولك : زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد ، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه ، والمعنى ـ يخشون الناس خشية كخشية الله ، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى ـ ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى ، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة ، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل ـ أي يخشون الناس كخشية الناس ، أو يخشون أشدّ خشية ـ على أن الأول مصدر والثاني حال ، وقيل عليه : إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة ؛ وجوز أن يكون (خَشْيَةً) منصوبا على المصدرية و (أَشَدَّ) صفة له قدمت عليه ، فانتصب على الحالية ، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) [يوسف : ٦٤] فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت : الله خير حافظ بالجر ، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال : أشد خشية بالجر ، والقول ـ بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ ـ محل نظر محل نظر ، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور.

٨٣

وهذا إيراد قوي على ما قيل ، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل ، و (أَوْ) قيل : للتنويع ، وقيل للإبهام على السامع ، وقيل : للتخيير ، وقيل : بمعنى الواو ، وقيل : بمعنى بل (وَقالُوا) عطف على جواب ـ لما ـ أي (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) فاجأ بعضهم بألسنتهم ، أو بقلوبهم ، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى ، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) في هذا الوقت.

(لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الأجل المقدر ؛ ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله ، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه ، وقيل : إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم ، فتارة قالوا الجملة الأولى ، وتارة الجملة الثانية ، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى (قُلْ) أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال ، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي (مَتاعُ الدُّنْيا) أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا (قَلِيلٌ) في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة (وَالْآخِرَةُ) أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال (خَيْرٌ) لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات ، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى ، وإنما قال سبحانه (لِمَنِ اتَّقى) حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف.

وقيل : المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين ، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا ، ولذا قيل : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها ، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من.

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا محل للجملة من الإعراب ، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به ، فمحل الجملة النصب ، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم ، وهذا جوابا للثانية منه ، فكأنه لما قالوا : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ)؟ أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة ، ولما قالوا : (لَوْ لا أَخَّرْتَنا)؟! إلخ أجيبوا بأنه (أَيْنَما تَكُونُوا) في السفر ، أو في الحضر (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال ، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم ، وقرأ طلحة بن سليمان (يُدْرِكْكُمُ) بالرفع ، واختلف في تخريجه فقيل : إنه على حذف الفاء كما في قوله ـ على ما أنشده سيبويه. :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء ، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم ، وقيل : هو مؤخر من تقديم ، وجواب الشرط محذوف أي ـ يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم ـ واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله :

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط ، وأجيب بأن الشرط الأول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا

٨٤

الإطلاق ، والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون ، وقيل : إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة ـ إن ـ لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن ـ أينما كنتم يدرككم الموت ـ إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر ، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذا لتوهم ـ كما قال ابن المنير ـ أن يكون ما يتوهم هو الأصل ، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل ، وما توهم هنا ليس كذلك ، وقيل : إن (يُدْرِكْكُمُ) كلام مبتدأ و (أَيْنَما تَكُونُوا) متصل ب (لا تُظْلَمُونَ) ، واعترض كما قال الشهاب : بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة ، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن (لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم ، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته ، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم (وَلا تُظْلَمُونَ) للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود ، وبه ينتظم الكلام ، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله ـ كما قال الحلبي ـ والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن (أَيْنَما تَكُونُوا) شرط جوابه محذوف تقديره (لا تُظْلَمُونَ) وما قبله دليل الجواب ، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن ، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد ، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) أي قصور ، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج ، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا ، وقيل : المراد بها بروج السماء المعلومة ، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنها الحصون والقلاع وهي جمع برج وأصله من التبرج وهو الإظهار ، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها (مُشَيَّدَةٍ) أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع ـ قاله الزجاج ـ فهو من شيد البناء إذا رفعه ؛ وقرأ مجاهد (مُشَيَّدَةٍ) بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة (مُشَيَّدَةٍ) بكسر الياء على التجوز ك (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١ ـ القارعة : ٧] وقصيدة شاعرة ، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج (وَلَوْ كُنْتُمْ) إلخ ، وقد أطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) نزلت على ما روي عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل ، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل : نزلت في المنافقين ، ابن أبيّ وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد ، وقالوا للذين قتلوا (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران : ٩١] فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا : هي من عند الله تعالى ، وإن تصبهم هزيمة قالوا : هي من سوء تدبيرك ، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وقيل : نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح ، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة وقحطوا ، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية ، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، وأيد بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل ، وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أمر لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل

٨٥

واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون ، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه.

وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل : ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى : (إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٣١] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به ـ قاله شيخ الإسلام ـ ومنه يعلم اندفاع ما قيل : إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم ، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل هو إلى قوله سبحانه : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) إلخ وقوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي اليهود والمنافقين المحتقرين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون (حَدِيثاً) أي كلاما يوعظون به وهو القرآن ، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه ، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى ، أو بمعزل من أن يفهموا ـ حديثا ـ مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها ، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر ، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى ، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم ، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم ، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وعلى ما ذكرنا ـ ولعله الأولى ـ يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به ، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة : عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء ، وفي إجراء الجواب أولا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب ، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد ، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عزوجل ، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين ، و (ما) كما قال أبو البقاء : شرطية و «أصاب» بمعنى يصيب والمراد ـ بالحسنة والسيئة ـ هنا ما أريد بهما من قبل ، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود ، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة : «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته» (وَما أَصابَكَ مِنْ) بلية ما من البلايا فهي بسبب

٨٦

اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها ، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها ـ أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر».

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك ، وعن أبي صالح مثله ، وقال الزجاج : الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود منه الأمة ، وقيل : له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم ؛ والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة ، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا ، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية ، والخلاف في الثاني ، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات ، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح ، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات ، وقال بعضهم : يمكن أن يقال : لما جاء قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) بعد قوله سبحانه : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة ، والسيئة على البلية ، ولما أردف قوله عزوجل : و (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة ـ كما روي ذلك عن أبي العالية ـ ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع ، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك : هذا من عند الله تعالى ، وقولك هذا من الله تعالى ؛ بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه ، وفيما يحصل ، وقد أمر به ونهى عنه ؛ ولا يقال : من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره ، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه : «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر.

ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن (ما أَصابَكَ) إلخ على تقرير القول أي (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) يقولون (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) إلخ ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض ، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من (حَدِيثاً) على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني (ما أَصابَكَ) إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي (فَمِنْ نَفْسِكَ) ، وزعموا أنه قرئ به ، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم ، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه : (حَدِيثاً) على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن ، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه ، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل : إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى.

وفي الكشف أن جملة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى : (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ، (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ) دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط ، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما ، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه ـ لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة ـ الخبال والفساد ، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه (فَمِنْ نَفْسِكَ) ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط ، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة ، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة الله تعالى

٨٧

مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه : (فَمَنْ تَوَلَّى) ثم قال ـ ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي ـ وأن (فَلْيُقاتِلْ) شديد التعلق بسابقه ، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطئ ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي : و (يَقُولُونَ) أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث ، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى ، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى.

هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ) وجماعة على ـ لام الجر ـ وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره ، والثاني على الجار دون مجروره ، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وأنا كتبتها عليك (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) بيان لجلالة منصبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه ، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف ـ الناس للاستغراق ، والجار متعلق : ب (رَسُولاً) قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا ، و (رَسُولاً) حال مؤكدة لعاملها ، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده ، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من (رَسُولاً) وجوز أيضا أن يكون (رَسُولاً) مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم

بشيء ولا أرسلتهم برسول

وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله :

على حلفة لا أشتم الدهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام

حيث أراد كما قال سيبويه : ولا يخرج خروجا (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على رسالتك ، أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات ، وأنزل الآيات البينات ، وقيل : المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر ، والالتفات لتربية المهابة (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) بيان لأحكام رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر بيان تحققها ، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه ، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه.

وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون : ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك ، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه‌السلام؟ فنزلت» فالمراد «بالرسول» نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية ، وقيل : المراد به الجنس ويدخل فيه نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولا أوليا ، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى :

(وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر ، و «من» شرطية وجواب الشرط محذوف ، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها ، ونفى ـ كما قيل ـ كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام ، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف ، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه ، وعليهم

٨٨

متعلق به وقدم رعاية للفاصلة ، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ ـ من ـ ومعناها ، وفي العدول عن ـ ومن تولى فقد عصاه ـ الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة ، (وَيَقُولُونَ) الضمير للمنافقين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن والسدي وقيل : للمسلمين الذين حكي عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء (طاعَةٌ) أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا ، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب : سمعا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع ـ كما صرح به سيبويه ـ للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي خرجوا من مجلسك وفارقوك (بَيَّتَ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) وهم رؤساؤهم ، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل ليلا والعزم عليه ، ومنه تبييت نية الصيام ويقال : هذا أمر تبيت بليل ، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه ، وإما من البيت المبني لأنه يسوي ويدبر ، وفي هذا بعد ـ وإن أثبته الراغب لغة ـ والمراد زورت وسوت (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار ، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات ؛ والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة ، وتذكيره أو لا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي ، وقرأ أبو عمرو وحمزة (بَيَّتَ طائِفَةٌ) بالإدغام لقربهما في المخرج ، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس ، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه ، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم ـ كما قال الزجاج ـ والقصد على الأول لتهديدهم ، وعلى الثاني لتحذيرهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم ، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض أمرك إليه وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم ، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل : شهادة الله تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه ، أو سوابقه وأسبابه ، أو لواحقه وأعقابه ، والفاء للعطف على مقدر أي ـ أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأي حجة على المقصود ـ وقيل : المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه (وَلَوْ كانَ) أي القرآن. (مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) كما يزعمون (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده ، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج ، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا ، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل ـ بحكم العادة ـ من التناقض ، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات ، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين ، وقيل ـ وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه ـ المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته ، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه ، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة

٨٩

لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى.

وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة ، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى ، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز ، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما (كَثِيراً) ، وثانيهما (اخْتِلافاً) بمعنى مختلفا ، وإليه يشير قوله : لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [غافر : ٢٨] وهو من الكلام المنصف ، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم ، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير ، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله : لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي ـ وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى ـ لوجدوا فيه الاختلاف المذكور ، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز ـ قاله بعض المحققين ـ وقال بعضهم : لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه ـ إلا أنه لا يخفى بعده ، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد : وجوب النظر في الحجج والدلالات ، وبطلان التقليد ، وبطلان قول من يقول : إن المعارف الدينية ضرورية ، والدلالة على صحة القياس ، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى.

ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل ، وقول من يقول : إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا ، وإما تقرير الأخير ـ على ما في الكشف ـ فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم : ان لو عكس لو لا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة ، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب ، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا ، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول ، وحينئذ لا يتم الاستدلال ، وذكر أن معنى (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة ، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا. وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الإمام المعصوم ـ كما قال بعض الشيعة ـ (وَإِذا جاءَهُمْ) أي المنافقين ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ ـ أو ضعفاء المسلمين ـ كما روي عن الحسن ، وذهب إليه غالب المفسرين ـ أو الطائفتين كما نقله ابن عطية ـ (أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) أي مما يوجب الأمن والخوف (أَذاعُوا بِهِ) أي أفشوه ، والباء مزيدة ، وفي الكشاف يقال : أذاع الشر وأذاع به ، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو ـ فلان يعطي ويمنع ـ ولما فيه من الإبهام والتفسير ، وقيل : الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه.

٩٠

والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يخبرهم به ، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة ، وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة ، وقيل : الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين ، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه ، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) ، وقوله سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر ، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار ، وقيل : الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه ، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل ، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف ـ ولا يخلو عن حسن ـ غير أن روايات السلف على خلافه ، وأيّا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم ، وقال سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ) أي ذلك الأمر الذي جاءهم (إِلَى الرَّسُولِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور ، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير.

وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي : المراد بهم أمراء السرايا والولاة ، وعلى الأول المعول (لَعَلِمَهُ) أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايده ، أو لو ردوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذكر ، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون ، أو (لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وقالوا : نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته ، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم ، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير ، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومن تشرف بالعطف عليه ، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة ـ من ـ إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه ، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال ، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى ، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه ـ كالماء من البئر ، والجوهر من المعدن ـ ويقال للمستخرج : نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات ، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لو لا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أولي الأمر (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) وعملتم بآرائكم

٩١

الضعيفة ، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة ، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) تعالى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَرَحْمَتُهُ) بإنزال القرآن ـ كما فسرهما بذلك السدي والضحاك ـ وهو اختيار الجبائي ، ولا يبعد العكس (لَاتَّبَعْتُمُ) كلكم (الشَّيْطانَ) وبقيتم على الكفر والضلالة (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق ، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب ـ كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل (١) وأضرابهم ـ فالاستثناء متصل ، وإلى ذلك ذهب الأنباري.

وقال أبو مسلم : المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى ، والمعنى لو لا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين (إِلَّا قَلِيلاً) وهم أهل البصائر النافذة ، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا ، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام ، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل ، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان ، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه ، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا ، وذلك لأن (لَوْ لا) حرف امتناع لوجود ، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم ، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة ، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى ، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه : لو لا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله ، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر ، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة ، وزاد التوفيق في البيان ، ويمكن أن يقال أيضا : أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله ، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف ، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى : (أَذاعُوا بِهِ) ، وروي ذلك عن ابن عباس ـ وهو اختيار المبرد ، والكسائي والفراء والبلخي والطبري ـ واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.

وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه : (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله ، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في

__________________

(١) عد الطبرسي منهم. البراء وأبا ذر. ا ه منه.

٩٢

البلادة ـ وفيه نظر ـ وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد (إِلَّا) منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض ، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة ، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم ، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى : و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) إلخ ، وقوله سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يشهدان له ، وفي الذي بعده بأن قوله عزوجل : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) [النساء : ٨٣] إلخ ، وقوله جل وعلا : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) يشهد له ، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة ، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا.

ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين : أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عزوجل : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك ، وقيل : هي متصلة بقوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) ومعنى (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات ، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقتال وحده ، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يؤاخذ به ، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس ، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل ، بل في ثبوته فقال : إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا ، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة : أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي ، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل ـ قاتل ـ أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك ، وقرئ «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك ، وقيل : هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد ، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف ، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك ، وقيل : لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك.

والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين ، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به ، فالتفعيل للسلب والإزالة ـ كقذيته وجلدته ـ ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ) نكاية (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومنهم قريش و (عَسَى) من الله تعالى ـ كما قال الحسن وغيره ـ تحقيق ، وقد فعل سبحانه ما وعد به ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه ، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن معه سالمين (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من الذين كفروا (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي تعذيبا ، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم ، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع ، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة ، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة ، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد ، وقوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ) أي حظ وافر (مِنْها) أي من ثوابها ، جملة مستأنفة

٩٣

سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب ، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.

وقال علي بن عيسى : إنه سبحانه لما قال (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك ، وليس بشيء كما لا يخفى ، و ـ الشفاعة ـ هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية ، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا ، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه ، و ـ الحسنة ـ منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى ، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى ، روى مسلم وغيره عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له» وقال الملك : ولك مثل ذلك ، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لا أكاد أسوغه ، وإن كانت فيه منفعة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.

وتفسيرها بالدعاء ـ كما نقل عن الجبائي ـ أو بالصلح بين اثنين ـ كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ لعله من باب التمثيل لا التخصيص ، وكون التحريض الذي فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو ، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة ؛ وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك ، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا ، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية ، والحسنة منها ما كان في طاعة ، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد ، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه.

(وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) وهي ما كانت بخلاف الحسنة ، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ، ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص ، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) أي نصيب من وزرها ، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة ، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة ، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن ، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة ، والكفل هو المثل المساوي ، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف ؛ والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها ، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده ، وقال بعضهم : إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا ـ كما قاله ابن عباس ـ حين سأله عنه نافع بن الأزرق ، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على مساءته مقيتا

وروي ذلك عن جماعة من التابعين ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت ، فإنه يقوي البدن ويحفظه ، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات ، وأصله مقوت فأعلّ كمقيم ؛ والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير.

٩٤

وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً)(٩٣)

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) ترغيب كما قال شيخ الإسلام : في فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق ، وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة ، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عزوجل ، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي : إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب ـ وقد تقدم ذكر القتال ـ عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام ، والتحية مصدر حيى أصلها تحيية ـ كتتمية ، وتزكية ـ وأصل الأصل تحييي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها ، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب : الدعاء بالحياة وطولها ، ثم استعملت في كل دعاء ، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول : حياك الله تعالى ، ثم استعملها الشرع في السلام ، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وقال سبحانه : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النور : ٦١] ، وفيه على ما قالوا : مزية على قولهم : حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات ، وربما تستلزم طول الحياة ، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك ، ورب حياة الموت خير منها.

٩٥

ألا موت يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه

ألا رحم المهيمن نفس حرّ

تصدق بالممات على أخيه

وقال آخر :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرجاء

ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء ، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول ، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية ، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير ـ أن رجلا سلم عليه فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة : ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته ـ وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ، ونيل المنافع ودوامها ونمائها ، وقيل : يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له ، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال : كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت : السلام عليكم فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى ، ثم أتيته مرة أخرى فقلت : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته ، ولا يتعين ما ذكر للزيادة ، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته ، فما في الدر من أن المراد لا يزيد على ـ وبركاته ـ غير مجمع عليه (أَوْ رُدُّوها) أي حيوا بمثلها ؛ و (أَوْ) للتخيير بين الزيادة وتركها ، والطاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب ، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل ، فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال : السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة» وورد في معناه غير ما خبر.

وقد نصوا على أن جواب ـ السلام ـ المسنون واجب ، ووجوبه على الكفاية ، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لأن الحق لله تعالى ، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود ، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه ـ يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين بر : صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته ، وقيل : لا ، وظاهر النهاية ترجيحه ـ وعليه الشنيعة ـ قالوا : ولو رد صبي أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثمّ الدعاء ، وهو منه أقرب للإجابة ، وهنا الأمن ، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزئ تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة ـ ويسقط بردّ العجوز.

وفي رد الشابة قولان : عندنا ، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك ، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج ، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى ، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل ، أما مشتهاة

٩٦

ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي ، ومثله ابتداؤه ، ويكره له ردّ سلامها ومثله ابتداؤه أيضا ، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده ؛ والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا ، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ ، ومن ثمّ حلت الخلوة بامرأتين ، والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردّا ، وفي الدر المختار لو قال : السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره ، ولو قال : يا فلان أو أشار لمعين سقط ، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم ، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار ، ولا بدّ في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع ، نعم إن مرّ عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه ، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير ، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه ، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداء وردا ، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر ، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله : وعليك كما في الخانية ، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح ، ولا يسلم ابتداء على كافر لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري ، وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط ، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي : إنه يسن ولا يجب ، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر ، وعليك السلام ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار ، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك ـ فقيل له فيه فقال : أليس في رحمة الله تعالى يعيش.

وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية : إن ـ حيوا بأحسن منها ـ للمسلمين (أَوْ رُدُّوها) لأهل الكتاب ، وورد مثله عن قتادة ، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي ، والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد ـ كما قال الله تعالى عليك ـ أي هو عدوك ، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم ، أو يعطي الجزية ذليلا ، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء ، بقي الخلاف في الإتيان بالواو عند الردّ له ، وعامة المحدثين ـ كما قال الخطابي ـ بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو ، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه ، والدخول فيما قال ، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه ، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ما قلتم ولا يخفى خفاء ذلك ، وإن أيده بما ظنه شيئا. فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه ، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام : «السام عليك ، بل عليكم السام واللعنة ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تكوني فاشحة ، قالت : أو لم تسمع ما قالوا؟! قال : رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم ، بل العلم هو المدار ، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما ، وتكفي إشارة الأخرس ابتداء وردا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام.

وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها ـ إن لم يرد لفظا ـ الفور فيما يظهر ، ويحتمل خلافه ، ولو قال لآخر : أقرئ فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة ، ويجب أداؤها ، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي

٩٧

بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا ، وكذا إن سكت أخذا من قولهم : لا ينسب لساكت قول ، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه ، وإذا قلنا بالوجوب ، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه ، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب ، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل : قل له فلان يقول : السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي ، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة ، فيقول : وعليك وعليه‌السلام للخبر المشهور فيه.

وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز ، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره ، وقول المجموع : لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي ، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره ، وإن شرع سلامه ، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطي ، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل ، وإن لم يرد ، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام ، والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير ، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم ، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره ، وصرح في الضياء بعدم وجوب الرد لو قال المسلم : السلام عليك بجزم الميم ، وكأنه على ما في تحفتنا لمخالفة السنة ، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا.

وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداء وجوابا عليك السلام وعكسه ، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين ، وأنه يجزئ سلاما عليكم ، وكذا سلام الله تعالى ، بل وسلامي عليك وعكسه ، واستظهر إجزاء سلمت ، وأنا مسلم عليك ، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزئ في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحوهما ، ولا بأس فيما قالوه عندي ، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ ، وقال بعض الجماعة : السلام معرفة تحية الأحياء ، ونكرة تحية الموتى ، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون.

وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم ، والأفضل في الرد واو قبله ، ويجزئ بدونه على الصحيح ، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة ، وإن نوى إضمار الآخر ، وفي الكشف ما يؤيده ، والخبر الذي فيه الاكتفاء ـ بو عليك ـ في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة ، بل المراد منه أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب بمثل ما سلم به عليه ، ولم يزد كما يشعر به آخره ، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ، ثم رد على الرجل السلام» والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك ، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداء عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام ، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء ، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل ـ كإبراء المعسر أفضل من إنظاره ـ ويؤخذ من قولهم : ابتداء أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به ، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا ، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه ، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان ، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده ،

٩٨

فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه» وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد ، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة ، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم ، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإن السكنة تردّ عليه ، وفي الآكام إن في كل بيت سكنة من الجن ، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير ، وماش على واقف أو مضطجع ، وراكب عليهم ، وراكب فرس على راكب حمار ، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب ، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير ، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع ، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده ـ كما قيل ـ وإلا لزم كلّا الرد ، وكره أصحابنا السلام في مواضع ، وفي النهر عن صدر الدين الغزي :

سلامك مكروه على من ستسمع

ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع

مصلّ وتال ذاكر ومحدث

خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع

مكرر فقه جالس لقضائه

ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا

مؤذن أيضا مع مقيم مدرس

كذا الأجنبيات الفتيات أمنع

ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم

ومن هو مع أهل له يتمتع

ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة

ومن هو في حال التغوط أشنع

ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا

وتعلم منه أنه ليس يمنع

كذلك أستاذ مغنّ مطير

فهذا ختام والزيادة تنفع

فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم ، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد ، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح ، وكرهوه لقاضي الحجة ونحوه كالمجامع ، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ.

ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع ، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة ، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل ، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي ، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر ، وأوجب الرد عليه ، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداء ، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز ، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك ، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه ، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه ، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة ، وعلى ملب ، وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض ، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر ، وقال كثيرون : حرام للحديث الحسن أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عنه ، وعن التزام الغير ، وتقبيله ، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا ، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك.

وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني لحديث «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى

٩٩

عنهما ، ولا يعدّ ـ نحو صبحك الله تعالى بالخير ، أو قواك الله تعالى ـ تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا ، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك ، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ، فقال الراد : عليك السلام فقد أجزأه لكنه خلاف الأولى ، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن ، والجواب بالمثل ، وليس ما ذكر شيئا منهما. وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين ، وقيل : المراد بها الهدية والعطية ، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب ـ وهو قول قديم للشافعي ـ ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه ، وعلل بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها ، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي :

قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي

بثانية والمتلف الشيء غارمه

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية : أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه ، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه ، ولعل مراده رحمه‌الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك ، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدي إلى الشخص مما تطيب به حياته (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم ؛ ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا.

هذا «ومن باب الإشارة في هذه الآيات» (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ) أنفسهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ) عقولهم وينازعونها (فِي سَبِيلِ) طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) فوليه ضعيف ، عاذ بقرملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) أي قال لهم المرصدون (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) عن محاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية (وَآتُوا الزَّكاةَ) والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح ، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) حين أداء ما أمروا بأدائه (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لضعف استعدادهم (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) فلا يستطيعون هجرهم ، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم ، أو إعراضهم عنهم ، وقالوا بلسان الحال : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) الآن (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الموت الاضطراري ، فالمنية ولا الدنية ، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقة مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة ، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم ـ ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون ـ (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) أي أجساد قوية :

فمن يك ذا عظم صليب رجا به

ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي المحجوبين (حَسَنَةٌ) أي شيء يلائم طباعهم (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيضيفونها إلى

١٠٠