روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٦٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة ، ودخول (بَيْنَ) على أحد قد مرّ الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله : (أُولئِكَ) أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) أي الله تعالى (أُجُورَهُمْ) الموعودة لهم ، فالإضافة للعهد.

وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم ، والإتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين ، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته ؛ فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطى ما ليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من ـ لن وسوف ـ حقيقته التوكيد ، ولهذا قال سيبويه : لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال : أولئك هم المؤمنون ـ حقا ـ مع استفادته مما دل على الضدية ، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة.

وقرأ نافع وابن كثير وكثير ـ نؤتيهم ـ بالنون فلا التفات (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام (رَحِيماً) بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا (يَسْئَلُكَ) يا محمد.

(أَهْلُ الْكِتابِ) الذين فرقوا بين الرسل (أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) فقالوا : إن موسى عليه‌السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة ، وأن يكون بخط سماوي ، وروي ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي.

وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم ، وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله ، وما كان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت ، قال الحسن : ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى) عليه‌السلام شيئا أو سؤلا.

١٨١

(أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) المذكور وأعظم ، والفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤول ليصح الترتيب. أي إن استكبرت هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر ، وقيل : إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى عليه‌السلام ما هو أكبر ، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم ، وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب ، وجوز أن يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء على كمال الاتحاد نحو :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فيكون المراد بضمير (سَأَلُوا) جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم ، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناد (يَسْئَلُكَ) إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد ، وأن يكون المراد بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا تجوّز لا في جانب الضمير ولا في المرجع.

وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب العزيز ، ووقع في نحو ألف موضع.

وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ) الذي أرسلك (جَهْرَةً) أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول الأول ـ كما قال أبو البقاء ـ ويحتمل الحالية من المفعول الثاني أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر ، فلا يقال : إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه.

وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإرادة لأن الجهرة في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني ؛ فيقال التقدير (أَرِنَا) نره رؤية جهرة ، وقيل : يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة ، وقيل : قولا أي قولا جهرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية : إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا (جَهْرَةً أَرِنَا اللهَ) تعالى فهو مقدم ومؤخر ـ وفيه بعد ـ والفاء تفسيرية (فَأَخَذَتْهُمُ) أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا (الصَّاعِقَةُ) وهي نار جاءت من السماء.

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : (الصَّاعِقَةُ) الموت أماتهم الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله تعالى أن يميتهم ، ثم بعثهم ، وفي ثبوت ذلك تردد.

وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ـ الصعقة ـ (بِظُلْمِهِمْ) أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها ، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا ، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا ، وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قال : ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة ، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق ، ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق.

وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات سواسية الإقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما ، والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) وعبدوه.

(مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء ، وفلق البحر وغيرها ، أو الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ (فَعَفَوْنا

١٨٢

عَنْ ذلِكَ) الاتخاذ حين تابوا ، وفي هذا على ما قيل : استدعاء لهم إلى التوراة كأنه قيل : إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم ، وهذا على ما قيل : وإن كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم ، لكن الواو لا تقتضي الترتيب ، واستظهر أن لا يجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه الله تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة ، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو ـ على ما في البحر ـ الجبل المعروف بطور سيناء ، والظرف متعلق ـ برفعنا ـ وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب ميثاقهم ليعطوه ـ على ما روي ـ أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها ، أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق ـ على ما روي ـ أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض ، قيل : وهو الأنسب بقوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب : ٧] ، وزعم الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل ، وفيه أن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا ، وقال أبو مسلم : إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاء لعهدهم وكرامة لهم ، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين ، وليس له مستند أصلا.

(وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان يوشع عليه‌السلام بعد مضي زمان التيه (ادْخُلُوا الْبابَ) قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس ، وقيل : هو إيلياء ، وقيل : أريحا ، وقيل : هو اسم قرية ، أو (قُلْنا لَهُمُ) على لسان موسى عليه‌السلام والطور مظل عليهم (ادْخُلُوا الْبابَ) المذكور إذا خرجتم من التيه ، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه‌السلام ، والظاهر عدم القيد (سُجَّداً) متطامنين خاضعين ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ركعا ، وقيل : ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى (وَقُلْنا لَهُمُ) على لسان داود عليه‌السلام (لا تَعْدُوا) أي لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ؛ أو لا تظلموا باصطياد الحيتان (فِي السَّبْتِ) ويحتمل ـ كما قال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله ـ أن يراد على لسان موسى عليه‌السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه ، والمسخ في زمن داود عليه‌السلام ، وقرأ ورش عن نافع (لا تَعْدُوا) بفتح العين وتشديد الدال ، وروي عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا ، وتارة إخفاء فتحة العين ، فأما الأول فأصلها ـ تعتدوا ـ لقوله تعالى : (اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [البقرة : ٦٥] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان. فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت ، وأما السكون المحض فشيء لا يراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما ، وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما ، وقرأ الأعمش «تعتدوا» على الأصل ، وأصل (تَعْدُوا) في القراءة المشهورة ـ تعدووا ـ بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول ـ وهو الواو الأولى ـ وبقي ضمير الفاعل (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه ، قيل : هو قولهم : سمعنا وأطعنا وكونه (مِيثاقاً) ظاهر ، وكونه (غَلِيظاً) يؤخذ من التعبير بالماضي ، أو من عطف الإطاعة على السمع بناء على تفسيره بها ، وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لا يخفى ، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله

١٨٣

تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد ، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور ، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، وهو المذكور في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] الآية ، وكونه (غَلِيظاً) باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا ، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها ، والإشارة إلى أنها سببية قوية ، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا ، وجوز أن تكون ـ ما ـ نكرة تامة ، ويكون (نَقْضِهِمْ) بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ، وإن شئت أخرت العامل.

واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) [المائدة : ١٣] ، وجوز غير واحد تعلق الجار ـ بحرمنا ـ الآتي على أن قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ) بدل من قوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ) ، وإليه ذهب الزجاج ، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم ، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد ، وبيان ذلك أن قولهم ـ على مريم بهتانا عظيما ـ (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ) ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم ، واستحسنه السفاقسي ، ثم قال : وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه ، وفيه بحث ، وجعل العلامة الثاني الفاء في (فَبِظُلْمٍ) على هذا التقدير تكرارا للفاء في (فَبِما نَقْضِهِمْ) عطفا على أخذنا منهم ، أو جزاء شرط مقدر ، واستبعده أيضا من وجهين : لفظي ومعنوي ، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف ، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط ، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه ، ثم قال : ولو جعلت الفاء للعطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) كما في قولك : بزيد وبحسنه ، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا ، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف ، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه ؛ وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه.

والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك ، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض ، أحدهما بالكفر ، والآخر بالنقض ، وقيل : هو متعلق بلا يؤمنون ، والفاء زائدة ، وقيل : بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن ، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به.

(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) كزكريا ويحيى عليهما‌السلام (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع غلاف بمعنى الظرف ، وأصله غلف بضمتين فخفف ، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء ، وقال الكلبي : يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا ، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون كقوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) [فصلت : ٥].

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد

١٨٤

زعمهم الفاسد ، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه ، والباء للسببية ، وجوز أن تكون للآلة ، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي ، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض ، وأيد بما أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترأ على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا» وأخرجه البيهقي أيضا في الشعب إلا أنه ضعفه.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه‌السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر ، أو صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا ، أو نصب على الاستثناء من ضمير (فَلا يُؤْمِنُونَ) أي (إِلَّا قَلِيلاً) منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم ، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان ، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر.

وقال عصام الملة : كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم ، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم (وَبِكُفْرِهِمْ) عطف على ـ بكفرهم ـ الذي قبله ، ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه‌السلام ؛ والمراد بالكفر المعطوف عليه ، إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاقترانه بقوله تعالى : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) ، وقد حكى الله عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع ، ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية.

وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع ، ومغايرته للمفرد المعطوف عليه ظاهرة ، أو عطف على (فَبِما نَقْضِهِمْ) ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله ، ولا يتوهم المحذور ، وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا ، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع الثلاثة بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه ، وفي الأول على الكفر بموسى عليه‌السلام لاقترانه بنقض الميثاق ، وتقدم حديث العدو في السبت (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) لا يقادر قدره حيث نسبوها ـ وحاشاها ـ إلى ما هي عنه في نفسها بألف ألف منزل ، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة ، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه ، ونصبه على أنه مفعول به ـ لقولهم ـ وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا بهتانا ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين (وَقَوْلِهِمْ) على سبيل التبجح.

(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاء كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] إلخ ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناء على قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه ، وقيل : إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية ، فيكون من الحكاية لا من المحكي ، وقيل : هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في تبجحهم (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) حال أو اعتراض (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن رهطا من اليهود سبوه عليه‌السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ

١٨٥

ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه‌السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه‌السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه.

وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر : «أتى عيسى عليه‌السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه‌السلام فقالوا لهم : سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه‌السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه : من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم : أنا فخرج إليهم فقال : أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليه‌السلام» ، وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق ، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه‌السلام ألقي على جميعهم بل قالوا : ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه‌السلام من بينهم.

ورجح الطبري قول وهب ، وقال : إنه الأشبه ، وقال أبو علي الجبائي : إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته ، وقالوا : إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه‌السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا ، وقيل : كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليه‌السلام فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه‌السلام فرفع عليه‌السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه‌السلام ، وقيل : غير ذلك ، و (شُبِّهَ) مسند إلى الجار والمجرور ، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه‌السلام ومن صلب ، أو في الأمر ـ على قول الجبائي ـ أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي (شُبِّهَ لَهُمْ) من قتلوه بعيسى عليه‌السلام ، أو الضمير للأمر و (شُبِّهَ) من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول ، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في شأن عيسى عليه‌السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا ، وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه ـ إن الله تعالى يرفعني إلى السماء ـ إنه رفع إلى السماء ، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليه‌السلام : صلب الناسوت وصعد اللاهوت ، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين : إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال : مات ولم يمت ، وأهين ولم يهن.

وأما الروم القائلون : بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين ، فيقال لهم : فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا : فارقه فقد أبطلوا دينهم ، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد ، وإن قالوا : لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت ، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة ، وقلنا لهم : أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص ، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه ، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية ، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه ، ويقولون : لا يجوز ذلك لأنه إضلال ، ورده أظهر من أن يخفى ، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا

١٨٦

لزم تكذيب المسيح ، وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم في الفصل : إن المصلوب قال : إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني ، وهو ينافي الرضا بمرّ القضاء ؛ ويناقض التسليم لأحكام الحكيم ، وأنه شكا العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى.

فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي لفي تردد ، وأصل ـ الشك ـ أن يستعمل في تساوي الطرفين وقد يستعمل في لازم معناه ، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) والاستثناء منقطع ، أي لكنهم يتبعون الظن.

وجوز أن يفسر الشك بالجهل ، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره ؛ فالاستثناء حينئذ متصل ، وإليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور ، وما قيل : إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) الضمير لعيسى عليه‌السلام كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا ، أو متيقنين ، ولا يرد أن نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، والتقدير تيقنوا ذلك يقينا ، وقيل : هو راجع إلى العلم ؛ وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم (يَقِيناً) من قولهم : قتلت العلم والرأي ، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه ، وهو مجاز كما في الأساس ، والمعنى ما علموه يقينا ، وقيل : الضمير للظن أي ما قطعوا الظن (يَقِيناً) ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي ، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأن (يَقِيناً) متعلق بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا ، ورده في البحر بأنه قد نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها ، والكلام ردّ وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام ، وفيه تقدير مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه ، قال : وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها من سنّ رفعه ، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن في حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو في بيت المقدس ، وقال قتادة : رفع الله تعالى عيسى عليه‌السلام إليه فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا ، وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه ، وفي إنجيل لوقا ما يؤيده ؛ وأما رؤية بعض الحواريين له عليه‌السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح ، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى ، وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة ، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب فيما يرده (حَكِيماً) في جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه‌السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من المفسرين (وَإِنْ) نافية بمعنى ما ، وفي الجار والمجرور وجهان : أحدهما أنه صفة لمبتدإ محذوف ، وقوله تعالى : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) جملة قسمية ، والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم ، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم

١٨٧

أن الخبر ليس هو المجموع ، والتقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به ، والثاني أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ ، وجملة القسم صفة له لا خبر ، والتقدير وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب ، وهو كلام مفيد ، فالاعتراض على هذا الوجه ـ بأنه لا ينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه لا يفيد ـ لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب ، نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته ، والظاهر أنه المقصود ، وأنه أتم فائدة ، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف ، وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا ، وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وإبقاء صلته ، والضمير الثاني راجع للمبتدإ المحذوف أعني أحد والأول لعيسى عليه‌السلام فمفاد الآية أن كل يهودي ونصراني يؤمن بعيسى عليه‌السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله تعالى ورسوله ، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف ، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي ـ ليؤمنن به قبل موتهم ـ بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع ، وعوده لعيسى عليه‌السلام غير ظاهر.

وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك ؛ فقيل له : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء ، فقيل : أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال : يتلجلج بها لسانه.

وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : يا شهر آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت : رفعت إليك على غير وجهها إن النصراني إذا خرجت روحه ـ أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه ـ ضربته الملائكة من قبله ومن دبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله تعالى ، وأنه ابن الله سبحانه ، وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته ، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه ، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره ، وقالوا : أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان ، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم ، فقال : من أين أخذتها؟ فقلت : من محمد بن علي ، قال : لقد أخذتها من معدنها ، قال شهر : وايم الله تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة ، ولكني أحببت أن أغيظه ، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه ، وقيل : الضميران لعيسى عليه‌السلام ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن زيد ، واختاره الطبراني ، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه‌السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا ، وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل. ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما» قال : وتلا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، وقيل : الضمير الأول لله تعالى ولا يخفى بعده ، وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي هذا عن عكرمة ، ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا ، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه ، لا أنه ـ كما زعم الطبري ـ لو كان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) أي عيسى عليه‌السلام (عَلَيْهِمْ) أي أهل الكتاب (شَهِيداً) فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه : إنه ابن الله تعالى ، والظرف متعلق ـ بشهيدا ـ وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا ، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن

١٨٨

المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله ، وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) أي تابوا من عبادة العجل ، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا ، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم ، ومع ذلك كانوا يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون : لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣] الآية ، وقد تقدم الكلام فيها ، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام مفصلا.

واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعيسى عليه‌السلام ولا ما أشار إليه قوله تعالى : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) أي ناسا كثيرا ، أو صدا ، أو زمانا كثيرا وقيل في جوابه : إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل ، وهذا معطوف على الظلم وجعله ، وكذا ما عطف عليه في الكشاف بيانا له ، وهو ـ كما قال بعض المحققين ـ لدفع ما يقال : إن العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر ، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل (بِصَدِّهِمْ) متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه ، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا قلت : بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه ، فإن المراد فيه لا بغير ذنب ، وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم ، وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه ، وحيث فصل بمعموله لم تعد ، وجملة (وَقَدْ نُهُوا) حالية ، وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا ، وأن النهي يدل على حرمة المنهي عنه ، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم ـ كعبد الله بن سلام وأضرابه ـ (عَذاباً أَلِيماً) سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم ، وذكر في البحر أن التحريم كان عاما للظالم وغيره ، وأنه من باب (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] دون العذاب ، ولذا قال سبحانه : (لِلْكافِرِينَ) دون ـ لهم ـ وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) استدراك من قوله سبحانه : (وَأَعْتَدْنا) إلخ ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا ، و (مِنْهُمْ) في موضع الحال أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة ، والمراد بهم عبد الله بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم ، وفي المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (وَالْمُؤْمِنُونَ) أي منهم ، وإليه يشير كلام قتادة ، وقد وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر ، وقوله سبحانه : (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الكتب على الأنبياء والرسل حال من ـ المؤمنون ـ مبينة لكيفية إيمانهم ، وقيل : اعتراض مؤكد لما قبله ، وقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) قال سيبويه وسائر البصريين : نصب على المدح ، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام ، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي ، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا

١٨٩

يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره ، وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا يكون في العطف وإنما يكون في النعوت ، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله :

ويأوي إلى نسوة عطل

وشعثا مراضيع مثل السعالي

وقال الكسائي : هو مجرور بالعطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قيل : وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا ، وقيل : المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، وقيل : المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين ، وقال قوم : إنه معطوف على ضمير (مِنْهُمْ) ، وقيل ضمير (إِلَيْكَ) ، وقيل : ضمير (قَبْلِكَ) والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام ـ لكن ـ المثقلة وضع موضعها (لكِنِ) المخففة ، ولا يخفى ما فيه ، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن ، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما في مصحف عبد الله ، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا ، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي الله تعالى عنه فقال : قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا ، فقد قال السخاوي : إنه ضعيف ، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به ، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات ، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله :

منطق رائع وتلحن أحيا

نا وخير الكلام ما كان لحنا

أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه ، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر.

ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي ، والعطف على ضمير (يُؤْمِنُونَ) ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى :

(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه ، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام ، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام ، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ، ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل جلاله ، وانقطاعا عن السوي ، وتوجها إلى المولى كسا المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية ، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب ، ثم وصفهم بكونهم بالمبتدإ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه ، وإحاطتهم به من طرفيه ، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما (أُولئِكَ) إشارة إلى

١٩٠

الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : (سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) خبره ، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون ، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا ، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة ، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ، ووعد الآخرون بالأجر العظيم ، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة (يُؤْمِنُونَ) وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة ، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) [النساء : ١٥٣] الآية كأنه قيل : لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرءوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك ، وروي هذا عن قتادة وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة «سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى : (الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم ، وقيل : هو تعليل لقوله تعالى : (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال سكين وعدي بن زيد : يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه‌السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية» والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح عليه‌السلام ، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا إلخ ، وما في الوجهين مصدرية.

وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي : و (مِنْ) بعده متعلق ـ بأوحينا ـ ولم يجوّزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث ، وبدأ سبحانه بنوح عليه‌السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه ، وقيل : لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام ، وتعقب بالمنع ، وقيل : لمشابهته بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض ، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه‌السلام اتفاقي لا قصدي ، وعموم الفرق على القول به ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى.

(وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) عطف على (أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم (وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب عليه‌السلام في المشهور ، وقال غير واحد : إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل ، وقد بعث منهم عدة رسل ، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول : أرسلت إلى بني تميم ، وتريد أرسلت إلى وجوههم ، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه‌السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي ـ وألف فيه الجلال السيوطي رسالة ـ خلافه (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام ، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي ، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره ، وقدم عيسى عليه‌السلام على من بعده تحقيقا

١٩١

لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه ، وقيل : ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء ـ على ما ذكره أبو البقاء ـ أعجمية إلا الأسباط ، وفي ذلك خلاف معروف ، وفي (يُونُسَ) لغات أفصحها ضم النون من غير همز ، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء ، وكما آتينا داود زبورا ـ وإيثاره على أوحينا إلى داود ـ لتحقق المماثلة في أمر خاص ، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء ؛ والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول ـ كالحلوب والركوب ـ كما نص عليه أبو البقاء.

وقرأ حمزة وخلف (زَبُوراً) بضم الزاي حيث وقع ، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب ، أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس ، وقيل : إنه مصدر كالقعود والجلوس ، وقيل : إنه جمع زبور على حذف الزوائد ، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه‌السلام ، وكان إنزاله عليه عليه‌السلام منجما وبذلك يحصل الإلزام ، وكان فيه ـ كما قال القرطبي ـ مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام ، وإنما هي حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى شأنه (وَرُسُلاً) نصب بمضمر أي أرسلنا رسلا ؛ والقرينة عليه قوله سبحانه : (أَوْحَيْنا) السابق لاستلزامه الإرسال ، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه ، وقيل : القرينة قوله تعالى : (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) لا أنه منصوب ـ بقصصنا ـ بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل ، ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل ـ كما قيل ـ لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين شئون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم‌السلام في مطلق الإيحاء ، ثم في إيتاء الكتاب ، ثم في الإرسال ، فإن قوله سبحانه : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) منتظم لمعنى (آتَيْناكَ) و (أَرْسَلْناكَ) حتما فكأنه قيل : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان ، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا ، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ومعنى قصصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذه السورة ، أو اليوم ، قيل : قصصهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة في سورة الأنعام وغيرها ، وقال بعضهم : قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن (وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام ، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فعلمهم ، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن (لَمْ) في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار ، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص ، فيمكن أن يقال : لم يذكر سبحانه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه «وحاشاه عليه الصلاة والسلام» عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين. والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية ، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) برفع الجلالة ونصب موسى ، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرءا على القلب.

(تَكْلِيماً) مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد ، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل

١٩٢

فيرفع المجاز عنه ، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا ، مع أنه أكد الفعل ، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان.

بكى الخز من روح وأنكر جلده

وعجت عجيجا من جذام المطارف

فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة ، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول : التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال ، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عطف القصة على القصة لا على ـ آتينا ـ وما عطف عليه ، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات ، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها ، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه‌السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك.

هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه‌السلام لكلام الله عزوجل ، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإسراء مع زيادة رفعة ، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى ، بل ما من ذرة نور شعث في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول :

وكل آي أتى الرسل الكرام بها

فإنما اتصلت من نوره بهم

فصلى الله تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) نصب على المدح ، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من (رُسُلاً) الذي قبله ، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها ، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من (رُسُلاً) الأول ، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد ، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي (مُبَشِّرِينَ) من آمن وأطاع بالجنة والثواب (وَمُنْذِرِينَ) من كفر وعصى بالنار والعقاب (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ) أي معذرة يعتذرون بها قائلين (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح ، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل ؛ وأن العقل لا يغني عن ذلك ، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار ، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة ، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث.

وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه (حُجَّةٌ) مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها ، فلا يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء ، واللام متعلقة ـ بأرسلنا ـ المقدر ، أو ـ بمبشرين ومنذرين ـ على التنازع ، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه ، و (حُجَّةٌ) اسم كان وخبرها (لِلنَّاسِ) ، و (عَلَى اللهِ) حال من (حُجَّةٌ) ويجوز أن يكون الخبر (عَلَى اللهِ) و (لِلنَّاسِ) حال ، ولا يجوز أن

١٩٣

يتعلق على ـ بحجة ـ لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه ، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا ، وقوله تعالى : (بَعْدَ الرُّسُلِ) ـ أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم ـ ظرف لحجة ، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) لا يغالب في أمر يريده.

(حَكِيماً) في جميع أفعاله ، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين ، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز ، وقيل : (عَزِيزاً) في عقاب الكفار (حَكِيماً) في الأعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) بتخفيف النون ورفع الجلالة.

وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة ، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إلخ قيل : إنهم لا يشهدون (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ).

وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد ، وقيل : إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم ، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن ، فالجار والمجرور متعلق ـ بيشهد ـ والباء صلة والمشهود به هو الحقية ، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك ، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «دخل جماعة من اليهود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لهم : إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله فقالوا : ما نعلم ذلك فنزلت (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ)» وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)» ، قالوا : ما نشهد لك فنزل (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ)» وقرئ «أنزل» على البناء للمفعول (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ذكر فيه أربعة أوجه : الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه ، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان ، واختاره جماعة من المفسرين ، والثاني أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه ، واختاره الطبرسي ، والثالث أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه ، والرابع أن يكون المعنى (أَنْزَلَهُ) وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة ، والعلم على الوجه الأول قيل : بمعنى المعلوم ، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري ، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره ، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال : فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي ، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة ، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه ، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم ، والظرف حال من الفاعل أو المفعول ، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد ، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل ، وعلى الثالث من المفعول ، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه ، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري ، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة وقيل : إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير ـ لأنزل إليك ـ لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص ، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ ، والظرف حال من الفاعل ، ويكون (أَنْزَلَهُ) تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل ، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام ، وقيل : إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه

١٩٤

من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا ، وقرئ نزله (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة ، والجملة عطف على ما قبلها ، وقيل : حال من مفعول (أَنْزَلَهُ) أي أنزله (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) بصدقه وحقيته ، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر ، وأيّا ما كان ـ فيشهدون ـ من الشهادة ، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عزوجل.

هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة ؛ أو اتفقت منه كبوة (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها ، وقيل : (لا يُحِبُّ اللهُ) تعالى إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الألوهية ، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بغلبات الأحوال وتعاقب كئوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني ، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى.

وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله ، وإنما ظلموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل ، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل ، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل (سَبِيلاً) أي طريقا (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط ، وتوحيدهم زندقة وضلال ، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس‌سره (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ (١) يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) من الجنات الثلاث (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر ذواتهم وصفاتهم (رَحِيماً) يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) أي علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم (بِظُلْمِهِمْ) وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الرادعة لهم عن ذلك (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي جعلناه مستوليا عليهم (بِمِيثاقِهِمْ) أي بسبب أن يعطوا الميثاق ، وأشير بالطور إلى موسى عليه‌السلام ، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الموت (سُجَّداً) خضعا متذللين ، وقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) أشير به ـ على ما ذكره بعض القوم ، والعهدة عليه ـ إلى اتصال روحه عليه‌السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي ، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه‌السلام

١٩٥

روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم ، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية ، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية ، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدإ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه‌السلام بالفناء بالله عزوجل ، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا ، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساوئ.

مساو لو قسمن على الغواني

لما أمهرن إلا بالطلاق

(حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث (أُحِلَّتْ لَهُمْ) بحسب استعدادهم لو لا هذه الموانع (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي طريقه الموصلة إليه سبحانه (كَثِيراً) أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له ، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) لما أنه الحجاب العظيم (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية ، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار (وَالْمُؤْمِنُونَ) بالإيمان العياني حال كونهم (يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) على أكمل وجه (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ببذل قوامهم في أصناف الطاعة (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي بالمبدإ والمعاد ، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على قول (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) بتجليات اللطف (وَمُنْذِرِينَ) بتجليات القهر (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محي ذلك بإمداد الرسل (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم (حَكِيماً) فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) لتجليه فيه سبحانه (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

ومن هنا علم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان وما هو كائن (وَالْمَلائِكَةُ) هم أصحاب النفوس القدسية (يَشْهَدُونَ) أيضا لعدم احتجابهم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) لأنه الجامع ولا موجود غيره ، والله تعالى الموفق للصواب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما أنزل إليك ، أو بكل ما يجب الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا ، والمراد بهم اليهود ، وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي دين الإسلام من أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقولهم : لا نعرفه في كتابنا وأن شريعة موسى عليه‌السلام لا تنسخ ، وأن الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما‌السلام.

وقرئ «صدوا» بالبناء للمفعول (قَدْ ضَلُّوا) بالكفر والصد (ضَلالاً بَعِيداً) لأنهم جمعوا بين الضلال

١٩٦

والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في الضلال وأبعد عن الانقلاع عنه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بما ذكر آنفا (وَظَلَمُوا) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم ، والمراد أن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم.

(لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر ، والآية في اليهود على الصحيح ، وقيل : إنها في المشركين وما قبلها في اليهود ، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس بكفر من سائر أنواع الكبائر ، وحمل الآية على معنى أن الذين كان بعضهم كافرين ، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر (لَمْ يَكُنِ) إلخ ، ولا يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون في النار تخليد الكفار ، والآية تنبو عن هذا المعتقد ، فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده ، ألا تراك إذا قلت : الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع ، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة ، وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأي واد وقعوا (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة ، والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد : خلقه سبحانه لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم ، أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة ، وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة ، والطريق على عمومه ، والاستثناء متصل كما اختاره أبو البقاء وغيره ، وجوز السمين أن يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع (خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم ، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم ، وقيل : يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة إلى جهنم ، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر ، وقوله تعالى : (أَبَداً) نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل (وَكانَ ذلِكَ) أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار إلى الأبد (عَلَى اللهِ يَسِيراً) سهلا لا صارف له عنه ، وهذا تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)

١٩٧

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٧٦)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد ، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول ، وقيل : الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب ـ بيا أيها الناس ـ أينما وقع لهم ، ولا يخفى أن التعميم أولى ، وما ذكر في حيز الاستدلال ، وإن روي عن بعض السلف أغلبي ، وقيل : هو للكفار مطلقا إبقاء للأمر على ظاهره ، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ) يعني به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته (بِالْحَقِ) أي متلبسا به ، وفسر بالقرآن ، وبدين الإسلام وبشهادة التوحيد ، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة ـ بجاء ـ أي جاءكم بسبب إقامة الحق ، وقوله سبحانه : (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلق إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق ؛ أي جاءكم به من عند الله تعالى ، أو كائنا منه سبحانه ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك ؛ وقيل : إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر (فَآمِنُوا) أي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من الحق ، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها ، وقوله سبحانه : (خَيْراً لَكُمْ) منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم ، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه ، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم ، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره ، ودفع بأنه صفة مؤكدة ، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر ، وعلى القول باعتباره قد يقال : إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضي.

وذهب الكسائي وأبو عبيد إلى أنه خبر كان مضمرة ، والتقدير يكن الإيمان خيرا لكم ، ورد بأن كان تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته ، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا ، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل ؛ وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر ، وإن قلنا : بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك ، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على الحال وهو بعيد (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده ، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى خلقا

١٩٨

وملكا وتصرفا ، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها ، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب ، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات والأرض ، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم ، وقال بعضهم : التقدير «وإن تكفروا» فقد كابرتم عقولكم.

(فَإِنَّ لِلَّهِ) سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك ، وقيل : التقدير (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره ، ولا يخلو عن بعد.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بأحوال ، كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا أوليا (حَكِيماً) في جميع أفعاله وتدبيراته ، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر (يا أَهْلَ الْكِتابِ) تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد ، وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين ، وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي عنه في قوله تعالى :

(لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وقع منهم جميعا ، أما النصارى ، فقال بعضهم : عيسى عليه‌السلام ابن الله عزوجل ، وبعضهم أنه الله سبحانه ، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا : إنه عليه‌السلام ولد لغير رشده ، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ ، وهو متصل عند الأكثرين.

وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد ، والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم (إِنَّمَا الْمَسِيحُ) بالتخفيف ، وقد مر معناه ، وقرئ المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت وهو مبتدأ ، وقوله تعالى : (عِيسَى) بدل منه أو عطف بيان له ـ كما قال أبو البقاء وغيره ـ وقوله تعالى :

(ابْنُ مَرْيَمَ) صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من نبوته عليه‌السلام له عزوجل ، وقوله سبحانه :

(رَسُولُ اللهِ) خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه‌السلام مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون (وَكَلِمَتُهُ) عطف على (رَسُولُ اللهِ) ومعنى كونه «كلمة» أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة ، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة.

وقال الغزالي قدس‌سره : لكل مولود سبب قريب وبعيد ، فالأول المني والثاني قول كن ، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى عليه‌السلام أضافه إلى البعيد ، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب ، وأوضحه بقوله سبحانه : (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي أوصلها إليها وحصلها فيها ، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة ، وقيل : معناه أنه يهتدي به كما يهتدي بكلام الله تعالى ، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي ، وقيل : معناه بشارة الله تعالى التي بشر بها مريم عليها‌السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) [آل عمران : ٤٥] وجملة (أَلْقاها) حال على ما قيل : من الضمير المجرور في (كَلِمَتُهُ) بتقدير قد والعامل فيها معنى الإضافة ، والتقدير ـ وكملته ملقيا إياها ـ وقيل : حال من ضميرهعليه‌السلام المستكن فيما دل عليه (وَكَلِمَتُهُ) من معنى المشتق الذي هو العامل فيها ، وقيل : حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون ، والتقدير إذ كان (أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) عطف على ما قبله وسمي عليه‌السلام

١٩٩

روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه‌السلام في درع مريم عليها‌السلام بأمره سبحانه ، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم ، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. و ـ من ـ متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح ، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى.

يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه‌السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقدي قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] فقال : إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم ، وفرح الرشيد فرحا شديدا ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة ، وقيل : سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح ، وإلى ذلك ذهب الجبائي ، وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] على وجه ، وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها‌السلام بالبشارة ، وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا : إنه روح فلما كان عيسى عليه‌السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح ، وقيل : أريد بالروح السر كما يقال : روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه‌السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه ، وقيل : المراد ذو روح على حذف المضاف ، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح ، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف ، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه‌السلام رجل الله وعصاه قضيب الله. وأورشليم بيت الله ، وقيل : المراد من الروح جبريل عليه‌السلام ، والعطف على الضمير المستكن في (أَلْقاها) والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم ، ولا يخفى بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه‌السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه‌السلام مشاركة له في ذلك ، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه : إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه ، وفي إنجيل متى : إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه ، وفي التوراة : قال الله تعالى لموسى عليه‌السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت ، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم ، وفيها في حق يوسف عليه‌السلام يقول الملك : هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عزوجل فيه ، وفيها أيضا : إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك.

ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء ، وإطلاق ذلك على عيسى عليه‌السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد : عدل ، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا ، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب ، والموت بصورة الكبش ، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه‌السلام : إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه‌السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه : وما فيه من وصفه عليه‌السلام بالنبوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه.

(فَآمِنُوا بِاللهِ) وخصوه بالألوهية (وَرُسُلِهِ) أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أي الآلهة ثلاثة : الله سبحانه ، والمسيح ، ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] إذ معناه «إلهين» غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة.

وحكي هذا التقدير عن الزجاج ، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون : الله تعالى جوهر واحد ثلاثة

٢٠٠