نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

فأنتجت فرقاً مختلفة وأفهاماً متباينة ..

ثالثاً : إنّنا نروم الضغط برؤيتنا هذه على القواسم المشتركة التي تجمع الكلّ ، والقدر المتيقّن من الانتماءات طرّاً أنّها تسعى حسب عقيدتها لبناء وتربية الإنسان ، على اختلاف الآليات والأدوات والأفهام والتأويلات .. وبهذا الضغط علّنا نوفّق في المساهمة بإيجاد فضاءات تنبذ العنف والكراهيّة والتعصّبات الجاهليّة ، وتنعش آمالاً طالما راودت البشريّة في العيش بأمن وحبٍّ وسلام ..

رابعاً : ديدننا دائماً جعل «العقلانيّة» نصب أعيننا ، جعلاً ماهويّاً فكريّاً ، وهذا ما يتطلّب إزالة الغموض والإبهام والغشاوة عن كثير من القضايا والأحداث والمواقف ..

وبذلك فإنّنا لا نقصد الإثارة وتوسيع الهوّة وتفعيل الصراع ، بل إنّ مقتضيات البحث قد تستدعي لوازم يصعب غضّ النظر عنها ، ولاسيّما إذا كان البحث يفقد عنفوانه وموضوعيّته بعدم الخوض فيها ..

خامساً : تمسّكاً بالمعايير العلميّة ومناهج البحث الصحيحة ، فإنّنا لا نصدر الأحكام المسبقة ، بل عندنا نسق معرفي نطرح من خلاله جميع الموارد المقصودة على طاولة المراجعة والتحليل والاستقراء والمقارنة والحفر ; لتسجيل النتائج الحاصلة ، ثم عرضها على سائر النتائج المسجّلة من الدوائر الاُخرى ; من أجل تطبيق رؤيتنا المشار إليها .. نحن إذن مع الدليل ..

١٠١

سادساً : إنّ العيّنات التي تفيدنا في بيان رؤيتنا مأخوذة من النظريّات والمذاهب والأديان الفاعلة في فضاءات الفكر والعلم والثقافة ، كالمسيحيّة والإسلام والكونفوشيوسيّة والهندوسيّة .... لأسباب ودواعي لا تخفى على ذوي الاختصاص والنخب ..

سابعاً : لسنا بصدد الترويج لمبادئ «القرية الكونيّة» و «وحدة القلوب» و «نهاية التاريخ» ونظائرها ... إنّنا ننطلق من قيم واُصول تدعو إلى تربية الإنسان وإعانته على الدخول في فضاءات تأخذ به إلى الخير والهداية والفلاح ..

ثامناً : إنّنا نبحث في رؤيتنا عن إجابة لسؤال ينبذ العنف والحذف والتهميش ويرى في الحوار والأدوات الحضاريّة سبيلاً صالحاً للتوافق والسلام ... إجابة صريحة كاشفة عن جهد جادّ ونوايا شفّافة والتزامات أخلاقيّة وممارسات واعية تجنّب العالم ويلات الظلم وسائر القبائح ..

ومن السذاجة بمكان اعتقاد التأثير والنفوذ وإيجاد التحوّل والتغيير عبر المناهج والأدوات التي تهاجم وتتعدّى وتروّع وتحرّف وتحذف وتتطاول على القيم والثوابت ; إنّها تزيد الاُمور سوءاً ، فتضاعف الفجوة وتعمّق الخلاف وتوسّع التباعد ..

إنّ المعايير العلميّة الصحيحة والأنساق المعرفيّة السليمة هي التي تخلق فضاءات مناسبة للحوار ، ونعني بالحوار : العلمي المعرفي منه ..

١٠٢

بتعبير آخر : الحضور إلى طاولة البحث بلا مسلّمات وأحكام ونتائج مسبقة ، بلا تمترس عرقي ومذهبي ، إنّه الانطلاق وسبر الغور في كافّة المؤن الدليليّة الممكنة والمتاحة ، المستند إلى المبادئ والقيم الأخلاقيّة الرفيعة كالعدل والإنصاف والصدق .. إنّنا إن استطعنا توفير هكذا فضاءات فإنّه يعني ارتقاء المنصّة التي تقذف بنا إلى أجواء صالحة من الحوار والبحث العلمي البنّاء ..

وهذا يعني أنّ الروح الإنسانيّة باتت آنذاك مهيّأة للعودة إلى القيم والمبادئ النبيلة ..

إنّه مكسبٌ بشريٌّ كبير أن تتوفّر فضاءات الحوار المناسبة ، وهذا يكفي في التحرّك الجادّ صوب المنشود ثم تحقّقه ، فلا العنف ولا القذف ولا الافتراء ولا الأساليب الرخيصة تبلغ المقصود ..

نعم ، التعقّل والعقلانيّة والأساليب القائمة على الخصائص الإنسانيّة الحميدة وحدها التي تخلق لنا فرص التلاحم والمحبّة والسلام ..

إنّ المسيحي والمسلم والهندوسي والكونفوشيوسي والإلحادي ، الكاثوليكي والبروتستاني والارثوذكسي ، السنّي والشيعي ، كلّهم يدّعون مقصداً واحداً : «سعادة الإنسان» .. إنّما الاختلاف في الأنساق والأدوات والأفكار .. وطاولة البحث والحوار العلمي تعني الميل صوب الدليل أينما يميل ، بلا سبق في الحكم والقضاء ..

ولا نعني بطاولة البحث والحوار العلمي وبالفضاءات والأجواء ظرفاً

١٠٣

خاصّاً ، فالعالم بأسره والتاريخ كلّه ظرف متّسع لها ، إنّنا نهدف إلى ثقافة شاملة تقوم على مبدأ البحث والحوار العلمي البنّاء ، فلا نرى يوماً أن تزول الاختلافات والتناقضات ، فتقوم المدينة الفاضلة ، كلاّ ، إنّ غاية همّنا العمل على المشتركات بأساليب تعتمد القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة السليمة ، بلا عنف وترويع وإرهاب .. وكما أنّ تجفيف منابع التخويف والعنف والإرهاب لا يمكن أن يكون بالأساليب المسانخة ، بل بالنتائج الحاصلة عبر البحث والحوار ، فكذا الخلافيّات لا يمكن معالجتها بالخلافيّات ، إنّما بالعمل على محاور الجذب والتلاقي أوّلاً ، ثم السير قدماً نحو المقصود خطوة تتلو الاُخرى ، وكلّ خطوة لا شكّ لها شروطها وملاحظاتها وجداولها ..

١٠٤

فكرةٌ بلا رسالة

الفكرة التي لا تحمل رسالة خاويةٌ من الأساس ..

الفكرة التي لا يمكنها التعبير عن ذاتها ومحتواها ومقاصدها فكرةٌ بلا نفع ولا جدوى ..

الفكرة التي لا تمتلك الآليات والأدوات المناسبة للوصول إلى نقطة الهدف فكرةٌ محكومة بغبار الأرشفة وثلوج التجميد ..

يمكن للفكرة أن تتجسّد عبر كلمات معدودات ، ربما خلال لقطة سينمائيّة خاطفة أو حركة مسرحيّة سريعة ، ولعلّها تبرز من خلال ريشة فنّان في ثنايا لوحة واحدة فقط .... ناهيك عن موسوعات من الكتب والمدوّنات ومجاميع من السمعيّات والمرئيّات والمنبريّات والحواريّات والندوات والمؤتمرات ..

ليس هذا هامّ البحث ، إنّما هو فاعليّة الفكرة وحيويّتها وديموميّتها المطلوبة ، وهذا الهامّ لا يتحقّق إلاّ عبر منهج ونسق يراعي القيم والموازين العلميّة ، تلحظ العوامل الزمانيّة والمكانيّة مع حفظ الاُصول والثوابت ،

١٠٥

تلغي أو تتوقّف عن إصدار الأحكام المسبقة كي تأخذ مسارها المعرفي التطبيقي النتائجي في فضاءات الحوار والاستدلال العقلاني ، طبق المقرّر في كلّ المعايير العلميّة ، فلا يمكننا ـ مثلاً ـ أن نعلن مسبقاً أنّ الإسلام منح المرأة حقوقها ، بل لابدّ لنا أن نستعرض ما قاله الإسلام في المرأة وما لها وعليها ، استعراضاً علميّاً منهجيّاً وافياً يشتمل على المراجعة والاستقراء والمقارنة والتحليل والحفر والاستنطاق والاستنتاج ، تاركين الحكم لما بعد ، ولاسيّما أنّ كلّ مراجعاتنا واستقراءاتنا ومقارناتنا وتحليلاتنا وحفرياتنا واستنطاقاتنا واستنتاجاتنا ما هي إلاّ حالات من الفهم والتفسير والتأويل تنضوي جميعاً تحت قائمة «النسبي» إزاء «المطلق» ، فنحن نعتقد أنّ القرآن الكريم مطلقٌ كامل شامل يلبّي حاجة الإنسان أنّى كان ويكون ، أمّا أفهامنا وتفسيراتنا وتأويلاتنا وأفكارنا ورؤانا فإنّها مهما رقت وجالت في العمق تبقى ذلك «النسبي» إزاء المطلق ..

ومن هنا فإنّ فهمنا ـ مثلاً ـ لحقوق المرأة في الإسلام المترشّح من قراءتنا للقرآن الكريم والنصّ عموماً يظلّ يدور في شعاع «النسبي» ، فلا ينبغي لنا حسم الحكم مسبقاً ، بل لنا أن نعرض الرؤى والأفكار المستوحاة من فهمنا للنصّ عرضاً علميّاً منهجيّاً يأخذ بنظر الاعتبار كلّ الملاكات والموازين والمعايير التي يفتقرها البحث ، بلا حكم مسبق ..

إنّ الأخلاق ترفض الاستبداد بكلّ أشكاله ومنه الاستبداد الفكري ، وترفض تلك التعبديّات التي تصادر حرّيّة العقل ، فلا تؤمن بالوصفات الجاهزة ما لم توردها مختبرات العقل ، لذا بات من الضروري التسليم بأنّ

١٠٦

«سوق العقلانيّة» هو السوق المزدحم بزبائنه على الدوام ، وعالمنا اليوم غدا أشدّ حاجة إلى العقلانيّة من العوالم الغابرة بفعل التطوّر التقني والانفتاح العلمي المعرفي الثقافي ، حتى أضحى أهل الأرض وكأ نّهم يعيشون على نقطة كونيّة واحدة ..

إنّ الفكرة إذا اُريد لها الحياة والفاعليّة والبقاء لابدّ أن تخرج عن الاُطر التقليديّة السائدة وتلحظ بعين الاعتبار حاجة العصر مع حفظ الاُصول والثوابت ، لذا ينبغي لها :

أن تكون جذّابة المحتوى والعرض والاُسلوب ..

أن تفتح أوسع الآفاق للتواجد الفاعل دون الاقتصار على خاصّة النخب والأعلام ..

أن تراعي الحاجة المعاصرة ، يعني : أن تنظر بمنظار اليوم لا بمنظار الأمس ..

أن لا تكون استعراضاً للقوّة بمختلف معانيها ولا تمثّل الحشو الزائد المملّ ، فلطالما فعلت عبارة واحدة فقط ما لم تفعله موسوعات من المدوّنات ، أو لقطة سينمائيّة ومسرحيّة واحدة سريعة ما لم تفعله أفلام ومسرحيّات ومسلسلات ، أو زاوية من لوحة رسم ما لم تفعله معارض رسم بكاملها ...

و «الاُورجانون الجديد» الشهير الذي جاء به فرانسس بيكون فأحدث به تلك النهضة الصناعيّة الكبرى ليس سوى فصولاً مختصرة واضحة الفكر

١٠٧

والطرح والغاية ، دون استعراض عضلات الفكر والمعرفة والفنّ عبر مغاليق العبارات وغوامضها والموسوعات المطوّلة والأفلام واللوحات الكذائيّة ..

نعم ، الملاك والميزان صحّة الفكرة ومدى رواجها وفاعليّتها ومعالجتها لواقع الإنسان ومشكلاته وتمكّنها من الدوام أكثر فأكثر ..

لذا فصرف كون القرآن الكريم مطلقاً لا ينقذنا ولا يجدي لنا نفعاً إن لم نجد الآليات والأدوات المناسبة لتفسيره وفهمه ، على أن كلّ فهم وتفسير لا يعني وحياً منزلاً ; إذ تغيّر المكان والزمان ربما يجعل ذلك الفهم والتفسير محصوراً بمكانه وزمانه ، فنضطرّ إلى فهم وتفسير جديد لهذا المطلق الذي لا تنضب معانيه ورؤاه ، كيف وهو الشجرة المباركة التي تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها ..

وهذا التصوّر ينسحب على كلّ مفاصل الحياة وشؤونها ، سواء في ذلك الدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها ، لذا فعلوم التفسير والفقه والاُصول والكلام ... لابدّ أن تراعي المتغيّرات الزمانيّة والمكانيّة ، وهذا واضح لاخفاء فيه ، فكيف بنا العمل بمناهج اُصول يونس بن عبدالرحمن أو الفضل بن شاذان وغيرهما وتطبيقها في عصرنا الراهن وترك مناهج الاُصول التي جاء بها الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني وغيرهما التي تتناسب مع متطلّبات زماننا هذا؟! ، وهل عاد فقه المرتضى ـ مثل : الانتصار وجمل العلم والعمل ـ يمثّل حاجة اليوم بمثل ما يمثّله فقه

١٠٨

المعاصرين؟! ولعلّنا غداً نحتاج إلى فقه آخر غير فقه الحاضرين ... مع إجلالنا وإكبارنا لعلمائنا المتقدّمين منهم والمتأخّرين والمعاصرين على السواء ..

إنّ ثقافتنا ومعارفنا ومناهجنا وأفهامنا لابدّ أن تأخذ «العقلانيّة» بعين الاعتبار ، فالعقلانيّة يمكنها أن تسهم في تلبية حاجة العصر بل كلّ عصر ، ومن قال : «إنّها مستورد غريب لا يناسب اُصولنا ومناهجنا» فهو هروبٌ إلى الأمام وتمسّكٌ بالقشور وانقلابٌ على الجوهر والأصل ، ولاسيّما أنّ «العقل» له المكانة المميّزة في أدلّتنا وأدبياتنا ورسالتنا ونفاخر به على أقراننا وخصومنا ..

وكما يجب على الفكرة أن تكون رسالة معبّرة فاعلة تستوعب أوسع المجالات التاريخيّة والجغرافيّة والاجتماعيّة ، يجب أن تكون متكاملة تكاملاً طبق المعايير العلميّة والموازين المعرفيّة ، فلا تدع مجالاً للشكّ والترديد والنقص والخلل ، ولا تحمّل المجتمع ما لا قدرة له عليه ، ممّا تجعله يتخبّط ويدور في حلقات مفرغة ويخوض غمار أروقة ومراتب لم ينضج فيها بعد ; فهي خارجة عن حيّز ممارساته وعياً وتطبيقاً ; كونها ذات خصائص من الدقّة الفائقة والتصوّر الشامل والإحاطة الكبيرة والنظرة العميقة متوفّرة في نخب المجتمع فقط ، والمجتمع عنوان عظيم يضمّ الجميع ، وأغلب الجميع قد ابتُلي بإحالات أحالها الكيان التشريعي أو الكيان القضائي والتنفيذي ، هي صعبة عليه جدّاً ، لا يمكنه الاستجابة والتكيّف والخروج عن عهدتها ; إذ مفروض الأمر وصول

١٠٩

الأحكام والقوانين كاللقمة السائغة إليه بلا بعثرة وتشطير ونقص وغموض ، فهو لا يستسيغ مثلاً : سوى أنّ غداً هو الأوّل من شهر رمضان فيصوم أو الأوّل من شوّال فيفطر ، أو أنّ السعي هو بين الصفا والمروة و «هما هذان» فيسعى بينهما طبق المسافات المحدّدة له طولاً وعرضاً ، أو أنّ هذا غناءٌ فهو حرام وليس غناءً فحلال ... أمّا أنّ المجتمع ـ الذي هو عبارة عن «العرف» ـ هو الذي يحدّد هذه الموضوعات وما سواها ، فإنّها وظيفة شاقّة جدّاً على المجتمع ، ولعلّه نوع هروب إلى الأمام قام به الكيان المتصدّي فأوقع ـ بلا قصد ـ المجتمع في شراك التخبّط والحيرة والوهم ، ناهيك عن عدم حسم كثير من «الموضوعات» التي أحالها الكيان الديني على المجتمع «العرف» ، فحينما تُذكَر حوالي عشرة تعريفات للغناء في الكتب الفقهيّة المعتمدة ولا يتعيّن أيّ منها عند ذلك الفقيه الكبير فكيف يفهم المجتمع ذو الغالبيّة العظمى غير المختصّة وعياً وممارسةً أنّ تلك الحصّة الخاصّة هي غناء فيحرم أداؤه وسماعه و ....

من هنا ينبغي تكرار محاولات الفهم لذلك المطلق لاستحلاب نسبيٍّ يكون قادراً على مكادحة الحاجة الزمانيّة والمكانيّة ، ولا شكّ أنّ رواشح القرآن الكريم والنصّ عموماً المدعومة بخطوات العقل وجهوده العلميّة ستوفّر بلا شكّ فضاءً من الفاعليّة والنشاط والنموّ القائم على الاُصول والثوابت ، الآخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات المختلفة ، فتكون الفكرة كما ينبغي لها أن تكون من التوفّر على الخصائص والمعايير والمواصفات الآنفة الذكر ..

١١٠

ثورة الإبداع

يعيش الإنسان صراعاً بين أن يكون أو لا يكون ، بين أن يكون رقماً يشار له بالبنان ، رقماً فاعلاً في ميدان الفكر والإبداع والتأثير ، ممسكاً بأدوات وآليات ومناهج المعرفة ، فلابدّ حينئذ من تحمّل كلّ المشاقّ والآلام والمعاناة من حصار ووحدة وتهديد ومساومة ، تحمّلاً يسمو فوق التراجع والنكوص والهزيمة والحطّ من الكرامة والعزّ الإنساني ....

آنذاك يرقى الإنسان برقيّ فكره وإبداعه وتأثيره ; حيث يتحرّر من دوائر التبعيّة والتقليد الكفيف والخضوع للإملاءات الفردانيّة والإغراءات المثيرة ..

وشرطُ الرقيّ غيرُ منحصر بهذه المقاومات والتضحيات ، بل يعتمد أوّلاً مبدأ التسلّح العلمي الثقافي المرتكز على الاُسس الصحيحة والأنساق الرفيعة والأداء المطلوب والانتخاب السليم ....

وحينما يرقى الإنسان على هذا المنوال تسمو المبادئ والمفاهيم وتفتح آفاقاً في القلوب والعقول ; إذ رقيّ الإنسان انعكاسٌ لرقيّ القيم ،

١١١

ذلك الإنسان الذي آلَ على نفسه إلاّ أن يكون مركز إشعاع وقطب هداية ومحور تأثير ..

فالفكرة قد تصدر ممّن توفّرت فيه شروط الإصدار ، وقد تصدر ممّن سواه ، وشتّان ما بينهما في التأثير والتغيير ، ولعلّ الثاني أقرب إلى التخريب والنسف منه إلى الإعمار والبناء ..

ولا نحسبُ الناسَ رعاعاً عواماً لا يفقهون شيئاً ، فهذا أوّل الفشل ، علينا أن نحسب فيهم الوعي والبصيرة ، كلٌّ حسب وعيه وبصيرته لا حسب جهله وقصر فهمه ، حسابٌ مرتكزٌ على الحقيقة والعدل والإنصاف ..

إنّ المعارف والعلوم والفنون تبقى قوى كامنة إن لم تجد الطريق الصحيح إلى حيّز الممارسة والفعليّة ، والطريق الصحيح هو الإبداع الإنساني والبلورة الابتكاريّة طبق الأنساق العلميّة السليمة والأدوات المعرفيّة المباحة التي تجيد قراءة العلوم والفنون واستنطاقها وتحليلها ومقارنتها واستخلاص النتائج منها ، سواء بالاكتشاف أو الاختراع ، وإلاّ فهي عبءٌ ثقيل واجترارٌ مُمِلٌّ وتبعيّة مرهقة ..

ولا نريد الحطّ من قدر الأداء التنفيذي وإنجاز المهامّ الملقاة على عاتق الإنسان ، لكنّه جهد يغلب عليه العنصر الفيزيائي التقليدي ، وهذه الحاجة من السهل تذليلها والاكتفاء منها ; لاحتواء مخازننا الإنسانيّة عليها ، إنّما الحاجة التي تكلّفنا باهض الدفع هي عناصر الابتكار

١١٢

والإبداع ، عناصر الضغط على الوتر الحسّاس من النقص والخلل والعجز ، العناصر التي توجد مؤن الردم والإصلاح والإبدال ..

إنّ تحقّق هكذا عناصر مرتهن بوجود السبل المناسبة لظهورها ، السبل التي تستدعي مزيد تضحيات وتحمّل كثير صعاب وربما مجازفات تتخلّلها عراكات وخسائر وانهدامات مادّيّة وفكريّة ... آنها ستنهض هذه العناصر وهي تحمل في ذاتها اُسّ الوعي ، الوعي المتولّد من رحم الاُمّة وصلبها ، المنبثق من جروحها وآلامها انبثاق الفهم والإدراك ، فلابدّ لها حالئذ ـ وهي بحوزتها التفكير الإبداعي والعقل الابتكاري المترشّح من الأدوات المعرفيّة المعهودة ـ أن تمنح الاُمّة حصيلة مجهودها الفكري من خلال الوقوف على موارد النقص والخلل وإيجاد الحلول والمعالجات الصحيحة ..

إنّ الميل صوب الحفر والمراجعة والاستنطاق والبعثرة والمقابلة والتحليل يفرز ثورةً من الأفكار والرؤى المنبعثة من رحم الرسالة والنصّ المقدّس ، ثورةً على كلّ مظاهر الزيف والقشور والانهزاميّة والأوهام والضبابيّة ، ثورةً يقودها العقل ويحرسها الإحساس ويباركها الربّ العظيم ..

١١٣

الإبداعُ إمتاع

كم هو رائع وجميل أن تكتب أو تقول أو تفعل أيّ شيء فيه من الجديد والإبداع ما تلتذّ به الذات ويلتذّ به الآخرون ويستمتعون بقراءته وسماعه ومتابعته ، قبال ما يصيبهم من الملل والتضجور إثر المكرّرات والاجترارات التي لا تشكّل سوى عبئاً ثقيلاً على الجميع ..

إنّ المحاور الثلاثة : اللغة والتاريخ والفكر ، هي الأساس في بناء الأنساق والمناهج والمعايير التي تنقل البشريّة إلى عوالم التغيير والتكيّف والحيوية والنموّ ; إذ نحن محكومون بضرورة التوصّل والعثور على أفهام ومعاني جديدة ، كلٌّ حسب شاكلته ...

فالنصّيّون لابدّ أن يجدوا تأويلات وتصوّرات وآفاقاً اُخرى تعيد أو تجدّد للنصّ حضوره الفكري والميداني الفاعل ، موجَدات تحاكي الزمان والمكان وتحافظ على الثوابت والاُصول ولاسيّما أنّ النصّيّين يصرّون على تمزيج المباني بمؤنة العقل ، هذا هو الشاخص الذي بقي المؤشّر المحوري على طول التاريخ في بقاء أو زوال الفكر أيّ فكر ، فإذا ما نشطت مدارس ومذاهب ورؤى وأفكار فإنّما مردّه إلى تلك الأنساق

١١٤

والمناهج التي صاغها العقل الإنساني لتوليدها وبثّها والترويج لها وديمومتها ... ونحن إذ نستقي من معين «المطلق» ما يجعلنا قادرين على البقاء والصمود قبال أمواج التغيير المستمرّة باستمرار الحياة ، فهذا ما يترجم الحاجة الملحّة إلى تكثير معاقل الفهم والاستنباط وتشييد وترسيخ بنى العقل التحتيّة ; لإنتاج مزيدَ المعاني والتغييرات التي تكادح التهديدات بشتّى صنوفها ، ومحاولاتنا التاريخيّة في الفهم والاستنباط إلاّ مجرّد «نسبي» والنسبي يبقى بصفاته ويزداد نحولاً كلّما داهمته الأزمان والأصقاع ..

إنّ الفهم التبريري لـ : «لا اجتهاد قبال النصّ» أفيونٌ تخدّر وتكهّف به «تنابلة العلم» ليخروجه عن إطاره الصحيح ويفرغوه عن محتواه الأصيل ; إذ معناه : لا اجتهاد مناف ومباين للنصّ ; فالمراد بـ «قبال» هنا : التعارض والتباين والتجاوز .. ولا معنى آخر لها غير ذلك ..

أمّا إذا كان الاجتهاد هو ذلك الذي يماهي النصّ ، وينقّب في أعماقه ، وينشأ من رحمه بالمراجعة والاستقراء والحفر والمقابلة والتحليل ، القائمة على الاُسس العلميّة والمعايير المنهجيّة فإنّه اجتهادٌ يأخذ بالنصّ إلى حيث مواقعه الحقيقيّة من الحاكميّة والحيويّة والديموميّة الميدانيّة ، بخلاف ذلك الجمود المخيف الذي يقلّل من فرص التأ لّق ويطفئ شمعة الأمل ويزرع أحراشاً من الملل والضجر والتعب والانحراف ..

إنّنا إن أردنا أن نكون في حيّز الإبداع والإمتاع الفكري والعقائدي

١١٥

والثقافي فما علينا إلاّ التحرّر من خيوط القشور قاصدين لبّ القيم وجوهرها ; لننشئ شراكةً بين الأصالة والثوابت والقيم من جهة ، وبين حركة التجديد والتغيير والحاجة الملحّة من جهة اُخرى ، تدرّ علينا أرباحاً من الأفهام والمعاني والممارسات التي تقوّض المحاولات التي تروم بنا الحذف والنفي والإبعاد ..

١١٦

الإبداع قرين الصدق

الفكرة التي لا تحمل طابع الإبداع فهي اجترارٌ وحملٌ ثقيل وتكرارٌ مملّ .. والإبداع الذي يجافي الصدق والخير لا بارك الله فيه .... فالفكر المبدع هو ذلك السبيل الألِق نحو بلوغ الحقيقة ..

وللحقيقة شروطٌ إن حصلت ستؤتي ثمارها اليانعة التي تنمو بها الإنسانية والقيم والمبادئ والأخلاق ..

إن نزع الإنسان عن ذاته لباس الزيف والخوف والمنفعة والضعف وتحلّى بما ينبغي أن يكون عليه ، بما تفرضه عليه إنسانيته الواقعية ، فإنّ قيم الشرّ والظلم وسائر مصاديق القبح تضمحل فيه وتأفل وتسود قيم العدل والخيروالأمان والفلاح في أعماقه وترفل ..

إنّ أساس مشكلة الإنسان هي مع ذاته ، إنّه حينما يهتزّ ويتراجع ويكذب ويخون ويماري ... فإنّه يُلِحق الضرر أولاً بذاته ; إذ المفروض بناء الذات طبق القيم والمبادئ الصحيحة ، أمّا الظهور على مسرح المفاهيم والأخلاق ظهوراً قاصداً قشور الحقيقة فإنّه لن يوصل إلى الغاية المطلوبة ;

١١٧

حيث استعاض بالوسيلة عن الهدف ، إنّه قاصد السراب الذي لن يبلغه قطّ ..

إذا أراد كل منّا أن يكون مبدعاً في حياته ، اُسرته ، مجتمعه ، اُمّته ، عمله ، فكره ، ثقافته ، معرفته ، أخلاقه ، دينه .... لابدّ أن يكون صادقاً مع ذاته ، مع غيره ، مع قيمه ومبادئه .. وهذا شرط محوريٌّ في الإبداع رغم صعوبته ، فلربما يحول بيني وبين الحقيقة خوفٌ أو طمعٌ أو أيّ ضعف ونقص وخلل غيرهما ، وبتخطّيهما يسمو بمراتب العزّ والكمال ويحلّق في آفاق القيم والمبادئ ألقاً شامخاً ..

إنّ الصدق والمعاناة والأصالة تخلق فرص الانتشال من خطر السقوط في أوحال الهزيمة القيميّة والمبدأية ..

إنّ الرغبة والشوق والحركة والداعي والعشق والبعث والتصوّر والتصديق كلّها تصنع الفضاء الذي ينمو فيه الصدق والوفاء والإخلاص والإبداع ..

١١٨

معنى التغيير

مادام «العقل الإنساني الإيماني» فاعلاً فإنّ رواشحه دوّامةٌ زاخرةٌ تبسط نفوذها وتمتدّ إشعاعاتها متجاوزةً عناصر التاريخ والمكان ، فهي تُناغِم «المطلق» تناغماً يصنع نتاجاً مبتكراً يحاكي الظرف ويعتمد الثوابت والاُصول عبر المعايير السليمة المستفادة في عمليّة الفهم والاستنباط ..

لا شكّ أنّ الإنسان مجبولٌ على النموّ والتغيير ، تغيير الواقع بما يتناسب مع الضرورة ، وبما يتيح له الاستجابة الإيجابيّة لنتائج حركة العقل والفكر التي تفرض شروطاً جديدة ، فهماً جديداً ومعنى حديثاً لما يحتويه «الأصل» الذي آمنّا به ثابتاً شامخاً متكاملاً يعطينا المطلوب طبق الشروط العلميّة المعرفيّة السليمة ..

إنّ تيار التغيير المعهود جارفٌ لا يمكن التصدّي له والإطاحة به ; إذ ذلك يعني مجابهة نشاط العقل والفكر والجمود على وقائع وظروف لا تتماشى مع حاجة المكان والزمان أبداً ، وهي في النتيجة مجابهةٌ : الخاسر والمهزوم فيها نقيضُ العقل والفكر ..

١١٩

إنّ الخروج من دوائر الرتابة والملل وإضفاء المتعة والجاذبيّة على برامج الحياة المختلفة ، لا شكّ أنّه ابتكار عقلي قائم على مناهج وأنساق معيّنة ، إلاّ أنّ الخطورة تكمن فيما لو كان الغرض من تلك المتعة والجاذبيّة مخدوشاً يحمل في طيّاته ألواناً من المكر والخداع ممّا يكون أشبه بالفخ الذي يراد به إيقاع الفريسة في الشباك ، لذا فتلك المتعة والجاذبيّة القادمة من دهاليز المكر والخديعة وباءٌ لا يمكن الحدّ من انتشاره المذهل السريع ، وبه تصاب الاُمّة بنكسة مروّعة وإحباطة كبيرة لا يُعلَم زمن الإفاقة منها ..

إنّ اشكاليّة العمل بالمرفوضات خلقت عندنا أجواءً من الضبابية وانعدام الثقة ، فإنّنا رفضنا العمل بالقياس ـ مثلاً ـ في قاموس انتمائنا ومبادئنا لكنّنا تشبّثنا به في مفاصل استراتيجيّة من ممارساتنا وتطبيقاتنا ، حتى باتت ثقافةً سرت إلى أصغر خلايا المجتمع ، فصار ربّ الاُسرة والحلقة والمجموعة والكيان ... يمارس الريادة المستوحاة من ثقافة الصلاحيّات والاختيارات الممنوحة للنائب العامّ بغيابه (عليه السلام) ، وهذا ما ولّد بطبيعة الحال سلسلة من التناقضات والتصادمات والتهافتات التي نشهدها حيّةً واضحةً في ظروفنا الآنية كما شهدها أهل الأمس وسيعاني منها أيضاً أهل الغد ، ولاسيّما أنّ هذه الثقافة قد قادت وتقود إلى سلسلة من القرارات الفرديّة الناشئة من ذلك الفهم الذي يسمو بالفرد فوق كلّ القيم والقوانين والمعايير ويبلغ به مرتبةً لا يعلوه بها سوى الله سبحانه وتعالى ، لذا فالتغيير إذا وقع فإنّه يتجاوز كلّ الأفهام الموجودة التي تعطّل النموّ وتأخذ

١٢٠