نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

تعيقنا منذ مئات السنين ، إنّها عمليّة قد تكلّف الكثير من الخسائر والأضرار الجسيمة ; إذ فيها إعادة حسابات وجدولة مفاهيم وربما تغيير قيم ومبادئ وتصوّرات بنى عليها «الظنّ» بناءه ..

إنّنا محكومون بإستخدام صيغ ومناهج علميّة وتعامل بأدوات وآليات تمهّد لنا السبيل إلى الارتقاء «بالنصّ الحديثي» إلى المكانة التي تؤهّله للتصدّي الواقعي والمشاركة الحيويّة في إحياء الصرح الديني الفكري القائم على العلم واليقين ..

حينما نرى القرآن الكريم رغم إجماعنا اليقيني الذي لا يقبل الشبهات والترديدات على صدوره من لدن الباري تبارك وتعالى ، وأنّ النصّ الموجود حالياً هو ذلك النصّ الذي أنزله الله سبحانه على صدر خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) بلا زيادة ولا نقصان ولا تحريف ....

رغم كلّ ذلك ، نجد المجادلات الهائلة الكبيرة التي أسّس لها بعض المستشرقين وغيرهم لإيجاد فضاء من التشكيك والخدش في نسبة صدور القرآن وأصل محتواه ..

بات علينا أن نعي خطورة المشكلات التي يتعرّض لها «النصّ الحديثي» بشكل أولى ، ذلك إذا رمنا نفض غبار الخمود والسكون ولفظ التعصّب والتعبّد ، التي خلّطت الأوراق وأوجدت مساحات هلاميّة وأجواءً ضبابيّة على حساب الشفّافيّة التي نحن بأمسّ الحاجة لها في ظرف

١٦١

تسنّمت فيه العقلانيّة قلل الفكر والمعرفة والثقافة وصارت تترك مسحاتها المؤثّرة عميقاً على القيم والمبادئ والثوابت ..

إنّ معالجة «النصّ الحديثي» عمليّة مكلفة باهضة الثمن ربما تستدعي تنازلات صعبة لكنّها تؤسّس لفضاء نموذجي قائم على نسيج منسجم يقيني من الروحانيّة والعقلانيّة ، من الغيبيّات والحسّيّات ، فضاء ينسجم ويتلاءم مع ما نُنعت به من ترحيبنا الدائم بالعقلانيّة وإشادة الآخرين لنا بأ نّنا من أهلها والداعمين لتنشيط دورها في عمليّات النهوض والبناء والنمو ..

إنّ الخروج بنتائج واضحة على صعيد معالجة «النصّ الحديثي» يوجد تلاحماً حاسماً بينه وبين النصّ القرآني ، ويفتح آفاقاً رحبة تقود إلى ثورة من التصديق الفاعل وتيّار يجرف الشكوك والأوهام والترديدات والظنون ، ويقضي على مشاريع الحذف والرفض والنفي والتحريف ....

حينها نفهم معنى الاُصول والثوابت فهماً لا لبس ولا غموض فيه ، فهماً لا يخضع لنظريّة «ديانة الآباء» أو «التعبّد الظلماوي» أو «الخوف والترويع الديني» ....

حينها نعرف كيف نتعامل مع الفروع والمستحدثات على غاية من السهولة والبساطة ، فلا نجد أيّ ضير بين تلاقح وتلاقي وتلاحم الجديد مع الأصل ، والمعاصر مع الثابت ; إذ كلٌّ قد عرف حدّه وطوره ....

حينها يصحّ أن ندّعي أنّنا نحن «الاُمّة الوسط» اُمّة العدل والفصل

١٦٢

والتوازن ، اُمّة اختارها الله كي تتحمّل المسؤوليّة والأمانة السماويّة الملقاة على عاتقها ، اُمّة بإمكانها تهيئة أرضيّة ظهور المنقذ الذي تتكلّل به كلّ المساعي والجهود المبذولة من أجل بناء عالم يلفظ الظلم والتعسّف والاضطهاد والترويع والفقر والانحراف ، وينشد الخير والأمان والعدل والرفاه والحبّ والسلام ..

إنّ اليقين القيَمي والمبدأي الحاصل من خلال منهج علمي دقيق يقودنا إلى نفض غبار الخيال والأوهام وإبراز الشكل والمحتوى لحقيقة فكر ورسالة لها من العمق والشمول ما جعل سائر الحضارات تستلهم منها روح الحركة والإبداع والتطوّر ..

فلسنا إذن ـ كما ادّعى علينا فون كريمر (١) ـ مجرّد تجريبيّين وأصحاب ملاحظة دقيقة بالأخذ من الرواية والتقليد ، ولسنا في حقل المعرفة النظريّة والتفكير التجريدي مجرّد عبء على الفلسفة الارسطوطاليسيّة والأفلاطونيّة ، حتى إذا حاولنا الخروج من إطار الفلسفة الإغريقيّة كان الخيال الشارد يؤدّي بنا إلى خيالات وأوهام وإلى نوع من الغيبة التي لا شكل لها ....

بعبارة اُخرى : ليس الإسلام قد قدّر له بعد فترة قصيرة جدّاً من النمو والتطوّر أن يتّخذ شكلاً جامداً ثابتاً لا يقبل التغيّر ، كما أبداه «كينن» ، فردّ عليه «جولد تسيهر» بأنّ التاريخ الداخلي للحركات الدينيّة السياسيّة في الإسلام عبارة عن صراع بين السنّة والبِدَع ، أي بين مبدأ

__________________

١ .. Culturgeschich des orien ١١,٤٦٦ (Vinna,١٨٧٥ ـ ٧) ..

١٦٣

العرف الذي لا يلين وبين المحاولات الدائمة لتوسيع هذا المبدأ وللخروج من الإطار الذي أقامه (١) ..

كما وليس الإسلام مفتقراً إلى تطييب الخواطر كما فعل «فون كريمر» لمّا قال :

إنّ كلّ نسمة من نسمات الرأي العام الاُوربيّ تترك تموّجاً عنيفاً ، أمّا في الشرق فإنّ ما يبدو على سطح الحياة يظلّ هادئاً ساكناً كالمرآة إلى أن يتفجّر فجأةً من الهدوء التامّ قوّةً تندفع من الأسفل بشكل براكين من القوّة المخرّبة (٢) ..

كما أنّ الإسلام لا يقف موقفاً سلبيّاً من الحياة كما يرى «ميلر» بقوله : تلك العقيدة الراسخة المطلقة وذلك الإيمان غير المشروط بالقضاء والقدر الذي يقيّد اليوم الحياة الفكريّة عند المسلمين بقيود حديديّة ثقيلة لم يعد من الممكن فيما يبدو التحرّر منها (٣) ..

وليس الإسلام كما يقول «مكدونالد» : ما لا شكّ فيه أنّنا نجد هنا سرّاً من أسرار ذلك النقص الفاضح في الفكر الإسلامي ..

نعم ، لكلّ قاعدة شواذّ ، واعية أو غير واعية ، ولكنّ الاتّجاه العامّ في استغلال القوّة والتأثير قد تجاوز كلّ حدّ ، فأفسد حرّيّة الفكر .. فإنّ الغاية يجب أن تكون عند المسلم محدّدة واضحة المعالم قبل الشروع بأيّ

__________________

١ .. Vorlesungen دber den Islam ٢٨٥ f. (Heidelberg ١٩١٠) ,٢nd edition,

٢٦١ f. (Heidelberg ١٩٢٥) ..

٢ .. Geschichte der herrschenden Ideen, ١٨٤ (Lelpzig, ١٨٦٨) ..

٣ .. DER Islam im Morgen ـ und Abendland ١, ٧١ (Berlin ١٨٨٥ ـ ٧) ..

١٦٤

بحث ، ويجب أن تكون واحدة من أنواع معيّنة ..

أمّا البحث الذي لا يعلم صاحبه إلى أين سيؤدّي به ، ولا النتائج التي قد يسفر عنها ولا يأبه سلفاً بها ، فمحرّم في الإسلام ، حتى أنّ اللهو أو التسلية البريئة يجب أن يجد لهما من النفع ما يبرّر الانغماس فيهما .. كذلك المرح المرفّه عن النفس يجب إخفاؤه وستره بأقنعة من أمثال وأقوال حكيمة وأخبار عن فكاهات الأوّلين المتزمّتين ونكاتهم المرحة ..

فإنّ النفس البشريّة الحرّة المتطوّرة الواثقة من ذاتها لا يسمح لها أن تسير سيرها الطبيعي في الحياة مهما كانت دوافع هذه النفس طاهرة بريئة ، بل يجب أن تتكيّف لتلائم الأوضاع الصارمة والنماذج التقليديّة التي كانت تفرضها مختلف الفلسفات والنزعات الفكريّة (١). (٢)

نقول : إنّنا على ثقة كبيرة واطمئنان كامل لو قُدّر أن تخضع كلّ الإمكانيّات والقيم والمُثُل الغربيّة للإرادة الإسلاميّة لما انتُشل أو التُقط منها شيئاً إلاّما أقرّه الإسلام ضمن مبادئه ومفاهيمه ; لسبب واحد بسيط مفاده : وجود حالة من التكيّف والتناغم والتحاور في هذا الدين ، تفتح آفاقاً من القراءات المستمرّة واختراقات لأبواب اللاّمفكّر فيه ، فكلّ شيء عندنا في تطوّر .. هكذا يفيدنا الأصل والثابت من الدين ; أما أنّنا لِمَ في ما لا يناسبنا منذ أمد طويل ، فلقد كرّرنا الإشارة إلى أنّ مردّه ضعف الأساليب والأدوات لا ضعف المحتوى والمضمون ..

__________________

١ .. The Religious Attitude und life in Islam ١٢١, ١٢٣ (Chicago ١٩٠٩) ..

٢ .. اُنظر في ذلك كلّه : فرانتز روزنتال ، ترجمة أنيس فريحة ، مراجعة وليد عرفات ، مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ص ١٤ ـ ١٧ (دار الثقافة ، بيروت) ..

١٦٥

الإرهاب الفكري (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

تسامى الفكر الإسلامي الأصيل ـ عبر حقب التأريخ المتفاوتة ـ فوق كلّ التيّارات والنظريّات والمقولات والنزعات ، التي أرادت إجهاضه وشطبه ، عزله وتهميشه ، تشويهه وتحريفه ، فبقي مُمسكاً بخيوط الخلاص البشري ; لغناه الايديولوجي ذي الشمولية المترامية والتكيّف المشهود ..

وحينما نخوض اليوم مواجهةً حضاريّة كبيرةً على صُعد شتّى ، كـ : نظام العولمة ونزعة التكفير وغيرهما ، فلا ريب أنّنا نتعرّض لإرهاب فكري ، منظّم أنيق جميل تارةً ، وقبيح خشن مشوِّه تارةً أُخرى ...

فهو على كلا الحالين معتركٌ معرفي ثقافي مثير ، وصراعٌ عقائدي يستهض النهج القويم ، والقراءة الواعية ، والاستنباط الفطن ، والعزم الأكيد ; كي يكون خطابنا مستوعباً لظروف المرحلة ، ومتفوّقاً فيها ..

ويطرح الأوّل ، المتلبّس بالأناقة والجمال «مفهوم العولمة» كمنهج

__________________

١ .. كلمة العدد ٧٧ / السنة ٢٠ / فصليّة تراثنا / إصدار مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

١٦٦

وأُسلوب واستراتيجية في خوض المنافسة وإنهائها لصالحه ..

فهو يتّخذ ـ أحياناً ـ من الإثارات الشعورية وتنشيط الرغبات الحسّية والمتطلّبات الحياتية ، كـ : الحرّية والديمقراطية والرفاهية ، سبيلاً يخترق به الحنايا والأعماق ; ليسهل حينها بذر نواة الهيمنة على العقول والأذهان ، فيسلبها فرصة التفكير العقلاني الواعي الرافض للرؤى المستوردة الرخيصة ذات المضامين المادّية المضلّة ..

والإجماع منعقدٌ على كون هذا الأُسلوب من أرقى أساليب مفهوم العولمة ، وأفتك أسلحته التي تجعله ممسكاً بزمام المبادرة ..

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ مصطلح «العولمة» يرجع في جذوره ـ كما يقال ـ إلى مفهوم القرية الكونية ، الذي استنبطه أُستاذ جامعة تورنتو : «مك ليوهان» في الستّينات من استدلاله للحتمية التكنولوجية ، القائم على قاعدة التقدّم الكهربائي ـ الألكتروني ، المبشّر بقدوم عالم دعامته الأساسية التمدّد الآلي لحواسّ الإنسان ـ التكنولوجيا ـ الدعامة التي تصنع من إنسان عالمنا إنساناً متحوّلاً في عالَم تُحدّد مُثله ونظمه وقيمه وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية ..

وقد جاء العصر التكنولوجي مضادّاً للحتمية التاريخية في سياق مقولة : «نهاية الايديولوجيا» ، التي نشرها «دانيال بل» عام ١٩٥٩ م ، وروّج لها في الستّينات ، على غرار ما روّج لمقولة «فاكوياما» : «نهاية التأريخ» في مطلع التسعينات ، وكان الهدف من مقولة : «نهاية

١٦٧

الايديولوجيا» و «الحتمية التكنولوجية» هو التمهيد لمقولة : إنّ الليبرالية والديمقراطية قضية ، ولا مستقبل لغيرها ، وهي التي انتصرت في جميع أرجاء العالم ....

وإذ تعمّقت شبكة العولمة باجتيازها مراحل عدّة ، إنّما كان ذلك عبر الحذف والنفي ، وعلى حساب الأُمم والقيم ، وانتهاك الحدود ومقدّسات الآخرين ، وتفرز القراءة الاستقرائية على أنّها ايديولوجية التسويغ بشتّى الآليات لمحاولة فرض الهيمنة والغطرسة الإنجلوسكسونية على دول العالم قاطبة ..

فهي آلة حرب ، جنون ، غسل دماغ ... وتعني قبل كلّ شيء : أنّ مَن يكتب الشيكات هو الذي يصوغ القوانين ، ويملك وسائل الاتّصال ومصادر المعلومات وموظّفي أدوات الاتّصال الجماعي ، من أكاديميين إلى إعلاميين إلى دعائيين وغيرهم ..

وذهب آخرون إلى أنّها : عملية تاريخية تعدّ نتيجة لازمة لتفاعلات معقّدة ، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية وتكنولوجية ، وهي حقبة التحوّل الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء ، في ظلّ هيمنة دول المركز وقيادتها وسيطرتها ، بسيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ ; فهو إذن انتصارٌ ـ إن صحّ التعبير ـ لنمط معيّن من أنماط الملكية والسيطرة التامّة ... إنّها رسملة العالم بما يتناسب مع المصالح الأساسية والحيوية ..

ولربما عدّها بعضهم سليلاً طبيعياً لمقولة الإسكندر المقدوني ، التي

١٦٨

أطلقها في مأدبة «أوبيس» عام ٢٣٢ ق .. م ، القائلة بوحدة القلوب وبكومنويلث مشترك بين الفرس والمقدونيّين على قاعدة الأُخوّه الإنسانية ..

وبينهما بون شاسع ; إذ إنّ عالمية المقدوني أسقطت نظرية التفوّق الإغريقي ، ومهّدت السبيل إلى المدرسة الرواقية ، التي أسّسها «الفينيقي الصغير» : «زينون» ، ودعا فيها إلى وحدانية البشرية والشعوب ، وقيام الدولة المدنية العالمية على قاعدة المساواة ..

في حين تقوم عولمة عصرنا على قاعدة : «أميركا محور العالم» من خلال محاولة فرض الهيمنة بقوّة السلاح حيناً ، وبقوّة السوق حيناً آخر ، وبالغزو الثقافي ثالثاً ، و .... وأنّ النظام العالمي الجديد هو إمبراطورية عالمية أميركية ، لدرجة أن تحمل الإمبراطورية العالمية هذه دمغة الروح الأميركية ....

وقد صرّحت «وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي» بشخص الرئيس الأمريكي عام ٢٠٠٢ م بما يلي : سوف لن نسمح بأن تصبح أيّة دولة أقوى من الدولة الأميركية ، فنحن «الإمبراطورية» المهيمنة ... سوف لن نسمح بأن يسبقنا أحد في هذا الموضوع ..

وبذلك فقد اتّضح خاطفاً ما يمثّله مفهوم العولمة ـ بنظامه الشمولي المترامي ـ من مصدر خطورة وقلق يرتقي معهما ، في واحدة من زواياه ، إلى أعلى مراحل الإرهاب الفكري المبرمج ..

١٦٩

هذه حالةٌ ومصداق لأبرز محاور الصراع الحضاري المذكور ، المتأ نّق بمفاهيم العصرنة والحداثة ، المتسلّح بالتقنية العالمية والتفوّق العلمي ..

وأمّا الآخر ، القبيح الخشن المشوِّه ، فيتمثّل بالتيّار التكفيري ، المقترن بأقذر وسائل العنف والتدمير المباشر والتصفية الجسدية ، مع غاية في القسوة والخشونة ، تعكس الروح الهمجية والنفس الحيوانية البهيمية ....

إنّها نزعةٌ وتيارٌ وموجةٌ جابت العالم الإسلامي ـ بل الدنيا بأسرها ـ ولا تستثني أحداً ، فعلماء أهل السّنّة كفّار ، ومثقّفوهم أكفر ، ومن كان سلفياً وخالف آخر مثله في اجتهاد أو رأي فهو كافر ، أمّا الشيعة الإمامية فهم ليسوا كفّاراً فحسب بل أشدّ خطراً من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ..

إنّ النهج التكفيري يعدّ من أشدّ الانتكاسات التي تمرّ بها الصحوة الإسلامية ، وهو المحنة التي تواجه العقل المبدع الخلاّق ، والمِعْوَل الذي يهدم صرح الثقافة والتطوّر نحو الأفضل ، ومصداق الاستبداد والديكتاتورية والقهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي ...

وتشير دراسات علم النفس إلى أنّ الإرهابي النوعي يعاني من شعور بالإحباط كبير ، وإحساس بالفشل وعدم احترام الذات ، فيحاول أن يَظهر ; كي يسلّط الضوء على نفسه من خلال سلوكه الانحرافي ، ثم إنّه مهما كان خائفاً قلقاً فهو يعجز عن التعبير عن ذلك ، ورغبة الظهور تمنعه من إبدائه أبداً ..

١٧٠

وإذا أضفنا إلى هذه المعلومة ما يُنشَر ضمن أدبيات الرؤية الأميركية من أنّ الخطر الذي يهدّدها قادمٌ من صوبنا ، يتّضح ـ حينها ـ عمق المواجهة التي نخوضها ، وشراسه غريمنا الذي يحيط بنا ، ليخترقنا وينال منّا ، ويمحونا بلا أيّة رحمة ..

ونحن إذ نمتلك المحتوى المتكامل المستنبط من مدرسة آل البيت (عليهم السلام) ، لا نفتقر إلاّ إلى الآليّة السليمة والأُسلوب المتقن بما يتلاءم ومتطلّبات العصر ..

وحينئذ لابُدّ أن نصنع ـ بالرؤى المعمّقة ، والشفّافيّة الأنيقة ، وسعة الصدر المعهودة ، والعقلانية الهادئة ـ السبل المناسبة لمواجهة حضارية مصيرية ، وليس الفلاح ببعيد عن اُمّة تترشّح قيمها من عمق القرآن الكريم ومدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، ولنا في أقطابنا العظام ، ربائب الدوحة النبوية ـ الذين ما برحوا يتأ لّقون رفعةً وسمّواً بكياستهم وحكمتهم وتدبيرهم ، المشهود بها لدى المناوئ والموالي ـ أُسوةٌ حسنة ..

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة على نبيّنا محمّد وآله الطاهرين ..

١٧١

تمرين المعرفة

في واحدة من جلسات البيت الليليّة كنت أقول : إنّ العقل إذا تغلّب على القلب سار الإنسان مساراً صحيحاً لتحقيق طموحاته وغاياته .. بادرني ولدي بالسؤال : كيف نعلم أنّنا غلّبنا العقل على القلب أو العكس ـ طبعاً باُسلوبه كطفل في العاشرة من عمره ـ لقد أعجبني سؤاله كثيراً واُعجبت بنباهته ، وأظهرت له ذلك ، ممّا أشعرني أنّه زاد ثقةً بنفسه ..

نعم ، بإمكان المحيط أن يصنع ما يسانخه ، فالفضاء الثقافي يخلق اهتماماً ثقافيّاً وهكذا إن كان بتوجّهات اُخرى ، فالسنخيّة في الاهتمام حاكمةٌ واردة ..

علينا أن نمرّن أجواءنا بتمارين المعرفة والعلم والقيم والمناهج ; إذ أدنى ما تصنعه هو تحريك العقول نحو اختراق المجهول غير المفهوم ، الغامض المشتبه ، المردّد ، المشكل ، انطلاقةٌ نحو الممارسة العلميّة المعرفيّة الاستدلاليّة التي نفتقرها في أساليبنا ومناهجنا وأدواتنا الثقافيّة ..

إنّ ترغيب صغارنا ـ أمل الغد ـ يفتح الآفاق الرحبة صوب الحفر

١٧٢

والبحث والتنقيب عن جواب السؤال الذي قد يبدأ بصيغة فضول في بدايات العمر ثم ينمو إلى حافز معرفي كبير لشقّ جدار الجهل والغموض روماً للحقيقة الوضّاءة التي تنشدها كلّ العقول والقلوب السليمة ..

يبقى المنهج والنسق حاكمان في كلّ محاولة معرفيّة هدفها بلوغ الكمال الإنساني ، سواء في جلسات البيت أو الكيان أو الذات ..

وتبقى المعرفة مفهوماً محوريّاً ومحتوى نوعيّاً ومخزناً جامعاً لكلّ أدوات الفكر الطامح ..

١٧٣

التدبير الصحيح

إنّ العقل الناضج والقلب السليم هما اللذان يتفاعلان مع المؤثّرات والأحداث بنسق متوازن ، والتدبير العقلي الشعوري الصحيح يوفّر أنجع طرق الاختيار والانتخاب ..

فالافتخار بالانتماء الإثني والقومي والديني لا يوفّر حلاًّ ما لم يستند إلى العقل والشعور السليمين ; إذ بدونهما ستضعف الإرادة ويهتزّ الأداء وتتأرجح القيم وتشمخ الازدواجيّة وتستشري الانتهازيّة وتعلو المبادئ الرخيصة التي تنتج معضلة كأْداء لا تحمد عقباها ..

على خلاف التدبير النسقي الصحيح ، فإنّه يمنح الإنسان شأواً لامعاً يجعل الأدوات مسيّرة له ، بل هي كالاُمّ الرؤوم تحنو عليه كلّما افتقر لها في ميادين العلم والمعرفة والأحاسيس والمشاعر ..

إنّ التدبير الصحيح يمنح الفرد حجماً حقيقيّاً يمكّنه من تحمّل ما يجب تحمّله ، فتحتاجه الناس وتحتاجه الاُمّة ، يغدو مصدراً ومرجعاً واقعيّاً بعيداً كلّ البعد عن صور الزيف والمبالغة والمنافسة الكاذبة

١٧٤

والازدواجيّة والانتهازيّة ونسيان المعروف وتغيير الحقائق وتشويه الواقع والتأرجح وفقدان الاتّزان النسقي والاستخدام الخاطئ للعقل والمشاعر ..

هذا الفرد يعتزّ بمنظومته القيَمية وتعتزّ هي به ، يفهم مواضع القوّة والضعف ، يقرأ المحاور الأساسيّة قراءة واعية انطلاقاً من واجبيّة المهامّ والوظائف المعهودة إليه ، يواجه الواقع بكلّ شفّافيّة ونقاء ، لا تناله الأحقاد والحسابات الرخيصة ، يعي حدوده ومزاياه ، يراجع ويتأمّل ويحفر ، متأنٍّ غير عجول ، لا يفرّط في عواطفه وأحاسيسه ، يعلم ماله وما عليه ، لا يفسد رأيه بالغضب والحسد والسذاجة ، قويّ الإرادة ، مقصده واضح مرسوم ، يسير إلى هدف وغاية ..

١٧٥

من أوهام فرانسس بيكون

من سخافات فرانسس بيكون «رائد نهضة الحديثة» ما أطلق عليه «أوهام المسرح» التي صنّفها في منهجه ضمن القسم السلبي ، وأراد بها تلك الأوهام أو الأخطاء الناتجة عن تأثير المفكّرين القدامى في عقل الإنسان ، فيصبح هذا العقل وكأ نّه خشبة مسرح ـ كما يقول ـ يعرض عليها المفكّرون السابقون رؤاهم المتضاربة والمنفصلة عن الواقع الراهن ..

نقول : نحن نستعرض كلّ سنة بل كلّ حين وقعة الطفّ الفضيعة التي قُتل بها الحسين (عليه السلام) وخيرة أصحابه ، نستعرضها بشتّى الآليات والأساليب والأدوات ونعيشها حيّةً نابضةً يقظةً في قلوبنا وعقولنا ، ونستلهم منها مفاهيم العزّ والإباء والثبات والصدق والإخلاص والإيمان والكرامة والوفاء والعشق والولاء والرقيّ والفلاح ..

«إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي» ، مبدأٌ يحرّرنا من القيم البالية والأفكار الرخيصة ويسوقنا إلى مراتب العقلانيّة والانفتاح والحوار .. فهل الحياة والإنسان الكامل إلاّ سلسلة مبادئ شامخة أقرّها العقل الفاعل واعترفت بها الحكمة العمليّة ..

إنّنا فهمنا نتائج الطفّ بهذا الشكل والمحتوى ، إذن فلا هي أوهام

١٧٦

ولا أخطاء تقوّض القيم الرفيعة والاُسس الخيّرة ، بل إنّها ذات المفاهيم الطاهرة التي تنشدها البشريّة بأسرها ..

إنّ بيكون وديكارت وهيوم غاصوا في وحل التجريبية المحض فلم يسمعوا ولم يشاهدوا ولم يلمسوا إلاّ المسموع والمشاهد والملموس المادّي ـ رغم مداراة ديكارت لقضايا اللاهوت والدين ـ فأغفلوا العشق والولاء والملأ الأعلى وزعموا أنّ الحياة تنتهي بالموتة الاُولى ..

ماذا يفسّرون يا تُرى زحف الجموع الميلونيّة كلّ سنة في مسيرة تجديد العهد والولاء مشياً على الأقدام مئات الكيلومترات إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، فيهم : الكهل والصغير ، المرأة والرجل ، المريض والسليم ، المثقّف والاُستاذ والعالم وابن السوق والكادح ، الفقير والغني ... كلٌّ يروم كربلاء ، بشوق وعشق تزيده السنون حرارةً وصلابة ; ماذا يريدون ، أيّ شطر يقصدون ، المكاسب والأرباح الدنيويّة مفقودة هنا ، لا جوائز ولا أيّ شيء آخر قد يخطر ببال بيكون ورفاقه ، هل من تفسير لهذه الرسالة؟ فليس رأس الحسين (عليه السلام) بأوّل أو آخر رأس مقطوع ولا سبي عياله وانتهاك حرمهم كذلك .. فلِمَ هذا الخلود النجومي والعنفوان السرمدي ، وهل أطلقتها زينب (عليها السلام) بلا وعي وحساب : «فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا» أم أنّه منهج المعرفة الأصيل ونمير القيم السليم والكيان الفكري القويم الذي يمنح البشريّة صدق الطمأنينة وسبيل النجاة وأنوار الهدى ومفاتيح الفلاح على مرّ العصور والأزمان؟!

عميت عينٌ وجنّ عقلٌ ومات قلبٌ وجفّت مشاعر لا تجعل من الحسين انموذجاً مشرقاً نحو الحرّية والصلاح ..

١٧٧

المالُ : استقلالٌ ونفوذٌ ، سيطرةٌ وقدرة

المنسبق للذهن من «المال» مفهومه الماديّ العيني ، وهو الغالب على الأذهان والمهيمن على التصوّرات المنعقدة حوله ، وعلى إثر هذا الفهم والتصوّر نمت نوع العلاقات والالتزامات والقرارات ، وصار ثقافةً ذات اُصول وأسس ومناهج اخترقت كلّ مرافق الحياة ..

إنّ التأمّل والتدبّر المقرونين بأدوات البحث والمراجعة العلميّة ينتج حقيقة واحدة ، حقيقة النسق ، فالنسق ذاته ولوحده هو الذي يؤسّس لهذه الرؤية وتلك الفكرة ويشيد الثقافة التي تتلاءم معه .. فالقدرة والنفوذ والسيطرة والاستقلال كلّها رواشح النسق لا غير ..

وحديث «المال» حديث الفرد إزاء الطبيعة ، طبيعة النسق ، فلربما كان المال عيناً أو كان مبدأً وقيمةً وأخلاقاً أو كان كليهما ، تبعاً لاختلاف الأنساق واختلاف مصادرها ..

ونحن لا يمكننا سوى أن نرى «المال» مقولة متشكّلة من حدّين ; انبثاقاً من القواعد والاُصول والجوهر الذي نؤمن به ونعتقد بمحتواه ، فلا

١٧٨

انغماس محض في عالم المادّة ، ولا تصوّف محض ، بل أمرٌ بين الأمرين ، شريطة التقيّد بالحدود والأحكام التي تنظّم حركة الحياة ، فكما لا تحريم لزينة الحياة الدنيا ، كذلك لا تسيّب ولا انفلات ولا حرّيّة على الإطلاق ..

هذه الرؤية إنّما هي نظريّتنا إزاء الحياة وفلسفة التواجد فيها ; بخلاف الواقع الذي نحياه ، حيث هيمنت سلطة المال المحض وكوّنت فضاءً حكم الناس واكتسح التاريخ والفكر والضمير الإنساني ، وصار للمال المادّي كلمة الفصل والسيادة والقدرة والنفوذ والتسلّط على الأفكار والأحاسيس ، حتى غزانا نحن أيضاً أصحاب النظريّة التي تحدّ من هيمنة المادّة وتستقطب العباد إلى الآفاق الروحانيّة المفعمة بالإيمان ومجاهدة كلّ ما يعيق حركة الاعتقاد ورسوخها في العقل والقلب ، فغدونا وغدا الكثير من أقطابنا يلوّح ويستخدم المادّة لتركيعنا وإذلالنا تارةً وإغوائنا وإغرائنا تارةً اُخرى ، فلا مائز إذن ، إنّها ذات الأداة والوسيلة التي يوظّفها الجميع لبسط الهيمنة والنفوذ والسيطرة ، إنّما المائز في كوننا أتباع نظريّة لا نعمل بها واُولئك أتباع نظريّة يعملون بها.

نحن لا نستطيع تغيير أنفسنا ومن حوالينا والعالم طرّاً بمجرّد انتمائنا واعتقادنا نظريّاً بنظريّة ورسالة نرى أنّها الأسلم والأشمل والأكمل والأعمق دون التلقّي والفهم والممارسة والمتابعة السليمة طرّاً ، بأدوات وآليات وسبل كلّها صحيحة ، متناسبة مع المكان والزمان ، فهي الكفيلة بإيجاد التغيير والنموّ والانطلاق نحو نهضة إنسانيّة جادّة ترفض السطحيّة والقشريّة والشعاريّة والاستعراضيّة التي هي وجهٌ آخر من وجوه الخداع ،

١٧٩

خداع الذات والغير ، خداع الأنا والآخر ، ولعمري ما تمكّن الخداع يوماً من بلوغ الثراء والغنى ; إذ الثراء ثراء القيَم والغنى غنى المبادئ ، وهكذا عدنا ونعود دوماً إلى حكاية الجوهر والأصل والمحتوى ، ودونها فكلّ الحكايات تافهة لا اعتبار لها ..

١٨٠