نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

الحكم والفصل والقضاء ، وذلك من مختصّاته لا يجوز لأحد أن يتولاّها دونه إلاّ بإذنه ، كما لا يجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلاّ بأمره وحكمه .. ويرجع إليه أيضاً في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصّاته .. وهذه المنزلة أو الرئاسة العامّة أعطاها الإمام (عليه السلام) للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائباً عنه في حال الغيبة ولذلك سمّي «نائب الإمام» ..

أقول : إنّ اعتقادنا بكون «الإمامة» من الاُصول كما هو التوحيد والنبوّة والعدل والمعاد لا يعني سوى عظم مرتبتها وعلوّ شأنها وخصوصيّة قدسيّتها التي تضاهي نظائرها بها ، وتبعاً لذلك فإنّ الإمام له من الصفات والمزايا ما يتفرّد بها على سائر البشر كما تفرّد بها الأنبياء .. وحقيق الرأي وسديد القول أن يكون الإمام ذا خصائص ومكوّنات تميّزه عن غيره ، وإلاّ كان كباقي الناس ، وكان أصل الإمامة لا معنى لوجوده والتمسّك به ..

إذن الإمام ـ بما له من المزايا ـ له من المرتبة ما لا يدانيه بها أحد من سائر الناس .. لكنّنا بواقعنا جعلنا كلّ ما للإمام لغير الإمام من الاختيارات والصلاحيّات الاعتقاديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة .. فساوينا بين الإمام (عليه السلام) وغير الإمام ، كلّ ذلك بفضل استنباط ما في مقبولة ابن حنظلة من أحكام ومفاهيم ; ولعلّ الظروف المختلفة التي عصفت بالمدرسة الفقهيّة الشيعيّة جعلت أقطاب التشيّع يفكّرون بالمخرج الذي يمكّنهم من الإمساك بزمام الاُمور على نطاق أوسع ; فعالجوا الرواية المذكورة متناً وسنداً وتوصّلوا إلى قبولها للحصول على نتائج تصبّ في منفعة الدين والمذهب كما يرون ..

٢٤١

ولعلّ التساؤل المطروح هنا هو : إنّ أهمّيّة وعظمة كلّ شيء تكمن في اُسسه ومقدّماته وأدلّته وفضاءات ثبوته وإثباته ، التي تكون من القوّة والإحكام والدقّة بمكان تجبر الخصم على التراجع والقبول أو ثباتها برسوخ إزاء فصول المناقشة والبحث والردّ والاعتراض .. وهذا ما حصل لنا كمسلمين بالنسبة إلى القرآن الكريم ونبوّة النبي (صلى الله عليه وآله) وكيف انبرى الآخرون عبر الأدوات والآليّات العلميّة والمعرفيّة للنيل من القرآن الكريم والتشكيك بكونه نصّاً إلهيّاً وأ نّه ـ كما يرى كثير من المناوئين ـ من نتاج محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) أو أنّ نبوّته (صلى الله عليه وآله) فيها من الشكّ والشبهة برأي آخرين منهم .. وأيضاً ما حصل لنا كشيعة إثني عشريّة في أصل الإمامة والولاية مع سائر الفرق الإسلاميّة من خلاف واختلاف ، ولكن على كلا الحالين كانت ولازالت لنا أدلّتنا المحكمة واُسسنا القويّة وشواهدنا الجليّة ومقدّماتنا العلميّة ومعاييرنا المعرفيّة التي نكادح بها الخصم سواء على صعيد كوننا مسلمين نذبّ عن القرآن الكريم والنبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) وسائر قيمنا ومبادئنا ، أم كشيعة إثني عشريّة نذود عن أصل الإمامة وباقي معتقداتنا وأخلاقياتنا ورؤانا ..

لكنّنا داخل الإطار الشيعي ذاته انقسمنا مختلفين إزاء مسألة الفقيه المجتهد الجامع للشرائط إلى فريقين رئيسين : فريق يرى الولاية المطلقة لذلك الفقيه ، وفريق يراها مقيّدة وفي اُمور معدودة كالحسبة والأيتام وغيرهما .. وهامّ الأمر يتجلّى حينما نفهم معنى غيبة الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه الشريف ومعنى النيابة العامّة التي يتولاّها ذلك المجتهد الجامع

٢٤٢

للشرائط ، هذا الفهم الذي يترشّح منه تصوّر وتصديق مفاده حسّاسيّة وخطورة ومصيريّة المهمّة الملقاة على عاتق نائب الإمام أثناء غيبته عجّل الله تعالى فرجه الشريف ..

وعلى كلا القولين ـ سواء قلنا بولاية الفقيه المطلقة أو المتجزّئة ، كما ليس المقصود أبداً النيل أو الانتقاص أو الانحياز لأحد المبنيّين ، إنّما هي محاولة مراجعة وقراءة وفهم علّها تسهم في ترصين صفوفنا إزاء ما نواجهه من حذف وتهميش ونفي وترويع ـ فلابدّ أنّ لكلّ فريق ما يناسب شأن دعواه الخطيرة من الأدلّة والشواهد والقرائن الكافية باعتقاده في الدفاع عن تصوّراته والثبات عندها ، ولاسيّما أنّها دعوى تأخذ حسّاسيّتها من عنوانها الكبير «نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف» ودعوى نيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف لها من الحجم والمساحة والاُفق واللوازم والآثار ما يجعل أدلّتها بذات الحجم والمساحة والاُفق ... ولكن هل الأدلّة على إثبات ولاية الفقيه ـ سواء المطلقة منها أو المتجزّئة ـ بالمستوى المطلوب ، وهل مقبولة عمر بن حنظلة ونظائرها تلبّي الحاجة والطموح ، حاجة اُمّة وطموح جماهير سلّمت عقولها وقلوبها وأموالها وأعراضها وأوطانها وكلّ شيء لديها لقيم ومباني ترى فيها الأصحّ الأسلم ، هذه الرؤية المستقاة من ذلك الاطمئنان بفقهائنا وعلمائنا ومجتهدينا الذين قالوا لنا : إنّ الولاية في ظلّ غياب الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف إمّا مطلقة أو متجزّئة ، والناس عملت كما قال هؤلاء العظام ، ولكن هل شحّة الدليل بهذا الحدّ الذي يجعلنا نتمسّك بمقبولة اسمها يفصح عنها ، أي فيها من النقاش الحارّ سواء على صعيد السند أو المتن ما يدعو

٢٤٣

إلى التوقّف والتأمّل الطويل ، لكن عظماءنا ـ رغم ذلك ـ اختاروا قبولها ودعموها بشواهد وقرائن ونصوص لا تخلو من المناقشة أيضاً ..

ولسنا في مقام الحكم وإبداء الرأي والتشكيك في قدرات عظمائنا في مجال التعامل مع النصوص وكيفيّة الاستنباط والفتيا وإدارة شؤون الاُمّة وتلبية طموحاتها في حياة حرّة كريمة مستندة إلى القيم والمبادئ الحقّة ... لكنّا حينما نقارن بين ما تمسّكوا به من نصوص وروايات وما تخلّوا عنه في شتّى أبواب الفقه ، تبرز أهمّيّة السؤال المعهود .. فلطالما وجدناهم يخوضون في النصّ بكلّ أبعاده متناً وسنداً ; ليحصلوا على النتائج المطلوبة بشكل لا يدعون مجالاً للشكّ على صعيد الاستفادة من الاُسس والمعايير العلميّة في معالجة النصّ ، لذا فنحن ندعو مرّة اُخرى إلى مراجعة واستقراء ومقارنة وحفر واستنطاق وتحليل النصّ من جديد ، علّنا نحصل على غير مقبولة ابن حنظلة في مجال تدعيم مبنى ولاية الفقيه ; فإنّ فهمنا مهما رقى سيبقى في إطار النسبي قبال المطلق ، اُسوة بكلّ التفاسير والأفهام التي هي بمثابة النسبي ، والنسبي قابل للتغيّر بتغير الظرف المكاني والزماني والاستعداد المعرفي الإنساني ..

إنّ القراءات الجديدة والنتائج المبتكرة تساهم في رفع اشكاليّة التجنّي على الثوابت والاُصول ، ولعلّنا نتمكّن بمحاولتنا المستمرّة من إيجاد صيغ أكثر عقلانيّةً وقبولاً سواء على صعيد ولاية الفقيه ونيابة الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف أم على صعيد الثبات على الاُصول والاُسس ، فلا نُتَّهم بعدئذ برفض القياس نظريّاً والأخذ به عمليّاً ، كما لا نُتَّهم بالتجاوز على مقام

٢٤٤

الإمامة عبر التصرّف بخيارات وصلاحيّات واُمور هي من مختصّات الإمام فقط ، كما لا نُتَّهم بإرساء ثقافة القشور والمظاهر على حساب الجوهر والعمق ، ولاسيّما نحن اُمّة تؤمن بالعقل وقدراته على إيجاد السبل الناجعة للتعامل مع المتغيّرات ..

إنّنا لا نريد هنا الانتقاص من عظمة ومكانة علمائنا وفقهائنا الذين بذلوا ما في وسعهم لصيانة القيم والمبادئ من الاندراس والضياع ، وتحمّلوا جرّاء ذلك شتّى صنوف القهر والظلم ، ونال الكثير منهم وسام الشهادة المقدّس حفظاً لحمى الدين والمفاهيم الحقّة ، بل نريد بيان الفارق بين الإمام وغير الإمام حتى وإن كان غير الإمام فقيهاً مجتهداً جامعاً للشرائط ، فإنّ للإمام من الخصائص ما لا يشاركه فيها أحد أبداً ، إلاّ أنّنا طبق الواقع والوقائع الحاصلة والممارسات الموجودة نجد الكثير من القوانين والبرامج والخطوات قد اُخذ بها وكأنّ الإمام (عليه السلام) حاضرٌ ليس بغائب ، الأمر الذي يثير التساؤلات الخطيرة والإبهامات المخيفة ، ولعلّ الكثيرين يرون في تلك الممارسات نوعاً من التجنّي على هيبة ومكانة وصلاحيّة الإمام (عليه السلام) ..

ولقد أخذت الممارسات التي أحلّت غير الإمام مكان الإمام (عليه السلام) طابعاً قياسيّاً ; إذ صار غير الإمام يقاس وجوده عمليّاً على وجود الإمام ، بما لذلك الوجود من قدسيّة وخصوصيّة وخيارات وصلاحيّات ، فصرنا نعمل بالقياس الباطل بعلم منّا أو بدون علم ، وسرى هذا القياس شيئاً فشيئاً بين مختلف أفراد «غير الإمام» بدءاً من الفقيه الجامع للشرائط

٢٤٥

ـ الذي يتسلّح بالأدلّة الفقهيّة فله ما يبرّر مبناه على أدنى تقدير ـ إلى ذلك الذي همّ بارتداء زيّ الروحانيّة بدافع من هذا الشعور الذي يجعله أوّلاً جنديّاً من جنود صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ثم يرتقي هذا الجندي ليمارس نفس المهامّ والصلاحيّات التي يمارسها الإمام (عليه السلام) ، لذا تجد هذا الفتى يشبّ ويشبّ معه الرأي الذي يرى الناس عواماً لا يفقهون شيئاً ، وهو الذي بمجرّد ارتدائه ذلك الزي صار يفقه كلّ شيء ، وكأنّ ذلك القماش فيه من المعاجز والكرامات والمعلومات ما يجعله الأعلم الأفقه ، وهذه هي اُولى مراحل التمسّك بالقشور والابتعاد عن الجوهر والعمق ; حيث الجوهر والعمق يدعوان إلى المراجعة والاستقراء والبعثرة والحفر والمقابلة والاستنطاق وممارسة الاُسس والمعايير العلميّة للحصول على النتائج المطلوبة ، وهذا ما لا يتّفق مع طالب العزّ والشهرة والسلطة والمال في ليلة وضحاها ..

ثم صرنا نعقد لكلّ مسألة وقضيّة تروق لنا «إجماعاً» ودوّنا في ذلك من الإجماعيّات ما لا تعدّ وتحصى متناسين أنّ الإجماع الذي لا يكشف باليقين عن رأي المعصوم (عليه السلام) لا وزن ولا قيمة له ، وكذا إجماع لا يخدم سوى ذوي المصالح والمنافع ، وهم كمثل اُولئك الذين أحتجّوا بالإجماع المزيّف ليسلبوا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حقّه في الخلافة ..

فهل غاية ما نستفيده من «أصل الإمامة» تقوية شوكتنا الدنيويّة؟! بل حتى الاستفادة الدنيويّة لم تكن بتلك الاستفادة الصحيحة ; إذ صنعنا نحن «غير الإمام» في ذاتنا روحَ الفرديّة والاستبداد والسلطويّة ، بأوضح

٢٤٦

صورها ومصاديقها ، لأ نّنا بنينا على الاُسّ الخطأ وشيّدنا على الخطأ ومارسنا على الخطأ ، خطأٌ جذري يعود إلى ممارسة مهامّ وخيارات وصلاحيات تعود في أصلها إلى الإمام (عليه السلام) فقط ، أو على الرأي الفقهي إلى الفقيه الجامع للشرائط ، جوّزناها لأنفسنا بلا رخصة شرعيّة ، فسرى المرض وفتك بنا جميعاً ..

إنّنا يجب أن نحفظ ما للامام (عليه السلام) للامام (عليه السلام) فقط ونمارس مالنا حقّ ممارسته فقط ، مع زرع الوعي الصحيح في نفوس وقلوب وأذهان الاُمّة ; فالاُمّة يجب أن تفهم فهماً واضحاً مكانة وعظمة ومنزلة الإمام (عليه السلام) كما يجب أن تفهم مكانة المجتهد الجامع للشرائط ومدى الفرق بينه وبين الإمام (عليه السلام) ، مثلما يجب على الاُمّة فهم الفرق بين المجتهد الجامع للشرائط وغيره ; سعياً منّا لمعالجة اختلاط الأوراق الذي جلب لنا مختلف المآسي والويلات ..

إنّنا لا نروم معالجة الاُمور تحت طائلة ضغط قوى الهيمنة الفكريّة العالميّة :

فهناك من عالج مسألة القوميّة ـ التي كانت الفكرة السائدة في أوانها ـ من خلال تزيينها بلباس الدين والتمثّل لها بآيات من القرآن الكريم مثل : (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ ...) ..

وهناك من عالج الماركسيّة ونظريّة الجدل والديالكتيك بمسألة التوحيد ; حيث إنّ الله جعل الصراع بين الخير والشرّ صراعاً طويلاً فينتصر

٢٤٧

فيه الخير آخر المطاف ، كما أنّ الجدل والتضادّ هو عنوان مراحل الصراع الذي ينتهي إلى الشيوعيّة لا غير.

وهناك من عالج الليبراليّة دينيّاً باُسس ومقدّمات وقبليّات تسعى إلى فهم النصّ فهماً يتناسب مع متطلّبات المكان والزمان دون القفز على الاُصول والثوابت ..

إنّنا نريد معالجة واقعنا تحت طائلة الضغط الذي نتعرّض له من داخلنا لا من خارجنا ، إنّنا ينبغي أن نفهم حقيقة وحدود كلّ شيء ، ينبغي أنّ نعلم أن أساس المشكلة يكمن فينا ، فلا يصحّ أن نتجنّى فنمارس الظلم أنّى كان ويكون وبحقّ أيٍّ ما كان ويكون ، وليس لنا من سبيل سوى العمل بالاُسس والمعايير والقيم والمبادئ التي نعتقد أنّنا آمنّا بها وذدنا عنها في أدبيّاتنا ونتاجاتنا نظريّاً ، فلا محيص عن ترجمة هذا الذبّ النظري إلى ممارسة حيّة تصدر من صميم انتمائنا وهويّتنا لا من واقع مصالحنا ومظاهرنا ، فالقياس ـ مثلاً ـ إن كان يبطل العمل به فهذا الحكم والمبنى سار إلى نهاية المطاف ، والإجماع ـ مثلاً ـ الذي لا يكشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) لا قيمة ولا وزن له إلى آخر المطاف .. إنّنا بذلك نكون قد فهمنا معنى الحقيقة والحدود ، وعليه فإنّ أصل ومقام الإمامة يبقى بتلك الهيبة وذلك الشموخ في نفوس الناس ، فلا يُخدَش إثر ممارسات وتصوّرات بنت وجودها بفعل «نيابة الإمام» تلك النيابة التي مُنحت الكثير من اختيارات وصلاحيّات الإمام ، لا كلّ ما للإمام ، الأمر الذي حدا بالقريب والبعيد أن ينال من مفهوم وأصل الإمامة بذريعة أنّ ممارسات

٢٤٨

هذا وذاك محسوبة على كيان الإمامة ، لأ نّنا جعلنا للإمام (عليه السلام) نائباً بهذه الإمكانيّات والاختيارات وكأنّ وجود الإمام وعدمه سواء ، فلم نأخذ بالحسبان جدّيّاً عصمة الإمام (عليه السلام) ومسألة لطف الباري تعالى وذلك الارتباط الإلهي الخاصّ بين الإمام (عليه السلام) وبينه تبارك وتعالى ، وسائر الخصائص التي يتفرّد بها الإمام (عليه السلام) .. لذا فإنّ الفهم الصحيح للحقيقة وحدودها يمنحنا الفرصة المناسبة للتخلّي عن روح الهيمنة والاستبداد والاستئثار ، ويجعلنا نفكّر قويّاً بالحلول التي تستند إلى الاُسس والمعايير العلميّة ، وتنأى عن القشريّات والمظاهر التي تسيء إلى المبادئ والأخلاق ، وتتنافى مع حركة العقل التي رفعنا شعار التمسّك بها ..

إنّنا لا نريد إلباس فكرنا كلّ يوم ذلك اللباس وهذا ، إنّما نريد أن نمارس حقيقة كون النصّ مطلقاً بمحتواه وأنّ أفهامنا بإمكانها أنّ تأتي بالجديد الذي يقاوم المتغيّرات المكانيّة والزمانيّة مع حفظ الاُصول والثوابت ، أي أنّ النصّ قادرٌ على أن يجيب على سؤال الحياة ويمنحنا البرنامج الصحيح المتكامل للمواصلة والمقاومة والنموّ والبقاء ، شريطة أن نفهم ذلك النصّ فهماً صحيحاً يستوعب شروط المكان والزمان ، فكلّ الأفهام والتفاسير والتأويلات تبقى نسبيّةً إزاء هذا المطلق ، لذا فالفرصة قائمةٌ دوماً للحصول على أفهام جديدة وتفسيرات حديثة كلّما تعاملنا مع هذا المطلق تعاملاً منطقيّاً قائماً على المعايير العلميّة والاُسس المعرفيّة ..

ولا شكّ أنّ هذا المنهج سيكلّفنا الكثير ويكلّف الكثيرين المضارّ الجسيمة والخسائر الكبيرة ; إذ الخضوع للمعايير العلميّة والاُسس المعرفيّة

٢٤٩

القائمة على المراجعة والاستقراء والحفر والمقارنة والتحليل والقراءة سينتج فهماً جديداً ـ وإن كان نسبياً ـ بإمكانه الإجابة على التساؤلات الزمكانيّة ، ثم إنّه يفضح ويكشف ويعزل الأساليب والمناهج التي تنأى عن المحتوى والجوهر والعمق ، فهذه المناطق بإمكانها أن تكشف لنا بوضوح مدى ولوغنا في المرفوضات التي آثرنا العمل بها لنأخذ نصيباً وافراً من الهيمنة والسلطة والاستبداد على حساب المبادئ والأخلاق التي رفعنا شعارها منذ القدم ، هذا الولوغ الذي حدا بغير الإمام ـ بلا حجّة ولا دليل ولا برهان ـ مداناة الإمام (عليه السلام) في الرتبة والاعتبار والصلاحيّات ، فما عاد ـ في ثقافته ـ يدرك الفواصل الشاهقة التي تفصله عن الإمام المعصوم ، ناهيك عن الفواصل التي تفصله عن الفقيه الجامع للشرائط ، الذي يمتلك على أدنى تقدير أدلّة «نيابة الإمام» سعةً وضيقاً على اختلاف المباني ..

كما لا شكّ أيضاً في أنّ التمسّك بالمناهج العلميّة التي تقود إلى أفهام جديدة قائمة على الأخذ بالمحتوى والتعامل مع الجوهر ، سيعرّض روّاده إلى مختلف المتاعب والمصاعب والافتراءات من ذلك الفريق الذي لا يؤمن إلاّ بالمظاهر والقشور ، ولا يرى في مثل ولاية الإمام (عليه السلام) إلاّ حقّاً خاصّاً به لا يجوز للآخرين النيل منه ، فيجتهد ويستنبط من الأحكام ما يتلاءم مع تصوّراته ومبانيه ... إلاّ أنّ الإنسانيّة قد شهدت على مرّ العصور حجم التضحيات العظام التي بذلها أقطاب الفكر والعلم والمبادئ والأخلاق للذود عن رسالتهم وترسيخها ونشرها ، ولنا في أهل البيت (عليهم السلام)

٢٥٠

اُسوة حسنة في كلّ مضامير الحياة ..

إنّنا في الوقت الذي نشدّ فيه على ذوي الرؤى العلميّة الثاقبة من نخب الاُمّة وطاقاتها ومفكّريها ومختصّيها لاستمرارهم بكلّ عزم وحزم في رفد الإنسانيّة بروائع نتاجاتهم وأنيق بصائرهم مع ما يكلّفهم ذلك من آلام ومعاناة ، فإنّنا ندعو الفريق الآخر من الاُمّة إلى تمكين لغة الحوار والتفاهم القائمين على الجوامع والقواسم المشتركة ; لأجل الحصول على مواقف وتصوّرات موحّدة تقود إلى ممارسات منسجمة مع طبيعة الانتماء والاعتقاد وجوهر وجوده ، الأمر الذي يخلق آفاقاً من الحركة والفاعليّة والتطوّر والازدهار ..

نعم ، لنا في أهل البيت (عليهم السلام) اُسوة ألقِة في إعلاء كلمة الدين الحنيف والقيم الحقّة ، ثبوتاً وإثباتاً ، تصوّراً وتصديقاً ، نشراً وذوداً وجهاداً بأرقى المضامين وأفضل السبل ، بل جادوا بأنفسهم ومهجهم دون المبادئ والاُصول السماويّة ، فهذا هو الحسين بن علي (عليه السلام) ـ كمثال شامخ يُحتذى به ـ قد ضاق ذرعاً بذلك الانحراف والاستبداد والفساد الذي ملأ فضاءات واسعة وقوّض جهوداً بذلها كبار أقطاب الدين حتى سالت دماؤهم لأجلها ، فانطلق عليه السلام براية الإصلاح والتغيير في اُمّة هو أحقّ من غيره أن يُوجِدَ فيها التحوّل والعودة إلى الاُصول والثوابت ، انطلق (عليه السلام) لأ نّه ما كان ليطيق خنق الحرّيّات ومصادرة الأفكار وأخذ الولاء بالإجبار ، انطلق ليصدح بصرخة العزّة والكرامة ، براية العدل والإمامة ; فهي مُنحة الله تبارك وتعالى ـ منصباً ومسؤوليّةً ـ كي يعيد الاُمور إلى نصابها الصحيح ،

٢٥١

وهو وإن خسر المعركة عسكريّاً وآل الوضع إلى ما آل إليه ، لكنّه ربحها قيَميّاً ومبدئيّاً وأخلاقيّاً ، وهذا كلّ ما كان يتوخّاه من حركته المباركة ولاسيّما أنّه عالمٌ بمصيره المحتوم «شاء الله أن يراني قتيلاً» ; فملاك التغيير والإصلاح ملاك الحقّ لديه ، فما كان يبالي سواء وقع على الموت أم موقع الموت عليه ..

اُنظر ماذا صنع اليقين الذي كان يمازج روح الحسين (عليه السلام) وقلبه وعقله ، لقد صنع آيات من المجد وشوامخ من الكرامة واُسس وضّاءة لمفاهيم ومبادئ وأخلاق ستبقى أبد الدهر مشعلاً ينير درب السائرين نحو النجاة والفلاح ..

وانظر ماذا صنع العنف والإرهاب والترويع الذي مارسه عدوّ الحسين آنذاك ، ومازال ـ بأذرعه وثقافته ـ يمارسه إلى الآن ، لقد صنع عاراً وذلاًّ لن يغادرا التأريخ أبداً ..

ما كان الحسين ليقنع بمظاهر وقشور تحفظ لدين الملوك والوعّاظ مصالحهم ورغباتهم وسلطتهم ، بل كان يريدها حركةً شاملةً تبعثر وتحفر وتراجع وتقارن وتستقرئ وتستنطق كي يأخذ الإصلاح والتغيير مجراه الواقعي ..

نحن كذلك لا يهّمنا سوى ذلك الإصلاح والتغيير الواقعي الذي يعني العمل بالمحتوى والأخذ بالأصل والجوهر ونبذ القشور والمظاهر ، وهذا الهامّ رغم أنّه يخيف شريحة واسعة لكنّه يسعد اُمّة برمّتها ، اُمّة تعبت من

٢٥٢

التخلّف والذلّ والتبعيّة والتقليد الأعمى ، اُمّة تروم التجديد القائم على الاُسس والمعايير العلميّة الصحيحة التي تحفظ الاُصول والثوابت بلا أدنى تأثير سلبي من قوى الهيمنة الفكريّة العالميّة ، القوميّة منها أو الماركسيّة أو الليبراليّة أو غيرها ، فلنا في ذلك المحتوى المطلق والنصّ المقدّس وسيرة آل الحقّ (عليهم السلام) خير كهف وملاذ وملجأ نغترف منه أنّى شئنا وأردنا ، إنّه المطلق الذي يهدي للتي هي أقوم ، المحفوظ برعاية السماء وعناياتها ، القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ..

٢٥٣

أثر المكان والزمان

لسنا بصدد الخوض في التأثيرات الزمكانيّة على نحو التوسّع والتفصيل بقدر ما نريد أن نقول فقط : إنّ الظرف دخيل في الحكم وله تأثير ملموس عليه ، سواء كان هذا التأثير محدوداً أم كبيراً .. ويبدو أنّنا يجب أن نقبل بهذا التأثير انبعاثاً من تبنّينا لمقولة تكيّف النصّ خصوصاً والدين عموماً مع كلّ الأحوال والظروف ، مع التمسّك بالمبادئ والاُصول والقواعد الأساسيّة ..

يشمخ أمامنا حينئذ بحث التطوّر الدلالي للّفظ وحركة اللفظ النامية المتطوّرة بفعل المتغيّرات الزمكانيّة .. إنّنا إن رفضنا مقولة «التكيّف» نكون قد قضينا على وجودنا بالسكون والسكوت والانسحاب من حركة الحياة ونقرّ بأ نّنا كنّا قبل في ما مضى وانتهى الأمر ، فلا أفهام متعاقبة ولا استنباطات متصاعدة ولا كلّ شيء ، وهذا ما يرفضه «العقل» عندنا حينما يصرّ على كوننا ـ كنصّ ودين ـ وُجِدنا لنبقى ما بقيت الإنسانيّة ..

إنّنا إذ نتّفق مع مقولة الزمكانيّة بما أشرنا إليه أعلاه إلاّ أنّه اتّفاق بشرطه وشروطه :

٢٥٤

منها : الحفاظ على المبادئ والاُصول والقواعد الأساسيّة ..

منها : انتخاب المتابعة التي ننمو معها ولا تتنافى معنا عَقَدياً وأخلاقياً ..

منها : عدم التضحية بالجوهر لصالح الظاهر ..

والأخيرة محور البحث ، وكان القصد من وراء هذه المقدّمة المختزلة الوصول إلى هذه المنطقة من مناطق الصراع عندنا ، حيث يعتقد الكثيرون أنّنا نضحّي على الدوام بالجوهر لصالح الظاهر ..

للتوضيح نقول :

تناقلت المصادر المختصّة قضيّة ذلك الرجل الذي ورد على جمع من المسلمين فقال ـ بما محتواه ـ : من منكم محمّد؟ وذلك لتساوي الجميع آنذاك بالمظهر والملبس ، الأمر الذي يدلّ على تواضع النبيّ (صلى الله عليه وآله) وذوبانه ظاهريّاً بين أصحابه وأتباعه بحدٍّ ما كان يمكن تمييزه عن الآخرين ..

وبقيت هذه القضيّة رائعة من روائع الدين والأخلاق تتناقلها المدوّنات والمشافهات بالفخر والاعتزاز ..

هل نقول إنّ «الزمكانيّة» تفرض علينا الانتقال من ذلك الحال إلى حال اُخرى ، بمعنى : أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لو كان بيننا اليوم هل يجلس ويلبس كما كان عليه الحال في صدر الإسلام؟ لنفترض ـ جدلاً ـ تمايز النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالشكل والمظهر لو كان بيننا اليوم ، لكنّه بلا أدنى شكّ سيبقى بيّناً بما

٢٥٥

عنده من الخصائص المعهودة التي أهّلته ليكون رحمةً للعالمين ، فلا يضحّي بالجوهر لصالح الظاهر .. وهذا ما لا يختلف فيه اثنان أبداً ..

لنَقُل : إنّنا مع مقولة «الزمكانيّة» وتأثيراتها ، لكنّا هل تمسّكنا بالجوهر فلم نضحّ به لصالح الظاهر؟ هل للمحتوى والمبادئ والاُصول عمق في واقع حركتنا؟ هل هي ذات القيم والأخلاق التي جاء بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟ المخاطب هنا النخب المتصدّية ، التي ترجع إليها الناس في اُمورها وقضاياها ، والتي تدوّن وتشافه وتناظر وتحتكّ ، وكلّ من تجلبب بجلباب الدين والشريعة ..

لسنا بصدد الاستقراء والتصويت ، أو الإثارة والفتنة ، بقدر ما هي دعوة جادّة للنخب نحو المراجعة الحقيقيّة لمسؤوليّة التصدّي لاُمور الدين والذبّ عنه ، من حيث الأدوات والآليات ومدى تناغمها مع الجوهر والاُصول وعمقها العلمي والمعرفي ، وإمكانيّة بلورتها عمليّاً ..

إنّ الذي دعاني لهذا الدعوة ما سمعته مؤخّراً من تغريدة سيّئة طالت رجال الدين ، قيل : إنّها متداولة منذ فترة ليست بالقليلة ، مفادها : أنّ الناس قسمان : إمّا من بني آدم ، فهو إنسانٌ يفهم اُصول الإنسانيّة ولوازمها ، أو معمّم!! وبقول البعض : إنّها ردّة فعل قبال وصف رجال الدين لغيرهم : «عوام الناس» المتبادر منها محدوديّة الفهم عند غير رجال الدين ، هذا الوصف الذي أثار ولا يزال يثير سخطاً كبيراً بين مختلف طبقات المجتمع ، ولاسيّما الطبقة الواعية التي لا ترى في رجل الدين سوى انتقاضاً لواقع

٢٥٦

مرير ، سوى رجلاً درس عشرات السنين بحوثاً حوزويّة بإمكان الدراسات الأكاديميّة اختزالها في سنوات قليلة جدّاً ..

والبعض الآخر يقول : إنّها تداعيات الواقع قد ألقت بظلالها الظالمة على نوع طبقة الروحانيّين دون تمييز ..

ويقول بعض رجال الدين : نحن الذين اخترعنا هذه التغريدة يوماً لأجل المزاح لكنّها انقلبت وصارت وبالاً علينا ..

مهما كانت الدواعي فالنتائج خطيرة ، إنّها تغريده تطال بها طبقة من أرقى طبقات المجتمع وعياً وأخلاقاً والتزاماً ، طبقة طالما كادحت من أجل الدين والقيم الحقّة ..

إنّه مشروع تسقيط ، سواء كان مقصوداً أو غير مقصود ، فلابدّ إذن من مراجعة حقيقيّة ، بما في معنى المراجعة من مفهوم علمي معرفي منهجي ، كي تبقى أو تعود هذه الطبقة إلى دورها الريادي في توجيه الاُمّة والأخذ بها حيث برّ الأمان ، إلى السعادة الإنسانيّة والفلاح الأبدي ..

فلو قلنا : إنّنا لا نعترض على تميّز رجل الدين بهذا الشكل والظاهر ، إثر المتغيّرات الزمكانيّة ، بل نظهر له الاحترام كما فعلناه طيلة العقود والقرون الماضية ....

لكنّه ينبغي عليه احترام هذا الزيّ المقدّس الذي يظهر به بين الناس من خلال بذل غاية السعي لبلوغ الخلق الديني الرفيع ومواصلة كسب العلوم والمعارف وتعليمها ونشرها والذبّ عنها والتخلّص من مظاهر الدنيا

٢٥٧

وكلّ ما يؤدّي إلى اتّهام رجل الدين بما يخالف شأنه وهويّته .... مع أنّنا لا ننسى الفتنة التي تثار ضدّ رجل الدين من هنا وهناك وأنّ علينا الوقوف بوجهها ووأدها ..

إنّ رجل الدين ينبغي أن يكون من الناس ، في الناس ، إلى الناس ; كي يشعروا أنّه واحد منهم ، وهذا الأمر يسهّل عمليّة ارتباطهم به وتأ ثّرهم بحركاته وسكناته وأقواله ، لا أن نرى رجال الدين أشبه بمجموعة أو صنف منعزل أو معزول عن الاُمّة يفصلهم عنها شاهق لا يمكن عبوره بيسر ..

لقد آلمني ما شاهدته وسمعته من أحد رجال الدين الذي يشار له بالفضل والعلم أن يصارح أحد الطلبة الحوزويّين الذي سأله عن ظروف حوزة النجف الأشرف وكيفيّة الانتقال إليها ، إذ قال له : مهما كنت لن يعترفوا بك في النجف إن لم تكن معمّماً!! حضر في ذهني ردٌّ لو شافهتُ به ذلك الفاضل العالم قد يحصل له نوع إحراج فتوقّفت عنه وسكتُّ ، أردت أن أقول مستنكراً : إذن الملاك ليس ملاك المحتوى والجوهر ، الملاك ملاك المظهر!!

والمؤسف حقّاً أن يغدو المظهر هو المطلوب والمقصد ، حينها يكون التراجع المعرفي المحتوائي طبيعيّاً ، ويفقد العمق تأ لّقه وتتصدّر القشور والاستعراضات جدول الترتيب العام ، فيكون الخاسر الأكبر نحن جميعاً بلا استثناء ..

٢٥٨

الاختراق الثقافي

لازال القتل واستباحة الدماء والاستحواذ على الأرض شاخصَ الصراع والنصر والهيمنة والاستغلال والاستتباع ، شاخصاً مرعباً هدّاماً ، مستهدفاً ـ على الغالب ـ حذف الإنسان وإذلاله وامتهان كرامته الذاتيّة والوطنيّة والفكريّة ، مصادراً مقوّمات الانتماء والهويّة والحرّيّة التي يؤمن بها ويسعى لأجلها ..

كما عملت الفتوحات التقنيّة والعلميّة على الإمساك بحبل الصراع عبر أدوات وآليات جديدة تتناسب مع حاجة العصر وتلبّي مطامح «العولمة» بلا قتل ودماء وترهيب ونسف واستحواذ على الأرض والوطن ..

إنّه «الغزو الثقافي» الذي لا يحتاج اليوم سوى استخدام وسائل سلميّة ناعمة أبرزها «الفضاء» كي يكون وسيطاً للاتّصالات المطلوبة التي يُبَثّ من خلالها نتاج الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والفنّ ونظائرها ، إلينا ونحن في عقر دارنا ، نتلقّى ونتفاعل ونفكّر ونمارس ونروّج ونذبّ عن القادم الجميل الأنيق الذي يتناغم مع تطلّعات «الأكثريّة الساعية إلى

٢٥٩

اللحاق بركب الحضارة الغربيّة ومبادئها ومضامينها الهادفة إلى التحرّر والتطوّر والرفاه!!» تفد علينا ونحن بعلمائنا ونُخبنا وطاقاتنا ومتخصّصينا لازلنا نحيا بعقليّة القرون الغابرة والأدوات التي أكل الدهر عليها وشرب ، لازلنا نعيش القشوريّة والانهزاميّة والركون إلى التبعيّة والنوم على أعتاب الماضي السحيق ومفاخر الأجداد ، دون أن نحرّك ساكناً ننفض به غبار التخلّف ونغوص في أعماق الجوهر والاُصول كي نستخرج بالمراجعة والمقارنة والاستقراء والتحليل ما يمنحنا القدرة المتشعّبة على التصدّي لغزو هو أمرّ وأخطر علينا من الحروب التقليديّة واحتلال الأرض ونهب الثروات ..

وبفضل «الغزو الثقافي الألكتروني» تنتفي الحاجة مستقبلاً إلى القوّة العسكريّة .. إنّه عصر ثقافة الاختراق التي بدأت تحلّ رويداً رويداً محلّ ثقافة الهيمنة التقليديّة ..

يقال : إنّ الثقافة تتأ ثّر أساساً بالأفلام والمضمون الترفيهي من دراما وأغان ورقصات وأزياء فضلاً عن عادات التغذية وأنماط الاحترام أو اللياقة في التعامل بين الأفراد التي تعدّ من المحاور المؤثّرة في الثقافة الموضوعيّة ..

والأخطر ما في الغزو هذا هو الغزو الثقافي الأميركي ..

فلقد أصبح ـ مثلاً ـ برنامج نايت لاين Night Line الذي تبثّه محطّة ABC الأميركيّة شكلاً من أشكال الدبلوماسيّة التي تلعب دوراً هامّاً في صنع القرار السياسي ..

٢٦٠