نفحات الذّات - ج ٢

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٢

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-973-7
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٥٦

١
٢

٣
٤

من مقدّمة تحقيق كتاب ذكرى الشيعة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وخير بريّته محمّد المصطفى ، وعلى آله مصابيح الدجى.

تعاقبت على المتن الفقهي الشيعي مراحل عدّة وأدوار مختلفة ساهمت مساهمةً فاعلةً في بلورة طابعه الذي تميّز به ، وخصائصه التي تفرّد بها ، حتى اتّخذ أبعاده وموازينه القائمة حالياً.

ولقد كان للكفاح الفكري الدؤوب والجهود العلمية الهائلة التي بذلها أعلام الطائفة وأساطينها الأفذاذ ، الدور المشهود في تثبيت وتطوير واستقلالية الفقه الشيعي.

ولبعض هؤلاء الفطاحل الأمجاد اللمسات البارزة والدور الأكبر في ما تحقّق له من تكاملية وحيوية ، نخصّ منهم :

__________________

١. تأليف الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي العاملي ، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث ، طبع في أربعة مجلّدات.

٥

شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (م٤٦٠).

المحقّق الحلّي ، جعفر بن الحسن (م٦٧٦).

العلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر (م٧٢٦).

الشهيد الأوّل ، محمّد بن مكّي العاملي (م ٧٨٦).

الوحيد البهبهاني ، محمد باقر (م١٢٠٥).

الشيخ مرتضى الأنصاري (م١٢٨١).

وجماعة من أهل الفنّ والاختصاص حصروا هذه المراحل كلّها في مرحلتين :

١ ـ مرحلة المتقدّمين.

٢ ـ مرحلة المتأخّرين.

والمراد من «المتقدّمين» في المتون الفقهيّة المصنّفة في القرن السادس والسابع : فقهاء عصر الأئمّة (عليهم السلام). و «المتأخّرين» : ما جاوز منهم فترة حضور الإمام (عليه السلام) ، أي سنة ٢٦٠ فما بعد.

وقد يطلق مصطلح «المتقدّمين» على شيخ الطائفة ومَن تقدّمه ، و «المتأخّرين» على مَن بعده.

والمعروف من المتون الفقهية عموماً أنّ المحقّق الحلّي ـ ولربما العلاّمة ـ هو الحدّ الفاصل وحلقة الوصل بين «المتقدّمين» و «المتأخّرين».

وقد اُضيف مصطلحٌ آخر في المتون الفقهية المدوّنة في القرن الثالث

٦

عشر بعنوان : «متأخّري المتأخّرين» ، حيث يكون المراد من «متأخّريهم» مَن هم بعد زمن صاحب المدارك.

ولعلّ هذا التقسيم الثنائي يفتقد الدقّة في الضبط والتثبّت ، فهو في الحقيقة أشبه بمصادرة أو غفلة عن كثير من الخطوات العظيمة والابتكارات العملاقة والاقتراحات البنّاءة والآراء السديدة التي صنعت للمتن الفقهي الشيعي كياناً علمياً وفكرياً مستقلاًّ.

نعم ، يمكن إيفاء المطلب حقّه إن قلنا : إنّ أدوار ومراحل الفقه الشيعي ـ على ضوء المحاسبات العلمية والتاريخية وما يقترن بهما من لوازم وعوامل مختلفة ـ تنشطر إلى ثمان :

١ ـ مرحلة عصر الأئمّة (عليهم السلام).

٢ ـ مرحلة أهل الحديث.

٣ ـ مرحلة تفوّق الفقهاء وانحسار مدّ المحدّثين.

٤ ـ مرحلة الشيخ الطوسي.

٥ ـ مرحلة الشهيد الأوّل.

٦ ـ مرحلة المحقّق الكركي.

٧ ـ مرحلة الوحيد البهبهاني.

٨ ـ مرحلة الشيخ الأنصاري.

ولا يخفى أنّ تفصيل وبيان كلّ مرحلة بحدّ ذاتها وما تمتاز به من خصائص ومواصفات ، يستدعي بسط البحث واستطالته ، مع أنّنا نروم

٧

التمحور ـ بعض الشيء ـ حول مرحلة الشهيد (قدس سره) ; لما لذلك من صلة وارتباط بما نحن فيه ، مسلّطين الضوء بشكل خاطف على جوانب من ملامحها واُطرها ، اللذين يمكن استخلاصهما من خلال استعراضنا لمختلف الظروف التي عايشها رضوان الله تعالى عليه ـ أخذاً وعطاءً ـ منذ النشأة وحتى الشهادة.

لذا فنحن نستلّ من تلك المراحل الثمان مرحلة الشهيد (قدس سره) ، فنخوض غمارها بنوع من التوسّع الذي يناسب المقام ، فنقول :

استطاع الفقه الشيعي في المرحلة الثالثة أن يشكّل بناءً خاصّاً ويشيّد برنامجاً مستقلاًّ عن دور ومرحلة الحديث.

والملاحظ على المتون الفقهية التي صنّفت في تلك الفترة اتّصافها بالحالة الفقهية التقليدية التي كانت سائدة حينذاك ، تلك الحالة التي استلهم منها شيخ الطائفة تشييد اُسلوبه ومنهجيته في صياغة كتابه «النهاية» ، إلاّ أنّه (قدس سره) وبتدوينه «المبسوط» و «الخلاف» قد خلق نوعاً من التغيير والتحوّل في محتوى ومضمون المتن الفقهي الشيعي ، حيث سلك فيهما مسلك الاُسلوب السنّي الحاكم آنذاك ، فلا نجازف إن قلنا : إن هيكلية هذا الفقه قد اضطربت بذلك ، وأضحت خليطاً من نظامين متفاوتين.

ولعلّ هذا كان منشأ التوهّم القائل بنسبة الشيخ (رحمه الله) إلى مذهب الشافعية.

ولقد توغّل هذا المنهج في عمق الواقع الثقافي والفكري الشيعي

٨

حتى ترك لمساته البارزة على شتّى المصنّفات والتأليفات المنجزة حينذاك.

ويتلخّص هذا الاُسلوب بـ : أنّه يستعرض أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء العامّة أوّلاً ثم يطرح أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء الشيعة.

ولعلّ الفاضل الآبي (قدس سره) كان أوّل من انتفض على هذا الاُسلوب وتلك المنهجية ، فصنّف كتابه «كشف الرموز» ممتنعاً فيه عن ذكر أقوال ونظريات واستدلالات فقهاء العامّة.

وشدّ أزره وتابعه على ذلك من تلامذة العلاّمة الحلّي : ولده فخر المحقّقين في كتابه «إيضاح الفوائد» ، حيث استعاض عن نقل آراء وأدلّة فقهاء العامّة بنقل آراء وأدلّة فقهاء الشيعة.

ومع كلّ ذلك ، لا يمكن لنا أن ننكر النضوج والترقّي اللذين أصابا الفقه الشيعي خلال مرحلة الشيخ الطوسي (قدس سره) ، فلا زالت آثاره المباركة إلى يومنا هذا مهوى أفئدة الطائفة بفقهائها ومفكّريها وأساتذتها وتلامذتها ، فهو المفخرة التي ساهمت في منح المذهب عزّةً وكبرياءً ومرتبةً ورفعة .. ولعلّ تفريعات «المبسوط» خير مصداق وأرفع مثل يحتذى به في ما نحن فيه.

كما لا يمكن تناسي دور العلاّمة الحلّي وكل مَن سبقه ومَن تلاه في تدعيم وتثبيت أركان المؤسّسه الفقهية الشيعية ، فلا زالت تفريعاته

٩

ـ ولا سيّما في قسم المعاملات ، والمستفادة من النمط السنّي ـ مورد عناية وتوجّه أهل الفنّ والاختصاص ، والتي طبّقها على المتن الشيعي بشكل رائع من حيث الأساس والقواعد والاُصول والمباني.

وشهيدنا الأوّل ، شمس الدين محمّد بن مكّي العاملي ، وبفضل نبوغه الذاتي ومؤهّلاته الفريدة ، استطاع أن ينقّح الاُصول والقواعد الأساسية للفقه الشيعي ، مجسّداً ذلك على متونه بشكل عملي قلّ نظيره ، وبخطواته الهائلة ـ التي حقّقها بجهوده العملاقة ـ تمكّن من أن يحدث فيه انقلاباً وتحوّلاً مصيرياً ، مانحاً إيّاه شخصيته الحقيقية وهويّته المستقلّة.

إنّ طرح الشهيد للتفريعات التحقيقية والفقهية القيّمة ذات الطابع الابتكاري الحديث ، وبسطه الفقه الشيعي وفتحه آفاقاً جديدةً له ، أكسبه حلّة بهيّةً وذوقاً رفيعاً ومكانةً شامخةً ، تجلّت بأنصع الصور وأروعها ، فغدت «الألفية» و «النفلية» و «القواعد والفوائد» و «الدروس» و «الذكرى» و «غاية المراد» و «اللمعة الدمشقية» وغيرها ، من مصادر الفقه الشيعي ومراجعه المهمّة ، التي تعكس بكلّ وضوح هيبة مدرسة أهل بيت العصمة والطهارة بأرقى خصائصها ومميّزاتها.

وللمكانة التي نالها دور الشهيد وفكره الوقّاد ، فقد سار على دربه وتبع نهجه فقهاء الطائفة وأساطينها ، وذلك زهاء ما يقارب القرن والنصف ، وهم وإن طرحوا في آثارهم ومؤلّفاتهم بعض المباني الجديدة والآراء المبتكرة ، إلاّ أنّ السمة البارزة عليها بيان أفكاره وشرح نظرياته وآرائه.

ومن أبرز هؤلاء الفقهاء :

١٠

ابن الخازن الحائري ، زين الدين علي بن الحسن (م أوائل القرن التاسع).

ابن المتوّج البحراني ، أحمد بن عبدالله (م٨٢٠) صاحب النهاية في تفسير الخمسمائة آية.

الفاضل المقداد ، المقداد بن عبدالله السيّوري الحلّي (م٨٢٦) صاحب التنقيح الرائع وكنز العرفان.

ابن فهد ، أحمد بن محمّد بن فهد الأسدي الحلّي (م ٨٤١) صاحب المهذّب البارع والموجز الحاوي والمقتصد وغيرها.

شمس الدين محمّد بن شجاع القطّان الحلّي (م النصف الأوّل من القرن التاسع) صاحب معالم الدين في فقه آل ياسين.

المفلح بن الحسن الصيمري (م بعد سنة ٨٨٧) صاحب كشف الالتباس وغاية المرام وغيرهما.

ابن هلال ، علي بن محمّد بن هلال الجزائري (م بعد سنة ٩٠٩).

إبراهيم بن سليمان القطيفي (م بعد سنة ٩٤٥) صاحب إيضاح النافع.

الشهيد الثاني ، زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي (م٩٦٥) صاحب الروضة البهية وروض الجنان ومسالك الأفهام وغيرها.

إنّ انتساب مرحلة من مراحل تطور متن الفقه الشيعي إلى الشهيد (قدس سره) يعدّ بلا ريب أغلى وسام ناله جرّاء كفاحه المرير ، ذلك الكفاح الذي

١١

ما ترك معه باباً من أبواب العلم والمعرفة إلاّ وطرقه وارتوى من نميره بما يكفيه ويسدّ حاجته ، فكانت سيرةً عطرةً وحياةً مباركةً غذّت شرايين الفكر والثقافة بأبهى الآراء وأجمل المقترحات وملأت سوح الفضيلة جلالةً وفخراً ، متوّجاً إيّاها بدماء زاكيات سالت على ثرى المبدأ والعقيدة الحقّة ، بعد أن أباحت هدرها فئة ضالّة قادها الحقد الدفين والتعصّب الأعمى إلى ارتكاب تلك الجريمة النكراء ، التي لازال جبين الإنسانية يندى لها خجلاً وحياءً ; ولا عجب من ذلك ، فإنّ له في السبط الشهيد (عليه السلام) اُسوةً حسنةً ونموذجاً رائعاً.

غايد المراد وتمام المقصود : أنّ الشهيد بما خلّفه من مخزون علمي خالد وتراث فكري فذّ ، شاد معهما أرسى القواعد وأمتن المباني وأعمق النظريات ، إنّما كان حصيلة إحاطته الفائقة بالعقليات والنقليات ، فجمع شتّى العلوم وألوان الفنون ، حتى غدى بحدّ ذاته مرحلة من مراحل الفقه الشيعي الثمان ، رفدت متونه بأغنى المفاهيم وأرقى الابتكارات.

هذا هو المدّعى ، أمّا إثباته فلنا أن نقول : إنّ إثبات كلّ مدّعى يحتاج ـ كما لا يخفى ـ إلى المؤنة الدليلية اللازمة مع القرائن المقبولة والشواهد المناسبة وصيغ الطرح الملائمة وسائر اللوازم الاُخرى ، التي تصونه من النقض والردّ وتقوّي فيه جانب الإبرام والثبوت ، فكم من المدّعيات التي اُلغيت أو اُسقطت لافتقادها ما يمكن أن تكادح به المنافيات وتقاوم معه المعارضات.

١٢

ولعلّ كلّ زاوية من زوايا سيرة الشهيد العلمية والفكرية لها اللياقة في تحقّق المدّعى وإثباته ، فالأدلّة على ذلك متزاحمة ، مضافاً إلى ما يدعمها من مؤيّدات وقرائن وشواهد ; ولتيسير الطريق فإنّنا نستعرض حياته بشكل سريع ، بما فيها : نشأته ، رحلاته ، أساتذته ، تلامذته ، ما قيل فيه ، وآثاره ، وجملة من آرائه ومقترحاته وابتكاراته وملامح مدرسته وخصائصها ، ثم شهادته رضوان الله تعالى عليه. حينذاك سيتجلّى ثبوت المدّعى بكل وضوح وشموخ.

وُلِدَ (قدس سره) في جزّين إحدى قرى جبل عامل من جنوب لبنان ، سنة ٧٣٤ هـ ، جبل عامل ذلك المكان الذي تخرّج منه خُمس علماء الشيعة ، مع أنّه لا يساوي عُشر عُشر بلاد الشيعة مساحةً ، فكانت حركة العلم ومجالس الفكر والمعرفة مزدهرة آنذاك ، فأطلّ الشهيد على الحياة الثقافية من أوسع منافذها ، حتى جالس منذ نعومة أظفاره ـ وبدافع من والده العالم الفاضل الشيخ مكّي جمال الدين ـ علماءها ، وخالط فقهاءها ، وارتاد ندواتها العلمية ، وشارك في حلقات الدرس ، التي كانت تعقد في المساجد والمدارس والبيوت ، وكثيراً ما كان يساهم في المناقشات التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاّب أو الطلاّب أنفسهم ، فمنذ البدء تعوّد أن يبني لنفسه آراءً مختصّةً به في مختلف مسائل الفقه والأدب وغيرهما ، حتى أصبح ـ مع صغره ـ يشار له بالفضل والعلم ويتوقّع له مستقبل زاهرٌ ومشرق.

شدّ الرحال ـ وهو في أوائل ربيعه السابع عشر ، أي في حدود سنة

١٣

٧٦١ ـ إلى حيث يمكنه تلقّي العلوم والمعارف ، فارتاد الحلّة وكربلاء المشرّفة وبغداد ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والشام والقدس ، وتركّز استقراره في الحلّة التي كانت آنذاك عامرة بأساطين الفقه وعلماء المعرفة ، حتى أضحت قطباً حيويّاً ومدرسة رائدة من مدارس الفقه الشيعي ، وفي ظلّ هذا الازدهار وتلك الحيوية ارتوى الشهيد من أصفى منابع العلم وأنقاها ..

فتلمّذ على ولد العلاّمة فخر المحقّقين (م٧٧١) الذي كان من أجلّ مشايخه وأعظم أساتذته وأكثرهم دراسةً عليه ، فأولاه من العناية ما لم يولها لغيره ; لما رأى فيه من النبوغ المبكّر والمواصفات الفريدة ، حتى قال فيه : «استفدت منه أكثر ممّا استفاد منّي».

وقرأ على الفقيهين الكبيرين الأخوين : عميد الدين ، السيّد عبدالمطّلب ابن السيّد مجد الدين بن الفوارس (م٧٥٤) ، وضياء الدين السيّد عبدالله ، ابني شقيقة العلاّمة ، قدّس الله أرواحهم الزكية.

وتلمّذ أيضاً على تاج الدين ، السيّد أبوعبدالله محمّد بن القاسم المعروف بـ : «ابن مُعَيّة» ، الذي كان من كبار علماء الحلّة حينذاك.

وفي دمشق ، قرأ على قطب الدين ، محمّد بن محمّد الرازي البويهي (م٧٦٦) ، الكلامي الكبير ، والفيلسوف النحرير ، صاحب شرح المطالع والشمسية وغيرهما.

أمّا أساتذته ومشايخه من العامّة فهم كثيرون ، منهم : القاضي برهان

١٤

الدين إبراهيم بن جماعة ، قاضي القضاة عزّ الدين عبدالعزيز بن جماعة ، جمال الدين ـ أبوأحمد ـ عبدالصمد بن الخليل البغدادي ، محمّد بن يوسف القرشي الكرماني الشافعي المعروف بـ «شمس الأئمّة» ، ملك النحاة شهاب الدين أبوالعبّاس أحمد بن الحسن الحنفي النحوي ، شرف الدين محمّد بن بكتاش التستري البغدادي الشافعي ، ملك القرّاء والحفّاظ شمس الدين محمّد بن عبدالله البغدادي الحنبلي ، فخر الدين محمّد بن الأعزّ الحنفي ، شمس الدين أبوعبدالرحمن محمّد بن عبدالرحمن المالكي.

قال (قدس سره) في إجازته لابن الخازن : وأمّا مصنّفات العامّة ومرويّاتهم فإنّي أروي عن نحو من أربعين شيخاً من علمائهم بمكّة والمدينة ودارالسلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام إبراهيم الخليل (عليه السلام) (١).

وشرف التلمّذ عليه والرواية عنه فهما لكثير ، نخصّ بالذكر منهم : الفاضل المقداد السيّوري ، ابن نجدة الكركي ، ابن الخازن الحائري ، ابن الضحّاك الشامي ، الشقراوي الحنّاط ، الكرواتي ، عزّالدين العاملي ، ابن هلال الكركي ، ابن زهرة الحسيني الحلبي ، عزّ الدين الحلّي ، بنته العالمة اُم حسن ، فاطمة ، الملقّبة بـ : «ستّ المشايخ».

__________________

١. نقول : إنّ هذا دليلٌ جلي من دلائل عدّة ، وشاهدٌ بارز من شواهد كثيرة ، على سموّ فكر علماء الشيعة ونقاء سريرتهم وعدم إبائهم من تلقّي شتّى العلوم والمعارف عن طريق علماء سائر المذاهب ، مجرّدين أذهانهم بذلك عن كلّ حقد وتعصّب. بل لم يمنعهم علوّ مرتبتهم وجلالة مقامهم ـ باعتراف أكابر هذه المذاهب وفضلائها ـ من القيام بذلك.

١٥

ولو تأمّلنا في مدّة عمره الشريف ـ القصيرة نسبيّاً ـ ورحلاته إلى تلك البلاد وتلك ، وما خلّفه من تصانيف رائعة في شتى العلوم والفنون ، وأنظاره الدقيقة ، ومقترحاته العميقة ، يعلم أنّه من الذين اختارهم الله تعالى لتكميل عباده وعمارة بلاده ، وكلّ ما قيل أو يقال في حقّه فهو دون مقامه ومرتبته.

وإليك بعض الخصائص التي ميّزته رضوان الله تعالى عليه :

ـ أوّل من هذّب متن الفقه الشيعي من أقاويل المخالفين.

ـ من فقهاء الشيعة الخمسة الذين أحاطوا بأقوال العامّة والخاصّة ، أوّلهم زماناً : المحقّق الحلّي ، ثم العلاّمة الحلّي ، ثم ولده فخر المحقّقين ، ثم الشهيد الأوّل ، ثم الشهيد الثاني.

ـ رجحان كفّته في كثير من الموازنات التي كان يعقدها كبار علمائنا بينه وبين فطاحل الطائفة وعظمائها.

ـ أفقه الفقهاء باعتقاد جماعة من الفقهاء والأساتيذ.

ـ تأليفه كتابه الشهير «اللمعة الدمشقية» في سبعة أيّام فقط.

ـ تمكّنه من أن يضيف إلى مدرسة العلاّمة ـ في الفقه والكلام ـ ومنهجيتها أشياء ، ويطوّرها ، ويحدّد المفاهيم ، بما لم يستطع عليه أساتذته وشيوخه.

ـ أوّل من بادر إلى تشكيل وتأسيس نظام خاصّ بجباية الخمس ،

١٦

وتوزيع العلماء في المناطق المختلفة ، وشبكة الوكلاء القائمة حالياً هي ثمرة جهوده المباركة.

ـ إنّه عصاره ورمز مرحلة من مراحل تطوّر الفقه الشيعي بأكملها ، حتى سمّيت باسمه ، وهذا مقامٌ لم ينله إلاّ نوادر عظماء الطائفة وأساطينها.

قيل الكثير في نعته والإطراء عليه ، وأثنى عليه أعاظم الفريقين ، نختار بعضاً منها هنا :

ـ مولانا الإمام العلاّمة الأعظم ، أفضل علماء العالم ، سيد فضلاء بني آدم ...

(اُستاذه فخر المحقّقين)

ـ مولانا الشيخ الإمام ، العالم الفاضل ، شمس الملّه والحقّ والدين ...

(اُستاذه ابن معيّة)

ـ شيخ الشيعة والمجتهد في مذهبهم ... وإمام في الفقه والنحو والقراءة ، صحبني مدّةً مديدة فلم أسمع منه ما يخالف السنّة ...

(شمس الدين الجزري)

ـ المولى الأعظم الأعلم ، إمام الأئمّة ، صاحب الفضلين ، مجمع المناقب والكمالات الفاخرة ، جامع علوم الدنيا والآخرة ...

(اُستاذه شمس الأئمّة الكرماني القرشي الشافعي)

ـ الشيخ الإمام العلاّمة ، الفقيه البارع الورع ، الفاضل الناسك الزاهد ...

(اُستاذه عبدالصمد بن الخليل البغدادي شيخ دار الحديث ببغداد)

١٧

ـ الشيخ الفقيه ، وإمام المذهب ، خاتمة الكلّ ، مقتدى الطائفة المحقّة ، ورئيس الفرقة الناجية .. الشهيد المظلوم ...

(تلميذه ابن الخازن الحائري)

ـ ملك العلماء ، علم الفقهاء ، قدوة المحقّقين والمدقّقين ، أفضل المتقدّمين والمتأخّرين ... الرئيس الفائق بتحقيقاته على جميع المتقدّمين ، مهذّب المذهب ...

(المحقّق الكركي)

ـ خاتمة المجتهدين ، محيي ما درس من سنن المرسلين ، البدل ، النحرير ، المدقّق ، الجامع بين منقبة العلم والسعادة ومرتبة العمل والشهادة ...

(الشهيد الثاني)

ـ الشيخ الإمام الأعظم ، محيي ما درس من سنن المرسلين ، محقّق حقائق الأوّلين والآخرين ...

(العلاّمة محمّد تقي المجلسي)

ـ شيخ الطائفة وعلاّمة وقته ، صاحب التدقيق والتحقيق ، من أجلاّء هذه الطائفة وثقاتها ، تقيّ الكلام ، جيّد التصانيف ...

(التفرشي صاحب نقد الرجال)

ـ كان عالماً ماهراً ، فقيهاً ، محدّثاً ، مدقّقاً ، متبحّراً ، كاملاً ، جامعاً لفنون العقليات والنقليات ، زاهداً ، عابداً ، ورعاً ، شاعراً ، أديباً ، منشئاً ، فريد دهره ، عديم النظير في زمانه ...

(الحرّ العاملي)

ـ علاّمة العلماء العظام ، مفتي طوائف الإسلام ... مهذّب مسائل

١٨

الدين الوثيق ... العارج إلى أعلى مراتب العلماء والفقهاء المتبحّرين وأقصى منازل الشهداء السعداء المنتجبين ...

(المحقّق أسد الله التستري)

ـ أفقه جميع فقهاء الآفاق ، وأفضل من انعقد على كمال خبرته واُستاديّته اتّفاق أهل الوفاق ، وتوحّده في حدود الفقه وقواعد الأحكام ، مثل تفرّد شيخنا الصدوق في نقل أحاديث أهل البيت الكرام (عليهم السلام) ، ومثل شيخنا المفيد وسيّدنا المرتضى في الأُصول والكلام وإلزام أهل الجدل والألدّ من الخصام ...

(صاحب روضات الجنّات)

ـ تاج الشريعة وفخر الشيعة ... أفقه الفقهاء عند جماعة من الأساتيد ، جامع فنون الفضائل ... وقد أكمل الله تعالى عليه النعمة ...

(المحدّث النوري)

ـ كان رحمه الله بعد مولانا المحقّق على الإطلاق أفقه جميع فقهاء الآفاق ...

(صاحب الكنى والألقاب)

كهف الشيعة وعلم الشريعة ، لم يزل فقهه مستقى علماء الإماميّة في نظريّاتهم وكتبه مرجع فقهائهم ، وأنظاره العلمية مرتكز آرائهم ... فلا اُطيل بتنسيق عقود الثناء فأكون كناقل التمر إلى هجر ...

(العلاّمة الأميني)

فليس من الهيّن حقّاً أن يطرى عليه (قدس سره) بكل هذا الإطراء وينعت بكل هذه النعوت الناصعة ; بل ما كان أن يكون ذلك لولا همّته العالية وسعيه الهائل ومثابرته الدؤوبة وفضائله الروحية والأخلاقية ، حيث لم يألُ جهداً

١٩

ولم يضيّع فرصةً من أجل الوصول إلى هدفه المنشود ، فكان يقول في ذلك :

معدودٌ من الخسران إن صُرِفَ الزمان في المباح وإن قلّ ، لأ نّه ينقص من الثواب ويخفض من الدرجات ، وناهيك خسراناً بأن يتعجّل ما يُفنَى ، ويخسر زيادة نعيم سيبقى.

وقصّة تناظره مع ابن المتوّج البحراني معروفة ، فكان الشهيد قد غلبه مرّتين في ذلك وأفحمه ، فسأله ابن المتوّج عن السرّ فقال (قدس سره) : سهرنا وأضعتم.

إنّ الفترة التي عاشها رضوان الله تعالى عليه هي فترة توغّل وتعمّق فقه المحقّق والعلاّمة ، ومع ذلك فما نراه قد تأ ثّر بمدرستيهما ، بل ابتعد عنهما إلى حدّ كبير ، وهذا ممّا هيّأ له الأرضية الخصبة لعرض ابتكاراته البنّاءة ومناهجه الجديدة على صعيد الاستدلال وتوسيع المسائل الفقهية ، بتبويب الفقه وتقسيمه على نحو لم يسبقه إليه غيره ، وقد تجلّى ذلك في مختلف مصنّفاته ، كاللمعة ، والقواعد والفوائد ، والذكرى ، والألفية ، والنفلية ، وغاية المراد ، والدروس ، وغيرها.

أمّا آثاره ومصنّفاته وتأليفاته (قدس سره) ، فسنستعرضها بنوع من التفصيل والتوسعة ، حيث هي المحور الأساس من بحثنا هذا ، فمنها استُنبط أغلب ما قيل فيه وفي منهجيته واُسلوبه ومقترحاته وبرامجه التي أعانت المتن الفقهي الشيعي على أن يقفز قفزته المشهورة آنذاك ، ومنها استطاع الشهيد

٢٠