روح المعاني - ج ٣

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي

روح المعاني - ج ٣

المؤلف:

أبي الفضل شهاب الدين السيّد محمود الألوسي البغدادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨١

أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود ، وبالثاني العلم أي الكلمة ، وبالثالث الحياة كذا قيل ، وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز. ولا مختص بجبهة ، ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ، وأنه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، والأقانيم صفات للجوهر القديم ، وهي الوجود والعلم والحياة ، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة.

ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها إله ، وصرحوا بإثبات التثليث ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي ، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي ، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم ، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى ، والابن على عيسى عليه‌السلام ، وذهب نسطور الحكيم ـ في زمان المأمون ـ إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور.

ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود ، وصرحوا بالتثليث كالملكانية ، ومنهم من منع ذلك ، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم ، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ، فالمسيح إله تام وإنسان تام ، وهما قديم وحادث ، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث. وقالوا : إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت ، وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح ، وقالوا : إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم ، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا ، وقال : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة ، ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم : ١٧] ومنهم من قال : جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا ، وهو المسيح ، وهو الإله ، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار ؛ صارت نارا ، ولا يقال : صارت النار فحمة ، ويقولون : إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي ، وإن مريم ولدت إلها وإن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على أحدهما بطل الاتحاد ، ومنهم من قال : المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه ، محدث من وجه ، ومن اليعقوبية من قال : إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب ، ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام ، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه ، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة ، ومنهم من قال : إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للأشياء كلها.

٢٠١

وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته ، فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند الملك ، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها ، وهي نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء. مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، وبالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع ، إله حق. من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم ؛ وخلق كل شيء الذي من أجلنا معاشر الناس ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول واتجع ، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث ـ كما هو مكتوب ـ وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة لغفران الخطايا ، والجماعة واحدة قدسية كاطولكية وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى.

وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه ، وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه ، وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لإبطال تلك العقائد الفاسدة ، أما قولهم : بأن الله تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الإطلاق اللفظي سمعا ، والأمر فيه هين ، وأما حصرهم الأقانيم في ثلاثة : صفة الوجود ، وصفة الحياة ، وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم : بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى ، ثم هو باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر فإن قالوا : الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه ، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة وحياتها بغيرها ، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به ، وهذا بخلاف القدرة ، والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور ، ومراد ، والذات القديمة غير مقدورة ولا مرادة وأيضا فإن الحياة تجزئ عن القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم فإنه قد يخلو عنه ، ولأنه يمتنع أجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم ، قلنا : أما قولهم : إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم ـ ولا تعلق لهما بغيره ـ فمسلم ، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا : العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به ، ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما في الوجود والحياة ، فلئن قالوا : البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال.

وقولهم : بأن الإرادة تجزئ عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا به أن القدرة والإرادة نفس الحياة ، أو أنهما

٢٠٢

خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها ، فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا : إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم ، والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات القديم تعالى ، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها ، وإن قالوا : إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي ، عن العلم ، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة النوم والإغماء مثلا ، وقولهم : إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل ، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل ، وأما قولهم : بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين.

الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره ، الثاني أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة ، ولئن قالوا : إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه فيها غيره ، قلنا : أولا لا نسلم ذلك. فقد روى النصارى أنه عليه‌السلام سئل عن القيامة فلم يجب ، وقال لا يعرفها إلا الله تعالى وحده ، وثانيا سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم ، والقدرة عندكم في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال : بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به.

وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة ، وأن كل أقنوم إله فلا يخلو إما أن يقولوا : إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به ، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم ، وهو مع ذلك ممتنع لقيام الأدلة على امتناع إلهين ، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا : بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا فإن كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث ، وبقولهم هذا يلزم التربيع ، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والأقانيم صفات تابعة ، فكان أولى أن يكون إلها ، وإن قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية ، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك ، وأما قولهم : بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى ، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام ، أما الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال : ببقائهما أو بعدمهما ؛ أو ببقاء أحدهما وعدم الآخر ، أما على التقدير الأول فهما اثنان كما كانا ، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما وإن كان الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما ، وأما على التقدير الثاني فمن أربعة أوجه : الأول أنه إذا جاز أقنوم الجوهر القديم بالحادث ، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن قالوا المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع ، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه ، وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع ، قلنا : فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا ، الثاني أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت؟ فلئن قالوا : إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى ، الثالث أن مذهبهم أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فإن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى.

الرابع أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض ، وصفة نفس العرض تخالف الجوهر ، فإن قالوا : بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض في حكم الجوهر ، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم ، وإن قالوا : بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن

٢٠٣

يمتنع في القديم والحادث أولى ، وقولهم إن المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه : الأول أن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس ، وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما‌السلام ، وعند ذلك فإما أن يقال : إن إنسان مريم أيضا كلي ـ كما حكي عن بعضهم ـ أو جزئي ، فإن كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره ، فإن كان عينه لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال ، ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد ، وإن كان غيره فالإنسان الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع ، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان ، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال ، وإن كان إنسان مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو ممتنع ، الثاني أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا إليه ، والكلي ليس كذلك.

الثالث أنهم قائلون : إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد أولا بجهة الاتحاد. فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به ، الرابع أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت ، ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه.

وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة ، فالكلام معه في الحصر على طرز ما تقدم ، وقوله : ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله : إن الصفات لا عين ولا غير فهو حق ، وإن أراد غيره فغير مفهوم ؛ وأما تفسيره العلم بالكلمة ، فالنزاع معه ـ في هذا الإطلاق ـ لفظي ، ثم لا يخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني ، والكلام في ذلك معروف ؛ وقوله : إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد إشراق الكلمة عليه عليه‌السلام ما هو مفهوم من مثاله ، وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه ، أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات ، أو يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع ، وفي جهة من مطرح شعاعها ، ويلزم من ذلك أن تكون جسما ، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم وهو محال ، وإن كان الثاني فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة ، وإن كان الثالث فلا بدّ من تصويره ليتكلم عليه.

وأما قول بعض النسطورية : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث ، وأما من أثبت منهم لله تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في كونها من الصفات تحكم بحت ، والفرق الذي يستند إليه باطل كما علمت ؛ وأما قولهم : إن المسيح إنسان تام وإله تام ، وهما جوهران : قديم وحادث ، فطريق ردّه من وجهين الأول التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال : إما أن يقولوا : بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت إليه الملكانية ، فإن كان الأول فهو ممتنع لعدم الأولوية ، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم ، الثاني أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن يقولوا : بالاتحاد ، أو بحلول الأقنوم في الناسوت ، أو حلول الناسوت في الأقنوم ، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر ، فإن كان الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد ، وإن كان الثاني فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات الله تعالى ، وحلول الحادث في القديم ، وإن كان الثالث ، فإما أن يقال : بتجاورهما واتصالهما أولا ، فإن قيل : بالأول فإما أن يقال : بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به ، فإن قيل : بالانفصال فهو ممتنع لوجهين الأول ما يدل على إبطال انتقال

٢٠٤

الصفة عن الموصوف ، الثاني أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال ، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به ، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك ، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح ، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس ، وأما قول من قال منهم : إن الإله واحد ، وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون ، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن ، وأما قول بعض اليعقوبية : إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين : الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن ـ أو الممتنع ـ واجبا ، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية ، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا ، واللحم والدم أقنوما ، والأقنوم ذاتا ، والذات أقنوما ، والقديم حادثا والحادث قديما ، ولم يقل به أحد من العقلاء ، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما ، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح ، أو زائدا عليه منضما إليه ، والأول ظاهر الفساد ، والثاني لم يقولوا به ؛ وأما ما نقل عن يوحنا من قوله : في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة ، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل ، والظاهر أنه كذب ، فإنه بمنزلة قول القائل : الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار ، ولا يكاد يتفوه به عاقل ، وكذا قوله : إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت ، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير. أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا ، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه‌السلام ، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس ، كبير التلاميذ ووصي المسيح ، فإنه أقام بعده عليه‌السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم ، فكأنه يقول : إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا ، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس.

ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي ، والمراد أصارت وفيه بعد ، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه : إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق ، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه ، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا : ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته ، فإن هذا مع قوله : إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه ، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت ، فلا نتحمل مئونة التأويل.

وأما قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو ، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم : صار هو هو ، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم ، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث ، وأما من قال منهم : بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين : الأول ما ذكر من إبطال الاتحاد ، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به ، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار ، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار ، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا.

٢٠٥

وأما قولهم : إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث وبذلك يبطل قولهم : إن مريم ولدت إلها ، وقولهم : القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان ، وأما قول من قال : إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه ، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه ، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا له أول وهو متناقض ، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض ، وأما قول من قال : إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى ، وبه يبطل قول من قال : إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى ، وقولهم : إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت ، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه ، والقول : بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حي ، ومن ليس بحي لا يكون عالما ولا ناطقا ، وقول من قال : إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء غيره.

وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء ، يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح إلخ مناقضة لا تكاد تخفى ، الثاني أن قولهم : إن يسوع المسيح ابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن ، فإن قالوا : ولد ولدا لم يزل ، قلنا : فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن ، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء ، الثالث أن قولهم : إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده ، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال ، الرابع أن قولهم : إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح ابن داود ، وأيضا خالق العالم لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى يسبق المسيح وقد ولدته مريم؟! وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح : اسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ بالله تعالى من الضلالة.

الخامس أن قولهم : المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد ، فيه عدة مفاسد : منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها‌السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء ، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت ، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم ، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال : لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للباري عز اسمه ، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء الباري بلا علم وذلك باطل.

٢٠٦

ومنها أن قولهم : إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه‌السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها ، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال : أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟ ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس ، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف ، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل : إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا ، وأقول لأهل الشمال : فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم ، السادس أن قولهم : وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول : متى في الفصل الثاني منه ، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره.

السابع أن قولهم : إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه : إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة ، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه ، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها ، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح ، الثامن أن قولهم : إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث ، التاسع أن قولهم : إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل :

لألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادا

إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية ، العاشر أن قولهم : ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم ، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح ، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا ، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة ، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام :

بطلت أمانتهم فمن مضمونها

ظهرت خيانتها خلال سطورها

بدءوا بتوحيد الإله وأشركوا

عيسى به ، فالخلف في تعبيرها

قالوا : بأن إلههم عيسى الذي

ذر الوجود على الخليقة كلها

خلق أمه قبل الحلول ببطنها

ما كان أغنى ذاته عن مثلها

٢٠٧

هل كان محتاجا لشرب لبانها

أو أن يربى في مواطن حجرها

جعلوه ربا جوهرا من جوهر

ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى

قالوا : وجاء من السماء عناية

لخلاص آدم من لظاه وحرها

قد تاب آدم توبة مقبولة

فضلا لهم جعل الفداء بغيرها

لو جاء في ظلل الغمام وحوله

شرفا ملائكة السماء بأسرها

وفدى الذي بيديه أحكم طينه

بالعفو عن كل الأمور وسترها

ثم اجتباه محببا ومفضلا

ووقاه من غيّ النفوس وشرها

كنتم تحلون الإله مقامه

فيما تراه نفوسكم من شركها

من غير أن يحتاج في تلخيصه

كل الخلائق أن تبوء بضرها

ويشينه الأعداء بما لا يرتضي

من كيدها وبما دهى من مكرها

هذي أمانتهم وهذا شرحها

الله أكبر من معاني كفرها

ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال : إن المسيح عند ما ودعهم قال : اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس ، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم ، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول ـ على تقدير صحة الرواية ، ودونها خرط القتاد : يحتمل أن يراد بالأب المبدأ ، فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء ، ومن الابن الرسول ، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي إبراهيم عليه‌السلام خليلا ، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء ، وقد رووا عن المسيح عليه‌السلام أنه قال : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وقال : لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء.

وربما يقال : إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه ، ويشير إلى ذلك ما رووه أنه عليه‌السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين : لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن أباكم الذي في السماء تام ، ويراد بروح القدس جبريل عليه‌السلام ، والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم ، وفي كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس‌سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد : الغيب المطلق ، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية ، ويضاف إلى الله تعالى فيقال : روح الله تعالى للتشريف والتعظيم ك (ناقة الله) تعالى ، وروح القدس إشارة إليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها‌السلام ، والابن إشارة إلى عيسى عليه‌السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه ، والأب هو الابن ، والابن هو روح القدس في الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة ، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء ، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية.

ثم لا يتوهمن أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم ، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرءون عما نسبه

٢٠٨

المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول ، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته ، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته ، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب ، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية ، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض ، إلخ ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها ، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط : وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا ، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الأنعام : ٥٩] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك ، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف ، وكذا قال غير واحد ، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس‌سره أيضا : لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء الله خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته.

ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه : «كنت سمعه وبصره» الحديث ، ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال : أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى ، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس ، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول.

وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس‌سره إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة ، وقال في كتاب الياء وهو كتاب الهو الاتحاد محال ، وساق الكلام إلى أن قال : فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة ، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلي : وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها ، إذ لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال ، فمشاهدتك لذلك محال ، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق ، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية ، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به ، ومن المعلوم أن الواجب تعالى ـ وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك ـ يستحيل عليه القيام بغيره.

قال الشيخ الأكبر قدس‌سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات : نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك ، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه ، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلى ، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى.

٢٠٩

وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه ، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له ، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول ، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور ، ومن ذلك قوله :

يا قبلتي قابليني بالسجود فقد

رأيت شخصا لشخص فيه قد سجدا

لاهوته حل ناسوتي فقدسني

إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا

وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا ، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين ، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم ، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم ، وفي بعض آخر قول آخرين ، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها‌السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه‌السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناء على ما حققه الإمام الرازي رحمه‌الله تعالى ، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين ، ويمكن أن يقال : إن مدعي ألوهيتها عليها‌السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل ، ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عزّ من قائل : (انْتَهُوا) عن القول بالتثليث (خَيْراً لَكُمْ) قد مر الكلام في أوجه انتصابه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي أسبحه تسبيحا عن ، أو من أن يكون له ولد ، أو سبحوه عن ، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل ، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه ، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه‌السلام ابن الله تعالى.

ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه‌الله تعالى ملخصا من تعريفات أبي البقاء قال : قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه : إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه‌السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر. فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر ، فقال : قد انتظم من البسملة المسيح ابن الله المحرر ، فقلت له : حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار ، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها : إنما الله المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب ، ما برح الله راحم المسلمين ، سل ابن مريم أحل له الحرام ، لا المسيح ابن الله المحرر ، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى الله ، لله نبي مسلم حرم الراح ، ربح رأس مال كلمة الإيمان ، فإن قلت : إنه عليه‌السلام رسول صدقتك ، وقالت : إيل أرسل الرحمة بلحم ، وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم ، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه‌السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى ، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا وليوثا ، ومن دون طلها سيولا وغيوثا ، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك ، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها

٢١٠

المكنون ، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها أن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدا ، يهدي الله لنوره من يشاء ، بإسقاط ألف الجلالة ، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا ، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرا انتهى.

وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه أعني صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر ، وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه ، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها ، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها ، وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا.

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) استئناف مقرر لما سبق من التنزيه ، وروي أن وفد نجران قالوا لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى عليه‌السلام ، قال : وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول : إنه عبد الله ورسوله فنزلت» والاستنكاف استفعال من النكف ، وأصله ـ كما قال الراغب ـ من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع ، وقالوا : بحر لا ينكف أي لا ينزح ، ومنه قوله :

فبانوا ولو لا ما تذكر منهم

من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع

وقيل : النكف قول السوء ، ويقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف ، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد ، وفي الأساس استنكف ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية.

وقال الزجاج : الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك ، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لن يستكبر المسيح (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) أي عن ، أو من أن يكون عبد الله تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف ، وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله :

ومما زادني عجبا وتيها

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك : يا عبادي

وجعلك خير خلقك لي نبيا

والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه‌السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه‌السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو السر في جعل المستنكف منه كونه عليه‌السلام عبدا له تعالى دون أن يقال : عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته ـ كما قيل ـ فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه‌السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة ، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها.

ومما يدل على عبوديته عليه‌السلام من كتب النصارى أن قولس قال في رسالته الثانية : انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه‌السلام في جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه

٢١١

السلام ، وقال مرقس في إنجيله : قال يسوع : إن نفسي حزينة حتى الموت ، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى ، وقال أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد ، ثم خرّ على وجهه يصلي لله تعالى ، ووجه الدلالة في ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسئول ، وهو مصل والله تعالى مصلى له ، وأي عبودية تزيد على ذلك ، ونصوص الأناجيل ناطقة بعبوديته عليه‌السلام في غير ما موضع ، ولله تعالى در أبي الفضل حيث يقول فيه :

هو عبد مقرب ونبيّ

ورسول قد خصه مولاه

طهر الله ذاته وحباه

ثم أتاه وحيه وهداه

وبكن خلقه بدا كلما الل

ه إلى مريم البتول براه

والأناجيل شاهدات وعنه

إنما الله ربه لا سواه

هكذا شأن ربه خالق الخلق

بكن خلقهم فنعم الإله

كان لله خاشعا مستكينا

راغبا راهبا يرجى رضاه

ليس يحيا وليس يخلق إلا

أن دعاه وقد أجاب دعاه

إنما فاعل الجميع هو الل

ه ولكن على يديه قضاه

ويكفي في إثبات عبوديته عليه‌السلام ما أشار الله تعالى إليه بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] وفي التعبير بالمسيح ما يشعر بالعبودية أيضا (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عطف على المسيح كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى ، وقيل : إنه عطف على الضمير المستتر في (يَكُونَ) أو (عَبْداً) لأنه صفة وليس بشيء ، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه الأكثرون ، وقيل : أريد ـ بالملائكة ـ كل واحد منهم فلا حاجة إلى التقدير ، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى ؛ واحتج بالآية القاضي أبو بكر ، والحليمي والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه ، كما يقال : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس ، وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية ، وادعاء انتسابهم إلى الله تعالى بما هو من شوائب الألوهية ، وخص (الْمُقَرَّبُونَ) لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم ، ورد هذا الجواب بأن هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني ؛ قيل : ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم ، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت : ما فعل هذا زيد ولا عمرو ، وهو يكفي لدفع حجة الخصم ، وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال : إنه إدماج ، واستطراد ، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة ، فهذا العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح ، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، قال في الانتصاف : وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال : يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم ، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل ، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.

وقد كان طار عن بعض الأئمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين ، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل

٢١٢

على الجملة ، ولم يثبت عنه هذا القول ، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف ، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة ، والأحاديث متظافرة بذلك ، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الفاضل فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا انتهى.

قلت : فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس في محله على هذا فتدبر ، وقيل في الجواب : إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش ، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع ؛ ورد بأن المدعى أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية ، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بال على الآحاد وأن المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه‌السلام ، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك ؛ وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا ، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل : ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو ، وكقولك : لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة ـ كما قال في الانتصاف ـ ثم قال فيه : ولكن الحق أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض ، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء ، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره ، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده ، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول ، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير ، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) إلا ما سلف أول الكلام ، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك ، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل ، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزايدها ، ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة.

وبهذه النكتة يجب أن تقول : لا تؤذ مسلما ولا ذميا ، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام ، فلا يلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية ، فإذا قلت : ولا ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه ، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت : لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي إذ يساوي الذميّ في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب هو أجلّ وأعظم وهو الإسلام ، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم ، فإن قلت : ولا مسلما لم تجدد له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته

٢١٣

أولا ، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره ، ولا يميز لك ذلك إلا السياق ، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى ، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه ، وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة ، وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف ، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار.

وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه‌السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة ، فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه‌السلام ، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر ، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء ، وليس في الآية عليه دليل ، وقد يقال : لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه‌السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم ، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه‌السلام ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما‌السلام ، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة والسلام وآدم عليه‌السلام من غير أب ولا أم ، ولذلك قال سبحانه : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها. فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى.

وبالجملة المسألة سمعية ، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية ، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر.

وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا ، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية ، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في تعليقاته على البيضاوي : الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به ، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه ، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق ـ كما قال شيخ الإسلام ـ لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به ، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى أمره عزوجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠].

٢١٤

وقيل : التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة (وَيَسْتَكْبِرْ) أي عن ذلك ، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض بدون حصول المطلوب ، ونظير ذلك على ما قيل : قوله تعالى : (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الأعراف : ٤٥ ، هود : ١٩ ، إبراهيم : ٣] ، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج ـ وتقدم ـ دون الاستنكاف ؛ وجاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل : يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».

وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم ، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر على الإيمان ، واختاره مولانا أفضل المعاصرين ، ثم قال : وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر ، وتنكير الكبر للنوعية ، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول ، وإنما خص صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة ، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز ، ثم عرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور.

وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه‌الله تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس ، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عليهم‌السلام ، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال : التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، وقيل في توجيه المطابقة : إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى ، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها.

وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول (أَمَّا) على الفريقين لا على قسمي الجزاء ، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات ، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا ، وقرئ «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة ، وقرئ ـ فسنحشرهم ـ بنون العظمة ، وفيه التفات (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» قال : يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) عن عبادة الله تعالى (وَاسْتَكْبَرُوا) عنها (فَيُعَذِّبُهُمْ) بسبب ذلك (عَذاباً أَلِيماً) لا يحيط به الوصف (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ

٢١٥

دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يلي أمورهم ويدبر مصالحهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال ، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر (قَدْ جاءَكُمْ) أتاكم ووصل إليكم (بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة قاطعة ، والمراد بها المعجزات على ما قيل.

وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتنوين للتفخيم ، و ـ من ـ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة ـ بجاء ـ أو بمحذوف وقع صفة مشرفة ـ لبرهان ـ مؤكدة لما أفاده التنوين ، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم ، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار (نُوراً مُبِيناً) وهو القرآن ـ كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيد غاية البعد ، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية ، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به ، وإطلاق النور المبين لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره ، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل ، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد ، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به ، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه ـ قاله مولانا شيخ الإسلام ـ والأمر على غير ذلك التقدير هين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره.

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين ، وهو خلاف الظاهر (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاء لحق واجب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة ، فعلى الأول التجوز في كلمة (فِي) لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف ، وعلى الثاني التجوز في المجرور دون الجار ـ قاله الشهاب ـ والبحث في ذلك شهير و (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة (وَفَضْلٍ) أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك.

(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) أي إلى الله عزوجل ، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه ، وقيل : الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود ، وقيل : على الفضل (صِراطاً مُسْتَقِيماً) هو الإسلام والطاعة في الدنيا ، وطريق الجنة في الأخرى ، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.

وفي وجه انتصاب (صِراطاً) أقوال ، فقيل : إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم (صِراطاً) ، وقيل : إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم ، وقيل : مفعول ثان له بناء على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة.

٢١٦

ومن الناس من جعل (إِلَيْهِ) متعلقا بمقدر أي مقربين إليه ، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول ، ومنهم من جعله حالا من (صِراطاً) ثم قال : ليس لقولنا : (يَهْدِيهِمْ) طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى ، فالأوجه أن يجعل (صِراطاً) بدلا من (إِلَيْهِ) وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا : (يَهْدِيهِمْ) طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح ، ولا وجه لكون (صِراطاً) بدلا من الجار والمجرور فافهم (يَسْتَفْتُونَكَ) أي ـ في الكلالة ـ استغني عن ذكره لوروده في قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) والجار متعلق ب (يُفْتِيكُمْ) ، وقال الكوفيون : ب (يَسْتَفْتُونَكَ) وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة ، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة ، والآية نزلت في جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره.

وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت ، فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» وهي آخر آية نزلت ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام ـ كما نص على ذلك المحققون ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى ـ وتسمى آية الصيف ، أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : «ما سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ، وقال : يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) استئناف مبين للفتيا ، وارتفع (امْرُؤٌ) بفعل يفسره المذكور على المشهور ، وقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد ، وقيل : حال منه ، واعترض بأنه نكرة ، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات ، وقال الحلبي : يصح كونه حالا منه ؛ و (هَلَكَ) ، صفة له ، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في (هَلَكَ) وقيل عليه : إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير ، وإن رد بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) [الإسراء : ١٠٠] ، وقال أبو حيان : الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع ، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له ، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق ، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي ، ووافقه الحلبي ، وقال السفاقسي : الأظهر أن هذا مرجح لا موجب ، والمراد من ـ الولد ـ على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت ـ عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والإمامية ـ لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية ، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص ، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف ، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما ، أما الابن فلأنه يسقط الأخت ، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض ، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما ، وأيضا الكلام في الكلالة ـ وهو من لا يكون له ولد أصلا ـ وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم ، فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم ، وقوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ) عطف على ليس له ولد ، ويحتمل الحالية ، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس ، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة.

(فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) أي بالفرض والباقي للعصبة ، أو لها بالردّ إن لم يكن له عصبة ، والفاء واقعة في جواب الشرط (وَهُوَ) أي المرء المفروض (يَرِثُها) أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه ، والجملة مستأنفة لا

٢١٧

موضع لها من الإعراب ؛ وقد سدت ـ كما قال أبو البقاء ـ مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى : (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكرا كان أو أنثى ، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها ، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به ، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) عطف على الشرطية الأولى ، والضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما ، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها ، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا ، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل : إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد ، وإليه ذهب الأخفش ، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال ، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث ، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالأخوة اثنين ، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي ؛ وإنما قيل : (كانَتَا) و (كانُوا) لمطابقة الخبر كما قيل : من كانت أمك ، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال ، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى ، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر ، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد.

وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين : الأول أن ضمير (كانَتَا) لا يعود على الأختين بل على الوارثين ، وثم صفة محذوفة لاثنتين ، والصفة مع الموصوف هو الخبر ، والتقدير (فَإِنْ كانَتَا) أي الوارثتان (اثْنَتَيْنِ) من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين ـ كما ذكروا ـ ويكون خبر «كان» محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا ، ويكون (اثْنَتَيْنِ) حالا مؤكدة ، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك ، ويدل على حذف له (وَلَهُ أُخْتٌ).

(وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة (رِجالاً وَنِساءً) الواقع بدلا ، وقيل : فيه اكتفاء (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها ، وإلى هذا ذهب أبو مسلم (أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد.

وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي (إِنِ) أي لئلا تضلوا ، وقيل : ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول (يُبَيِّنُ) أي يبين لكم ضلالكم ، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية ، ولما تم تفصيله قال عزوجل لهم : إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب ، والخير إذا عرف ارتكب ، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة ، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال : بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه وفيه تأمل ، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض ، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم (عَلِيمٌ)

٢١٨

مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ستروا ما اقتضاه استعدادهم (وَصَدُّوا) ومنعوا غيرهم (عَنْ) سلوك (سَبِيلِ اللهِ) أي الطريق الموصلة إليه (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً) لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لبطلان استعدادهم (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لانجذابهم إليها بالطبيعة (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) نهي لليهود ، والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا ، وقد غلا الفريقان في دينهم ، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه‌السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى ، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه‌السلام إلى درجة الألوهية (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) الداعي إليه (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص ، وذكر الشيخ الأكبر قدس‌سره أن سبب تخصيص عيسى عليه‌السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم ـ وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى ـ لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الاسمائية فما سمي عيسى عليه‌السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون ، وكانت دعوته عليه‌السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية ، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في الجواهر والدرر (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالجمع والتفصيل (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي ، وعيسى عليه‌السلام في الحقيقة فإن وجوده بوجود الله تعالى وحياته عليه‌السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه‌السلام بعلمه سبحانه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ما في سماوات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة ، وأما في مقام الجمع ، فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا ...

(وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) بظهور أنانيته ويستكبر بطغيانه في الظهور بصفاته (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الحقيقي بمحو الصفات وطمس الذات (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من جنات صفاته (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بالوجود الموهب لهم بعد الفناء (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا) وأظهروا الأنانية (وَاسْتَكْبَرُوا) وطغوا فقال قائلهم : أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه (فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) باحتجابهم وحرمانهم

٢١٩

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو التوحيد الذاتي (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) وهو التفصيل في عين الجمع ؛ فالأول إشارة إلى القرآن ، والثاني إلى الفرقان (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث إنها أغيار (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) وهي جنات الأفعال (وَفَضْلٍ) وهو جنات الصفات (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) وهو الفناء في الذات ، أو ـ الرحمة ـ جنات الصفات ، و ـ الفضل ـ جنات الذات ؛ و ـ الهداية إليه صراطا مستقيما ـ الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة ، ولا حجر على أرباب الذوق ، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، ونسأله التوفيق لفهم كلامه ، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.

٢٢٠