نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

في خضمّ تلك الأوضاع كنّا لا نستطيع مغادرة الحيّ ; لعدم تمكّننا من استئجار أو رهن منزل خارجه ، مع أنّ العديد من الأصدقاء وحتى مسؤولي دائرة دعم متضرّري الحرب كانوا يجدون في بقائنا هناك أمراً غير مناسب لشأننا وشأن عوائلنا ، وأ نّه خطر على مستقبل أبنائنا وثقافتهم ، ولكن ما في اليد من حيلة ..

شكّلنا نحن مجموعة العراقيّين القليلة الموجودة هناك بالإضافة إلى عراقيّي «حيّ الطالقاني» فريقاً لكرة القدم وكان ينضمّ إلى فريقنا بين الحين والآخر بعض أبناء خوزستان الذين يروق لهم معاشرتنا وصحبتنا ..

وقد قتلنا بكرة القدم كثيراً من وقت الفراغ والبطالة ، وكنت أقضي الأوقات الاُخرى في ميدان بيت المقدس ـ فلكه آب ـ حيث هي مقرّنا الأوّل لمّا قدمنا مشهد وتعرّفنا فيها على شباب إيرانيّين ذوي أخلاق حميدة ، وتعرّفنا على الحاج سيّاح ، مصوّر حرم الإمام الرضا (عليه السلام) سابقاً ، وصاحب استوديو التصوير في الميدان المذكور ، هذا الرجل الذي تعجز الكلمات عن وصف سجاياه وخلقه الرفيع ، فكان المأوى والناصح الأمين لنا ، ولن ننسى مواقفه المشرّفة معنا أبد ما حيينا ، وقد عمل أخي الثاني معه في التصوير لمدّة ليست بالقصيرة ، وله يعود الفضل في الأخذ بيدي وإخراجي من دائرة البطالة إلى حيّز العمل والكسب ، حيث شرعت ببيع أفلام الكاميرات التصويريّة بأحجامها المختلفة ، فاستفدت منها لسدّ حاجتي الخاصّة وما عدت أشتكي جيباً خالياً ، ولا أنسى دعم بعض الاُخوة لي في هذا العمل ..

٤٠١

كنت أشعر بالارتياح وأنا أصرف على نفسي من عرق جبيني وكدّ يميني رغم أنّ نوع العمل هذا لا يناسبني ولا يناسب آمالي وطموحاتي .. صرت أستطيع شراء بعض الملابس وتناول الأكلات واقتناء الحاجيات التي لم أكن قادراً عليها سابقاً ..

مجرّد كوني طالباً مقبولاً في الجامعات والمعاهد العراقيّة لا يعني توفّر الحصانة الثقافيّة والمعرفية الكافية ، ومراهناتي آنذاك على هذه الميزة المتواضعة سبّبت لي غروراً فارغاً وبَنَتْ حاجزاً شاهقاً قبال ولوج فضاءات العلم والفكر والتزوّد منها تزوّداً حقيقيّاً ، أمّا الاحتفاظ ببعض المعلومات المتناثرة والمصطلحات والتشبّث بالقشور فما كانت تجدي نفعاً في فهم القيم والمعايير والمبادئ فهماً صحيحاً وعميقاً ..

كانت مشهد بفعل «المحاصرة اللغويّة» معهداً عمليّاً لتعلّم اللغة الفارسيّة ، فبفضل محدوديّة التعامل باللغة العربيّة اضطررنا إلى تعلّم الفارسيّة ، وكانت الرغبة مؤثّرة في سرعة التعلّم ، كما أنّ ذلك يعدّ بذاته نوعاً من أنواع الثقافة والمعرفة .. نسأل عن كلّ شيء ومعناه ونقرأ الصحف والمجلاّت ، الأمر الذي أفادنا كثيراً في التعلّم ..

ولن أنسى الشهيد كريم سياهپوش ; لفترة الصداقة الممتعة التي قضيتها معه في مشهد ، حيث كان يكثر المجيء إليها في كلّ فرصة تسنح له رغم أنّ عائلته كانت تقطن إصفهان ، ولنا علاقة عائليّة تمتدّ إلى مدينة الناصريّة استمرّت حتى إبعادهم عام ١٩٧١ م ، فاختاروا مدينة خرّمشهر

٤٠٢

التي هجروها بفعل الحرب .. أفادني في تعلّم اللغة الفارسيّة كثيراً .. وكنت اُكثر المزاح معه فأقول له : متى نأكل حلاوتك! أي حلوى الشهادة ; إذ كان عسكريّاً مرابطاً في الخطوط الأماميّة لجبهات القتال ، وبعد أدائه الخدمة انضمّ إلى قوّات التعبئة «البسيج» ، واستشهد مع أخيه الأكبر في عمليّات كربلاء الخامسة رحمهما الله تعالى ... فتحوّل المزاح إلى حقيقة وفقدنا به أخاً متديّناً دمث الخلق .. وهو أوّل من جعلني أتناول الكبّة التبريزيّة «كوفته تبريزي» التي لازلت معجباً بها ..

شكّلت مدينة مشهد بقدسيّتها وصفائها وجمالها وسعتها وعظمة إمكانياتها وشهرتها وأهمّيّتها ـ حيث تؤمّها الملايين سنويّاً لزيارة المولى عليّ بن موسى الرضا ثامن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ منعطفاً هامّاً في حياتي ، ارتسمت وتبلورت به معالم شخصيّتي وحقيقة ثقافتي وواقع انتمائي العقائدي والفكري ، فصرت اُمارس انتمائي الديني والمعرفي ممارسة عمليّة مُخرجاً ذاتي عن ثقافة المظاهر والقشور ، مقحماً إيّاها فضاءات العلم وآفاق التعلّم ، ولن اُغمط حقّ الذين رغّبوني بالالتحاق في سلك الدراسات الدينيّة ، فللّه درّهم وعليه أجرهم ..

في بدايات سنة ١٩٨٣ أو نهايات سنة ١٩٨٢ م التحقت بمدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) للعلوم الدينيّة بعد تفكير وتردّد منشؤه قضيّة الالتزام بالدرس والوظائف والوقت وخشية عدم الموفّقيّة ، إلى ذلك : انتماء هذه المدرسة إلى خطّ سياسي معيّن ، وهذا ما شكّل لي إحراجاً كبيراً ، فأنا أرفض الانتماء إلى أيّة جهة سياسيّه ; إذ أعتقد بالبقاء خارج اُطر الانتماء

٤٠٣

الحزبي والجهوي ; لما في الاستقلاليّة من حرّيّة على صعيد التفكير والعمل والانتخاب ، على خلاف التخندقات الحزبيّة التي تؤطّر التفكير وتحصره في بوتقة ذلك الانتماء ، حيث يعمل الانتماء على غسل الدماغ ، الذي من آثاره رفض الأفكار الاُخرى إن كانت لا تتّفق مع ثقافة ونظام الانتماء ..

حاولوا معي كي أكون ضمن اللعبة السياسيّة ولكن دون جدوى ، الأمر الذي سبّب لي مشاكل وصعوبات وأفقدني امتيازات كنت أتأ لّم لعدم منحي إيّاها رغم كفاءتي العلميّة والفنّيّة والرياضيّة والثقافيّة ; حيث كانت المرتبة الاُولى دراسيّاً محصورة سلفاً بيني وبين أحد زملائي ، فلا ثالث معنا .. أمّا رياضيّاً وفنّيّاً وثقافيّاً فكنت لولباً في شتّى البرامج والفعّاليّات ، لكنّهم منحوا امتيازات لغيري بفضل انتمائهم الرسمي لتيّارهم السياسي ولم يمنحوها لي لعدم انتمائي ، وكنت من النوادر في تلك المدرسة الذين لا يقلّدون مرجعهم الديني ، وكانوا يرجّحونه علميّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، ويرون في طلبة قم ـ من ذوي جلدتهم خصوصاً ـ ومقلّدي بعض المراجع الآخرين طلبةً رجعيّين غير ثوريّين ..

التحقت بمدرسة الإمام الباقر (عليه السلام) وأنا متأخّر لفصل عن أقراني في تلك المرحلة ، قدّمت اختبارات لاُواصل معهم وكانت الدرجات ممتازة جدّاً ..

ومن الطبيعيّ حصول معاناة وصعاب بداية كلّ مشوار إلاّ أنّ الوقت

٤٠٤

كفيل بتذليلها ورفعها ، وبالفعل فقد تكيّفت مع الواقع الجديد وبدأت ألمس التغيّر والنموّ الذاتي ، حيث الأجواء والبرامج الدراسيّة المتنوّعة العلميّة منها والفنيّة والرياضيّة والترفيهيّة ، وكان الانهماك النوعي باد على الجميع كي يغتنموا الفرصة التي لاتعوّض ، فحضور الدروس الميداني ، والندوات ، والمناقشات ، واستماع الأشرطة الثقافيّة ، والاحتفالات ، وجلسات العبادة والدعاء والتوسّل ، ومجاميع التدبّر القرآنيّة ، والسفرات ، والزيارات ، ومحاضرات الخطابة بقسميها المنبريّة والجماهيريّة ... ساهمت كلّها مساهمة أساسيّة في بناء شخصيّتي العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة ، وانصهرتُ انصهاراً كبيراً في المجموعة الموجودة التي أحببتها ; لما تمتاز به من الخلق الرفيع والتديّن العالي والقلوب الطيّبة ، فقضينا سنوات رائعة أعدّها من أجمل سنوات العمر ، إنّها السنوات المباركة التي فتحت لي أوسع الآفاق نحو العلم والمعرفة والفكر والثقافة ، فلقد تعلّمت وتباحثت ودرّست وطالعت وبنيت لذاتي برنامجاً كي أبلغ عبره أهدافي وآمالي ..

ساندوني ولم يتخلّوا عنّي في مختلف الظروف والمواقف ، خصوصاً وأ نّي بعد التحاقي بالمدرسة بفترة قصيرة جدّاً فقدت والدي ، فشعرت بالغربة والوحدة أكثر ; إذ بقيت الوحيد من اُسرتي بلا اُمّ وأب وزوجة ، لكنّ رفقاء المدرسة عوّضوا عنّي ما لم يعوّضه حتى أقرب الناس لي ، الذين جفوا معي آنذاك وتركوني لحالي ـ وأنا ابن الثالثة والعشرين ـ اُعاني وأتأ لّم ، وبقيت سنة كاملة أعتمد في مأكلي ومشربي على المدرسة ، وفي

٤٠٥

أثناء العطل كنت أتدبّر اُموري الخاصّة وسائر احتياجاتي بنفسي .. كان محكّاً واختباراً جيّداً منحني القدرة والصلابة على تحمّل الصعاب والمشاكل ، وترك أثراً عظيماً في بناء شخصيّتي وتحقيق تطلّعاتي .. فلولا المدرسة ومَن فيها وما فيها لما عرفت مصيري وكيف سيؤول ..

هذا ، رغم المناهج الدراسيّة التي كنت أعتقد الضعف والنقص في العديد منها ، ولم تشجّع إدارة المدرسة بادئ الأمر على المواصلة وأخذ الدروس الأرقى كاللمعتين والمكاسب والرسائل والكفاية والمنطق وغيرها ، لكنّها رضخت نهاية المطاف لمطالبنا وبدأنا بتلقّي هذه الدروس التي تعدّ من المناهج المحوريّة في الحوزات العلميّة قاطبةً ..

منحتني المدرسة فرصة إدارة بعض الندوات مثلما منحتني فرصة التدريس وإلقاء المحاضرات ولاسيّما السياسيّة منها ـ رغم الاستقلاليّة التي حافظت عليها في كلّ الظروف ـ والاُصوليّة ـ اُصول المظفّر ـ والفقهيّة ـ زبدة الأحكام وتحرير الوسيلة ـ واللغويّة ـ الإجروميّة وقطر الندى ـ وكان درس التأليف والكتابة من ضمن الدروس التي استفدت منها كثيراً في تعلّم منهج التدوين والتصنيف ..

ألقى أصدقاء المدرسة في ذهني فكرة الزواج وأعلنوا استعدادهم لتبنّي تكاليف المشروع ، استبعدت الأمر ابتداءً ، لكنّ التصميم أخذ بالنضوج شيئاً فشيئاً .. وهذا ما حصل بالفعل سنة ١٤٠٥ هـ حيث اقترنت بإبنة عمّي .. ولا أنسى الموقف المشرّف لزملاء الدرس ودعمهم وتبنّيهم لمشروع الزواج ..

٤٠٦

مرّت الأيّام والأعوام وأنا أزداد رغبةً وشوقاً لتلقّي الدروس والعلوم الدينيّة التي فعّلتُ إلى جانبها نشاط المطالعة والجهود الثقافيّة كي أتجاوز عقدة الفهم القشري والادّعاء السطحي تجاوزاً حقيقيّاً ، فانطلقت بثقة عالية نحو الدروس الحوزويّة الكبرى كاللمعتين والمكاسب والرسائل والكفاية ، التي أخافونا منها كثيراً ; لتعقيداتها وصعوبة درك عباراتها ومحتواها كما قالوا ، لكنّ خوض غمار هذه الدروس شكّل حلقةً ومرحلةً هامّة في حياتي ; إذ شعرت شعوراً واقعيّاً بكوني طالب علوم دينيّة معترفاً به في الأوساط الحوزويّة ، الأمر الذي جعلني مؤهّلاً للالتحاق رسميّاً بحوزة مشهد الرسميّة ..

أرى أنّي اقترنت بامرأة أثبتت خطأ الذين خالفوا انتخابي فيها وراهنوا على تصوّراتهم العقيمة التي أعلم أنّها تصوّرات فاسدة سلفاً ; لطبيعة أدلّتهم الضعيفة ووهنها .. ولا تخلو سيرة الحياة من الآلام والمعاناة كما لا تخلو الحياة الزوجيّة من الخدشات وبعض العثرات التي لا تؤثّر أساسيّاً على مستقبل العلاقة ونموّها ورسوخها ، شاركتني زوجتي صعاب الأيّام وسهلها ومرّ اللحظات وحلوها ، وهي السبّاقة دوماً لتجاوز كلّ ما قد يعكّر صفو الأجواء وهدوئها ، هذه المرأة القنوعة الراضية بحياة بسيطة جدّاً أضفت على حياتي نكهة خاصّة ومنحتها معنىً ألِقاً ، حقّاً أنّها كانت ولازالت وطناً لي في وحدتي وغربتي ، تحمّلت منّي وصبرت عليّ ولاسيّما تلك الحدّة والعصبيّة التي أخذت بالانكماش رويداً رويدا كلّما تقدّم العمر ومضى الزمن ، ولأجلها ولأجل وفائها بقيت مدافعاً شرساً عنها

٤٠٧

لم أخذلها أبداً ولم أسمح لأحد بالنيل منها بتاتاً ..

كان الاعتقاد السائد لدى القريبين لي : أنّي رجلٌ يصعب عليه النهوض بمسوؤليّة الزوجة والالتزام بعمل يؤمّن متطلّبات الحياة .. وهذا ما شكّل لي تحدّياً هامّاً ، خصوصاً أنّي قد تعلّمت منذ صباي أن أتعامل مع التحدّي ـ الذي يمثّل نوعاً من أنواع النقد بالنسبة لي ـ تعاملاً إثباتيّاً من أجل النفي ، أي إثبات ما هو خلاف النقد والتحدّي ، وهذا ما يتطلّب جهداً وتحمّلاً كبيرين ..

سارت الاُمور من البساطة والفقر نحو الأفضل يوماً بعد آخر وبدأنا نفكّر بالمشاريع الاقتصاديّة الصغيرة بحجمنا بحيث تسدّ بعض حاجاتنا المعيشيّة الأوّليّة ، تفكيراً مقروناً ببرمجة الصرف برمجة دقيقة واستثمار الوارد استثماراً صحيحاً ، نحسب لكلّ شيء حساباً معيّناً طبق المنهج الذي نسير عليه ، وهذا ما وفّر لنا فرص التغلّب على بعض المشاكل الاقتصاديّة والانطلاق نحو تحسين واقع الحياة بمختلف نواحيها ..

وقد أضفت البرمجة نظماً خاصّاً على حياتنا العائليّة ، مقروناً بالنموّ والتفكير بفرص أفضل ، وهذا ما جعل بعض القريبين منّا يتأسّون بمنهجنا ويعملون بالمشابه له .. صرنا نقتني الأشياء التي ما كنّا نستطيع التفكير بها حتى ، ناهيك عن الحصول عليها .. ولعبت زوجتي دوراً هامّاً في إنجاح برامجنا العائليّة لحسن إدارتها وقناعتها ..

ونحن نسعى ـ ولازال عود الحياة المشتركة غضّاً طريّاً ـ إلى تأمين

٤٠٨

لقمة العيش تقرّر أن نستقلّ تماماً بعد ما كنّا أنا وأخي ـ عديلي ـ ندير شؤون البيت معاً ، وهذا الاستقلال قد شكّل تحدّياً لي في أن أثبت قدرتي على إدارة حياتي بالاعتماد الكامل على ذاتي في توفير احتياجات الحياة ، ولاسيّما أنّي لم أكن أملك مورداً سوى راتب المدرسة المحدود جدّاً ..

انتقلنا إلى بيت آخر ، وهذا الانتقال شكّل نقطة حقيقيّة على طريق البناء استناداً إلى الإدارة الذاتيّة فقط .. وفّقني الله أيّما توفيق في هذا الاختبار وكأ نّه سبحانه وتعالى أراده لي كي يأخذ بيدي إلى فرص أكبر وحياة أرقى ..

في خضمّ ذلك بدأت تهديدات مسؤولي منظّمة إسناد متضرّري الحرب لنا والتي مفادها : بما أنّكم لا تحملون الجنسيّة الإيرانيّة فعليكم مغادرة هذه البيوت خلال خمسة عشر يوماً .. كنت أعود تعباً منهكاً من درسي وعملي وإذا بي أجد «الإبلاغيّة» التي تجعلني قلقاً على مستقبل عائلتي ، وأنا الذي لا أستطيع توفير أبسط مبلغ الإيجار لبيت خارج مساكن المنظّمة المذكورة .. تكرّر إرسال الإبلاغيّات لنا المصحوبة بالتهديد والتحريم الشرعي وكأ نّنا كفرة محتلّون! ورغم شعوري بأ نّي فقيرٌ لست كالباقين الذين يحمون عوائلهم بمساكن وأماكن ولا يفكّرون بأمثال تلك التهديدات والإبلاغيّات ، لكنّي ربما كنت أفضل من آخرين لم تتهيّأ لهم مثل فرصتي .. على أنّي وعلى طول الخطّ كنت خجلاً من كوني أقطن حيّاً لا يتمتّع بسمعة طيّبة ولا يناسب شأننا ، إلاّ أنّه لا حيلة باليد ..

٤٠٩

واصلت دراستي الدينيّة بكثافة وإقبال كبيرين ولم أكن لاُضيّع أيّام التعطيل أيضاً ، فتقدّمت وأنهيت كلّ المراحل السابقة على دروس البحث الخارج ، واشتركت لأوّل مرّة في دروس البحث الخارج فقهاً واُصولاً سنة ١٤١١ هـ .. ق التي كان يلقّيها المرحوم آية الله الشيخ علي الفلسفي (قدس سره) ، ودام حضوري لخمس سنوات ، أي حتى سنة ١٤١٦ هـ .. ق حيث انتقلت إلى مدينة قم المقدّسة ..

وبالتقارن مع الدروس الحوزويّة واصلت نشاطي التحقيقي في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) متدرّجاً شيئاً فشيئاً من شعبة مقابلة النسخ المخطوطة ثم كتابة الهوامش ومن بعدها استخراج الأقوال وتدقيقها والعثور على مجاهيلها والشروع بمقدّمات تقويم النصوص ، ثم المباشرة المحوريّة والحقيقيّة بتقويم النصوص المقرونة بمهمّة إدارة التحقيق والمسؤوليّة العلميّة التي بدأت عام ١٣٦٨ هـ .. ش واستمرّت حتى انتقالي إلى مدينة قم أوائل ١٣٧٥ هـ .. ش ..

لقد صقل الدرس والتحقيق مواهبي ، بل قد غيّرا مجرى حياتي بأكملها ، فصرت ذلك الإنسان الذي يهوى التريّث والمراجعة والتأ نّي والتفحّص والاحتياط بدل العجلة والتهوّر والتشبّث بالمظاهر والقشور ، وأصبحت أبحث وأتعلّم واُطالع ; كي أبني في ذاتي اُسّاً للثقافة والفكر والمعرفة ، اُسّاً أنطلق به كمنصّة نحو فضاءات العلم وآفاق التفكير الحرّ الذي أنسلخ به من حضيض التبعيّة والتقليد إلى شامخ الإبداع والابتكار والاستقلال ، بلا اجترار وتكرار ولا عبء ثقيل على الأكتاف ، فقرّرت أن

٤١٠

لا أكون صنميّاً وببغائيّاً وذيليّاً ومتزلّفاً رخيصاً ، مع علمي بأنّ هذا القرار سيكلّفني الكثير من الخسائر والتضحيات ، لكنّها تهون بلا شكّ إزاء لذّة الحرّيّة التي ترفض الاستبداد والاحتكار وتجافي الملاكات والموازين الناشئة والمنبعثة من رحم الرغبة الذاتيّة والأهواء الشخصيّة ، وفهمت أنّ النقد البنّاء بناءٌ وشموخٌ وألق ، أنّ النقد جرس إنذار ومعمل وقاية وصيانة ورقابة ، أنّه محرار وموجّه ناصح أمين ، رغم ما يتركه ابتداءً من آلام ومرارة ومعاناة تتحوّل فيما بعد إلى محرّك قوي نحو التغيير والإصلاح ..

ولقد علمتُ أنّ الاستقلال المذكور ـ الذي أعني به التمسّك بالجوهر والاُصول وعمق المفاهيم التي اُؤمن بها وأذود عنها ـ لا يمكن حصوله بالاعتماد على محطّات تصادره وتجعل منه شكلاً فارغاً لا معنى ولا قيمة له ; فقرّرت رسم منهجيّة تقود إلى الاكتفاء الذاتي كي أتفرّغ براحة بال إلى بيان الرؤى والأفكار والعمل بها في فضاء من الحرّيّة بلا شروط وقيود واستبداد ..

ولقد بلغت الاكتفاء المرتقب الذي كوّن محوراً أساسيّاً في ممارسة الانتقال من مراحل الثبوت الفكري إلى الإثبات والتصديق ، مع علمي بخسائر وآلام ستنالني وتستمرّ بالنيل منّي ، لكنّي متمسّك بمبدأ هو أقوى بكثير من كلّ الخسائر والآلام ، بل لا مفهوم للحرّيّة والاستقلال إن لم نقدّم لأجلهما ما يستحقّانه من المؤن واللوازم ..

إنّ القيم والمعاني التي أعتقد بها تفرض عليّ مزيداً من الالتزام بما

٤١١

يحفظ العزّة والكرامة وشأن الإيمان الذي أروم بلوغه ..

شكّل مجيء الوالدة رحمها الله من العراق إلى إيران عام ١٩٩٢ م ، بعد ذهابي أنا وأخي الأكبر وابن عمّنا إلى «مدينة شقلاوة الشماليّة» للإتيان بها ، وما حصل هناك من مواقف ودموع أثناء اللقاء الذي تمّ بعد فراق دام إثني عشر عاماً ، شكّل حدثاً هامّاً في حياتي ، ولاسيّما أنّها الاُم التي رسمتُ لها في عقلي ومشاعري أجمل معاني الحبّ والعطف والحنان .. جاءت الوالدة وأضفت جوّاً جديداً مفعماً بالحركة والتغيّر النسبي الإيجابي في واقع العلاقات العائليّة ، إلاّ أنّني ينبغي أن اُسجّل اعترافاً مرّاً مفاده : إنّنا جميعاً ـ أبناؤها ولاسيّما أنا ـ لم نكن أبداً بمستوى الأبناء الذين يعتنون باُمٍّ جاءت فقط لتعيش في أحضان فلذات كبدها ، فقد أعمتنا بعض أخطاء الوالدة ـ غير المقصودة ـ عن القيام بوظائفنا تجاهها ، وأحتمل أنّ بعض أساليبنا معها بلغت ـ للأسف ـ حدّ العقوق .. أعتقد أنّها ماتت وقلبها محزون من أبناء لم يحسنوا صنيعاً معها .. وبذلك فإنّنا جميعاً لم نستفد من تجربة الوالد رحمه الله الذي مات وفي قلبه بعض الآلام من سلوك الأبناء .. إنّنا جميعاً يجب أن نعمل كلّ ما يجلب الرضى والسرور لوالدينا المرحومين في قبريهما ، عسى الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا البركة والتوفيق وحسن المآل ..

بعد ثماني سنوات ، وضعت الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة أوزارها بعد إعلان السيّد الخميني (قدس سره) الموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٥٩٨ ، مضمّناً تلك الموافقة مقولته الشهيرة التي مفادها : إنّ قبول وقف

٤١٢

إطلاق النار بمثابة تجرّع كأس السمّ .. ولا يخفى أنّ تصميم الجمهوريّة الإسلاميّة هذا قد جاء في الوقت المناسب ; لظروف الجبهات وخارجها التي شهدت إصراراً وضغطاً دوليّاً كبيرين للنيل من النظام والسعي إلى إسقاطه بكلّ الوسائل الممكنة .. ونحن إزاء ذلك كنّا بين حالين : غصّة بقاء صدّام وأمل في حلّ مشكلتنا ..

طوت إيران ملفّ الحرب وشمّرت عن ساعد الأعمار والبناء ، فشهدت البلاد حركة لا نظير لها ، تمكّنت من خلالها إعمار ما خلّفته الحرب من خراب ودمار ، ثم التوجّه نحو تنفيذ المشاريع العملاقة على شتّى الميادين والأصعدة .. وإيران اليوم نموذج عملي لبلد يروم الإنسلاخ من مجموعة الدول النامية ـ العالم الثالث ـ والالتحاق بركب العالم المتقدّم .. وما الخطّة العشرينيّة إلاّ منصّة الانطلاق من هذا العالم إلى العالم الآخر ، ونماذجها كثيرة على صعيد البنى التحتيّة والتحقيقات العلميّة والمحاولات الفضائيّة الناجحة والقفزات الطبّيّة الكبيرة ونظام الرعاية الصحّيّة والاجتماعيّة وبناء السدود وصناعة السفن والسيّارات والاكتفاء الذاتي النسبي وتخرّج الطاقات والكوادر المختصّة ، إلى ذلك متانة واستقرار النظام السياسي والتأثير والنفوذ القوي في شتّى الأحداث والمواقف الإقليميّة والدوليّة .. وتشير الإحصائيّات الصادرة من المراكز الاقتصاديّة العالميّة ـ المنتشرة قبل حوالي عامين ـ إلى حضور إيران ضمن الواحد والعشرين دولة الأقوى نموّاً اقتصاديّاً في العالم .. ولعلّ السبب الأساس يعود إلى ضيق الفجوة بين النظام والشعب أو انعدامها في

٤١٣

أحياناً كثيرة ، ثم إنّ الانتخابات الساخنة والحراك السياسي وحيويّة الناس تعطي زخماً هائلاً نحو النموّ والتقدّم .. إلى ذلك : فإنّ قواعد وجدران الهيكل السياسي المتعدّدة والمتشعّبة تمنح البلد مزيداً من القوّة والثبات والاستقرار والاندفاع براحة بال نحو تنفيذ مشاريع التطوّر والإعمار ..

صارت إيران بلدي ، وزادت العلقة بها شيئاً فشيئاً ، ولا تهافت بين كونها كذلك وكون العراق وطني ; إذ لا ضير أن يكون للمرء وطنان ، وطنٌ ولده ونشّأه وآخر ضمّه ونمّاه ..

ظلّ وضعنا القانوني الهشّ مبعث قلق وعدم استقرار ; لعدم حصولنا على الجنسيّة الإيرانيّة وبقائنا على البطاقة الخضراء ـ البيضاء لاحقاً ـ ولم تفلح المحاولات المختلفة على تجاوز هذا الوضع ، الأمر الذي أفقدنا كثيراً من الفرص والإمكانيّات ، مضافاً إلى العامل النفسي وخشية المستجدّات المستقبليّة ، وبذلك فكّرت مقطعيّاً باللجوء إلى بعض الدول التي تمنحنا وضعاً قانونيّاً مستقرّاً ، إلاّ أنّ ظروف العائلة والوضع الاقتصادي وعدم وجود الرغبة الحقيقيّة بالمغادرة شكّلت عوامل الاستمرار بالبقاء وانتظار ما قد يحصل من فَرَج وحلّ ..

يوماً بعد آخر يكبر انسجامي وارتباطي ونشاطي وتطوّري في مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) بفرعها المبارك في مدينة مشهد المقدّسة ، يوماً بعد آخر أتعلّم شيئاً جديداً وصرت أتسلّق مراتب التحقيق الواحدة تلو الاُخرى بسبب الرغبة والشوق والتصميم والوفاء لكيان ضمّني ووثق بي ،

٤١٤

لكيان كان أساس نشوئه نشر آثار علوم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي دوّنتها عقول وأفكار علمائنا الأفذاذ منذ مئات السنين وظلّت مركونة في زوايا المكتبات يعلوها غبار الدهر ويبني ، فشمّرت فتيهٌ آمنت بربّها وبالرسول الكريم والأئمّة المعصومين ومدرستهم المقدّسة وما رشح عنها من تصنيفات ومدوّنات لتزيل ذلك الغبار عن هذه الآثار والنتاجات وتعرضها في ميادين العلم والثقافة والمعرفة مصحّحة منقّحة مطبوعة بحلّة جديدة زاهية ، وبذلك تكون قد رفدت المكتبات الوطنيّة والإسلاميّة والعالميّة والمراكز المختصّة بروائع الأسفار التي صاغتها أذهان أقطابنا الأجلاّء بأحرف من نور ..

ومؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) كانت رائد الحلبة والمضمار بفعل نتاجها الراقي واُسلوبها المبتكر الذي أعجب الجميع ، ألا وهو منهج التحقيق الجماعي الذي اُشير إليه وجرى شرحه في أكثر من مناسبة وموقف ..

ويعلوني الفخر ونشوة الانتماء لكيان ما برح يذبّ عن القيم السامية والمبادئ النبيلة ..

لقد أفادتني تجربة مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) كثيراً وأتاحت لي فرصة الاحتكاك العلمي الواقعي عبر خوض غمار المتون الصعبة المغلقة المبهمة ، وحلّ رموزها وفهم مطالبها وهذا ما يعني : مناقشة عسيرة وامتحان كبير لابدّ من النجاح فيه ; إذ الفهم والتلقّي الصحيح يرشح منه نصٌّ علميٌّ موزَّعٌ توزيعاً صحيحاً ، والعكس بالعكس ... علماً بأنّ الوسط

٤١٥

المختصّ مراقبٌ متربّصٌ لا يغفل ولا يتسامح في كشف ونشر ما يعثر عليه من أخطاء وهفوات وزلاّت ; انطلاقاً من عمليّة النقد الرامية إلى منح النتاج الثقافي مزيداً من الدقّة والتأمّل والتعمّق .. ولا يقلّ الجانب الفنّي شأناً عن الجانب العلمي ، ولاسيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار الترابط الوثيق بينهما ، إلى ذلك الحلّة الجميلة التي تمنح الكتاب شكلاً ورونقاً خاصّاً ..

زرع «التحقيق» في عقلي وأحاسيسي بذور الطموح إلى بلوغ الأساليب والآليات الأخلاقيّة الرفيعة ، كيف لا ، وهو الذي يعني الأناة والصبر والرغبة الشريفة والأمانة وشوق الحقيقة والتأمّل والتعمّق ... كلّ ذلك من أجل الحصول على السلامة والصحّة ، أليس في هذا بُعدٌ أخلاقيٌّ رفيع يربّي النفس ويعلّمها كيف تصل غاياتها طبق الأدوات والسبل النبيلة والقنوات السليمة؟! لذا فإنّي أنظر إلى «التحقيق» ـ بالإضافة إلى زواياه المعروفة ـ من زاوية اُخرى هي الزاوية الأخلاقيّة فيه ، ولعلّها الأساس والأصل حينما يكون بلوغ الحقيقة مقصداً دونه سائر المقاصد ..

لكنّي لا أرى التوقّف والاكتفاء بتحقيق النصوص صحيح ، إنّما هو مرحلة هامّة ومنصّة انطلاق قويّة وبوابّة واسعة نحو الأرقى والأفضل من فضاءات العلم والمعرفة والثقافة ; فالتحقيق بما يعنيه من العمل بمناهج معيّنة على نتاجات جاهزة سلفاً ـ رغم الخدمة الكبيرة ـ قد يعدّ نوعاً من الحبس الفكري والتقيّد المعرفي والمصادرة العفويّة والتبعيّة التي تضعف الإبداع والابتكار ، وبعض المتطرّفين يعدّ عمليّة التحقيق أشبه بالعبوديّة ; إذ صرف الجهود على آثار الآخرين الموجودة سلفاً بحجّة إظهارها بما

٤١٦

يتلاءم مع حاجة العصر ـ مع ما فيها من فوائد لا تنكر ـ هو نوعٌ من أنواع العبوديّة الثقافيّة ، فالإنسان القادر على الإبداع والابتكار لا يمكن له أن يكون آلةً لغيره مع حضور المعنى الاستقلالي في أعماقه وعقله وشخصيّته ..

لا أدعو إلى انتفاضة على «التحقيق» أبداً ، وأنا الذي اُدين له بالكثير ، إنّما أدعو إلى عدم الاكتفاء بالتحقيق وعدّه غايةً وهدفاً ، ولاسيّما أنّ الإنسان كائنٌ يهوى الانطلاق في رحاب الآفاق ليحلّق بعيداً قدر ما استطاع ، والتحقيق رغم سعة فضائه لكنّ حدوده واضحة معلومة ..

أروم التحرّر من كلّ القيود التي تصادر ما بي من حسٍّ عارم نحو الاستقلال ورفض للتبعيّة المكبّلة للأفكار ، أمقت الاستبداد بشتّى ألوانه وأشكاله مثلما أمقت سائر ما يجعل الإنسان رخيصاً مبتذلاً ، أنا توّاقٌ لحرّيّة تأخذ بي إلى برّ الأمان ومرافئ الطمأنينة رغم اعترافي بصعوبة الوصول وبلوغ المرام في ظلّ أوضاع يحكمها المدّ المعاكس لتطلّعات الحبّ والخير والفلاح ..

للأسف ، فقد وجدت في المال ـ كما وجد غيري ـ عاملاً أساسيّاً وركناً قويّاً في تحقيق الآمال المعهودة وعدم الخضوع للاستبداد والسيطرة والتوجيه الآلي ، إنّ المال يمنح القدرة على صياغة الأفكار وعرضها بعيداً عن تأثيرات التبعيّة والذيليّة ، وأعتقد أنّ حلّ مشكلة المال تعطي ثباتاً واستقراراً وتفكيراً صافياً نحو نيل المراد ، كلٌّ حسب هويّته وانتمائه وثقافته ..

٤١٧

وقد عملت وبرمجت وسعيت نحو الاكتفاء المالي ، وحينما حصل ذلك أرخى الواقع عنانه لأفكاري لتنطلق في فضاء الحرّيّة والاستقلال والاختيار ، صرت أتأمّل وأتدبّر الأشياء بكيفيّة أرقى واُسلوب أرفع وأدوات أنضج ; لأ نّي لا أخشى بعد الآن سوى نفسي التي قد تأخذ بي إلى هنا أو هناك ..

وبشفافيّة تامّة أقول : غدوت اُفكّر بربّي تفكيراً أشمخ كما هو الحال بالنسبة إلى النبيّ والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) ولاسيّما قضيّة غياب الحجّة ـ أرواحنا فداه ـ التي أشغلت ولازالت تشغل بالي كثيراً ، من باب كوني لا اُريد وضع اعتقادي على كفّ عفريت أو يغدو كهشيم تذروه الرياح في يوم عاصف ، خصوصاً أنّ العقلانيّة بهيمنتها العصريّة تفرض شروطاً يصعب إغفالها وتجاوزها ، كما وأ نّنا من جهة اُخرى لدينا المؤن اللازمة والخزين الثرّ للإجابة عن تساؤلاتها ، لكنّ الذي يضعف فينا هو الأداء الجيّد والاُسلوب المعياري العلمي والمنهج الصحيح ، فلِمَ لا يغيب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف ألف عام وأكثر عقلانيّاً حتى؟ ذلك إذا فهمنا واستوعبنا الآليات السليمة فاغترفنا من المحتوى الرصين مؤناً تكفينا في تثبيت إيماننا والانتقال به من عالم التصوّر إلى عالم التصديق ، ثم إدارة الحوار والصراع بنَفَس أقوى وحجج أدهى وعقلانيّة أرقى ..

نعم ، يتطلّب الأمر مزيداً من العمق والجوهريّة والأصالويّة التي تعني كشف زيف انتماء الكثيرين ـ حتى بعض المسمّين بالعلماء ـ الذين يعشعشون على المظاهر والقشور ; تحقيقاً لمآربهم وغاياتهم ، حيث

٤١٨

اتّخذوا الدين مغنماً ووسيلةً لبلوغ الرغبات الذاتيّة والمطامح الشخصيّة ..

وإن كنت مديناً في حياتي العلميّة والثقافيّة لشيء فأنا مدين للدروس الحوزويّة وتحقيق النصوص ، ثم مطالعاتي ومتابعاتي السمعيّة والبصريّة ..

نعم شكّل الدرس الحوزوي ثم التحقيق ركنَي وجودي الثقافي ، فأنا لهما مدين ; حيث علّماني ما كنت لا أحلم به حتى ، فلعلّني فهمت بهما السرّ وفتحت الشفرة وأدركت النقطة التي تعني رسوخ الثقة بالنفس ..

بعبارة اُخرى : صرت أرى في قرارة أعماقي أنّني غدوت صاحب رأي وقرار وتصميم ، اُميّز المعارف والأفكار والثقافات والقيم والمبادئ والانتماءات وثقل الأفراد ... ولا اُخفي سرّاً إن قلت : إنّني مسرور بما منّ الله عليّ من فتح وتوفيق ، لكنّي لازلت طامحاً بالمزيد ، طامعاً بمراتب تأخذ بي إلى فضاءات الإبداع والابتكار المعرفي والثقافي .. وأقصد بالفتح والتوفيق : النقلة الهائلة التي أنقذت حياتي ، حيث الانتشال من حضيض الغرور وخطر الانزلاق والسقوط في مهاوي الضياع إلى فضاءات العلم والمعرفة والثقافة والإيمان وسبل الخير والهداية ..

كلّما استجمع ذاكرتي واُمرّرها على عقلي وقلبي متى ما تسنح الفرص والدواعي المحرّكة لها ، أجد الجهل والفقر المقطعي أشدّ مراحل الماضي تعاسةً ، وأقصد بالجهل : الادّعاء الذي يغاير الحقيقة ، فلطالما أعتقدت لذاتي بحيازة الرفعة العلميّة والمكانة المعرفيّة ، اعتقاداً أراه اليوم

٤١٩

سخيفاً أجوفاً لا واقع له ، بل كانت مجرّد إشارات وبعض أشياء يخجل المرء أن يضعها في فضاء الفهم الأوّلي ناهيك عن الدرك العميق والتلقّي السليم والتشخيص الصحيح للمعرفة ومعاييرها العلميّة .. ولا يعني هذا أنّي صرت اليوم شيئاً أو رقماً في عالم الثقافة لكنّي صرت أدرك حقيقة حجمي ومقدار مؤني ممّا يسمح لي بالتحرّك وفق الموجود الثقافي قلّ أو كثر ..

وجدت في المراجعة والاستقراء والمقارنة والحفر والقراءة والتأمّل ... ضالّتي التي تنقذني من التهوّر والقشريّة وإصدار الأحكام والآراء غير الناضجة ، فصرت أكثر ميلاً إلى الاحتياط والتأ نّي في اتّخاذ القرارات والتصميم على هذا الأمر وذاك .. ولاحظت حصول العدّ التصاعدي للسكوت في أفعالي وسلوكي ; إذ كنت كثير الكلام والمزاح نسبيّاً ، فصرت أهوى السكوت واُفضّل كلّ ما يمتاز بالهدوء والاسترخاء ، ولعلّ الميل أحياناً كثيرة إلى العزلة والصمت هو محاولة لتقليل الأخطاء ، كما أنّ إحساسي بإيذاء الآخرين إحساسٌ ملؤه المرارة والألم ... لكنّي إنسانٌ والإنسانُ اجتماعيٌّ الطبع ..

كان الفقر المقطعي يؤرّقني ويقضّ مضجعي ويعطّل مشاريع حياتي ويصبغني بصبغة أمقتها مقتاً شديداً ، رغم السعي الكبير إلى حفظ العزّة والكرامة الشخصيّة ولاسيّما أنا ابن اُسرة لها احترامها وسمعتها واشتهارها في موطنها بيسر الحال والغنى والمال .. لكنّ الفقر هو الفقر ، والماضي وذكرياته لا تغيّر من الحاضر والواقع شيئاً ، لذا قرّرت الخروج من دائرة

٤٢٠