نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

مقولتا العمق والقشر

مقولةُ العمق والجوهر والأصل ... بإزائها مقولة الظاهر والقشر والفرع ... هما مقولتا وطرفا الصراع الذي لا ينتهي ..

نرى أنّ الاُمّة قد اُوهمت بفعل عمل بعض النخب التي يتعارض العمق والجوهر والأصل مع تطلّعاتها الاستحواذيّة الاستبداديّة ، فعملت تاريخيّاً طبق منهج واُسلوب وأدوات يُستبدَل بواسطتها المطلوب بمطلوب آخر والغاية والمقصود بغيرهما ، فصار الشعار ـ مثلاً ـ هدفاً في الكثير من قضايانا بينما حدّ الشعار كونه معبراً نحو سبر الغور في الجوهر الذي فيه مقوّمات الفكرة بكلّ شروطها وجزئيّاتها ، فيرشح جديداً كلّما حاكيناه واستنطقناه واستقرأناه وقارنّاه وحلّلناه وحفرنا في مساحاته وحلّقنا في فضاءاته وآفاقه ، هذا الجوهر الذي لا يتعبّدنا بفهم واحد وتفسير واحد ، حيث يتسامى فوق المكان والزمان ليتكيّف مع شتّى الظروف وألوانها ، كونه يمتلك كلّ خصائص ومميّزات الفكر الذي بإمكانه التجاوب مع المنهج العلمي الاستدلالي اللاّدوغمائي ، فلا نتائج مسبقة بلا بحث وبرهان ; إذ كلّ مسائله معروضة على مختبر المنهج العلمي السليم لتمرّ

١٨١

بمراحل الفحص الشاقّة ، فما بين الثبوت والإثبات مناطق تنقيب ومحطّات اختبار وأدوات تحليل وبعثرة كي يثبت المراد ، وإذا ما ثبت المراد فلا يعني ذلك نهاية العالم ، بل الحركة دائمة القراءة والمراجعة والمقارنة والحفر والبعثرة والتحليل والتمسّح والاستنتاج ليرشح في كلّ مرّة شيءٌ يواكب الجديد ، وهذه هي خصيصة الفكر المتكامل الشامل ; إنّه لا يخاف الشبهة الزمكانية ولا يهاب الوارد ولا يخشى التغيير ، إنّه يتعامل تعاملاً علميّاً أخلاقيّاً لا يقبل الشكّ والترديد ، حينها لا يكون للتبعيّة والذيليّة والتقليديّة ـ بل للشعاريّة والاستعراضيّة والقشريّة ـ دخلٌ في تعيين المصير وتشخيص السبيل ..

ولقد اُسيئ استخدام مفهوم «الظاهر حجّة» أيّما إساءة ; حيث سرى في أروقتنا سريان النار في الهشيم ، حتى صارت مظاهر الحياة ملاكاً وميزاناً وضابطاً في القضاء والحكم ، وغدا الملبس والمأكل والمركب مؤشّراً «حقيقيّاً» في المعرفة والفهم!! ذلك بفعل حكومة الظاهر على الباطن والشعار على العمل والاستعراض على الحقيقة والمسرح على الواقع ، وهكذا رويداً رويدا صرنا لا نفهم من عقائدنا وأخلاقنا سوى رؤوس أقلام وعناوين خافتة رمزيّة المحتوى ، وبات الغالب منّا ـ مثلاً ـ يختصر أو يرى الولاء لأهل البيت عليهم السلام في محطّات معيّنة ، أمّا مَن هم أهل البيت ، ما هي سيرتهم وعلومهم ورؤاهم وأهدافهم ، وكيف يتسنّى لنا الاقتداء بهم اقتداءً محتوائيّاً؟ فهذا من القضايا الغريبة أو المسائل التي ليست محلّ ابتلائنا!!

١٨٢

لقد حصرتنا بعض النخب في هذه الزاوية لتسلبنا حرّيّة التفكير والبحث والفحص والتحقيق والانتخاب ; لتُبقي هيمنتها علينا سارية واستبدادها دائماً ; لكي لا تتعرّض المنزلة والمكانة والقدسيّة الوهمّيّة للخطر!!

١٨٣

صراع المانع والمقتضي

لعلّ من الصعوبة بمكان الاستمتاع بالحرّيّة والاسترسال والشفّافيّة والطمأنينة ونظائرها من جهة ، وارتفاع قلق التحريف والتصحيف والوشاية ونظائرها من جهة اُخرى ، ذلك حال عرض الرؤى وبيان الأفكار ; حيث مكوّنات «المانع» ومؤنه وظروفه موجودة بقوّة غالباً ، وبإزائها «المقتضي» ومؤنه وظروفه معدومة غالباً .... تأسيساً على ذلك تأخذ فضاءات التورية والتقيّة والعزلة والصمت والأعراف الدبلوماسيّة مجالها الرحب ونشاطها الدؤوب فتكوّن شاهقاً كبيراً وحاجباً عظيماً عن واقعيّة الأفكار وحقيقة الرؤى ..

إنّنا في خضمّ سلبيّة نتاجات المانع ورواشحه من نفاق وببغائيّة وحربائيّة وصنميّة وتزلّفيّة وبراغماتيّة لا يمكننا إلاّ أن نُخضِع الوضع للمنهج العلمي الكفيل بإيجاد الفضاء المطلوب لانطلاق الأفكار مع الأخذ بعين الاعتبار ماهيّة الطرف الآخر وهل كونه هو الفرد أو المجموعة التي تقع مورد التخاطب والإلقاء ، وهل الظرف ظرف إغاثة أو دفع منكر أو بيان حقائق وبصائر لابدّ من بيانها والكشف عنها ..

١٨٤

ولقد ابتُليت الأوساطُ الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة بمشكلة «المانع» أيّما ابتلاء ، ولاسيّما مع فرص «المقتضي» الضعيفة جرّاء تعملق «المانع» وتنمّره ..

إلاّ أنّ جبروت «المانع» مهما شمخ واستعظم لا يمكنه حجب أنوار الحقيقة ولابدّ من نافذة أو مسلك واُفق تطلّ منه الرؤى وتشرق الأفكار الداعيّة إلى التزام القيم والمبادئ النبيلة .... ومهما استغلظ الاستبداد واخشوشن أو تغلغل من خلال القدرة وسلطان المال والإغراءات وأدوات التحريف والتضليل والحذف ، فإنّه لن يستطيع دحر فضاء العقلانيّة وآفاقها الرحبة ; إذ القناعة والقبول والرضى الحقيقي شيء ، والبراغماتيّة والنفاق والببغائيّة والحربائيّة والصنميّة والتزلّفيّة شيء آخر ، والملاك كلّ الملاك في حكم العقل ثم تسليم القلب ، حيث تتوفّر آنذاك المناخات المطلوبة للتلقّي السليم المسبوق بالعرض السليم ، بعيداً كلّ البعد عن الأجواء الاستعراضيّة والمسرحيّات المزيّفة والأصنام بشتّى أقسامها وأنواعها وانتماءاتها ..

والعجب كلّ العجب ممّن يسدّ منافذ العقل والشعور ويكتفي بلغة القدرة والغطرسة ، متناسياً متغافلاً عن الحقيقة الوضّاءة : «كلّ شيء متصرّم ولن يبقى سوى وجهه الكريم وأنّ ما فيها إلى الفناء إلاّ الله ، فهو الباقي بعد فناء الأشياء» ..

والأعجب أنّه لا يعلم أو يغضّ النظر عن حقيقة كونه كلّما ازداد

١٨٥

استبداداً وغطرسةً وظلماً وحقداً كلّما ازدادت رؤى الخير ومبادئ العدل عمقاً وانتشاراً بحركة دؤوبة تنبض نشاطاً وهمّة وطمأنينة تعكس إيماناً وثباتاً ، فتزحف صوبه رويداً رويدا وتحاصره شيئاً فشيئاً لتقضي عليه وتشيد على أطلاله حضارة العدل والقيم الحقّة ..

١٨٦

وقفة عَقَديّة

بينا نظلّ متمسّكين بالانتماء العَقَدي الإيماني ذابّين عنه عبر السبل والآليات المتوفّرة على قراءات مستوعبة لاُطر وجوهر وأعراض الانتماء ; انبعاثاً من البناء الثيولوجي الارثوذكسي اللاهوتي الناسوتي الإناسي ... نبقى أيضاً وبانفتاح كبير نؤمن بالحفر والبعثرة والتمسّح وطَرْق اللاّمفكّر فيه ـ بعبارة : الجانب السلبي في الفكر ـ على قاعدة التأسيس والتأصيل لا التقليد والالتقاط ، ونبقى نؤمّن لهذا الانتماء أدواته الخطابيّة والمعرفيّة والسوسيولوجيّة والانثربولوجيّة والابستمولوجيّة اللازمة ، من خلال القراءة والتلقّي والفهم والعرض السليم ; إنّها الرؤية الصائبة التي تمسك بنا ونمسك بها ، تذود ونذود عنها ، إنّها القوّة المركزيّة التي تعيدنا إلى المحور عند كلّ لحظة زيغ وابتعاد ..

١٨٧

أمران : سؤال الأنا والآخر ،

برمجة الرؤى المستقبليّة

لابدّ من الإشارة لأمرين :

الأوّل :

سؤال الأنا والآخر مفهومٌ بمصاديق لا تكاد تعدّ وتحصى ، بل محور أساسي وقطب ارتكازي ينشر نفوذه على كلّ نواحي الحياة الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، سواء ضمن الانتماء الواحد والكيان الذاتي والخليّة المنحصرة ، أم ضمن دائرة الكون الكبرى .. ويعدّ الجانب الإدراكي مصيريّاً في تفعيله وتقويمه وديمومته ونتائجه ..

والشعور الإنساني يبقى دوماً هو الملاك الذهبي في دنيا الأخلاق العمليّة ونموّ القيم الصحيحة والمفاهيم السليمة ، هذا الشعور إذا قُدّر له أن يكون نقيّاً شفّافاً صافياً ملتزماً فسيبسط نفوذه الخيّر على عالم الإنسان بشتّى مفاصله وأركانه ; إلى ذلك فإنّه خطوة نحو وحدة القلوب التي نادت بها الأديان والمذاهب والنظريّات والأفكار البشريّة على مرّ التاريخ ..

١٨٨

من مصاديق سؤال الأنا والآخر ضمن الانتماء الواحد بل الخليّة المحدّدة الصغيرة : أن أفهم ما تريد وتفهم ما اُريد .. أن تعي حاجتي وأعي حاجتك ، أن تشعر بمشكلتي وأشعر بمشكلتك ، أن أسندك وتسندني ، تمنحني الثقة وأمنحك إيّاها ، لا اُفرّط بك ولا تفرّط بي ، تعزّ شأني وأعزّ شأنك ، أنت عينٌ لي بغيابي وعينك أنا بغيابك ، تفرح لفرحي وتحزن لحزني ، أفرح لفرحك وأحزن لحزنك ، تنصحني وأنصحك ... حينها أجبتُ عن سؤالك وأجبتَ عن سؤالي ..

الثاني : لا ريب أنّ صياغة وبرمجة الرؤى الآنيّة والمستقبليّة صمّامُ أمان لحياة أفضل وأرقى ، شريطة أن تحمل لوازمها معها من خلال تضمّنها عوامل الاستقراء والإيمان والتجربة والانتخاب والتخصّص والاستقامة والشوق والعمق ...

إنّ التساؤل المطروح هنا : هل للقلب دورٌ في تحقّق بعض عناصر البرمجة والتخطيط؟ أن نصطفي المفردة المجرّدة ونجري عليها فعّالياتنا واختباراتنا لأجل تأهيلها .. وهذا الاصطفاء الأوّلي هل يكفي فيه بعض الخصائص الأوّليّة الظاهريّة أم لابدّ من توفّر المميّزات القويّة التي تفتح اُفقاً جادّاً لا غبار ولا شبهة فيه؟ ولعلّ الملاحظ في عدّة موارد منه : أنْ يُنتخَب فردٌ ما ، ثم تُبذَل عليه جهودٌ كبيرة لتقويمه وتجهيزه للمهامّ المطلوبة .. وهذا الانتخاب كما يبدو مصبوغٌ بلون القلب والميل لا بلون البرمجة والرؤية المستقبليّة ، والملاك والميزان في مدى نجاح هذا الانتخاب متروكٌ للرأي الخبروي التخصصّي العقلاني ، فهو الذي يقول

١٨٩

كلمته هنا ، أمّا الفاعل الناخب فلا يعتدّ برأيه رغم حجم مساعيه لكسب رضى العقل الجمعي ..

تبقى موازين العقل غالبة على موازين القلب ، ويبقى العرف حاكماً قاطعاً لا يستهان بحكمه أبداً ولاسيّما أنّه كثيراً ما استقطب الشرع ليحكم بحكمه ، ناهيك عن الموضوعات فله الكلمة الفصل بها .. ومهما بلغنا شأواً وتسنّمنا شوامخ الرتب وثُنيت لنا وسائد العزّ والفخر والرئاسة ، فإنّ قيم العقل وآراء العرف تظلّ لاعباً أساسيّاً مصيريّاً لا يمكن تخطّيه وغضّ النظر عنه والاستخفاف به ..

١٩٠

ماذا نعني بأدوات البحث؟

ماذا نعني بالمراجعة والحفر والبعثرة والمقارنة والتحليل والاستنطاق وقراءة ما خلف السطور وسماع ما وراء المقول ولمس غير الملموس من الشعور ; وماذا نعني بتكرارها بين الحين والآخر وفي أيّة فرصة تسنح ; ولِمَ كلّ هذا الإصرار عليها؟

إنّنا نعني : عمق القيم وأصالة المبادئ وحقيقة المفاهيم ; الانتماء الواقعي والهويّة الصحيحة ; حركة العقل بتحريك النصّ عبر استخدام الأدوات المعرفيّة المتاحة على نسق ونهج علمي سليم ; إثارة الشعوروتحفيزه وإيقاظه وبثّ الثقة فيه بإمكانيّة النهوض والمواكبة والنموّ ; رفض النظم القشوريّة والأغلفيّة والسطحيّة والانفعاليّة والاستبداديّة والفرديّة والبراغماتيّة ; إرساء العقلانيّة والحواريّة العمليّة الحضارية ونبذ العنف والحذف والنفي ، وقبول الآخر أخلاقيّاً على أدنى تقدير ; الإجابة عن سؤال الحياة الكبير ; عدم الجمود والتقليد التبعيّة العمياء الصمّاء ، وعدم الرفض المطلق للجديد ، من خلال الفلترة والتنقية المعرفيّة والأساليب العلميّة الصحيحة ممّا ينتج انتخاباً سليماً واستفادةً مشروعةً ..

١٩١

أمامنا أرباب المنطق القديم والميتافيزيقيا أمثال أرسطو وأفلاطون وسقراط وأقرانهم وأتباعهم ; وأرباب التجريبيّة الثائرة على المنطق القديم أمثال فرانسيس بيكون وهيوم وهيدجر وأقرانهم وأتباعهم ; وأرباب محاولات الجمع بين المكتبين التي لم يكتب لها النجاح المطلوب أمثال كَنْت وأقرانه وأتباعه ; أمامنا البنيويّة وما بعد البنيويّة والحداثة وما بعد الحداثة ; أمامنا بحوث وحروب وصراعات وجدالات «الفرقة الناجية» التي لم يسلم منها أحد ولم يُبرّأ منها أحد ; أمامنا هذا السيل الهادر المتواصل من الشبهات والافتراءات والانتقادات والإشكاليّات ; أمامنا الموضات الجديدة القديمة من يافطات الصفونة والعربنة المذهبيّة الطائفيّة والهجمات المدروسة على النبيّ والقرآن والإسلام ...

أمامنا كلّ هذه الملفّات ونحن لازلنا بكبار نخبنا ومثقّفينا لا نعرف أو لا نريد أن ندرك ـ مثلاً ـ معنى العقل القبلي والبعدي وتطبيقاته على الشريعة وأدواتها الرئيسة ، وهل أنّها ـ مثل الاجتهاد والتقليد ـ في طول الشريعة أم في عرضها ، هل هي نتاج العقل الأوّل أم العقل الثاني ، وهكذا مبدأ «شكر المنعم» و «حقّ الطاعة» وغيرها ; لا نريد التفكير في مجرّد سماعها حتى ، ناهيك عن الخوض فيها وافتراشها على طاولة البحث والنقاش ; إذ اعتدنا على تلقّي الوصفات الجاهزة ، بل جعلنا من النصّ وصفةً جاهزة جامدة لا تقبل الحفر والمراجعة والاستنطاق والمقارنة والتحليل ; جعلاً ربما منشؤه الهاجس والخشية المعرفيّة من عدم الإثبات والتفوّق الذاتي الذي يضرّ بغرور أنفسنا واعتبارنا ومنزلتنا ; وربما منشؤه

١٩٢

التقاعس المُحتمي بقشريّات القيم وأغلفتها ، مثل : التمترس بالمظاهر البرّاقة والحماسيّات التأريخيّة والأوهام القبائليّة ; وربما منشؤه انتكاسة الحركة وتحوّلها إلى سكون ونظام استاتيكي فرضته الأدوات المعرفيّة الضيّقة والتفسيرات المنهجيّة الخاطئة والممارسات البعيدة عن القيم والاُسس التي جاءت من أجلها تلك الحركة كما تدّعي ; وربما ...

إنّنا مع التأكيد على حفظ قداسة الدين وصون حريمه والذود عن اُطره ومضامينه ، لا نريده أن يُعبّأ في علب ويُجفّف ويُحفظ في أماكن وأوعية قد لوحظت فيها مانعية التأثيرات الكيمياويّة والفيزيائيّة ، أو يؤطَّر ويوضع في معرض زجاجي يتبرّك به الناس عبر ملامسة الزجاج الخارجي ..

نريده ـ كما أرادت له السماء أن يكون ـ برنامج حياة عملي يشير علينا بكلّ صغيرة وكبيرة ، أن نشحذ العقل ونستنهض الذهن ونوظّفه لأجل المراجعة والحفر والمقابلة والتحليل والانتخاب والاستنتاج ، سواء بالنسبة إلى النصّ المعهود أم الجديد من البنى والأفكار والنتاجات العلميّة والإنسانيّة ، ينأى بنا عن أنصاف الحلول والإجابات النسبيّة والتصوّرات الضبابيّة من خلال الحسم والوضوح والشفّافيّة المنبعثة من بطون اليقين بلا أدنى شكّ ووهم وظنّ ; يواكب بنا المسير غير عابئ بالزمان والمكان ، يجيب ويعيّن ويقوّم ويعمل كلّ شيء من أجل الإنسان وهدايته وسعادته وفلاحه ..

١٩٣

هكذا يريد ونريد الدين وهكذا عرفناه وتلك هي ثقتنا به ، وإلاّ لما اتّخذناه ديناً لنا ولما جعلناه منهجاً لحياتنا يؤدّي بنا إلى برّ الطمأنينة والسلام والازدهار ، هكذا دين بهكذا انتظار بهكذا اُطر وقيم عرّف بها نفسه وطرح وجوده بها هو دين العمق والمعرفة والعمل لا دين القشور والأغلفة الزائلة والوعود الواهمة ، إنّه معنى العدالة والإنصاف والخير والأمان ..

وهكذا معاني بهذه المواصفات الرفيعة لا يمكن لها أن تجفّف أو تحفظ في معارض زجاجيّة ; بدواعي انهزاميّة وأفكار هلامية لم تجد لها مفرّاً وملجأً سوى الاختباء خلف القشور والمظاهر الآفلة ، فراحت تزلزل الثقة بالدين وبعمق رؤاه وتشجّع وتروّج لا إراديّاً للإعلام والتصوّر الوجودي المعتقد بأفيونيّة الدين وتخديره للشعوب ، إنّنا نؤكّد على الحاكميّة المعرفيّة والثقافيّة والشعوريّة والعمليّة لقيم الدين واُسسه ومبادئه ، فإذا حكمت قيم الدين الصحيحة على عقل وقلب الإنسان فإنّه الهدف الذي سعى وجاهد لتحقيقه الأنبياء والأوصياء والشرفاء من العلماء والنخب والمفكّرين والمثقّفين ، إنّها إرادة السماء التي تدعو الإنسان إلى الخير والهداية والفلاح الأبدي ..

١٩٤

نحن وعلم الكلام

يقولون : إنّ المعرفة هي التأمّل في المفكّر فيه لكشف الواقع والحقيقة .. والتأمّل هذا ، ليس مجرّد تأمّلات عادية صرفة ، إنّما هو سلسلة مراحل خاضعة لمناهج وأدوات وسبل علميّة مختلفة باختلاف العقائد والميول والانتماءات ، المتعدّدة بتعدّد رواشح الفكر والعقل الإنساني ، استقرائيّةً كانت المناهج أم استنباطيّةً أم قياسيّةً منطقيّة ... سواء باعتماد الوحي في حركة الروح الإنسانيّة وأعمالها وتجاربها ، أو بالتخلّي عنه واعتماد التجربة والحسّ المحض أساسَ الكشف عن الواقع ، أو بمحاولات الجمع والتطعيم والإفادة من الميتافيزيقيا ـ مثلاً ـ في تخصيب الفروض التجريبيّة وتدعيم نتائجها الاحتماليّة لتغطية فشلها في الإجابة عن مجموعة تساؤلات حاصرتها وضيّقت الخناق عليها آناً بعد آن ..

ولا أدري ، هل استراح من استسلم لدين الآباء والأجداد استسلاماً تامّاً وخضع للموجود خضوعاً مطلقاً ، فقلّد وتبع وانتهى كلّ شيء ... حقّاً انتهى كلّ شيء واُغلق الملفّ وآمن إيماناً راسخاً بصفاته وشروطه وخصائصه عقلاً وقلباً وعملاً؟! لا أظنّ عاديّ العقل يقبل بذلك فضلاً عن

١٩٥

رفيعه وكامله .. كيف لنا الإيمان ونحن في راحة من البحث والتدبّر والتأمّل والمراجعة ... أمّا البقاء على الفطرة السليمة فلا يمكن تصوّره بلا حركة العقل والقلب من أجل الحفاظ على الفطرة والإيمان .. إنّنا لو استقصينا كلّ النماذج ومطلق الظروف لما وجدنا إيماناً حقيقيّاً بلا عقل فاعل وقلب نابض وحركة دؤوبة نحوه .. إذن كيف استراح من استسلم وقلّد وتبع ، ذلك إن عنينا بالراحة راحة القلب والذهن والعمق والحنايا ، راحة اليقين والاطمئنان ، التي لا يمكن الحصول عليها بلا وعي ، أمّا البله أو التظاهر به فليس بمقدوره أداء المطلوب ، لشذوذ صاحبه وافتقاده خصائص القناعة المقصودة ، فأيّ قناعة تلك التي لا تنشأ من التفكير والتأمّل والتدبّر والمراجعة والمقارنة والاستنباط والتحليل؟! ثم إنّ قناعة البلهاء ليست اختياريّة أبداً ، إنّها مفروضة بفعل عوامل الخلقة والتكوين ، والشموخ كلّ الشموخ هو بلوغ المرام في ظلّ الفضاءات العاديّة الطبيعيّة ، حين يكون الإنسان مجرّداً عن الاستثنائيّات وسائراً في المجال الطبيعي لنيل المراد ..

لذا يعود السؤال مجدّداً : ماذا يفعل غالب الناس من أجل معرفة الحقيقة وبلوغ المطلوب ، إنّهم بلا شكّ تركوها بعهدة الآباء والأجداد واستصحبوا الأحوال وأكملوا الحاجة بالتبعيّة والتقليد فخلصوا من متاعب البحث العقلي والفكري ، إنّهم سلّموا القلب والأحاسيس لمن وثقوا به وعطّلوا حركة العقل اللازمة لبلوغ المرام ..

وقد تأ ثّرت فضاءاتنا الدينيّة والثقافيّة والمعرفية تأ ثّراً سلبيّاً خطيراً بفعل غياب العقل والفكر الجمعي واقتصاره على «مجموعة صغيرة

١٩٦

محدّدة» ، لنا كلام طويل حولها ، إذ حتى هذه «المجموعة الصغيرة المحدّدة» التي تولّت مسؤوليّة إدارة شؤون الاُمّة عقائديّاً ومعرفياً يفتقر البعض منها إلى خصائص المسؤوليّة والإدارة محتوائيّاً وفنيّاً ، هذا ما وقفنا عليه وقوفاً استقرائيّاً ، وقد وجدنا القلّة القليلة فقط من هذه «المجموعة الصغيرة المحدّدة» التي بإمكانها النهوض بأعباء المهمّة ; لتوفّرها على المواصفات النوعيّة والموضوعيّة ، المحتوائيّة والفنيّة ، التي تمنح القدرة والإمكانيّة في الإجابة عن سلسلة التساؤلات والإشكاليّات والإبهامات والشبهات ، مستمرّة الطرح على الدوام منذ القدم حتى نهاية المطاف ..

إنّ ذوي الخبرة والتخصّص والفضل يشهدون بمظلوميّة «علم الكلام» والغربة هذه يعانيها حتى من أرفع مراكز القرار الديني والمعرفي ، وهذا الضعف الخطير المزمن تاركٌ آثاره على شتّى فضاءاتنا الفكريّة والعقليّة والمعرفيّة ; والمقارنة البدائيّة ـ على صعيد الاهتمام والعناية والممارسة والتداول ـ بين علم الكلام وسائر العلوم ـ كالفقه والاُصول مثلاً ـ تظهر نتائجها مغبونيّة هذا العلم المصيري ، فحريٌّ بآفاقنا العلميّة والثقافيّة جعل الترويج له ـ بالدرس والندوة والمناقشة وسائر الأدوات المتاحة ـ على سلّم الأولويّات بلا راجح عليه ; إذ علم الكلام يعني حركة العقل والفكر الموّاجة نحو بلوغ المراد ، الحركة التي تثبت صحّة الادّعاء ممّا يمهّد السبيل إلى إيمان حقيقي قائم على فاعليّة العقل ، فإذا ما امتلك العقل القناعة طبق المعايير والمناهج السليمة ، فإنّها تفضي إلى فضاءات من العقل الجمعي الممهّدة لحركة شاملة على صعيد الإيمان المعهود ..

١٩٧

وتنحصر المسؤوليّة بالعلماء والمختصّين والكوادر والطاقات في أداء الوظيفة المشار إليها ، فإنّنا قد نبلغ بعلوم الفقه والاُصول والرجال والتاريخ واللغة والتفسير والحديث والعلوم الحديثة والأكاديميّة أهدافاً ذا قيمة ومنزلة عالية ، لكنّنا بعلم الكلام نستطيع فهم معنى العبوديّة والخالقيّة والوجود والكون والرسالة والولاية ، فهم عقيدتنا نحن أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .. فهل تمكّنّا على صعيد النخب والعلماء من استيفاء حقّ المطلب استيعاباً وفهماً وترويجاً طبق المعايير العلميّة والاُسس المنهجيّة ، هل استطعنا تعبئة الاُمّة تعبئة محتوائيّة راسخة قبال الغزو العقلاني الثقافي المتواصل ، بل هل بات بإمكان النخب بيان «مفهوم الغيبة» ـ مثلاً ـ بياناً صحيحاً قائماً على القواعد العقليّة والمنطقيّة والعقلانيّة التي تناسب المكان والزمان؟ استفهامات كثيرة ...

إنّنا لم نستطع ذلك بدليل الإهمال لعلم الكلام والتشبّث بكلّ ما يجانب الجوهر والأصل والعمق من المظاهر والشعارات والقشور ، هرباً من المواجهة الحقيقيّة التي تعني التوفّر على الخصائص المحتوائيّة والفنّيّة الغائبة عن أكثر النخب والطاقات التي اكتفت بظاهر الدين ، تقاعساً أو تقصيراً أو تأميناً للمنافع ..

نحن سلكنا فضاء العلوم الدينيّة لنقول للناس ـ بعد تكامل الشروط المطلوبة في كلّ طالب علوم دينيّة ـ : أيّها الناس! إنّ فلسفة الحياة قائمة على اُسس ومعايير خاصّة ، فنبيّن لهم معنى الاُسس والمعايير الخاصّة باللغة والبيان الذي يفهمون ويعقلون ، فإذا ما عقلوا أمراً فإنّهم يستطيعون

١٩٨

البقاء عليه والذبّ عنه ، حينها تصلح الاُمّة وتصلح الأحوال وتتوفّر مقدّمات الهداية والإيمان والفلاح ..

فهل وفينا بما ينبغي علينا القيام به ، هل صرنا النموذج الذي يُقتدى به ، هل صار اللباس الديني المقدّس ـ باعتباره علامة رجل الدين والدليل الظاهر عليه ـ سبيل الاسترشاد بنا للخروج من ظلمات الانحراف والفساد والضياع إلى أنوار الإيمان والفلاح ، أم صار اللباس المقدّس غايتنا وهدفنا لتحقيق منافعنا ومصالحنا؟

تراجعت ثقة الناس بنا تراجعاً مخيفاً ولاسيّما في الفترة الأخيرة حين وجدوا «مجموعة» منّا لا تعمل بوظائفها ، إنّما همّها بلوغ رغباتها الذاتيّة ، الأمر الذي انعكس سلباً على سائر طلاّب وعلماء العلوم الدينيّة ، إنّها غدت أزمة ثقة ، أزمة مصداقيّة لابدّ من الوقوف عليها وقوفاً علميّاً لمعالجتها معالجة منهجيّة سليمة ..

يجب أن يكون رجل الدين مرتكز الناس وموئل الجمع والمرجع الذي يأخذون منه معالم العقيدة والانتماء ، يجب أن يكون مصدر الثقة وأساس المصداقيّة والكهف والملاذ والملجأ الآمن ، يجب أن يكون العقل الكبير والقلب النابض بالحبّ والمشاعر النبيلة ، عنوان التواضع ورمز الزهد والقناعة ، مثال الأخلاق السامية والصفات الرفيعة ، محرم الأسرار وحلاّل المشكلات ومصداق الإخلاص والوفاء ونكران الذات ...

هكذا يجب أن يكون رجل الدين وإلاّ فلا يتورّط ويورّط الناس

١٩٩

معه ويدنّس اللباس المقدّس الذي أرخص البعض قيمته هذه الأيّام ..

ولا جدوى في إلقاء العتب واللوم والتقصير على مجموعة معيّنة من رجال الدين ، إنّما الأمر يستلزم نهضة شاملة جادّة كي يأخذ الأهل الكفء مكانته اللازمة ..

المترشّح من ممارسات القلّة التي انعكست على الكثرة انعكاساً صار واقعاً ملموساً : أنّ رجل الدين يعيش هذه الأيّام غربتين :

إحداهما : ـ ولا أقصد الجميع إنّما التلقّي والانطباع السائد ـ الشعور الذي يخالجه ويطغى على ظاهره وأساليبه ، شعور العلوّ والسموّ العلمي والثقافي والمعرفي وأنّ الناس عوام لا يفقهون شيئاً ، وهذا الشعور جعله بعيد التكيّف والاُنس مع المحيط الاجتماعي ، ممّا يضعف فيه إمكانيّة التفاعل والتأثير والنفوذ ، ولاسيّما أنّ غالب هذا الشعور لا واقع له ، إنّما هو نتيجة الشكل الظاهري وبعض العلوم الأوّليّة والمعلومات البدائيّة جعلت منه في شعور غير حقيقي .. وهذا خلاف المفروض في رجل الدين من الزهد والتقوى وأ نّه كلّما ازداد علماً كلّما ازداد خلقاً رفيعاً وتواضعاً ..

ثانيهما : حدوث الفاصلة بينه وبين الناس ; بفعل ممارسات مجموعات معيّنة تمثّل الأقليّة من رجال الدين ، ابتعدت الناس عنه بفعل المشاهدات والمسموعات والمظاهر التي لا تناسب رجل الدين ، اُصيب الناس بصدمة وذهول حينما وجدوا رجل الدين ـ وإن كان واحداً ـ يعمل خلاف المواصفات اللازم توفّرها فيه ، وجدوه ليس كما ينبغي فآثروا

٢٠٠