نفحات الذّات - ج ١

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ١

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-975-1
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٧١

١
٢

٣
٤

نداء الضمير

ليست هذه المكتوبات إلاّ رشحاً من رواشح الذات ونداءً من نداءات الضمير وقلمَ أفكار سعى جاهداً أن يحمل بكفّه ويحفر على قلبه ويصوغ بذهنه غاية الوفاء والصدق. إنّها رؤى ولواعج ترفض «الإسكات» وتنشد «الإقناع» في فضاءات معرفيّة علميّة منهجيّة سليمة.

إنّها تناديك أيّها المنصف الواعي كي تسهم في علاج داء مستفحل يهدّد قيمنا وطموحاتنا الناهدة. إنّها تأمل وكلّها ثقة أن تمنحها الصبر والذهن والزمن الكافي ، وتستميحك العذر إن سهتْ وأغفلتْ وأخطأتْ لا عن عمد قطعاً. إنّها تستبعد مرورك عليها مرور الكرام ; إذ لم تعهدك إلاّ سخيّ السمع والقلب والعقل.

ما كنت أقصد أن تقف قصاصاتٌ دوّنتُها إثر حاجة ذاتيّة وهموم لم تجد متنفّساً لها سوى الكتابة سبيلا ، على شكل كتاب يُقرأ ، لكنّ أدلّ دليل على الشيء وقوعه. والحمد لله على ما أنعم والصلاة والسلام على الرسول الخاتم وآله أسياد العالم.

٥

شكراً يا ربّ

تمرّ الأيّام مرّ السحاب ، بل أسرع من الريح .. ينقضي العمر بإسدال الستار على شريط الحياة ، نرحل ولازالت في أعناقنا أعمالٌ ناقصة ومهامٌّ لم ننجزها وطموحات لم تتحقّق ، لازالت حسابات الآخرين معنا مفتوحة ، لازالت وخزة الضمير تحفر في أعماقنا ; جرّاء ما ارتكبناه من آثام وما سبّبنا لغيرنا من معاناة وآلام.

وإن كانت فرصةُ الحياة باقية فهل نهامس الحنايا بضرورة غلق الملفّات العالقة ولا نقول : اليوم ، غداً؟

يؤرّقنا الليل ويذكّرنا ، ينسينا النهار فتذهب بنا جاذبيّة الحياة ومظاهرها إلى مناطق الغفلة والتراخي ، فنعمل لها كأ نّنا نظلّ فيها أبدا ، ونحتجّ للغد بأنّ الله كريم ، متغافلين عن حدّ كرمه الذي لا يعني الإغماض عن غمط حقوق الناس والدِّين.

ماذا عساي لو تمعّنت في هذا القادم الرهيب وعلمتُ أنّه اليقين بلا ريب ، فهل لي أن أضحك؟! إنّ قضيّة الموت قضيّةٌ رهيبة تفرض

٦

جدولة برامج الحياة من جديد ، لا أنّها تعيقها ، بل تنظّمها بنظام مشروط مقيّد ، فلا إطلاق ولا عموم مادامت النهاية حقيقة لا مفرّ منها.

لو تأمّلنا نهايتنا وتدبّرنا ذلك الشطر الأهمّ الأدوم من حياتنا لهبط الخطّ البياني لأخطائنا وارتفع الخطّ البياني لإنسانيّتنا ، وصار لون الحبّ والسلام أظهر وأجمل من سائر الألوان ، وغدا للسعادة معنىً في وجودنا.

شكراً لك يا ربّ ، شكراً لك أن خلقتني ورزقتني من خيرك الوافر وكرمك السابغ ومنحتني فرصة التفكير في الإجابة عن سؤال الحياة الكبير : من أين ، في أين ، إلى أين؟ فيا ربّي بارك لي وأعنّي على أن اُجيب الجواب الصحيح ; لأنعم برضاك فإنّه خير الرضى ، وأنال منك الجزاء فإنّه أفضل الجزاء.

٧

فطرة الله

المعرفة ومناهجها والوصول إلى الحقيقة عبر بوّابة الفروض والحدسيّات والتخمينات أو التجارب والحسّيّات .. بآليات وأدوات اختُلِف في كونها استقراءً أم استنباطاً أم قياساً منطقيّاً ...

أرسطو ، فرنسيس بيكون ، دافيد هيوم ، جون ستيوارت مل ، برتراندرسل ، رايشنباخ ، كارل بوبر ، عمانوئيل كنت ، ديكارت ، تارسكي ، لايبنتز ، نيوتن ، غاليلو ...

ابن مسكويه ، أبو حيّان التوحيدي ، ابن رشد ، ابن سينا ، الغزالي ، ملاّ صدرا ...

مهدي بازرگان ، محمّد باقر الصدر ، شريعتي ، مجتهد شبستري ، سروش ...

زكي نجيب محمود ، محمّد أرگون ، محمّد عابد الجابري ، عبدالرحمن بدوي ، حسن حنفي ...

أثرُ النزعة النفسيّة والتاريخيّة في بناء نظريّة ما. هل يولَد الإنسان

٨

خالي الذهن من أيّة فكرة ، كما ذهب إليه جون لوك ، أم هي خرفة من خرافات المذهب التجريبي ، كما ذهب إليه كارل بوبر ...

هل الاستقراء متكفّل بالكشف عن الواقع ، أم أنّها تبقى محاولات احتماليّة لإصابة الواقع دون العلم واليقين. وهل استطاع بعض كبار التجريبيّين إثبات دور للميتافيزيقيا باعتبارها ضروريّة لنموّ المعرفة وخصوبة الفروض ...

سلسلة من الأسماء والعناوين والنزاعات المعرفيّة التي شغلت الفضاءات المختصّة منذ القدم إلى يومنا هذا ، وستبقى حتى نهاية المطاف شغلها الشاغل مادامت حياة البشريّة عبارة عن مناجزات وتقابلات وصراعات تختلف باختلاف الأدوات والظروف.

مدارس ومذاهب ونظريّات ، مناهج وأدوات وآليّات ، لازالت تعجّ بها البشريّة وهي في خضمّ حركة دائمة ممزوجة بالجهد والعناء والشقاء والنتاج والفشل والنجاح ، بؤر سيطرة ومحاور استبداد وعوامل نفوذ وانتشار وبقاء وتغيير ... واقعٌ لا يمكن مغادرته وتجنّبه وإغفاله ، إنّما نحن محكومون بالتعامل معه ـ كلٌّ حسب مبناه وانتمائه ـ سلباً أم إيجاباً.

وممّا أفرزه الواقع : النهضة الصناعيّة التي شهدتها اُوربّا في النصف الثاني من الألفيّة الثانية ; إثر رواج المذهب التجريبي وانكماش الكنيسة وانحسار المدّ الديني ، وقد اعتبرت التجريبيّة أنّ الميتافيزيقيا ما هي إلاّ مضيعة وقت وعبث وهراء فارغ ، فانطلقت لتكتسح الدنيا بحضارتها

٩

وتقنيّتها ونتاجها ، وصار الحسّ والتجربة والملاحظة ثقافةً وفكراً مهيمناً على العقول والمعايير ، واستُخلِص الكونُ بأكمله على أنّه موجود خاضع لنظام الميكانيكا لا غير ، فلا قوّة عليا مسيطرة ولا ميتافيزيقيا ولا إله يخلق ويحكم ويدبّر. إلاّ أنّها بذاتها ـ أي الحركة العلميّة التجريبيّة التي قادت اُوربّا وأميركا إلى القمّة والازدهار ـ لم تستطع إثبات : أنّ نتاجات التجربة المتكرّرة احتمالاتٌ ترقى لليقين شيئاً فشيئاً. بل إنّ تكرار التجارب يزيد الاحتمال قوّةً وثباتا. وعدم الاستطاعة هذا ، أكّده روّاد التجريبيّة مؤخّراً واعتُبر تكرارُ التجارب غير ذي نفع في دعم الاحتمال المرجوّ من خلاله بلوغ ذلك اليقين ، وهذا الرأي بدأ بالانتشار وساد في القرنين الأخيرين ، ممّا يعني بقاء «الاحتمال» احتمالاً ليس إلاّ ، مضافاً إلى ذلك ذهاب بعض التجريبييّن إلى عدّ الميتافيزيقيا عاملاً مؤثّراً وضروريّاً في خصوبة الفروض والتجارب!! فماذا يعني هذا؟!

ثم ماذا يعني عجز الاستقراء التجريبي عن التعميم اليقيني من الجزء والمصداق إلى الكلّ والعامّ رغم عظم الجهد والمساعي الحثيثة؟!

إنّ كارل بوبر (١٩٠٢ م ـ ١٩٩٤ م) صاحب «منطق البحث العلمي» وصاحب الآراء والأفكار الحيّة إلى يومنا هذا ، العدوّ اللدود للمنطقيّة الوضعيّة وصاحب المناقشات الساخنة مع رايشنباخ أحد روّاد التجريبيّة والمتمسّك القويّ بالاستقراء والمنابذ العنيد للميتافيزيقيا ، كار بوبر هذا ، جعل دوراً للميتافيزيقيا بحجّة ضرورتها لنموّ المعرفة وخصوبة الفروض. كيف يمكن لتجريبيٍّ مثله إثبات دور للغيبيّات ولاسيّما أنّ التجريبيّة لا تقرّ

١٠

لها وجوداً أبدا ، ويبدو أنّ الحصيلة التي توصّل إليها بوبر بعدم قدرة التجارب المتكرّرة على مضاعفة الاحتمال وتقويته جعلته يفكّر جدّيّاً بطريق جمع ، ولكنّها محاولة أشبه بالجمع بين النقيضين ، أو هي مؤشّر تراجع واعتراف بفشل التجريبيّة في إثبات فروضها الحسّيّة المحضة ، فغدت تتخبّط في اختيار هذا العلاج أو ذاك.

والأعجب ما في الأمر أنّ التجريبيّة جانبت العلوم الإنسانيّة وتنكّرت لها واحتقرتها أيّ احتقار ، ولم تعر للأحاسيس والمشاعر والصفات والحالات الإنسانيّة اهتماماً خاصّاً ، حيث شغلت نفسها بالتجربة والملاحظة والطبيعة وظواهرها ، وقضت العمر في استخلاص النتائج العلميّة التي تقود إلى الصناعة والتقنيّة بغفلة كاملة عن الإنسان ونزعاته ومعاناته وآلامه وأفراحه ... وإن ظهر اهتمام من التجريبيّة مؤخّراً بالعلوم الإنسانيّة فلأجل الخسارة الفادحة والنقص الكبير الذي عانت منه طيلة فترة الانشغال بالعلوم التجريبيّة والطبيعيّة ممّا جعلها في واد والإنسان بصفاته وحالاته وأعماقه في واد آخر. والمحاولات المتأخّرة لم تشفع للتجريبيّة في ردم الهوّة وكسر الفجوة المذكورة.

نعم ، حين يأمل الإنسان ويألم ويحزن ويعاني ويشدو وتأخذه النزعات النفسيّة من هنا إلى هناك ، وحين يحاول التشبّث بشيء ما انطلاقاً من نداء الروح والحنايا تجده يجدّ في البحث عن شيء مفقود ، عن شيء هو بحاجة ماسّة إليه ، فيرى أنّ ضالّته هذا الحسّي أو ذاك .. لكنّه لا يكتفي ويظلّ دائم البحث عن شيء ما ، فيكرّر المحاولة في ذاك الحسّي

١١

وغيره ولكن دون جدوى ، إنّه يريد العودة ، لكن لا يعرف كيف يعود ، يريد الإياب إلى الأصل ، إلى الفطرة التي فُطر عليها لكنّه يجهل الطريق والأداة ، فإذا ما توفّرت له مناهج المعرفة السليمة فإنّه يرجع إلى حيث كان ، نقيّ الفكر والقلب والإحساس ، بلا أدنى شائبة انحراف وضياع ، إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.

١٢

فاز المخفّون

أضعافٌ لا تحصى من معاني الخسران والإحباط والخيبة وثقل الأوزار وجسامة الأفعال تحيط هاتين اللفظتين الأنيقتين ، إنّهما تستنطقان الصامت وتقرءان خلف السطور وتبصران المخفي .. فتنكشف حقائق القبائح ومخابئ الرذيلة ويطفح عالياً زَبَد الانحراف والضلال .. إنّها رشحة من رشحات القصديّة ، فتحٌ من فتوحات «إنّ الأشياء تُعرَف بأضدادها».

فبالجمال نفهم القبح ، بالعشق ندرك الكراهيّة ، بالإيمان نعرف الكفر ، بالحوار نعلم العنف ، بالسلام نكتشف هول الحروب ، بالعقل تتّضح آلام الجهل ، بالانتماء الحقّ تتجلّى عواقب الضياع ، بالنطق نستوعب السكوت ، بالسكوت نهتدي إلى النطق ، بالحركة نُصيب السكون ، بالسكون ننظّم الحركة ، بالمراجعة نتذوّق النمو ، بالبعثرة نزيل الشوائب ، بالمقارنة ننتخب السليم.

«فاز المخفّون» نسق الحياة ونهجها القويم ، مفتاح الفلاح والطمأنينة واليقين. إنّه انسلاخ الإنسان عن رذائله وحقاراته وتفاهاته وقبائحه

١٣

ومساوئه وتجرّداته عنها .. منطلقاً بروح طاهرة شفّافة نقيّة صوب الحقيقة السرمديّة ومعانيها النورانيّة.

يمكن لنا أن نبدأ بها بكلّ بساطة فنجري تمارين تذكّرنا وتشبّهنا بالمخفّين ، كأن نسلك الدروب والطرقات مشياً على الأقدام بارتداء أدنى الملابس بجيوب فارغة ، نمشي متقمّصين دور اُولئك الذين ساروا قاصدين بلوغ فيوضات مبدأ الفيض ، لا يحملون من أوزار الدنيا شيئا ، نمشي متجرّدين آناً عن رغباتنا وشهواتنا بعيون وأسماع وأحاسيس وجوارح منغمسة بذكر المصير والآخرة ، بهذا الحال وهذا المظهر الذي لابدّ أن يكون من الرزق الحلال.

نمشي نخترق الدروب والطرقات ، نمشي بين الناس ونحن بحال آخر ، نتمثّل بالمخفّين صدقاً ولو لدقائق معدودات ، دقائق من التمرين على ترويض النفس والعقل والمشاعر ، علّ مبدأ الفيض يشملنا بعناياته الربوبيّة فينتشلنا من واقع البهيميّة إلى حيث مراتب العزّ والسعادة السرمديّة ..

لحظات ودقائق من التفكّر والتوبة والندم قد تقلب الموازين رأساً على عقب ، فتعيدنا سيرتنا الاُولى ، فطرتنا فطرة الله التي فطر الناس عليها. وما ذلك على الله ببعيد.

١٤

إلاّ الذاكرة الأزليّة

كلّ الذاكرات خواء ، وكلّ الانتماءات أصنام ; فالأصنام شركٌ وتقهقر قيَمي أخلاقي ... إلاّ الذاكرة الأزليّة والانتماء الفطري.

ونحن إذ نختلف مع فرانسيس بيكون رائد التجريبيّة وقطب النهضة الاُوربيّة الحديثة في تصنيفه عوامل النهضة إلى سلبي وإيجابي ، وتجذيره السلبي إلى أصنام أربعة : أصنام القبيلة ، أصنام الكهف ، أصنام السوق ، أصنام الذاكرة أو المسرح.

نختلف معه ولاسيّما في القسم الرابع من أصنامه ; إذ عنى بأصنام الذاكرة أو المسرح : الأخطاء التي تسرّبت إلى نفوس الناس إثر المذاهب والانتماءات العقائديّة والمذهبيّة والفلسفيّة المختلفة ، وفي رأيه أنّها كالمسرحيّات مخترَعة أبدعها أصحابها ولا يناظرها شيء في الواقع الحقيقي.

وقد عنى بأصنام القبيلة : ظنّ الإنسان أنّ الحواسّ تعطي معرفة صحيحة مباشرة عن الواقع ، متناسياً أنّ الإدراكات الحسّيّة تعتمد على

١٥

الأقلّ من عقول الناس ، وبالتالي فإنّ معرفتهم الحسّيّة نسبيّة. ويرى أنّ قوى الإدراك الحسّي كثيراً ما تعمل فينا كالمرايا الزائفة فتشوّه ما تعكسه في الخارج ، وبذلك فعقولنا تفرض على العالم الخارجي نظاماً مستمدّاً من أنفسنا ولا ينتسب إلى الحقيقة الواقعيّة في الخارج ، مثاله : ميلنا إلى تصديق ما نحبّ أن يكون صحيحاً.

وعنى بأصنام الكهف : أنّ الإنسان أسير حواسّه. فلكلّ إنسان كهفه الخاصّ به الذي يعترض ويشوّه نور الطبيعة الواصلة إليه. لذا بات كلّ واحد منّا يميل إلى تفسير ما يتعلّمه على ضوء مزاجه أو ما يهواه من آراء ونظريّات.

أمّا أصنام السوق فقد عنى بها : ما تعلّق باللغة ; إذ هي وسيلة التفاهم والتبادل بين الناس ، والتجارة هي تبادل في السوق ، والأخطار الناجمة عن اللغة تقع في حالتين : حالة اشتراك معاني الألفاظ فيقع الخلط أو التمويه ، وحالة عدّ الألفاظ من الأشياء فنستغني بالألفاظ عن الأشياء والوقائع والأفعال.

إنّنا نختلف مع فرانسيس بيكون ولاسيّما في صنمه الرابع ; وياليته كان حاضراً في عصرنا هذا ليرى تهشّم النظريّة الفيزيائيّة القائمة على عدّ الكون والطبيعة ماكينة تعمل بانتظام طبق عوامل وعلل وأسباب وقوانين ثابتة ، الأمر الذي يقودنا باعتقاده إلى الحتميّة التأريخيّة ونهاية التأريخ والايديولوجيا ، أي الإيمان بكون التجريبيّة والرأسماليّة هي قمّة التاريخ

١٦

ولا قمّة ولا شيء بعدها .. ليرى تهشّم هذه النظريّة ولوازمها إثر فتوحات العلم المعاصرة التي أعادت «مبدأ الاحتمال» إلى الواجهة من جديد عبر دائرة الذرّة والبروتون والنيوترون والألكترون بوجود الاختلاف المستمرّ وغير الثابت بين النواة وعناصرها ، أو بين المركز ونقاط الدائرة الواحدة ، التغيّر المستمرّ والمحتمل دوماً الذي ضرب بنظريّة «الماكيناكا الفيزيائيّة» عرض الحائط فأعاد مبدأ القوّة المحرّكة العليا المسيطرة على الكون والطبيعة إلى الواجهة من جديد وبكلّ قوّة وعنفوان.

نختلف معه إذ نرى : أنّ الإنسان أخلاقيٌّ بأصله وديمومة وجوده سواء بالعقل العملي أو بالعقل الأوّل. والعهد والأمانة والوفاء منتهى عناوين الأخلاق ومضامينها الثابتة السامية ، فمادمنا نؤمن بالقوّة المسيطرة العليا ونؤمن بالرسالة والدين والأنبياء والأوصياء ، فنحن نؤمن بالطاعة والالتزام الأخلاقيّين على أدنى التقادير ، ولقد حملنا الأمانة إذ أشفقت منها السماوات والأرض والجبال ، وقطعنا العهد والميثاق بالوفاء حيث آمنّا ، لذا بات علينا أن نحفظ العهد والأمانة والميثاق ، حفظاً أخلاقيّاً عمليّاً عقليّاً فاعلاً باختلاف الأدوات والمناهج والأنساق.

لذا فالذاكرة الأزليّة والانتماء الفطري الأوّل معناهما حفظ الأمانة والوفاء بالعهد للقوّة المسيطرة العليا ، الله ربّ السماوات والأرض ، بارئ الخلق أجمعين ، مالك يوم الدين ، الصمد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

١٧

ولا نكترث سواء عدّ «بيكون» ذلك صنماً أم لم يعدّه مادامت تجريبيّته عاجزة عن حلّ إشكال الاحتمال والتغيير المستمرّ الآنف الذكر ، بل على «بيكون النوعي» المراجعة والبعثرة من جديد علّهم يهشّمون صخور الردّة والجحد الجاثمة على عقولهم وقلوبهم مثلما لاحت في اُفق العلم الحديث بوادر التهشيم هذه.

نعم ، إنّنا قد نتّفق مع فرانسيس بيكون بطريق ما في مسألة أصنام القبيلة والكهف والسوق ، بطريق يعدّ الأصنام هذه ذات مفهوم يتنافى مع قيم الانتماء اللاهوتي حسب تصوّراتنا العقائديّة ، فالمفاخرات والانتماءات الضيّقة الطافحة على مسرح الملاكات والضوابط واللذائذ النفسيّة والشهوات الذاتيّة والتمويه المفاهيمي ، والاستبداد والأنا الحاكمة والهوى .. كلّها حسب بعض الأراء أصنام قبيلة أو كهف أو سوق.

فإذا ما رمنا الوصول إلى مراحل الكمال الإنساني والمعرفة الحقيقيّة لابدّ من التخلّص من هذه الأصنام ، آنذاك نحن وحفظ الأمانة والوفاء بالعهد ولا ثالث.

١٨

ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغد

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) سورة الحشر : ١٨

(وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَد) طرقت سمعي وانطبعت بعينيَّ مراراً وربما بتأمّل وتدبّر خفيف ، لكنّها هزّت كياني واستوقفتني بعمق لمّا جاد بتلاوتها ذلك الفتى الشاب المسمّى «منتظر» ، هيمنت على ذهني وحرّكت كوامن الفكر عندي ، اختلطت الأحاسيس بالعقل وانسجم القلب مع اللبّ وتساندا سعياً نحو استيعاب خطاب السماء.

لا شكّ أنّنا نموت ، ولا ريب ـ كما نعتقد ـ في حشرنا وبعثنا في ذلك اليوم المهيب ، إنّه الغد المحتوم ، كلٌّ يأتي بنتاج حياته ، خيراً كان أم شرّا.

الاستعداد والتهيّؤ والتوفير وحفظ النتاج من شؤون يوم العمل

١٩

وبرامجه ومناهجه ، هنالك تقف النفس في كلّ آن ولحظة وساعة كي ترى هل أنّها سائرة شطر المرام والمقصد طبق الطريق المرسوم. لترى ما أخذت معها لغدها ، ما وفّرته لمستقبلها السرمدي من مؤنة وزاد. لا نطلب الغد بل الغد يطلبنا ، والغد غير مفتقر لنا ولا لزادنا ، نحن المفتقرون فيه لذلك الزاد والمؤنة.

نعم ، الغد هو مصيرنا ، خلودنا ، مكاننا ومستقرّنا ، زماننا الذي نحياه أبدا.

لقد لخّص الخطاب القرآني سؤال الحياة الكبير ومعناها المثير بخمس كلمات فقط ، كلّ واحدة منها تمثّل محوراً وقطباً هامّاً في نشأتنا وتكويننا وهويّة انتمائنا ومستقبل وجودنا ومنهجيّة معارفنا وثقافتنا ونوعيّة تصوّراتنا وعقائدنا.

إنّ نوع النشأة والتكوين وهويّة الانتماء والتصوّرات تتناسب طرديّاً مع النظرة إلى الحياة وغدها ، والنفس التي تنظر إلى الغد ليست نفساً واحدة ، والغد ليس غداً واحدا ، بل النصّ القراني الذي نؤمن بعدم تحريفه وصيانته منه لا نفهمه بفهم واحد ، ونظر هذا غير نظر ذاك ، وغده ليس كغد ذاك ، مع كون الجميع يدّعي الانتماء لهذا الدين الحنيف.

ولتنظر نفسٌ أيَّ الفهم فهمت وأيّ القراءة قرأت وأيّ الخطاب استوعبت ، فبنوع الفهم نفهم النظر والنفس والمقدَّم والمقدَّم إليه.

والمراد بالفهم هو العملي منه ، المتبلور الذي يطابق الذهنيُّ منه خارجيَّه وبالعكس.

٢٠