روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع ، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف.

وقيل : الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون.

وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة ، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين ، والمراد بالأكثر من لم يؤمن (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف ، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها ، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد ، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين ، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به ، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر ، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم ، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه ـ مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية ـ مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته ، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر ، من كل شر ، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب :

فكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها ، وقيل : إنما قال : (بِشَرٍّ) لوقوعه في عبارة المخاطبين ، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير ، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال : أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به ، ثم قالوا ـ كما في رواية الطبراني ـ لا نعلم دينا شرا من دينكم ، فأنزل الله تعالى الآية ، وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين ـ بأنبئكم ـ هم أهل الكتاب. وقال بعضهم : المخاطب هم الكفار مطلقا ، وقيل : هم المؤمنون ، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك ، فالجمهور على ما قدمناه ، وقيل : الإشارة إلى الأكثر الفاسقين ، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره ، وليس كالضمير ، أو لتأويله بالمذكور ونحوه.

وقيل : الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب ، والمراد أن السلف شر من الخلف (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي جزاء ثابتا عنده تعالى ، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب ، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] حيث لم يقل سبحانه ـ يرى جزاءه ـ إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير ، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من (بِشَرٍّ) ، وقيل : يجوز أن تجعل مفعولا له ـ لأنبئكم ـ أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء ، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم ، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها ، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر ، وقرئ «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو ، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة ، وقوله سبحانه : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) خبر لمبتدإ محذوف بتقدير مضاف قبله

٣٤١

مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك ، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية ـ كما قال الزجاج ـ إما على حالها ـ أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل : ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل : هو دين من لعنه إلخ ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل : هو من لعنه الله إلخ.

وجوز ـ ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل ـ أن يكون بدلا من شر ، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا ، والاحتياج إليه هاهنا ـ ليخرج من كونه بدل ـ غلط ، وهو لا يقع في فصيح الكلام ، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى ، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر ، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه ، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي مسخ بعضهم قردة ـ وهم أصحاب السبت ـ وبعضهم خنازير ـ وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام ـ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت ، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ، وضمير (مِنْهُمُ) راجع إلى ـ من ـ باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه ، وكذا الضمير في قوله سبحانه : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) فإنه عطف على صلة ـ من ـ كما قال الزجاج ، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد ، وهو معطوف على منصوب (جَعَلَ) أي وجعل منهم من عبد إلخ ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين ، والمراد بالطاغوت ـ عند الجبائي ـ العجل الذي عبده اليهود ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان ، وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى ، والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة ، قال شيخ الإسلام : وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان ، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد ، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به ، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية. ولو روعي ترتيب الوجود ، وقيل : من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى.

وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي ، وأن كون الاتصاف ـ باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود به ـ في حيز المنع ، كيف وهم يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] إلا أن يقال : إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة ، وقيل : قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون ، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم ؛ وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك ، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا ، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي ، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام ، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال : والمراد من الطاغوت العجل ، وقيل : الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى ، فيعم الحكم دين النصارى أيضا ، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى ، فتدبر حقه.

وفي الآية كما قال جمع : عدة قراءات اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على

٣٤٢

صيغة الماضي المعلوم ، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها ، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال ، وخفض الطاغوت على أن (عَبَدَ) واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة ، ولذا قال الزمخشري : معناه الغلو في العبودية ، وأنشد عليه قول طرفة:

أبني لبني إن أمكم

أمة وإن أباكم عبد

أراد عبدا ، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا : ضمت الباء للمبالغة ، كقولهم ، للفطن والحذر : فطن وحذر ، بضم العين ، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة ، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم ، والنصب بالعطف على (الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) وقرئ (وَعَبَدَ) بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة ، والعطف على ـ من ـ بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف ، أو بالبدلية على ما قيل ، ولم يرتض.

وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها ، والعطف مثله في قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد «وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه ، والجر بالإضافة ، والنصب إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء ، أو عبد بالتنوين فحذف كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر ، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل ، والعطف على صلة ـ من ـ وعائد الموصول محذوف أي (عَبَدَ) فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث ، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة ، والطاغوت : يذكر ويؤنث كما مر ؛ وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل.

وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية ـ لعبد ـ وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له ، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا ، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال ، وجر «الطاغوت» فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد ـ كشارف وشرف ـ أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد ـ ككتاب وكتب ـ فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر.

وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد ـ كحطم وزفر ـ منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال ، ونصب «الطاغوت» على حد :

ولا ذاكر الله إلا قليلا

بنصب الاسم الجليل ، وقرئ «وعابد الشيطان» بنصب عابد ، وجر الشيطان بدل الطاغوت ، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرئ ـ «عباد» ـ كجهال ـ «وعباد» ـ كرجال جمع عابد أو عبد ، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم ، وقرئ «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر ، وجر «الطاغوت» وقرئ «عابدوا» بالجمع والإضافة ، وقرئ «عابد» منصوبا ، وقرئ «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله :

وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا

أي عدته كإقام الصلاة ، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد ـ كخادم وخدم ـ وقرئ «أعبد» كأكلب ، وعبيد جمع أو اسم جمع ، «وعابدي» جمع بالياء ، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن عبدوا» (أُولئِكَ) أي الموصوفون بتلك القبائح

٣٤٣

والفضائح وهو مبتدأ ، وقوله سبحانه : (شَرٌّ) خبره ، وقوله تعالى : (مَكاناً) تمييز محول عن الفاعل ، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم ، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم : سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه ، فكأن شرهم أثر في مكانهم ، أو عظم حتى صار مجسما.

وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر ، وقيل : يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا ، والمراد به جهنم وبئس المصير ، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال ، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام ، وتشديدا للتبكيت ، وجعلها ـ جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق ـ مما لا يكاد يستقيم.

(وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل ، وهو دين الإسلام والحنيفية ، وهو عطف على (شَرٌّ) مقرر له ، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم ، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه ، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك ، وقيل : للتفضيل على زعمهم وقيل : إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار.

وقال بعضهم : لا مانع أن يقال : إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا) نزلت ـ كما قال قتادة والسدي ـ في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا ، فالخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجمع للتعظيم ، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاءوكم أظهروا لكم الإسلام.

(وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك ، والجملتان في موضع الحال من ضمير (قالُوا) على الأظهر.

وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا ، وباء بالكفر ، و (بِهِ) للملابسة ، والجار والمجرور حالان من فاعل (دَخَلُوا) و (خَرَجُوا) والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال ، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول : إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا ، ودخول (قَدْ) في الجملة الحالية الماضوية ـ كما قال العلامة الثاني ـ لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة ، وإلا ـ فقد ـ إنما تقرب إلى حال التكلم ، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل : إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم ، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله ، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى ، وإن كان حالا كان حالا ، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا ، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر ـ وهو الذي يقابل الماضي ـ وبين ما يبين الحالة المذكورة ، ثم قال : ويمكن أن يقال : إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد ، فإذا قيل : جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه ، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد ، ثم قال : وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة (قَدْ) لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى.

ولذلك زيادة تفصيل في محله ، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته ـ أفرغ من يد تفت البرمع ـ لم يعلق بهم شيء

٣٤٤

مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عزوجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ ، ولذلك قال سبحانه : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) وفيه من الوعيد ما لا يخفى ، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه ، فدخل حرف التوقع لذلك ، واعترضه الطيبي بأن (قَدْ) موضوعة لتوقع مدخولها ، وهو هاهنا عين النفاق ، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا ، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله : «إن أمارات النفاق» إلخ فيجب المصير إلى المجاز ، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه ، وقال في الكشف معرضا به : إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له ، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره ، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل ، وإنما لم يقل سبحانه و (قَدْ خَرَجُوا) على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية ، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من أولئك اليهود ـ كما روي عن ابن زيد ـ والخطاب لسيد المخاطبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يصلح للخطاب ، والرؤية بصرية ، وقيل : قلبية ، وقوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) في موضع الحال من (كَثِيراً) الموصوف بالجار والمجرور ، وقيل : مفعول ثان ـ لترى ـ والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة ، وإيثار (فِي) على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه ، وإحاطته بأعمالهم ، وقد مرت الإشارة إلى ذلك.

والمراد بالإثم الحرام ، وقيل : الكذب مطلقا ، وقيل : الكذب بقولهم (آمَنَّا) لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم ، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي : (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه ، وقيل : المراد به الكفر ، وروي ذلك عن السدي ، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل ، والمراد من العدوان الظلم ، أو مجاوزة الحد في المعاصي ، وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم ، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي الحرام مطلقا ، وقال الحسن : الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور ـ فما ـ نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في ـ بئس ـ والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه ، وجوز جعل (ما) موصولة فاعل ـ بئس ـ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) قال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة ، وقال غيره : كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم ، و (لَوْ لا) الداخلة على المضارع ـ كما قرره ابن الحاجب وغيره ـ للتحضيض ، والداخلة على الماضي للتوبيخ ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم ، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم.

(عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما ، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي (لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا ، فإن

٣٤٥

كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة ، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ ، ولذا يقال للحاذق ، صانع ، وللثوب الجيد النسج : صنيع ـ كما قاله الراغب ـ ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب ، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له ، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين.

واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد ، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا ، أو غيرهما ، وقال الشهاب : إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار ، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل ، وفي الآية ـ مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ـ ما لا يخفى ، ومن هنا قال الضحاك : ما أخوفني من هذه الآية ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية ، وقرئ ـ لو لا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (وَقالَتِ الْيَهُودُ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعكرمة والضحاك قالوا : إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف عنهم ما كان بسط لهم ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع ، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس (يَدُ اللهِ) عزوجل (مَغْلُولَةٌ) وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل ، ولذلك نظائر تقدم كثير منها ، وأرادوا بذلك ـ لعنهم الله تعالى ـ أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، أو كناية عن ذلك ، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله :

أضل صواره وتضيفته

نطوف أمرها بيد الشمال

«وقول لبيد» :

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال : بسط اليأس كفيه في صدر فلان ، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان ، قال الشاعر :

وقد رابني وهن المنى وانقباضها

وبسط جديد اليأس كفيه في صدري

وقيل : معناه أنه سبحانه فقير ، كقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وقيل : اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا ، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل ، وكأنه حمل اليد على القدرة ، والغل على عدم التعلق.

وقيل : لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة ، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي ، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا ، والأقوال كلها كما ترى ، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير

٣٤٦

الحسن ، ولعل نسبته إليه غير صحيحة ، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول ، ولا يبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وعبدوا العجل ـ أن يعتقدوا اتصاف الله عزوجل بالبخل ويقولوا ما قالوا ، وقال أبو القاسم البلخي : يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر ، فحكي عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.

وقال آخر : إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه ؛ ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك ، وقيل : إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب ، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا ، ولا يخفى بعده (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بالبخل المذموم ـ كما قال الزجاج ـ ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم ، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة ، وقيل : تغل الأيدي حقيقة ، يغلون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم ، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا ، وقيل : هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول : سبني سب الله تعالى دابره ، أي قطعه لأن السبب أصله القطع ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، واستطيبه الطيبي ، وقال : إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله :

قالوا : اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت : اطبخوا لي جبة وقميصا

واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة ، وحكاه الطبرسي عن الحسن ، ثم قال : فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو ، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر ، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى ، ومن ذلك قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] ، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني ، ولا حاجة فيه إلى تجشم مئونة التقدير ، على أن كلام الحسن ـ فيما نرى ـ ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك (وَلُعِنُوا) أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه (بِما قالُوا) أي بسبب قولهم ، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع ، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول ، والقائل بخبريته قائل بخيريته ، وقرئ (وَلُعِنُوا) بسكون العين.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود ، وإليه ـ كما قيل ـ أشير بتثنية اليد ، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم ، وقيل : اليد هنا أيضا بمعنى النعمة ، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة ، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام ، وقيل : وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى ، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب ، وقيل : المراد من التثنية التكثير كما في (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة ، ونظير ذلك قول الشاعر :

فسرت أسرة طرتيه فغورت

في الخصر منه وأنجدت في نجده

فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة.

وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم : إن هذا من المتشابه ، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم ، وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أثبت لله عزوجل يدين ، وقال : «وكلتا يديه يمين» ولم يرو عن أحد من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أنه

٣٤٧

أول ذلك بالنعمة ، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا ، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن ، وفي مصحف عبد الله ـ بل يداه بسطان ـ يقال : يد بسط بالمعروف ، ونحوه مشية سجح وناقة سرح (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من (كَيْفَ) وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها ، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد ، وقد اقتضت الحكمة ـ إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يضيق عليهم ، و (كَيْفَ) ظرف ـ ليشاء ـ والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير (يُنْفِقُ) أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا ، وقيل : إن جملة (يُنْفِقُ) في موضع الحال من الضمير المجرور في (يَداهُ) واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه ، والحال لا يجيء منه ، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] إذ قيل : إن «شيخا» حال من اسم الإشارة ، والعامل فيه التنبيه ، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا ، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه ، أو كجزء فليس بممتنع ، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما ، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها ، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما ، ومن هنا قيل : بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدإ ، نعم التقدير خلاف الأصل ، والظاهر ، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع ، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) وهم علماؤهم ورؤساؤهم ، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن المشتمل على هذه الآيات ، وتقديم المفعول للاعتناء به (مِنْ رَبِّكَ) متعلق ـ بأنزل ـ كما أن (إِلَيْكَ) كذلك ، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام ـ كما قال شيخ الإسلام ـ الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف ، والموصول فاعل ـ ليزيدن ـ والإسناد مجازي ، و (كَثِيراً) مفعوله الأول ، و (مِنْهُمْ) صفته ، وقوله تعالى : (طُغْياناً وَكُفْراً) مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين ، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها ، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو ، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار ، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا ، ويحتمل أن يراد ـ بما أنزل ـ النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم ، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه ، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد ، ولم أر من ذكره.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) أي اليهود.

وقال في البحر : الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى) ولشمول قوله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) للفريقين ، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد.

(الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم ، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة ، و (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق ، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية

٣٤٨

والنسطورية ، وحالهم حالهم في ذلك ، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى ، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم ، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين ، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين : إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى ، ولا تجتمعان على قتالك وحربك ، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام.

وفرق السمين بين (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق ـ بألقينا ـ وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا ، وليست حقيقة الغاية مرادة ، ولم يجوز أن يتعلق ـ بالعداوة ـ لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين ، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم ، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب ، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ، ويسمونها نار الحرب ، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم ، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم ، وحكي في البحر قولين في الآية : فعن قوم أن الإيقاد حقيقة ، وكذا الإطفاء أي إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفئوها ، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.

وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة ، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار ، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين ، ولعل القول بالكناية ألطف منهما ، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد ، وقيل : هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا ، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم عزوجل رسوله عليه الصلاة والسلام ، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم. وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع ، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر ، وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى ، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا ، وإطفاء النار ـ على هذا ـ عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى ، و (لِلْحَرْبِ) متعلق ـ بأوقدوا ـ واللام للتعليل ، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار ، وهو الأوفق بالتسمية (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله ، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب ؛ كتغيير صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك ، و (فَساداً) إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء ، أو في موضع المصدر ، أو حال من ضمير (يَسْعَوْنَ) أي يسعون للفساد ، أو سعي فساد ، أو مفسدين.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) بل يبغضهم ، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم ، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا ، وإما للعهد ، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد.

والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر ، وجعلها بعضهم في موضع الحال ، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل ، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط ، وذكر الإنجيل ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم ، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم ، والمراد بهم معاصر و

٣٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا (آمَنُوا) بما نفي عنهم الإيمان ، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة : ٥٩] إلخ ، وما لحق من قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) إلخ.

وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستلزم للكفر بكتابهم ، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم ، وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره ، المتعلق بما أنزل الله ، وهو ميل إلى التعميم ، وكذا عمم في قوله تعالى : (وَاتَّقَوْا) فقال : أي ما حرم الله تعالى.

وقال شيخ الإسلام : ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة ، ولم نؤاخذهم بها ، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى ، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام (وَلَأَدْخَلْناهُمْ) مع ذلك (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، وجعل أبو حيان تكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى ، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، فالآية من باب التوزيع ، والظاهر عدمه ، وتكرير اللام لتأكيد الوعد ، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم ، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد ، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا.

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بين جنات الفردوس وجنات عدن ، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة ، قيل : فمن يسكنها؟ قال : الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه ، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي ، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات : (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وإن اختلفت مراتب النعيم فيها (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبشرات بعثته ، وليس المراد مراعاة جميع ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها ، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه ـ كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ واختاره الجبائي وغيره ، وقيل : المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل ـ ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال ـ فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختاره أبو حيان ، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم ، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه ، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه ، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل ، وتقديم (إِلَيْهِمْ) لما مر آنفا ، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة.

(لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها : كما قال سبحانه : (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقيل : المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع ، وقيل : بما يهدل من الثمار من رءوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض ، وقيل : بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم ، وقيل : المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل : لأكلوا من كل جهة ، وجعله الطبرسي نظير قولك : فلان في الخير من

٣٥٠

قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها ، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا ، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها ، ومفعول ـ أكلوا ـ محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك : فلان يعطي ويمنع ، و (مِنْ) في الموضعين لابتداء الغاية.

وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل ، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي ، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض ، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم ، وخولف بين العبارتين ، فقيل : أولا : (آمَنُوا وَاتَّقَوْا) وثانيا (أَقامُوا) ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل : ويشبه أن يكون (ما) في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم ، فكأنه قيل في حقهم : (لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا) لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا ، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره ، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام ، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله ، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص ، وجعلها كالشرطية الأولى ، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية ـ كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا ـ لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال ، والقول ـ بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم ـ لا أراه إلا منكرا من القول وزورا.

وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه : (لَأَكَلُوا) إلخ بقوله : لوسع عليهم الرزق ، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها ، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين ، ولو حمل على الترقي ، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى ، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه ، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء ، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين ، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة ـ كما روي عن الربيع ـ وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما قال مجاهد والسدي وابن زيد ـ واختاره الجبائي ، وأولئك ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود ـ وثمانية وأربعون من النصارى ، وقيل : المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل : هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل : (مِنْهُمْ) إلخ ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد ، (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهم الأجلاف المتعصبون ـ ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم ..

(ساءَ ما يَعْمَلُونَ) من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه.

٣٥١

وقيل : من الإفراط في العداوة (وَكَثِيرٌ) مبتدأ ، و (مِنْهُمْ) صفته ، و (ساءَ) كبئس للذم.

وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب ـ كقضو زيد ـ أي ما أقضاه ، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم ، وبعضهم يقول : هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام ، وتمييزها محذوف ، و (ما) موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه ، ويجوز أن تكون (ما) نكرة في موضع التمييز ، والجملة الإنشائية خبر للمبتدإ ، والكلام في ذلك شهير.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي صلاة الشهود والحضور الذاتي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي زكاة وجودهم (وَهُمْ راكِعُونَ) أي خاضعون في البقاء بالله.

والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه ، والإمامية ـ كما علمت ـ يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا فصل ، وقد علمت منا ردهم ـ والحمد لله سبحانه ـ رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان ، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة ، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب ، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة ، وبها يذب عن حقيقة الإسلام ، وبالظاهرة يذب عن صورته ، وهي مرتبة القطب في كل عصر ، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام إمارته ، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره ، وهي والنبوة رضيعا ثدي ، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله : «خلقت أنا وعلي من نور واحد» وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم.

ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عزوجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق ، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم ، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا ، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الترتيب المعلوم ، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل ، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة ، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار ، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة ، وبعضهم يصرح بذلك ، ويقول : بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال : ليس بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل ، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) على أعدائهم الأنفسية والآفاقية ، وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك (هُزُواً وَلَعِباً) فطعنوا فيه (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم المقتصرون على الظاهر فقط ـ كاليهود ـ أو على الباطن فقط ـ كالنصارى ـ (وَالْكُفَّارَ)

٣٥٢

الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق (أَوْلِياءَ) للمباينة في الأحوال (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) به عز شأنه (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي الحضور في حضرة الرب (اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار ، فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ) وتنكرون (مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له ، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار (أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً) لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم ، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية ، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية (وَقالَتِ الْيَهُودُ) لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر (يَدُ اللهِ) تعالى عما يقولون (مَغْلُولَةٌ) فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار (وَلُعِنُوا) أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية (بِما قالُوا) من تلك الكلمة العظيمة (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ) بهما (كَيْفَ يَشاءُ) فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك ، وإلى الظاهر والباطن أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بالليل والنهار» فيما

أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار» (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي (وَاتَّقَوْا) شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم ، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة (وَاتَّقَوْا) الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل :

وإذا لم تر الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

(لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) التي ارتكبوها (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) في مقابلة إيمانهم واتقائهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ) بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات (وَالْإِنْجِيلَ) بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية ، وبالأول يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت ، وبالثاني يهتدون إلى معرفة عالم الملك ، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات ، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب ، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في (لَأَكَلُوا) إلخ : أي لوسع عليهم خير الدارين ، وقلت : هذا في حق من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل ، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته ، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض ، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر ، واختصاص (مِنْ) الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام : «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله

٣٥٣

سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات ، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عزوجل بركات هي أزكى من الأولى ، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين ، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم ، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام ، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى.

وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه : (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِمْ) الأمور الحاصلة بمجرد الفيض ، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين.

ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر ، فتدبر (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) ، قيل : عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا

٣٥٤

أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٨١)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى ، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبليغ ما أوحي إليه. (بَلِّغْ) أي أوصل الخلق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي جميع ما أنزل كائنا ما كان (مِنْ رَبِّكَ) أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك ، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي ما أمرت به من تبليغ الجميع.

(فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به ، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به ، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء وخفاء أصلا وفرعا ، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب ، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته ، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة ، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع ، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب.

ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء ، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة ـ جعله نظير : أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ ، وأراد ـ وشعري شعري ـ المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته ، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها ، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها ، وكذلك كما قال ابن المنير : أريد في الآية ـ لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام ـ أنه عظيم شنيع ينعي على مرتكبه ، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام ، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد ، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) ولم يقل : وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى ، وهذا أحسن رونقا وأظهر

٣٥٥

طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء ، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر ، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز ، فلا معاب عليه في ذلك ، وقيل : إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا ، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت».

وقيل : إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا ، وقيل ـ وليته ما قيل ـ المراد بما أنزل القرآن ، وبما في الجواب بقية المعجزات ، وقيل : غير ذلك ، واستدل بالآية على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكتم شيئا من الوحي ، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية.

وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام ، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه ، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه ، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] قال : أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه ، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته ، وقال الواسطي ـ ألقى إلى عبده ما ألقى ـ ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا ، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا ، قال الطيبي : وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين : فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم ـ أراد عنقه ـ وأصل معناه مجرى الطعام ، وبذلك فسره البخاري ، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة ، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ، وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي : أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

ومن ذلك علم وحدة الوجود ، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل ، وقالوا : إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل ، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار ، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار.

وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه : وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة ، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده ، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام ، حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق على فهمي ، فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن ، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى ، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق ، فاعلم ذلك انتهى.

٣٥٦

وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) دون ما تعرفنا به إليك ، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة ، وقيل : يفهم ذلك من لفظ الرسالة ، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير ، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام ، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وقال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الترمذي وغيره : «ستكون فتن ، قيل : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم» ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : جميع ما حكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن ، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ، وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، فنوّعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه.

وقال بعضهم : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها ـ بالتغابن ـ ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان ، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له ، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد ، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة ، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان ، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية.

وقول بعضهم : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت ، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة ، قال : قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه : هل عندكم كتاب خصكم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ـ وكانت متعلقة بقبضة سيفه ـ قال : قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.

ويفهم منه ـ كما قال القسطلاني ـ جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة ، وما عند الصوفية ـ على ما أقول ـ كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء ، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار ، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري ـ حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون

٣٥٧

أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده.

وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة ، قال : كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل ، فقال : إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس ، فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوداء في بيضاء ، وحمل ـ وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار ـ غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن. وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش ، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت ، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم ، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكنى عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله : أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان ، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة ، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، فمات قبلها بسنة ، وأيضا قال القسطلاني : لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال : إن الناس يقولون : أكثر أبو هريرة الحديث ، ولو لا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) إلى قوله تعالى : (الرَّحِيمِ) [البقرة : ١٥٩ ، ١٦٠] إلى آخر ما قال ، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار ؛ فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم ، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص ، فكيف يستدل به لذلك ، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان ، ودونه قطع الأعناق.

فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه ، ومثله ما روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه ، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل ، أو أنه أمر وراء الشريعة ، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا ، فقد قال الشعراني قدس‌سره في الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية : سمعت سيدي عليا المرصفي يقول : لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة مؤيدة للشريعة ، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية ، وإنما هو عينها.

وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا : من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا ، حتى قالوا : شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة ، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء ، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما‌السلام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة.

ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية : من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا ، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم ، وما بعد الحق إلا الضلال ، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد ، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل ، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين ، وكم ترك الأول للآخر ، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث ، مع مخالفة بعضهم بعضا ؛ فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم

٣٥٨

من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة ، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة ، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف ، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك» خلافة علي كرم الله تعالى وجهه ، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه.

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم ، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أن عليا ولي المؤمنين (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال إسماعيل بن محمد الحميري ـ عامله الله تعالى بعدله ـ من قصيدة طويلة :

عجبت من قوم أتوا أحمدا

بخطة ليس لها موضع

قالوا له : لو شئت أعلمتنا

إلى من الغاية والمفزع

إذا توفيت وفارقتنا

وفيهم في الملك من يطمع؟

فقال : لو أعلمتكم مفزعا

كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا

كصنع أهل العجل إذ فارقوا

هارون فالترك له أورع

ثم أتته بعده عزمة

من ربه ليس لها مدفع

أبلغ وإلا لم تكن مبلغا

والله منهم عاصم يمنع

فعندها قام النبي الذي

كان بما يأمره يصدع

يخطب مأمورا وفي كفه

كف على نورها يلمع

رافعها ، أكرم بكف الذي

يرفع ، والكف التي ترفع

من كنت مولاه فهذا له

مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا

وظل قوم غاظهم قوله

كأنما آنافهم تجدع

حتى إذا واروه في لحده

وانصرفوا عن دفنه ضيعوا

ما قال بالأمس وأوصى به

واشتروا الضر بما ينفع

٣٥٩

وقطعوا أرحامهم بعده

فسوف يجزون بما قطعوا

وأزمعوا مكرا بمولاهم

تبا لما كانوا به أزمعوا

لا هم عليه يردوا حوضه

غدا ، ولا هو لهم يشفع

إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال ، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا ، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين ، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال ، فنقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له : غدير خم ، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا ، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك ، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك.

فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال : لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة تعجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : ويلك ما هذا؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ، قال : ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فانتزع الحلل من الناس فردها في البز ، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.

وأخرج عن زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد قال : اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى ـ أو في سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد ، وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال : غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه ، فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تغير ، فقال بريدة : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات ، وروي بإسناد آخر تفرد به ، وقال الذهبي : إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن ، ثم قال : كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض ، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه ، فقال : من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه.

وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة ، ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه ، فقال : ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه : هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ـ وهذا ضعيف ـ فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم ، وفي السند أيضا ـ أبو إسحاق ـ وهو شيعي مردود الرواية.

٣٦٠