نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

ويقول أيضاً : إنّ لهاجس الحداثة جذوراً في نتاج أبي نوّاس وأبي تمّام ، وفي كثير من النتاج العربي العلمي والفلسفي (الرازي ، ابن الراوندي ، ابن رشد) والصوفي ; ذلك أنّ الخاصّيّة الرئيسيّة التي تميّز هذا النتاج هي إدانة التقليد أو المحاكاة ورفض النسج على منوال الأقدمين ، والتوكيد على التفرّد والسبق وعلى الابتكار ..

وممّا يزيد في أهمّيّة الهجس بالحداثة وعمقه لدى أسلافنا هؤلاء هو أنّه لم يأت مصادفة أو بشكل مجّاني ، وإنّما كان يرتكز إلى نظرة جديدة ، من عناصر هذه النظرة مثلاً : نشوء مفهوم للزمن عندهم يغاير المفهوم الديني ، وفي نتاجهم نقد لمفهوم الزمن الديني نشأ ما يناظره في اُوربّا فيما بعد حين نقد مفهوم الزمن كماترى إليه المسيحيّة ..

ونعرف جميعاً أنّ هذا النقد كان في أساس الحداثة العربيّة .. وهكذا أدخلت نظرة أسلافنا اُولئك إلى الحياة العربيّة بعد العلم ، أي أنّها أحلّت حركيّة التقدّم محل سلفيّة الاُصول .. ربما أنّ هذا البعد يمتزج حكماً بالعقل فقد صار هاجس الحداثة عندهم محكوماً بفكرة التجاوز ..

وتعني هذه الفكرة على صعيد الإبداع ـ وبخاصّة الشعري ـ أن يعيش المبدع دائماً في حركة تدفعه إلى أن يكون دائماً غير ذاته وغير الآخرين .. فكأ نّها تقول له : لكي تظلّ موجوداً باستمرار لابدّ لك من أن تتجاوز نفسك وغيرك باستمرار .. من هنا تغيّر تبعاً لذلك موضوع النقد ، لم يعد يستند إلى حقيقة ماضية ثابتة يعود إليها دائماً ، إنّما أصبحت الحقيقة نفسها نقداً ، وأصبحت مرادفة للتغيّر ..

٢١

يقول جابر عصفور : ابتداءً تنبثق الحداثة من اللحظة التي تتمرّد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المعتادة في الإدراك ، سواء أكان إدراك نفسها من حيث هي حضور متعيّن فاعل في الوجود ، أو إدراك علاقتها بواقعها من حيث هي حضور مستقلّ في الوجود ..

على المستوى الأوّل تبدأ الحداثة من انقسام الوعي المتمرّد على نفسه ليصبح ذاتاً فاعلة وموضوعاً منفعلاً ، ذاتاً فاعلة تعيد إنشاء موضوعها الذي هو هي من ناحية ، وتعيد صياغة أدوات إنتاج معرفتها بهذا الموضوع من ناحية اُخرى ..

وعلى المستوى الثاني فإنّ الوعي المنقسم على نفسه ينشقّ على واقعه ، فيتمرّد على أدوات إنتاج المعرفة السائدة في هذا الواقع وعلاقاتها ، ويبحث عن أدوات جديدة يؤسّس بها معرفة مغايرة ، تحرّره في علاقته بنفسه على المستوى الأوّل ، وعلاقته بواقعه على المستوى الثاني .. ولا يتمّ هذا التمرّد إلاّ بنوع من الوعي الضدّي ، ينبع من الإحساس بأنّ ما اُنجز لم يعد يكفي ، وأنّ ما هو واقع يمثّل عائقاً أمام تشوّق الأنا وأحلامها ، وأنّ القيود صارت كثيرة ، وأنّ الهويّة تتمزّق بين نقيضين أو نقائض متكثّرة ، وأنّ الاُفق يخايل بالوعد ..

ويقول أيضاً : من المؤكّد أنّنا لسنا إزاء حداثة واحدة لها تجلّيات متنوّعة ، كأ نّها الروح الهيجلي الذي يتجلّى في أشكال مختلفة المظهر ثابتة الجوهر ، ولسنا إزاء عناصر ثابتة مطلقة واُخرى متغيّرة نسبيّة داخل

٢٢

حداثة كونيّة واحدة مفارقة كأ نّها الاُجروميّة المتعالية لمّا أطلقت عليها البنيوية الشكليّة مصطلح «أدبيّة الأدب» ..

إنّ وضع فعل الوعي الذي يصوغ الحداثة داخل سياقه التاريخي يؤكّد أنّنا إزاء حداثات متعدّدة على المستوى المتزامن (السينكروني) والمتعاقب (الدياكروني) على السواء ، أعني إزاء حداثات تتعدّد ، متوازية ، في العصر الواحد ، بتعدّد الشروط الخاصّة بكلّ مجتمع على حدة .. وإزاء حداثات تتعدّد ، متعاقبة ، في العصور المتتابعة ، بتعدّد المراحل التاريخيّة المتغايرة ..

كما يقول : إذا كانت الحداثة تعني ـ فكريّاً وعلميّاً ـ البحث الذي لا يتوقّف لتعرّف أسرار الكون وتعمّق اكتشاف الطبيعة ، والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها ، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض ، فإنّها تعني ـ اجتماعيّاً وسياسيّاً ـ الصياغة المتجدّدة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرّيّة ، ومن الاستغلال إلى العدالة ومن التبعيّة إلى الاستقلال ، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج ، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة ، ومن الدولة التسلّطيّة إلى الدولة الديمقراطيّة .. بذلك تجعل الحداثة الإنسان جديراً بالصورة التي كرّمه الله بها حين خلق آدم على صورته واستخلفه على أرضه .. وإذا كانت الحداثة تغيّر عالم هذا الإنسان فإنّها تسبق ذلك بتغيير إبداعه ...

إنّ الحداثة بهذا الفهم تبشّر بإنسان قدرته على التمرّد لا تفارق نهمه

٢٣

في التعرّف وتساؤله الذي لا يتوقّف لا ينفصل عن تطلّعه الدائم إلى إبداع ..

يقول محمّد أرگون : الحداثة التكنولوجيّة ـ المصرفيّة تعني تهميش كلّ الأنبياء والقدّيسين واللاهوتيّين والفلاسفة والفنّانين والشعراء والأبطال التاريخيّين الذين عاشوا في الماضي وقدّموا للبشريّة خيرة ما عندهم .. إنّها تعني احتقارهم أو الاستهزاء بهم ورميهم في سلّة الماضي لكي يصبحوا مادّة للتبحّر الأكاديمي الجاف أو للنسيان الكلّي والنهائي ..

ولذا فإنّني أقول : ينبغي على الحداثة كمشروع إنساني أن تصحّح إرادة المعرفة الهادفة إلى السيطرة والاستغلال والهيمنة .. ولكن كيف؟ عن طريق الإدخال الفعلي ، أي الفلسفي والقانوني ، لحقوق الروح في حقوق الإنسان ، فقد تحوّلت هذه الأخيرة إلى مصطلح مؤدلَج أكثر من اللزوم ، بل ومستهلك وفاقد لروحه .. فالغرب يرفعه كشعار ايديولوجي للضغط على الآخرين أكثر ممّا يتقيّد به عندما يتعامل مع الآخرين ..

يقول برهان غليون : إنّ المشكلة ـ بعكس ما يقال حتى الآن ـ لا تكمن في الحضارة ولا في التراث ، وإنّما تكمن في النظام الثقافي الذي طوّرناه نحن في القرون الحديثة من أجل استيعاب هذه الحضارة وهذا التراث ..

إنّها تكمن في فاعليّتنا ، أو بالأحرى لا فاعليّتنا الثقافيّة والعقليّة الحديثة .. فلم يكن تراث أسلافنا البدوي أغنى أو أعظم قيمة من تراث

٢٤

الجماعات الكبرى التي كانت محيطة بهم ، ولم تكن حضارة هاتيك الجماعات أقلّ قوّة وتنوّعاً ممّا يحيط بنا اليوم بالمقارنة مع البداوة .. ومع ذلك فقد تمكّنوا من هضم حضارات عصرهم ..

إنّ المشكلة إذن تكمن في الحداثة الثقافيّة ذاتها .. والحداثة لا تعني الحضارة بشكل عام ، وإنّما تعني العقل الذي وجّهنا إلى أخذ ما أخذناه ونأخذه من هذه الحضارة ، أو إلى ما اعتبرناه حتى الآن أساساً لخروجنا من الوضعيّة الدونيّة التي وضعنا فيها صعود الغرب إلى مركز العالميّة .. بل إنّ تفكيك ثقافتنا وإفقارها ليس هو ذاته إلاّ ثمرة لهذه الحداثة ونتيجة لها .. وإذا تحوّلت الثقافة القديمة أو تحوّل التراث إلى عنصر مقاومة للعصرنة ، فذلك لأنّ الحداثة كانت ومازالت تعني التبعيّة المادّيّة والاستلاب الروحي والثقافي والشقاق الاجتماعي وتكوين مجتمع حديث مرتبط بالخارج ومعادي للمجتمع المحلّي .. أي لأ نّها ومازالت اغتراباً تاريخيّاً حقيقيّاً وتراجعاً وتحلّلاً للذات العربيّة ..

ويقول أيضاً : هكذا تُطرَح في نظرنا مسألة الحداثة .. فهذا الإخفاق المتجدّد والدائم في استيعاب الحضارة هو المصدر الأساسي والوحيد لاستمرار الحديث عن الهويّة والمعاصرة والصراع بينهما ; لأ نّه بقدر ما يجعل الحداثة الفعليّة والمنتجة مستحيلة ، أي بقدر ما يمنع الحداثة من أن تكون حضارة ومدنيّة ، ويحوّلها إلى وسيلة من وسائل الصراع الاجتماعي ، يزيد قوّة التفكّك والانحلال ، ويعمّق الاستلاب ومحو الشخصيّة ، ويدفع إلى تفاقم مشكلة الهويّة والعودة إلى الاُصول كحلّ

٢٥

شكلي وحيد لها ; إذ ليس للهويّة حلّ بدون النجاح في الوصول إلى مشاركة إيجابيّة في الحضارة ، وهذا أساس ومصدر الشعوب بالذاتيّة الفاعلة والتاريخيّة .. وليس الوصول إلى هذه المشاركة من طريق سوى تأكيد الذاتيّة والهويّة ، أي تحقيق الوعي بالذات والكشف عن تناقضاتها وحلّها وإيجاد الصورة المطابقة أو استخراجها منها .. فموضوع الهويّة لا يتعلّق في نظرنا بالتراث ولا بالحداثة ، وإنّما بتحديد العلاقة مع الآخر وبتمييز الذات عن الغير ، وهذا التمييز لا قيمة له إلاّ إذا كان من اُفق وضمن نطاق المشاركة في الحضارة القائمة ..

وليس الاستلاب بهذا المعنى إلاّ النتيجة المباشرة للتبعيّة للمشاركة السلبيّة والاستهلاكيّة المحضة في الحضارة .. وهذا من دواعي الشعور بالدونيّة ولا جدوى الذات ولا فاعليّتها ..

لذلك فإنّ السؤال الأساسي الذي يستحقّ الطرق هو : لماذا كان هناك تحديث ولم تكن نهضة؟ فبقدر ما تنفي الحداثة الذاتيّة وتعتقد أنّ التقدّم لا يتمّ إلاّ بالقضاء على التراث ، تبيّن النهضة أنّ الحضارة لا يمكن أن تكتسب وتستوعب إلاّ بتأكيد الذاتيّة .. إنّ النزاع القائم بين أنصار الهويّة وأنصار العصريّة يعكس إذن غياب مشروع النهضة وإمكانيّتها ، ويترجم هذا الغياب في نفي متبادل لعنصريها الأساسيّين ، أو لإمكانيّة التفاعل بين التراث والحضارة .. ولو كانت هناك إمكانيّة للتقدّم الفعلي لاكتشف التراثي قيمة الحداثة ، واكتشف الحداثي قيمة وأهمّيّة التراث ..

٢٦

يقول حازم صاغية : كائناً ما كان التأويل المعتمد لـ «الحداثة» يبقى أنّ ولادة هذا المفهوم ارتبطت بولادة مفهوم «الفرد» أو أنّها جاءت من قبيل السعي الفكري إلى الإسراع في توليد الفرد الذي يكسر قوالب الجماعة ووحدتها المعلنة .. فلا يمكن للحداثة بهذا المعنى أن تكون دعوة جمعيّة أو قوميّة تعيد تدوير الفرد وإدراجه في كلّ مزعوم أكبر .. ويزيد في مفارقة الحداثة العربيّة أنّ سائر الدعوات القوميّة تردّ إلى عصور ذهبيّة أحدثها في الدولة الاُمويّة وأعتقها في سومر وبابل ..

إشكاليّة الأصالة والمعاصرة

يقول محمّد عابد الجابري : كثيراً ما تطرح إشكاليّة الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ، على أنّها مشكل الاختيار بين النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة ... إلخ ، وبين «التراث» بوصفه يقدّم أو بإمكانه أن يقدّم نموذجاً بديلاً أو أصيلاً يغطّي جميع ميادين الحياة المعاصرة ..

ومن هنا تصنّف المواقف إزاء هذا الاختيار إلى ثلاثة أصناف رئيسيّة :

مواقف «عصرانيّة» تدعو إلى تبنّي النموذج الغربي المعاصر بوصفه نموذجاً للعصر كلّه ، أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخيّاً كصيغة حضاريّة للحاضر والمستقبل ..

٢٧

ومواقف «سلفيّة» تدعو إلى استعادة النموذج العربي الإسلامي كما كان قبل الانحراف والانحطاط ، أو على الأقلّ الارتكاز عليه لتشييد نموذج عربي إسلامي أصيل يحاكي النموذج القديم في الوقت ذاته الذي يقدّم فيه حلوله الخاصّة لمستجدّات العصر ..

ومواقف «انتقائيّة» تدعو إلى الأخذ بأحسن ما في النموذجين معاً والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة معاً ..

يقول ناصيف نصّار : تنطوي إشكاليّة الأصالة والمعاصرة على معنيّين متميّزين : معنى زمني ومعنى قيَمي ..

المعنى الزمني يحدّد الأصالة كرجوع إلى عهد قديم ونموذج قديم ، أو كاستعادة لعهد قديم ونموذج قديم ، والمعاصرة كانخراط في العصر الحاضر واندماج في حركته ..

والمعنى القيَمي يحدّد الأصالة كبحث عمّا هو أصيل وشريف ومفيد في ماضي القوم ، فيحسن الاتّصال به والاطمئنان إليه والتفاعل معه أو استلهامه ، لحلّ مشكلات الحاضر ، ويحدّد المعاصرة كبحث عمّا هو أفضل منجزات العصر وأمتنها ، وينبغي للقوم أخذه من الغير للمشاركة في مسيرة التقدّم البشري ..

والتحليل النقدي لإشكاليّة الأصالة والمعاصرة بالمعنى الزمني يظهر أنّها ليست أكثر من إشكاليّة زائفة ووهم خالص ; إذ لا وجود لإمكانيّة اختيار بين الأصالة والمعاصرة ، ولا لإمكانيّة الجمع بينهما ; فالوضع

٢٨

الزمني لكلّ قوم هو العصر الذي يعيش فيه ، أي أنّه لا يملك أن يخرج من عصره ويرجع إلى عصر مضى ، ولا يملك أن يبعث الماضي ويعيشه من جديد .. كلّ قوم من الوجهة التاريخيّة ابن عصره ولاعب من لاعبيه ..

فدعوى الأصالة بالمعنى الزمني باطلة ، ودعوى الأصالة بالمعنى نفسه تحصيل حاصل .. وعلى هذا النحو تنهدم إشكاليّة الأصالة والمعاصرة ، ويتحتّم التخلّي عنها .. ولكن ذلك لا يعني تجريد القوم من الماضي ، ماضيه وماضي غيره من الأقوام .. فالتعامل مع الماضي بعدٌ من أبعاد انوجاد القوم في عصره ..

ومن هنا تنطرح إشكاليّة الأصالة والمعاصرة بالمعنى القيَمي .. كيف ينبغي أو كيف يحسن أن يتعامل القوم مع ماضيه الأصيل وتراثه؟ وكيف ينبغي أو كيف يحسن أو يتعامل مع القوى الفاعلة في العصر؟ هذان السؤالان ممكنان من الوجهة المنطقيّة ، وجديران بأن تبذل جهود لمعالجتهما .. فالأصالة بالمعنى القيَمي مسلك يسلكه القوم في توظيف تراثه في عصره لحلّ مشكلاته .. وكذلك المعاصرة ، فهي مسلك يسلكه القوم في انفعاله بتراث الأقوام الاُخرى الفارضة نفسها على مسرح التاريخ الحاضر ..

الأصالة

يقول محمّد عابد الجابري : إنّ الأصالة ـ مثلها مثل المعاصرة ـ لا تدلّ على شيء ، فهي ليست ذاتاً ولا واقعاً ، إنّها صفة أو سمة لكلّ عمل

٢٩

يدوي أو فكري يبرز فيه جانب الإبداع بشكل من الإشكال .. فالإنتاج الأصيل قد يكون قديماً وقد يكون معاصراً .. والأصالة فوق ذلك لا تعدم اُصولاً ، فليست خلقاً من لا شيء ، بل هي في الغالب صياغة جديدة معبّرة لجملة من العناصر أو الاُصول المعروفة ، إنّها عمليّة دمج تعطي كائناً أو بنية جديدين .. وعملية الدمج ـ هذه البنية المعقّدة التي تطبعها الذات الدامجة بطابعها ـ هي ما يميّز الإنتاج الأصيل من الإنتاج المقتبس أو التوفيقي .. والأصيل بعد ذلك لا يكون أصيلاً إلاّ إذا كان ذا دلالة في الحاضر .. والجوانب الأصيلة ـ في أيّة ثقافة ـ هي تلك التي نستطيع أن نتبيّن فيها ليس فقط التعبير القوي المبدع عن بعض معطيات الماضي ، بل أيضاً التي تستطيع أن توحي لنا بنوع من التعبير جديد عن معطيات الحاضر .. الثقافة الأصيلة هي التي يجد فيها الحاضر مكاناً في ما تحكيه عن الماضي ، دون أن تحجب آفاق المستقبل .. إنّها تساعد على تأسيس الحاضر في اتّجاه المستقبل ، لا في اتّجاه الماضي ..

وقال أيضاً : الأصالة والمعاصرة لا تنفصلان ، إنّ من ينشد الأصالة بدون المعاصرة كمن ينشد المعاصرة بدون الأصالة ، الأوّل مقلّد والثاني تابع ، بل كلاهما تابع ومقلّد .. والشرط الضروري لتجديد العقل العربي وتحديث الفكر العربي وتغيير الوضع العربي هو كسر قيود التقليد وقطع خيوط التبعيّة .. إنّه الاستقلال التاريخي الذي لا يُنال إلاّ بممارسة النقد المتواصل للذات وللآخر ، أيّاً كان هذا الآخر .. والنقد لا يعني الرفض الميكانيكي ، بل هو أساساً تفكيك للسلطة التي يمارسها الخطاب على

٣٠

المخاطَب .. الواعظ الديني والخطيب السياسي والمبشّر الايديولوجي ، هؤلاء جميعاً لا يقول أيٌّ منهم : «أنا أقول لكم ...» ، بل هو يقول دائماً : «قال فلان ...» ممّن يملكون سلطة المعرفة .. وقد يلجأ إلى التعميم قصد تعزيز سلطة كلامه فيستعمل الغائب أو يحيل على مجهول فيقول : «قالوا ...» و «قيل ...» ، والنقد والتفكيك يبدآن في هذه الحالة بتحويل المبنيّ للمجهول إلى المبنيّ للمعلوم ورصد صيغة الغائب إلى صيغة المخاطب .. لابدّ إذن من الكشف عن المسمّيات التي يراد أن تنوب عنها أسماؤها ، ولابدّ من إعادة تسمية الأشياء ـ التي تقدّم نفسها كمسمّيات مجرّدة ـ بأسمائها التي تكشف عن جانب الانحياز فيها .. إنّه بذلك نتمكّن من جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في آن واحد ..

يقول محمّد شحرور : يجب علينا أن نميّز بين مصطلحين يقع الالتباس بينهما وهما : الأصالة والسلفيّة ، فالأصالة لها مفهوم إيجابي حيّ ، أمّا السلفيّة فهي عكس ذلك تماماً ، السلفيّة كما نفهمها هي دعوة إلى اتّباع خُطى السلف بغضّ النظر عن مفهوم الزمان والمكان ... إنّ السلفيّة هروب مقنّع من مواجهة تحدّيات القرن العشرين وهزيمة نكراء أمام هذه التحدّيات ، وهي البحث عن الذات في فراغ وليس في أرض الواقع ..

هذا فيما يتعلّق بالسلفيّة الإسلاميّة ..

ولكن هناك نوعاً آخر من السلفيّة نراه عند تيّارات اُخرى تطرح حلولاً نظريّة تعمل في فراغ وفق نموذج متحجّر طُرح في القرن التاسع

٣١

عشر وبداية القرن العشرين ، واعتبرته مقدّساً فلا خروج منه .. إنّها تيّارات سلفيّة اُخرى لا تعيش زمانها ولا تتفاعل معه ..

يقول حسن حنفي : لا تعني الأصالة الإبقاء على القديم بأيّ ثمن حتى ولو كان على حساب المعاصرة بمعنى الاعتزاز بالأصالة بدافع من التشبّث بالماضي والتعصّب له كما يحدث لدى بعض المثقّفين المتعصّبين للإيمان .. فالأصالة لديهم لا تتغيّر في صورتها أو مضمونها ، وقد لا يمنعهم هذا من الإحساس بالمعاصرة ، ولكن تمثّلهم لقضايا العصر يكون أقرب إلى التحزّب والاندفاع والانفعال ; لأ نّهم يؤمنون بالأصالة على هذا النحو العصبي دون أيّ محاولة لعرضها على المستوى النظري .. فالمتّفق على هذا النحو يؤمن بالأصالة ويؤمن بالمعاصرة ولكنّه لا يفعل كليهما معاً ، فهو متديّن قبل أن يكون مثقّفاً ، يؤمن بالدين ولا يعقل الايديولوجيّة ..

ولا تعني الأصالة الحدّ من المعاصرة أو من تبنّي الواقع كلّه كما يحدث في كثير من الأحيان عند تغلّف المعاصرة وتغلّف الواقع الجديد تحت أقنعة من الأصالة ; لأ نّه لا جديد تحت الشمس .. وغالباً ما يكون الدافع لذلك هو الحدّ من تطوّر الواقع وابتلاعه داخل القديم ، ويعقلون المعاصرة ، ويرون الحاضر في مرآة الماضي ، ولكن في هذه الحالة تكون المعاصرة هي البادئة ، وتصبح الأصالة هي التابعة ، ومن ثم تفقد الأصالة دورها في إرساخ قواعد المعاصرة ، وتفقد المعاصرة إمكانيّات تنظيرها ; لأ نّها لن تفهم إلاّ بقدر رؤيتها في مرآة الماضي ، والماضي في معظمه

٣٢

لا يحتوي فكراً بل تصوّراً دينيّاً للعالم ...

والأصالة ليست كما يقال ارتباطاً بالماضي الذي حوى كلّ شيء وكما يدّعي بعض الأصدقاء ، بل هو أساساً وقبل كلّ شيء وعي بالواقع واتّحاد به ، والتاريخ جزء من الواقع ; لأ نّه ما زال يعمل كرواسب في أعماق الأفراد ..

ليست الأصالة هي البحث عن النوعيّة بأيّ ثمن ، بل رؤية صائبة للواقع باعتباره مرحلة من مراحل التاريخ ..

الأصالة هي اتّحاد بالواقع نفسه وإعادة تفسير للقديم كلّه لخدمة هذا الواقع ، ومن ثم تصبح الأصالة مرادفة للمعاصر ولكنّها معاصرة أعمق جذوراً في التاريخ وأكثر تحقيقاً لوحدة الشخص الوطنيّة ..

يقول فؤاد زكريّا : لمفهوم الأصالة معنيّين رئيسيّين ، بينهما تشابك واتّصال وثيق :

المعنى الأوّل زمني .. فالأصيل أو العريق هو الذي تمتدّ جذوره إلى الماضي وتتأصّل فيه .. بهذا المعنى نتحدّث عن اُسرة أصيلة أو عن فرس أصيل ، فنقصد في الحالتين امتداد الجذور إلى اُصول بعيدة يمكن تتبّعها والزهو بها .. ولكنّ هذا الذي تمتدّ جذوره في الماضي لابدّ أن يكون موجوداً معنا اليوم ، أي لابدّ أن يكون معاصراً .. فالفرس الأصيل هو السليل الذي نراه حولنا ونستطيع أن نتتبّع شجرة نسبه إلى أجداد مشهود لهم بعلوّ المكانة ..

٣٣

وبعبارة اُخرى : فإنّ الأصالة في معناها الزمني تطلق على تلك الحالة التي يكون فيها المعاصر أو الموجود معنا اليوم ضارباً بجذوره في الماضي وفي التاريخ .. وبهذا المعنى الزمني لا تكون الأصالة على الإطلاق نقيضاً أو حتى مقابلاً للمعاصرة ، بل إنّ كلاًّ منهما تشكّل جزءاً من الاُخرى .. فالأصيل لابدّ أن يكون معاصراً يتميّز بعمق جذوره التاريخيّة ، بينما يوجد بالطبع معاصر سطحي بلا جذور .. والمعاصر قد يكون أصيلاً أو غير أصيل ..

وبعبارة اُخرى : فهناك تداخل لا يستهان به في المعنى بين الأصالة والمعاصرة عندما تفهم الأصالة بمعناها الزمني ، على حين أنّ الطرح الشائع الذي لا يناقشه أحد ، لهذه الصيغة ، يصوّر الأمر كما لو كانت الأصالة تشير إلى الماضي أو التراث وحده ، والمعاصرة تلتزم الحاضر فحسب .. على أنّ للأصالة معنىً ثانياً لاصلة له بالزمان ، هو الصدق مع النفس والتعبير الحقيقي عن الذات .. وفي هذا المعنى نتحدّث عن «أصالة العاطفة» أو «أصالة الشاعر» فلا نقصد بالطبع العودة إلى الاُصول التاريخيّة العائليّة للشاعر ، وإنّما نقصد أنّه في فنّه يعبّر عن نفسه بلا تزييف ، أو أنّ العاطفة تعبّر بالفعل عن المشاعر الداخليّة لصاحبها ، وليس فيها زيف أو خداع .. وفي المعنى الثاني بدوره لا نجد أدنى تعارض ، أو حتى اختلاف جوهري في المعنى ، بين الأصالة والمعاصرة ; لأنّ المعاصر يشتمل على ما هو أصيل وما هو غير أصيل ، أعني ما هو صادق مع نفسه ، وما ينطوي على زيف أو خداع ..

٣٤

هذان هما المعنيّان الرئيسيّان للأصالة ، وهما كما نرى لا يتضمّنان أيّ تعارض مع المعاصرة ، ولكنّ وضع اللفظين أمامنا في كلّ المعالجات الحالية للمشكلة كما لو كانا بديلين يتعيّن أن نختار بينهما ، أو على أحسن الفروض أن نوفّق بينهما ، هو في صميمه طرح باطل ، يؤدّي إلى تشويه للمشكلة برمّتها ، وإلى تضليل العقول التي تضني أنفسها في البحث عن حلّ لها .. فنحن ببساطة شديدة نجهد أنفسنا في اقتفاء أثر لا يوصل إلى شيء ، ونبحث عن باب متاهة ليس لها مخرج ..

الإبداع

يقول حسن حنفي : إذا كان القدماء قد آثروا الاتّباع دون الإبداع فإنّنا نرى مأساتنا في الاتّباع لا في الإبداع .. وإنّ هناك فرقاً بين الابتداع والإبداع .. الأوّل خروج عن النهج بلا اُصول ، والثاني تطوير للاُصول وتجديد لها .. الأوّل انقطاع بلا تواصل ، والثاني تواصل بلا انقطاع .. ليس السلف بأفضل من الخلف بالضرورة ، ولا الخلف أشرّ من السلف بالضرورة ، ولكن لكلّ عصر اجتهاداته ، ولكلّ جيل إبداعاته ، ولكلّ زمن سلبيّاته وإيجابيّاته .. ولكنّ رؤية الماضي كنموذج للاتّباع ورؤية المستقبل كنموذج للإبداع كلاهما إسقاط للحاضر من الحساب ، وفي ذلك إهدار للإمكانيّات البشريّة لجيلنا ، وكأن الحلّ الوحيد يوجد خارج عصرنا إمّا في فردوس الماضي أو في حلم المستقبل ، وكلاهما طريقان وهمّيّان للخلاص .. وذلك ضدّ حركة التاريخ ومساره وتطوّره على نحو طبيعي من

٣٥

الماضي إلى الحاضر ، ومن الحاضر إلى المستقبل بفعل الأجيال ..

يقول محمّد عابد الجابري : يتلوّن معنى كلمة «إبداع» بلون الحقل الايديولوجي الذي تستعمل فيه .. ففي الحقل الديني والميتافيزيقي تعني كلمة «إبداع» سواء في الإسلام أو في المسيحيّة أو في اليهوديّة أو في الفلسفة المرتبطة بهذه الأديان : الخلق من عدم ، أي اختراع شيء لا على مثال سبق .. والإبداع بهذا المعنى وفي هذا الحقل الديني الميتافيزيقي بالذات خاصٌ بالإله ، لا يقال إلاّ عنه ..

أمّا في الحقول المعرفيّة الاُخرى ـ كالفنّ والفلسفة والعلم ـ فالإبداع لا يعني الخلق من عدم ، بل إنشاء شيء جديد انطلاقاً من التعامل ـ نوعاً خاصّاً من التعامل ـ مع شيء أو أشياء قديمة .. قد يكون هذا التعامل عبارة عن إعادة تأسيس أو تركيب ، وقد يكون نفياً وتجاوزاً ..

من هنا يمكن القول إنّ الإبداع في الفنّ هو «إنتاج نوع جديد من الوجود بواسطة إعادة تركيب أصيلة للعناصر الموجودة» ..

أمّا في الفلسفة والفكر النظري بصورة عامّة فالإبداع نوع من استئناف النظر ، أصيل ، في المشاكل المطروحة ، لا يقصد حلّها حلاًّ نهائيّاً ـ ففي الفلسفة والفكر النظري ليست هناك حلول نهائيّة ـ بل من أجل إعادة طرحها طرحاً جديداً يدشّن مقالاً جديداً يستجيب للاهتمامات المستجدّة أو يحثّ على الانشغال بمشاغل جديدة ..

وبعبارة اُخرى : إنّ الإبداع في مجال الفكر النظري عامّة هو تدشين

٣٦

قراءة جديدة أصيلة لموضوعات قديمة ولكن متجدّدة ..

وأمّا في مجال العلم فالإبداع اختراع واكتشاف يتمّ بواسطة خطوات فكريّة ميزتها الأساسيّة أنّها تقبل التحقّق إمّا بالتجربة وإمّا بجملة من عمليّات المراجعة والمراقبة يقودها منطق معيّن ، أي جملة من القواعد يتّخذها العقل ميزاناً للصواب والخطأ ، للصدق والكذب ..

يقول علي أحمد سعيد : الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم .. فأن نُبدِع إذن ، أي أن نكتب ، هو أن نخرج ممّا كتبناه من مسافة لحظة مضت ، لكي ندخل في مسافة لحظة تأتي .. المفكّر ، الكاتب ، لا يفكّر إذن ولا يكتب إلاّ إذا كتب وفكّر بشكل مغاير لما يعرفه ، بحيث تكون كتابته وفكره نقطة لقاء بين نفي المعلوم وإيجاب المجهول ..

يقول برهان غليون : إنّ أصل الإبداع هو بالضبط هذا الاختلاف والتناقض العميق بين الثقافة والحضارة ، بين الذاتيّة والعالميّة .. فهذا التناقض هو الذي يخلق التوتّر المبدع ويدفع إلى عدم الأخذ بالحلول الجاهزة وعدم القبول بالأمر الواقع كنهاية للتاريخ .. وهو مصدر تطوّر التاريخ والحضارة معاً .. فالتاريخ هو صراع بين ذوات جماعيّة من أجل التجاوز الحضاري المادّي والفكري ، ومن يتخلّى عن هذا الهدف ينسحب من التاريخ ويخرج من الحضارة ، سواء حصل ذلك بالاندماج في ذات اُخرى أو بالتقوقع على الذات ..

٣٧

يقول علي زيعور : يبقى الصوفيّون ـ على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي يستحقّونها عبر التاريخ ـ أصحاب نظريّة أصيلة في الإبداع .. فهذا يقول : إنّه أمام الجمال ينسى نفسه ويُغشى عليه ويشطح ; أو أنّه أبدع قصيدته كاملة دون تعمّل أو أدنى جهد ; وقد تهبط عليه قصيدة أو حلّ مشكلة أو معرفة حقيقة على نحو إلهامي : انقذاف في القلب (في الصدر) ، انفتاح المغلق ، جلاء الغامض والمجهول ... كما قد يقول ذاك الصوفي : إنّه تلقّى من هاتف أو في المنام أو من شخص مجهول على شكل خاطرة أو بادرة ... فنوناً وحقائق لا ينالها غيره ، وانكشف أمامه دون مسعى عنها أو بحث .. يعني ذلك : أنّ الإبداع ـ بحسب نظريّة أهل العرفان ـ معاناة ، وخاصّ ببعض الناس «الموهوبين» أو «أهل السرائر» .. إنّ «أهل القلوب» يبدعون بلا حاجة لخبرة مكتسبة ولا لمناهج ، مختبرهم قلوبهم ، ومعاناتهم الشخصيّة أو تجربتهم الذاتيّة موئل إبداعهم .. فليس العقل ولا التفكير المنطقي ولا التحليل أو الدراسة ولا «علم الورق» (مصطلح صوفي) طريقاً ناجحة عند «أهل الحقيقة» هؤلاء ..

يقول علي حرب : إبداع الكاتب بما هو استقصاء واستكشاف ـ سواء عن طريق الفنّ أو العلم أو الفلسفة ـ لا يكتمل إلاّ بكشفه وإذاعته .. فلا كاتب يكتب لنفسه ، تماماً كما لا خالق يكتفي بذاته .. ولا كاتب يفرح بما يكتبه من دون قارئه ، سواء كان هذا القارئ واقعيّاً أم متخيّلاً .. فالاستكشاف مصيره أن يُكشَف .. من هنا يشعر الكاتب بالرغبة في البوح

٣٨

بكشوفاته .. طبعاً هكذا تكون علاقة الكاتب بنصّه في طورها الأوّل ، أي بعد الانتهاء من كتابته ولكن يمكن أن تتغيّر العلاقة بعد نشر النتاج ، فيحدث طلاق بين الخالق والمخلوق .. عندها يميل الكاتب إلى صنع آخر يتعلّق به ويستمتع بكتابته أو نشره .. المهمّ أنّ الكاتب يتعلّق بالشيء الذي يكتبه كما يتعلّق العاشق بمعشوقه ..

التجدّد والتجديد

يقول حسن صعب : إنّ هذا التجدّد المنهجي الذي يفتح أمام الإسلام سبيل التفاعل والتحاور مع جميع معارف العالم الحديث كما فتح له مثل هذا السبيل في الماضي ، ويشقّ أمام المسلمين طريق التعامل الخيّر الخلاّق مع جميع شعوب العالم الحديث ، هو الخطوة الأساسيّة الاُولى التي يتطلّبها التجدّد الذاتي .. فليس هناك من كائن يستطيع أن يبقى فكريّاً أو حياتياً في حال تقوقع وانعزال .. ولكنّ الإسلام هو في اعتقاد المسلم شرع بقدر ما هو نهج .. وهو شرع منظّم لجميع قواعد الفكر والحياة تنظيماً يبقى ولا يتغيّر .. ويقف هذا المفهوم الخاطئ للإسلام حائلاً بين المسلم وبين التكيّف الإبداعي مع مستلزمات التقدّم الحديث .. ويقف حائلاً بين غير المسلم وبين رؤية قابليّة الإسلام وقدرة المسلمين على مثل هذا التكيّف .. ولذلك تتحتّم النظرة الجديدة إلى الاجتهاد ، وهو مبدأ الحركة والتجدّد في الشرع من قبل المسلمين وغير المسلمين ..

٣٩

يقول علي حرب : يتجدّد الفكر ممّا يستبعده أصحاب النظريّات الشاملة والأنساق المحكمة والأفكار الجوهرانيّة والماهيّات المحضة .. إنّه يغتني ويتوسّع بالاشتغال على العرضي المهمل بإسم الجوهري ، أو على اللامعقول المنفي في نظر العقل ، أو على الآخر المستبعَد بإسم الهويّة ، أو على المختلف المنبوذ بإسم الوحدة ، أو على الفرع المنتقَص من قبل الأصل ، أو على الشواذّ المقموع بموجب القاعدة ، أو على الهوامات القابعة وراء المفهوم ، أو على العيوب والنواقص التي يتستّر عليها النموذج لكي يغدو نموذجاً ومثالاً ..

بهذا المعنى يتجدّد الفكر بتجاوز تلك المقولات والثنائيّات الفكريّة التي يشتغل بها المثقّفون والمنظّرون ، كالغزو الثقافي وتصادم الحضارات والصراع بين الاشتراكيّة والرأسماليّة ، أو المفاضلة بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي ، ولاسيّما أنّنا دخلنا في عصر يزداد فيه العالم عولمة ، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي والإعلامي ..

يقول نصر حامد أبو زيد : إنّ التجديد ليس حالة فكريّة طارئة ، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الاُصول التي ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصّة .. ما ليس تجديداً في مجال الفكر فهو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله ، وليس هذا الترديد من الفكر في شيء ، ولا يمتّ إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو بعيد .. وبما أنّ قانون الحياة الطبيعيّة والاجتماعيّة هو التغيّر في كلّ شيء ، سواء كان ذلك التغيّر مُدْرَكاً وملحوظاً أو لم يكن ،

٤٠