روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما فعلت فيها؟ قال : تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال : عالم ، وقرأت ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها ، قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» ، وقيل : إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه ، وقيل : المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى. (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى : ٢٠] الآية (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك ، وقد يقال : ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي ، والأول مسموع ، والثاني مبصر ، وقيل : السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء ، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف.

وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام ، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة ، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك (شُهَداءَ) بالحق (لِلَّهِ) بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي ، وانتصاب (شُهَداءَ) على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن.

وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه ، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية : أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد ، وقيل : إنه صفة (قَوَّامِينَ) ، وقيل : إنه خبر (كُونُوا) وقوّامين حال (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد هاهنا ، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وقيل : الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد ، والجار ـ على ما أشير إليه ـ ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم ، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه (شُهَداءَ) أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه ـ بقوّامين ـ وفيه بعد ، (وَلَوْ) إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية ، وقيل : جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم ، وعطف الأول ـ بأو ـ لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة (إِنْ يَكُنْ) أي المشهود عليه (غَنِيًّا) يرجى في العادة ويخشى (أَوْ

١٦١

فَقِيراً) يترحم عليه في الغالب ويحنى ، وقرأ عبد الله ـ إن يكن غني أو فقير ـ بالرفع على أن كان تامة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وانظر لهما من سائر الناس ، ولو لا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم ، وقرأ أبيّ «فالله أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف ـ بأو ـ الإفراد كما قيل : لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء ، وقيل : إن (أَوِ) بمعنى الواو ، والضمير عائد إلى المذكورين ، وحكي ذلك عن الأخفش ، وقيل : إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام ، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه ، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين ، وقد يكونان فقيرين ، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا ، فحيث لم تذكر الأقسام أتي ـ بأو ـ لتدل على ذلك ، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه ، وقيل : غير ذلك ، وقال الرضي : الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض ـ بأو ـ يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد ، وذلك يدور على القصد ، فيجوز : جاءني زيد أو عمرو وذهب ، أو وهما ذاهبان إلى المسجد ، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير ، نعم قيل : إن الظاهر الإفراد دون التثنية ، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة.

وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد ، فتأمل (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي هوى أنفسكم (أَنْ تَعْدِلُوا) من العدول والميل عن الحق ، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له ، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي ، فالاحتمالات أربعة : الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه ، فلا حاجة إلى تقدير ، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا ، والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق ، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول ، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك ، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر ، وقيل : اللي المطل في أدائها ، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

(أَوْ تُعْرِضُوا) أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود ، وقيل : إن الخطاب للحكام ، واللي الحكم بالباطل ، والإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين ، ونسب هذا إلى السدي ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا ، وقرأ حمزة (وَإِنْ تَلْوُوا) بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة ، وقيل : إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة ، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) من اللي والإعراض ، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر (خَبِيراً) عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك ، وهو وعيد محض على القراءة الأولى ، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد ، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير ، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى ، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر ، وحملها

١٦٢

بعضهم على ما يشمل القسمين ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده.

وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم ، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا ، وأبعد منه بمراحل ـ بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة ـ كون المراد منها كونوا (شُهَداءَ لِلَّهِ) تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك (إِنْ يَكُنْ) أي الشاهد (غَنِيًّا) تضر شهادته بغناه (أَوْ فَقِيراً) تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه (فَاللهُ) تعالى (أَوْلى بِهِما) من أنفسهما ، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما ، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي ؛ وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم ، وهو ظاهر على رأي ، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق ، وفي الشهادة حقوق ، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى ، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه ، وروي هذا عن الحسن ، واختاره الجبائي ، وقيل : الخطاب لهم ، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا ، أو (آمَنُوا) بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي ، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وقيل : الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى (آمَنُوا) أخلصوا الإيمان ، واختاره الزجاج وغيره.

وقيل : لمؤمني اليهود خاصة ، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم ، وقيل : لمؤمني أهل الكتابين ، وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : للمشركين المؤمنين باللات والعزى ، وقيل : لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف: ١٧٢] والكتاب الأول القرآن ، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية ، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد : (وَكُتُبِهِ) والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب ، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها ، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه.

ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود ، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل : آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ـ نزل ، وأنزل ـ على البناء

١٦٣

للمفعول ، واستعمال ـ نزل ـ أولا و (أَنْزَلَ) ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع ، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو ـ كما قال العلامة الثاني ـ قد يرجع إلى كل واحد ، وقد يرجع إلى المجموع ، والتعويل على القرائن ، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء ، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف ـ ببعد ـ والمشهور أن المراد ـ بالضلال البعيد ـ الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه ، ويجوز أن يراد (ضَلالاً بَعِيداً) عن الوقوع ، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له ، وزيادة ـ الملائكة واليوم الآخر ـ في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا ، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل ، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه ، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عزوجل وبين الرسل في إنزال الكتب ، وقيل : اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة ، وقرئ بكتابه على إرادة الجنس (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي ، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان ، ثم ارتدوا ، ثم أظهروا ، ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم ، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البر والبحر ، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ثم يظهرون ، ثم يقولون : قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون ، ويستمرون على الكفر إلى الموت ، وذلك معنى قوله تعالى : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران : ٧٢] ، وقيل : هم اليهود آمنوا بموسى عليه‌السلام ، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم ، ثم آمنوا عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى عليه‌السلام ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن قتادة ، وقال الزجاج والفراء : إنهم آمنوا بموسى عليه‌السلام ثم كفروا بعده ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى عليه‌السلام ، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام ، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه‌السلام ، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر ، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير ، ثم كافرين بعيسى عليه‌السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه‌السلام وغيره ، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه‌السلام والإنجيل.

وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس ، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم ، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد : إن كنت لمستتيبه ثلاثا ، ثم قرأ هذه الآية وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال : يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب ، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة ، وعليه فالمراد من قوله سبحانه : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا ، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور : المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر

١٦٤

منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.

وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك ، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم ، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.

وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة ، وإن كان ـ بأن ـ ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب باختيار الشق الأول ، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة ، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان ، والفعل المصدر ـ بأن ـ يدل عليهما فيجوز الإخبار به ـ وإن لم يجز بالمصدر ـ ولا يخفى ما فيه ، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ووضع فيه (بَشِّرِ) موضع أنذر تهكما بهم ، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل : موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) في موضع النصب ، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين ، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب ، والمراد بالكافرين قيل : اليهود ، وقيل : مشركو العرب ، وقيل : ما يعم ذلك والنصارى ، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض : إن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتم فتولوا اليهود.

(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي متجاوزين ولاية المؤمنين ، وهو حال من فاعل (يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ) أي المنافقون (عِنْدَهُمُ) أي الكافرين (الْعِزَّةَ) أي القوة والمنعة وأصلها الشدة ، ومنه قيل : للأرض الصلبة : عزاز ، والاستفهام للإنكار ، والجملة معترضة مقررة لما قبلها ، وقيل : للتهكم ، وقيل : للتعجب. (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي إنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم.

وقيل : بيان لوجه التهكم ، أو التعجب ، وقيل : إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء (فَإِنَّ الْعِزَّةَ) إلخ ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة ، و (جَمِيعاً) قيل : حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض ، وقوله سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم.

وقرأ ـ ما عدا عاصما ـ ويعقوب (نَزَّلَ) بالبناء لما لم يسم فاعله ، والجملة حال من ضمير (يَتَّخِذُونَ) مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك ، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل : تتخذونهم أولياء ؛ والحال أنه تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) قبل هذا بمكة (فِي الْكِتابِ) أي القرآن العظيم الشأن.

١٦٥

(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) [الأنعام : ٦٨] الآية ، وهذا يقتضي الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة ، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! و (أَنْ) هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي إنه إذا سمعتم ، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم ، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة ـ كما قال أبو حيان ـ في حيز المنع ، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة ، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب ، و (أَنْ) وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به ـ لنزل ـ وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية ، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم ، وتكون (أَنْ) مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه ، و (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ) في موضع الحال من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة ، فإن قيد القيد قيد ، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات ، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها ، والضمير في (مَعَهُمْ) للكفرة المدلول عليهم ب (يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ) والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء ، وقيل : الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد ، وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل و (إِذا) ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل ، و ـ مثل ـ خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر ، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره ، وقيل : لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير ؛ أو لأنه مضاف لجمع فيعم ، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] ، والجمهور على رفعه ، وقرئ شاذا بالنصب ، فقيل : إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك : زيد مثل عمرو في أنه حال مثله ، وقيل : إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢] ، وفي غيرها كقوله :

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع ـ كدون وغير وبين ـ ولم يصحح ذلك في ـ مثل ـ وأعربه حالا من الضمير المستتر في ـ حق ـ في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ـ ما ـ أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب ، والمراد من المنافقين إما المخاطبون ، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق ، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر ، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط ، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة (إِنَّ اللهَ) إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر ، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة ، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟.

وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة ، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا ، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا

١٦٦

فلا دليل عليه ، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد ، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر ، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة ، فقد قال الله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين : إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون ، والمراد بمن يكفر ويستهزئ أعم من المنافقين والكافرين ، وضمير (مَعَهُمْ) للمفهوم من الفعلين ، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال : كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة ، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل ، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة.

وقال شيخ الإسلام خواهرزاده : الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت ، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا ، ومن تأمل قوله تعالى : (رَبَّنَا اطْمِسْ) [يونس : ٨٨] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي ، وقول بعضهم : إن من جاءه كافر ليسلم فقال : اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله بايعه فكف صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير ، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا.

واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا ، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر ، فقيل له في ذلك : فتلا الآية ، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر ، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى ، ومن هنا قيل : إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم ، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع ، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط ، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه ، وعلى هذا ـ الذي ذهب إليه بعض المحققين ـ يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم ، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل ، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا ، والخطاب في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) للمؤمنين الصادقين بلا خلاف ، والموصول إما بدل من ـ الذين يتخذون ـ أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين.

وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم ، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف ، والتربص الانتظار ، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر ، والفاء في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء (قالُوا) أي لكم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) أي حظ من الحرب ، فإنها سجال (قالُوا) أي المنافقون للكفار (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم ، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٦٧

وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم : وقيل : المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ) الدخول في جملة (الْمُؤْمِنِينَ) وهو خلاف الظاهر ، وأصل الاستحواذ الاستيلاء ، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا ، وقال أبو زيد : إنه قياسي ، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن ، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين ، وقيل : سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه ، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل : تغليب ، وقيل : حذف أي بينكم وبينهم (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا ، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال ، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم ، وحكي ذلك عن السدي ، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى ، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه ، ونحن نقول : يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه ، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح ، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته ، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة ، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب ـ وهو ظاهر ـ فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي ، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه.

وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال ، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه ، وعن الحسن ـ واختاره الزجاج ـ أن المراد يخادعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] (وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار ، وقيل : خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن ، أيضا ـ والسدي ـ واختاره جماعة من المفسرين ـ وقد مر تحقيق ذلك ، ولله تعالى الحمد.

والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر (إِنَ) أو مستأنفة كالأولى.

(وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها ، وقرئ بفتح الكاف وهما جمعا كسلان.

(يُراؤُنَ النَّاسَ) ليحسبوهم مؤمنين ، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد

١٦٨

في كلامهم ـ كنعم وناعم ـ وقراءة عبد الله وإسحاق ـ يروون ـ تدل على ذلك ، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها ، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة ، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه ، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل : فما ذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل : (يُراؤُنَ) إلخ ، أو حال من ضمير (قامُوا) أو من الضمير في كسالى.

(وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) عطف على (يُراؤُنَ) ، وقيل : حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا ، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله ، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب ، وقيل : إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا ، وروي ذلك عن قتادة ، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه.

وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : ـ لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل ـ وقيل : المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح ، وإليه ذهب الجبائي ، وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا» ، وقيل : الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه ، وجوز أن يراد بالقلة العدم ، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ.

وأجيب بأن المعنى (لا يَذْكُرُونَ اللهَ) تعالى (إِلَّا) ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال ، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز ، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر ، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه ، وقال بعض المحققين : في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وفيه ـ وإن كان أهون من الأول ـ ما فيه ، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط ، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) حال من فاعل (يُراؤُنَ) أو من فاعل (يَذْكُرُونَ) وجوز أن يكون حالا من فاعل (قامُوا) أو منصوب على الذم بفعل مقدر ، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين ، ولذا أضيف (بَيْنَ) إليه ، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله :

الألمعي الذي يظن بك الظن

كأن قد رأى وقد سمعا

والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان ، وأصل الذبذبة كما قال الراغب : صوت الحركة للشيء المعلق ، ثم استعير لكل اضطراب وحركة ، أو تردد بين شيئين ، والذال الثانية أصلية عند البصريين ، ومبدلة من باء عند الكوفيين ، وهو خلاف معروف بينهم ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (مُذَبْذَبِينَ) بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي ـ مذبذبين قلوبهم ، أو دينهم ، أو رأيهم ـ ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين ، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود متذبذبين.

وقرئ بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من ـ الدبة ـ بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما

١٦٩

في النهاية ، ويقال : هو على دبتي أي طريقتي وسمتي ، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر ، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان ، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين ، ومحله النصب على أنه حال من ضمير (مُذَبْذَبِينَ) أو على أنه بدل منه ، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) لعدم استعداده للهداية والتوفيق (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه ، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط ـ كما قيل ـ أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين ، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم ، وقيل : المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون ، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين ؛ وقيل : المراد بالموصول المخلصون ، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء ، وإلى ذلك ذهب القفال ، وفي كلا القولين بعد (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة ظاهرة في العذاب ، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه ، ويشعر بذلك كثير من الآيات ، وقيل : أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (١) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق.

ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف ، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا ، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف ، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا ، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة ، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع ، و (عَلَيْكُمْ) يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من (سُلْطاناً) ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال : أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها ، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل : جهنم ، والثانية لظى ، والثالثة الحطمة والرابعة السعير ، والخامسة سقر ، والسادسة الجحيم ، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها ؛ وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض ، و (الدَّرْكِ) كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط ، والدرج باعتبار الصعود ، وفي كون المنافق (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) إشارة إلى شدة عذابه.

وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود ـ أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل ـ وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله ، وأما ما روي في الصحيحين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد غدر ، وإذا خاصم فجر» فقد قال المحدثون فيه : إنه مخصوص بزمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه

__________________

(١) قوله : «موافقون» وقوله بعده في الحديث : «وإذا وعد غدر» كذا بخطه.

١٧٠

الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم ، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين ، وقيل : ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك ، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص ، وأطلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له ، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه ، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العر ف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا ، وكأنه مأخوذ من النافقاء ، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باقتضاء المقام ، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».

وقرأ الكوفيون (الدَّرْكِ) بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر ، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال ، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس ، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ ، وزند وأزناد. ـ وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر ، فلا يندفع به الترجيح ، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة ، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار ، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال : إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش ، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة ، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار ، و (مِنَ النَّارِ) في محل النصب على الحال ؛ وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه (الدَّرْكِ) والعامل الاستقرار ، والثاني أنه الضمير المستتر في (الْأَسْفَلِ) لأنه صفة ، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في (الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) وكون المراد (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى ، والخطاب لكل من يصلح له (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق وهو استثناء من المنافقين ، أو من ضميرهم في الخبر ، أو من الضمير المجرور في لهم ، وقيل : هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ؛ ودخلت ـ لما ـ في الكلام من معنى الشرط (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق ، وقيل : ثبتوا على التوبة في المستقبل ، والأول أولى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بكتابه ، أو وثقوا به (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس ، ودفع الضرر كما في النفاق ، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه‌السلام : يا روح الله من المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا ، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة ، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.

وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود ، والتعميم أولى ، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ، ولو لا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.

وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا ، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه ، والظاهر ما ذكرناه ، ورسم (يُؤْتِ) بغير ياء ، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.

وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها

١٧١

(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) خطاب للمنافقين ـ وقيل : للمؤمنين ، وضعف ـ مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر ، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم ، و (ما) استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده ، وقيل : نافية والباء سببية ، وقيل : زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك ، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار ، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته ، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبعث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه ، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها ، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ؛ ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان ، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان ، ويقول :

أفادتكم النعماء مني ثلاثة

يدي ولساني والضمير المحجبا

فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان ، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم ، وأما القول : بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب ، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز ، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة ، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال : لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني ، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى ، ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم ، ولا يخلو عن حسن.

وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري ، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين ، وأن قوله سبحانه (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) متصل بقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) إلخ ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى ، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانخراط في زمرة الذين (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [الفتح: ٢٩] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران ، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات ، فقوله عزوجل : (إِنْ شَكَرْتُمْ) فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها ، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى ، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه ، فقوله عزّ

١٧٢

من قائل : (وَآمَنْتُمْ) تفسير له وتقرير لمعناه أي (وَآمَنْتُمْ) الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل ، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه ، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف ، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا :

(وَكانَ اللهُ شاكِراً) أي مثيبا على الشكر (عَلِيماً) بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر ، وإلى هذا ذهب الإمام ، وقال غير واحد : الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة ، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية ، وقيل : معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قولهعزوجل : (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) فقد قال النيسابوري فيه : إن النفس للروح كالمرأة للزوج ، (فِي يَتامَى النِّساءِ) صفات النفوس ، و (ما كُتِبَ لَهُنَ) ما أوجب الله تعالى من الحقوق.

وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى ، والنفس تشح بترك حظوظها (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) في رفض حظوظ النفس ، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) بين العالم العلوي والعالم السفلي (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي الروح والنفس (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) فالروح يجتذب بجذبة ـ خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته ـ فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود ، والنفس تجتذب بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] إلى سعة غنى الله تعالى في عالم (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٢٩ ، ٣٠] انتهى ، ولا يخفى أن باب التأويل واسع ، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد ؛ وأما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا) إلخ فنقول : إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل (قَوَّامِينَ) بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك ، ثم قال جل وعلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث البرهان (آمَنُوا) من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالإيمان التقليدي (آمَنُوا) بالإيمان العيني ، أو المراد (يا أَيُّهَا) المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط ، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالتقليد (ثُمَّ كَفَرُوا) إذ لم يكن للتقليد أصل (ثُمَّ آمَنُوا) بالاستدلال العقلي (ثُمَّ كَفَرُوا) إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بالشبهات والاعتراضات ، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى ، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق : إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة ، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم

١٧٣

لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لعدم الجنسية (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عزوجل ، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم ـ إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ـ لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم (يُراؤُنَ النَّاسَ) لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها.

حنين أعرابية حنت إلى

أطلال نجد فارقته ومرخه

ومن هنا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لبلال : «أرحنا يا بلال» يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها ، وظن الأخير برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفر والعياذ بالله تعالى ؛ وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى ، وما قدر السوي عندهم ليراءوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى ، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر ، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا ، ولهذا قال قائلهم :

بذكر الله تزداد الذنوب

وتنكشف الرذائل والعيوب

وترك الذكر أفضل كل شيء

وشمس الذات ليس لها مغيب

لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر ، وأشار إلى مقام عال من قال :

لا يترك الذكر إلا من يشاهده

وليس يشهده من ليس يذكره

والذكر ستر على مذكوره ستر

فحين أذكره في الحال يستره

فلا أزال على الأحوال أشهده

ولا أزال على الأنفاس أذكره

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) لتحيرهم بضعف استعدادهم (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الصادقين (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عزوجل وإخلاص الدين له سبحانه (وَآمَنْتُمْ) الإيمان الحائز لذلك (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) فيثبت ويوصل الثواب كاملا ، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

__________________

(١) «تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني ، ويتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول».

١٧٤

روح المعاني

الجزء السادس

١٧٥
١٧٦

بسم الله الرحمن الرحيم

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١٥١)

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) عدم محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه ، والباء متعلقة بالجهر وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع ، و (مِنَ) متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء ، و ـ الجهر بالشيء ـ الإعلان به ، والإظهار كما يفهم من القاموس ، وفي الصحاح : جهر بالقول رفع صوته به ، ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى ، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء ؛ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعو على من ظلمه ، وعن مجاهد أن المراد لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما قد صنعه ، وعن الحسن والسدي ـ وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ـ المراد لا يحب الله تعالى الشتم في الانتصار (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين ، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له : يا زاني أن يقابل القائل له بمثل ذلك ، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت ، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبيّ وابن جبير والضحاك وعطاء أنهم قرءوا (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للفاعل ، فالاستثناء منقطع ، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء ، والموصول في محل نصب ، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل (يُحِبُ) كأنه قيل : لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول : ما جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو ، ومنه (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] وهي لغة تميمية ، وعليها قول الشاعر :

عشية ما تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم

وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض ، وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت ، ونقل عن أبي حيان أنه

١٧٧

ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح ، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره ، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت ، ورد ـ كما قال الشهاب ـ بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه ، وأن المراد ـ كما يفهمه كلام الطيبي ـ جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه ، أو لكونه مظنة توهم الإثبات ، فيقولون : ما جاءني زيد إلا عمرو ، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى ـ لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم ـ فأدخل لفظ (اللهُ) تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني لله سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك.

فإن قيل : ما بعد (إِلَّا) حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط ، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام ، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن قيل» : فيكون لفظ (اللهُ) مجازا عن أحد ولا سبيل إليه ، أجيب بأن لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد ، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ (اللهُ) كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما ، فإما بتقدير لفظ ـ كما ذكره أبو حيان ـ وإما بالتجوز في لفظ العلم ، وكلاهما مرّ ما فيه ، ولا طريق آخر للعموم ، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا : إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق ، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء ، فالأولى ما ذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر ، والنظر إلى الظاهر.

وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أي ـ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، إلا من ظلم ـ وكان يقرؤها كذلك ، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله تعالى العزيز (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم (عَلِيماً) بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم ، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم.

ووجه ربط هذه الآية بما قبلها ـ على ما قاله العلامة الطيبي ـ أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله ، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة ، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية ـ كما قرره عصام الملة ـ ورجا أن يكون من الملهمات ، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا (١) التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى ، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق ، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره ، وقال شهاب الدين : الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه

__________________

(١) قوله : «متضمنا» كذا بخطه ا ه مصححه.

١٧٨

عزوجل بذكر ضده ، فكأنه قيل : إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه ، وفيه احتباك بديع (إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (خَيْراً) أي خير كان من الأقوال والأفعال ، وقيل المراد (إِنْ تُبْدُوا) جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه عليكم ، وقيل : المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تفعلوه سرا ، وقيل : تعزموا على فعله (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها ، والتنصيص على هذا مع اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به ، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان ، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة ، وقال الحسن : يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى ، وقال الكلبي : هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم ، وقيل : (عَفُوًّا) عمن عفا (قَدِيراً) على إيصال الثواب إليه ، نقله النيسابوري وغيره (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى :

(وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) في الإيمان بأن يؤمنوا به عزوجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام ، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة ، بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب ، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله ، لأنه عزوجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر (وَيُرِيدُونَ) بهذا القول (أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي الإيمان والكفر (سَبِيلاً) أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا ، إذ الحق لا يختلف ، (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢]! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار ، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه‌السلام ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه‌السلام وكفروا بالقرآن ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عزوجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به ورسله ، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله ، وقال بعضهم : الذين يكفرون بالله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات ، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه ، وإن قيل : إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه‌السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا : إنه ثالث ثلاثة ، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه ، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم‌السلام وكفروا ببعضهم كاليهود ، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها ـ بأو ـ لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها ، وقيل : إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته ، وقيل : إن قوله تعالى (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا) إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه : (يَكْفُرُونَ) لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة ، وأما قوله جل وعلا : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية ، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله

١٧٩

تعالى ورسوله ؛ والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى عليهم‌السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود ، وعلى كل تقدير فخبر (إِنَ) قوله تعالى : (أُولئِكَ) أي الموصوفون بالصفات القبيحة (هُمُ الْكافِرُونَ) الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا (حَقًّا) مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا ، وجوّزوا أن يكون صفة لمصدر الكافرين ، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك فيه ولا ريب ، فالعامل مذكور ؛ و (حَقًّا) بمعنى اسم المفعول ، وليس بمعنى مقابل الباطل ، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى ، واحتمال الحالية ـ كما زعم أبو البقاء ـ بعيد ، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) إلخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي لهم ، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية ، وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا.

(عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ

١٨٠