نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

المبادئ والهويّة والمصالح المشتركة ..

ليس الأمر بهذه السهولة والبساطة ، إنّه نتاج وراشح جهد خارق وعزم راسخ وتحمّل كبير وإحاطة وعلم ومعرفة وإيمان وصلابة ، مرتكزة كلّها على اُسّ عميق مؤنته : إفرازات الغريزة واستعداد العقل والثقة العالية بالنفس ..

ولسنا في مقام بيان القسم النبيل والمشروع ـ باعتقادنا ـ من القيم والمبادئ والأهداف ، وصفات العزم والتحمّل والإحاطة والعلم والمعرفة والإيمان والصلابة ، بل نقصد كلا القسمين : النبيل المشروع والدنيء غير المشروع ، فكلّ واحد منهما إن لم يتوفّر على الشروط المهيّئة لانتشاره وبقائه ونموّه لا يمكنه أن يتحوّل إلى فكر ورسالة ومنهج ..

والغريزة إذا ما تختصّ بالقوّة والطموح وسعة الاُفق فإنّها تخلق الثقة العالية بالنفس التي تصنع الجرأة والتحمّل والعزم والإرادة الصلبة نحو تحقيق المرام ، ولعلّ الواحد منّا يمتلكها ولكن بتفاوت في الشدّة والضعف ، فإذا اُضيف إليها الذكاء فإنّهما يكوّنان مركّباً راسخاً منسجماً يسير بإحكام لنيل المقصود ، والذكاء أيضاً فيه منازل ودرجات .... لذا فإذا كانت الغريزة والذكاء حائزين على الخصائص المطلوبة فالأرضيّة الخصبة سرعان ما تينع ثماراً ونتاجاً ..

وباستقراء التأريخ والسيرة والتراجم وأساسيّات الفكر والمعرفة تُظهر النتائج أنّ غلبة الأديان والمذاهب والأفكار والنظريّات وحصول

٣٤١

الاكتشافات والاختراعات وكلّ ما صدّرنا به البحث من علوم وثقافات وديناميكيّات وأخلاق ومبادئ ... الأساس فيها ـ كلّها ـ توفّر الشروط الموضوعيّة في إنسان واحد فقط ، ولكن بالاستفادة القصوى من الغريزة والذكاء ، التي قد تنتج القيم والأفكار والأشياء النبيلة المشروعة وقد تنتج الدنيئة غير المشروعة ..

وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الاُصول والمفاهيم السماويّة المنتشرة عبر الرسل والأنبياء والأوصياء والصلحاء ، كمحرار لنا نحن أتباع الديانات الإلهيّة ، لاتّضح لنا المائز والفيصل من الدناءة والنبل ، بين الغريزة الصالحة والغريزة الفاسدة ، بين ذكاء الخير وذكاء الشرّ ، بين الجرأة والثقة العالية بالنفس الموظّفة في سبيل الأهداف الإنسانيّة الإيمانيّة ، وتلك الموظّفة للأهداف الشيطانيّة ; وبالتأمّل العميق المتواصل نعرف ذواتنا أيضاً وإلامَ تطمح وتروم ، وهذا ما يشيد لنا الفرصة الثمينة للمراجعة والمقارنة والاستقراء والاستقصاء كي نحلّق في الفضاءات النقيّة والأجواء الصافية ; إذ درك النفس وفهمها الصحيح يفتح الطريق السويّ لتلك المعرفة التي خُلقنا لأجلها ، لمعرفة الربّ ، أساس الهداية والفلاح ..

هذا كلّه غير خاف على كثير من الناس للوهلة النظريّة الاُولى ، إلاّ أنّ المشقّة والألم يكمنان في المكاشفة الذاتيّة الشفّافة ، فأين أنا وأيّ جهد بذلته لمعرفة نفسي ، أين العدل والإنصاف والجرأة والواقعيّة في تحليل الغريزة وصفاتها ونشاطها ، حسنها وقبحها ، خيرها وشرّها ... وإن كنتُ على مقدار من الذكاء فبما استخدمته واستفدت منه ، والثقة العالية بالنفس

٣٤٢

ـ إن كانت ـ ما هي ثمارها ونتاجها؟ استفهاماتٌ شفّافة تترقّب أجوبةً مسانخةً لها ..

* * *

ليت شعري لِمَ أنا غاطسٌ في الإثم والخطأ والرذيلة وأنا الذي خُلقت لأضدادها ، لِمَ لا أدّخر سعياً لترميم ما اخترب من سلوكي وأعمالي وأفكاري وأحاسيسي وأنا الذي مُنحت العقل والقلب والفطرة السليمة؟ فهل هي الغريزة المتمرّدة المنحرفة والفطرة المهجورة والعقل الذي لا يفقه الحقيقة والقلب المصدوء الذي أعمته الأدران والشهوات والأضغان؟ أتذرّع بكلّ ما اُوتيت من ذكاء ولباقة ومناورة لأبلغ المرام ، أفعلُ الشيء ثم أصطنع له المبرّر الشرعي ، وعلى حدّ قول الكثيرين : قتلتنا التورية والشأنيّة ، وأنا أقول : مسكينتان هما التورية والشأنيّة ; إذ صارتا قميص عثمان مع ما لهما من قانون وشروط تحكمهما وعدنا نفسّر كلّ كذبة وخيانة وغطرسة واستبداد بأ نّها من مصاديقهما ، فساءت سمعتهما بين الناس .... وعلى هذا المنوال مسائل القياس والإجماع والشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فنعمل بالقياس ونردّه نظريّاً ، ولا نكتشف رأي المعصوم عليه السلام لكنّنا نجعل الحجيّة بداعي تحقّق الإجماع ، ونقتحم الشبهات ـ الحكميّة منها والموضوعيّة ـ رغم بقائها شبهات ... هذا غيض من فيض ، فالمثال لا يعني الحصر إنّما التقريب والتوضيح أكثر ..

لقد هجرنا الجوهر والأصل والمحتوى وتمسّكنا بالقشر والغلاف والظاهر ، لضعف همّتنا لا قوّة مناوئنا ، لحرصنا على منافعنا ورغباتنا ،

٣٤٣

لا صفاء وإخلاص عدوّنا ، لهروبنا وخشيتنا من لوازم عملنا بالجوهر والأصل والمحتوى التي تعني تغليب القيم والمبادئ ، لا ثبات ونبل منافسنا ، لتشتّتنا وتناثر قلوبنا وجهلنا ، لا وحدة وانسجام وعلم رقيبنا ... فعلنا كلّ ما يبعدنا عن تلك الغريزة المقدّسة والفطرة الطاهرة وذلك العقل العظيم والفكر الكبير ، خضوعاً منّا واستسلاماً للرغبة والشهوة والكسل ..

ما كان للأنبياء والرسل والأوصياء والصالحين في تلك العهود سوى الفطرة والعقل السليمين سلاحاً في بلوغ المقصود ، فأرسوا للقيم الحقّة والمبادئ المقدّسة قواعد وأدوات وآليات لازالت ألقةً شامخةً ليومنا هذا .. أمّا نحن في عصر العلم والتقنية إذ نمتلك كلّ شيء إلاّ تلك الفطرة والعقل السليمين ، ترانا نتخبّط في وديان الضلالة والحيرة والضياع والانحراف والضعف والذلّ والتبعيّة ونعشعش على القشور والظواهر ..

نعم ، إذا ما صلحت الغريزة وعدنا لفطرتنا التي فطرنا الله عليها وعملنا بعقولنا لا بعواطفنا سنكون امتداداً لرسالة السماء ومصداقاً حيّاً للقيم الإلهيّة والمضامين الربّانيّة ، عباداً مخلَصين ، وإلاّ فنحن امتدادٌ لحركة الشيطان وتجسيدٌ لتحدّيه السيّىء الصيّت بإغواء الجميع ..

ومَن منّا لا يحمل شيطاناً في عقله وقلبه وروحه ومشاعره وأعماقه وحناياه ، لكنّه صراع دائم ساخن لا يقف ولا يبرد أبداً ، فإمّا النصر وإمّا الهزيمة ولا خيار ثالث في المقام ، والإجماع المركّب معدوم هنا تماماً ، ولاسيّما أنّ المعادلة لا تحتمل سوى طرفين : الكفر والإيمان ، وحرّيّة الانتخاب موجودة .. نعم ، باب التوبة مفتوح ، إلاّ أنّنا نجهل تماماً لحظة

٣٤٤

النهاية ، إلى ذلك فالتوبة مقبولة بشرطها وشروطها ..

«اللّهمّ إنّي أعوذ بك من نفس لا تشبع ومن قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع ومن صلاة لا تُرفع ومن دعاء لا يُسمع» ..

* * *

لن تبقى الحقيقة خالدة في الخفاء ، فلابدّ ما يأتي اليوم الذي تنقشع فيه الحجب لتسطع كالشمس في رابعة النهار ، سواء كنّا أم لم نكن ، شئنا أم أبينا ، وسوف تتناقلها الناس جيلاً بعد جيل ، نعم ، إنّها حقيقة الأشياء التي تستحقّ عناء البحث والفحص والكشف ..

بمعنى آخر : كلّ الأفكار والأحداث والمواقف والكلمات والآثار التي تمنح البشريّة درساً في التربية والتعليم ، ستكون رائد الميدان الذي لا يجارى ، فهي سنّة الحياة ووعد السماء .. فكم من الحقائق إذ ظنّ المناوئون طمسها ومحوها قد شمخت وألِقت وصارت مناراً واُسوةً يُقتدى بها ..

علينا أن ندرك جيّداً أنّ الآثار الخالدة لم تُخلَّد عبثاً ، إنّما هي حصيلة جهد خارق وصبر كبير وإخلاص عظيم وتضحيات جسام والتزام جادّ بالقيم والمبادئ ، التأمت جميعاً كي ترشح حكمةً وتدبيراً ، انسجم في بنائهما العقل والقلب على السواء ..

وكم حاول الكثيرون بآثارهم المختلفة اللحاق بركب الخلود لكنّهم تخلّفوا ولم يبق لهم ذكر يتلى ، وكم من مغمور ومنعزل وصامت افتخر ركب الخلود بضمّه إليه رغم عزوفه عن الدنيا وشهرتها ; إذ الضابط

٣٤٥

والميزان والملاك هو مدى التأثير في العقول والقلوب ، ولا ننسى العنايات والألطاف السماويّة التي لها اللمسات البارزة في التعيين والانتخاب ..

أبداً ستظلّ كلمة الحقّ الرافضة للظلم والانحراف والخطأ والفساد ـ غير المساومة ولا المهادنة إلاّ من أجل العدل والإنصاف والإيمان ـ شمعةً تنير الدرب للسائرين نحو العزّ والكرامة والكمال الإنساني ، نحو الخير والأمن والسلام والفلاح ..

* * *

في يوم ما جمعتنا جلسة بمرشّح شهير للانتخابات النيابية المزمع إجراؤها آنذاك ، تداولنا ـ على جناح السرعة ـ قضايا ومواقف مختلفة ، بتفاعل وحيوية جيّدة ، ممّا حدا به الإشادة بهذه الجلسة الخاطفة حيث وصفها بـ «الندوة» ..

الذي استنتجته كحاصل لهذه «الگعدة» القصيرة : أنّنا لازلنا على مسافة بعيدة عن المحتوى والمبادئ التي وردت في أدبيّات الرسالة والفكر الذي ننتمي إليه ، ولازال صدر الرسالة وعصرها الأوّل بممارساته وفهمه لحقائق الدين والولاية أرقى كثيراً منّا ، رغم كلّ القرون والتغيّرات والتطوّرات ، رغم ادّعائنا أنّ الأعلام الاُوَل ـ بمن فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لم تسنح لهم الفرصة الكافية لتطبيق قيم الدين والرسالة بالشكل والمحتوى المتكامل ، فهي إن كانت قد سنحت لهم في تطبيق ما طُبّق من قيم الفكر ومبادئه فنحن في العصر الراهن نفتقد حتى الأساسيّات والشروط الأوليّة الواجب توفّرها في عمليّة التأسيس والبناء ناهيك عن

٣٤٦

الاستمرار الرصين والعطاء المطلوب ..

إنّنا ضمن إطار البيت الواحد نعاني الفرقة والشتّات والتغالب والحذف والتسقيط وبثّ روح الضعف والتراجع في نفوس الناس المفتقرة إلى الانسجام والاُلفة والأمن والسلام والرفاه ; حيث طال انتظارها لعقول نيّرة وقلوب طيّبة وهمم عالية تنهض بها من الواقع المأساوي إلى فضاءات الخير والإيمان والراحة ..

والذي يزيد الحزن والألم أنّنا لازلنا نصرّ ـ بأساليبنا وممارساتنا ـ على البقاء «طفوليّين» «نفعيّين» «مستجدّين» في عمليّة التأسيس والبناء برفضنا المعايير العلميّة والشروط الموضوعيّة لهما وتمسّكنا بأدواتنا الفاشلة ورغباتنا الفرديّة ..

إلى ذلك ، فلقد نجح النظام البائد ـ للأسف ـ في اختراقنا بغرسه ثقافة الاستبداد والطغيان فينا بلا ارادة منّا ، رغم معارضتنا واختلافنا الكبيرين معه ، وهذه من أشدّ المحن التي سنبقى نعاني منها وتظلّ ساريةً في حنايانا إن لم نتمكّن من معالجتها وإماتتها في نفوسنا من خلال العزم المنهجي الجادّ بالرجوع إلى ذلك المحتوى الأصيل وتلك المبادئ التي صاغها أعلامنا ومارسوها بما توفّر لديهم من الوقت والإمكانيّات ممارسةً رائعةً هي في الحقيقة مناهج وأنساق لنا ، لا يمكن لتغابر الزمان وتباعد المكان أن يسقطاها عن مرتبتها الرفيعة ومنزلتها الشاهقة ..

إنّنا على مفترق طريق :

٣٤٧

إمّا أن نثبت للاُمّة كوننا بمستوى المسؤوليّة والتحدّي ونعمل بجهد وإخلاص لانتشال الناس من هذا الواقع المرير ، انتشالاً شاملاً تلوح بوادره بسلسلة إجراءات عمليّة تُمضي صدق نوايانا فيمحنا الناس الولاء والثقة ..

وإمّا أن تبقى التناحرات الفئويّة والثقافات الرديئة والرغبات الانتمائيّة والذاتيّة حاكمة علينا فتغسل الناس أياديها منّا وتقرأ علينا فاتحة الموت والفناء الأبدي ..

ولا أرى الخيار الثالث ممكن الطرح ; لأ نّه يقودنا إلى الأخطر ممّا نحن عليه الآن ، فأن نُنعَت بالمنافقين والانتهازيّين فهذا أمرّ علينا من الموت الزؤام ..

* * *

شكّل «التحدّي» عنصراً هامّاً ودافعاً قويّاً في الوقوف والانتباه إلى أخطائي ونواقصي وتشخيصها ثم السعي إلى معالجتها ورفعها وعدم تكرارها ، ممّا منحني فرصة التفكير الجدّي بملء الفجوة وردم الهوّة التي طالما عانيت ولازالت اُعاني منها ، هوّة الجهل المعرفي والثقافي والأخلاقي ..

منذ نعومة أظفاري وأنا أعيش التحدّي بكلّ أحاسيسي وعقلي وأعماقي لا لأجل شيء سوى لأ نّي اُريد إثبات العكس ; إثبات كوني لست جاهلاً ولا سيّئ الخلق ، أمتلك مقداراً من الذكاء والقدرة على التفكير المنتج ; اُواجه المشكلة والطارئ والحاجة مواجهةً منهجيّةً منطقيّةً

٣٤٨

لأبلغ الحلّ المناسب ; اُعالج رغباتي وأهوائي ونقاط ضعفي ومساوئي بأدوات الحقيقة والعدل والإنصاف ; اُبرهن على كوني لست رقماً عاديّاً ولا مهملاً ، إنّما إنساناً له بصماته المؤثّرة وأفكاره النافعة ; اُراهن على الحبّ الذي شغل مساحة القلب كلّها ولم يُبق لغيره شيئاً ، حبّ الناس والأهل والوطن والدين والمبادئ الحقّة والأخلاق السامية ; وبذلك سار «التحدّي» معي بل تمازج بأفكاري ومشاعري ..

ومنشأ التحدّي أسبابٌ :

منها : «النقد» الذي تعرّضت وأتعرّض إليه ، سواء نقد الآخرين لي أم نقدي لنفسي ، فالنقد مهما كان فإنّه يحرّك المراجعة وينشّط المحاسبة رغم المقاومة الأوليّة والظاهريّة التي نبديها إزاءه ، إنّما المناط والملاك حين الخلوة بالذات ، فلا مجال للعزّة بالإثم ولا لنظائرها مكان ; ولو جرت عمليّة المراجعة طبق المعايير العلميّة الصحيحة فإنّها تمهّد لرواشح ونتائج منمّية ومطوِّرة ; ولعلّني أجدني استفدت كثيراً من آلية المراجعة التي تأتي عقيب كلّ نقد خارجي وداخلي ..

وليس الأمر بتلك السهولة كما قد يُعتقد ، بل للمرارة والألم والمعاناة والتحمّل وجودٌ شاخص ; ولاسيّما حينما تعلم يقيناً أنّك تستطيع جني ما تريد بسهولة لكنّك تمتنع التزاماً بالاُسلوب ونمط التفكير الذي انتقيته لبناء الشخصيّة وحفظ العزّة والكرامة الإنسانيّة ، إنّها القيم والمبادئ التي جعلتها ركيزة السداد والفلاح ... فحينما تلمس بالعقل والجوارح مواقف

٣٤٩

ومشاهد وآليات وأفكار ترفضها الأذواق وتشمئزّ منها الفطرة السليمة والأذهان الواعية وأنت تمارس ضبط النفس ... حينما تلحظ القفز على المبادئ والانحراف عن القيم والتأويل المشوِّه وتدخّل الرغبات الذاتيّة في صياغة القرار وهجران العوامل الموضوعيّة والمنهجيّة ، وأنت تتضوّع ألماً وحزناً لما يجري ويحدث ... حين تلحظ الاستبداد والغطرسة والحيف والمظاهر التي تتنافى مع الهويّة والاعتقاد وأنت تتذوّق مرارة الصبر ....

فليس أمامك إمّا أن تخضع للفضاء الحاكم وتنجرف مع التيّار وتنسى أنّك تروم البناء على أساس المبادئ والعزّة الإنسانيّة ... أو تقف ندّاً معارضاً مخالفاً للفضاء الحاكم ، وهذا يعني إعلان الحرب بسلاح بارد ... أو تعمل بالتفصيل : بأن تبقى في إطار الفضاء الحاكم لكنّه بقاءٌ يعتمد النقد البنّاء بأساليب هادئة مدروسة ، ولعلّه الانتخاب الأصلح والأفضل في ظلّ الشروط الحاكمة ..

علّمني «النقد» ألاّ أسكت حين ينبغي ألاّ أسكت ـ ولعدم السكوت أدوات وآليات ـ مثلما تعلّمت من الصمت كيف أبني وأصوغ أفكاري ، وكيف أنّ الإسراف في الكلام قد يقود إلى الخطأ والثرثرة ولغو الحديث ، وعلّمتني «مناعة الطبع المتنامية» كيف اُعبّد الدرب لبلوغ المقصد والمرام ، وكيف أستريح من همّ الالتزام غير النافع ، والانطلاق بثبات نحو مزيد من الاستقلاليّة والكرامة الإنسانيّة وحرّيّة الانتخاب ، الحرّيّة التي أشعر بلذّتها المتزايدة وتأثيراتها المباشرة على عقلي وأفكاري وأحاسيسي ..

٣٥٠

هكذا هو الإنسان دوماً ، يتعلّم من الموافق والنقيض ـ على السواء ـ ليدرك المطلوب ، فمن الموافق نستلهم العمل بالإيجابي ، ومن النقيض نستلهم ترك العمل بالسلبي ، ومن نافلة القول أذكر أنّ المعروف هو كون الاجترار والتكرار والحشو والتطويل بلا طائل والاختزال المخلّ ... اُموراً سلبيّة علّمتني ألاّ أكتب كذلك ، إنّما أكتب لحاجتي إلى الكتابة ، فهي متنفّس أفكاري وهمومي وآلامي ، غير لاهث بها نحو التجارة أو الإساءة والطعن والتعريض ، اُريد أن اُعرب بكلماتي عن تجربة ـ أعتقدها ناحجة ـ نقلتني ـ على أدنى تقدير ـ من قلق الجهل وخوف الانحراف وذلّ التبعيّة واضطراب القرار وخشية الامتهان وهدر الكرامة إلى اللاّ تصنيف في زمرة الجاهلين والمنحرفين والذيليّين والمردّدين والممتهَنين ..

لعلّ من أهمّ رواشح المراجعة والمحاسبة والتدقيق ـ ولاسيّما المقرونة منها بالجهد الثقافي المعرفي ـ أن يعلم الإنسان : متى يبادر ويتحرّك ويفعل ويقول ومتى يبقى على صمته وسكونه ، كيف يواجه المواقف والأحداث المختلفة ويعالج المريضة منها .. وهذا معنىً من معاني الكياسة والفطنة ....

أن يعلم بالوعي والحكمة وسعة الاُفق أنّ المستقبل آت كما كان الماضي ويكون الحاضر ، آت بشتّى افتراضاته واحتمالاته ، فلعلّ الملك يزول والمجد ينهار والغنى يبور وتنقلب الاُمور رأساً على عقب ، مَن يدري فقد يألق الداني ويتدنّى الألق ; فالوعي والحكمة وسعة الاُفق رقيبٌ كبير حتى في أعزّ مراحل الشموخ وذروة السموق ، ينذر بالعواقب

٣٥١

الوخيمة للغطرسة والاستبداد والظلم ، ويدعو إلى التمسّك والحفاظ والبقاء على القيم والمبادئ الحقّة السليمة ; إذ الخلود خلودها ، وما سواها يجني اللعنة واللوم والخسران .. وهذا أيضاً معنىً من معاني الكياسة والفطنة ....

أن يتواضع الإنسان ويحترم الكرامة والعزّة الجماعيّة ويعمل بالعدل والمداراة ، ويتسامى فوق الغطرسة والاستبداد والظلم ، ويفتح للحرّيّة المنطقيّة فضاءات وآفاقاً ، ويجعل المبادئ الحقّة الضابط والملاك والميزان في كلّ شيء ... ذلك وهو في عنفوان الملك والعلم والثروة والجاه ; فإنّه مفهوم الخلود السامي ومعناه الحقيقي العالي ..

ولقد علّمني النقد والمراجعة والمحاسبة كيف اُحاول تضميد الجروح وتجبير الخواطر وتلافي الأخطاء ، وأسعى مبرهناً على كون الفعل الصادر منّي أو القول والتقرير غير مقصود به التأليم والتعدّي ، ولا يُمثّل العقليّة الخاصّة بي ، ولا عمق المشاعر الذاتيّة ، إنّما هي كبوة مرارتها تقطّع قلبي وأحشائي ولعلّها أكثر تأليماً لي ممّن وقع عليه الفعل أو القول والتقرير المعهود .... إنّ التوتّر والجفاء والقطع كلّها لا تجدي نفعاً ولا تُدرِك غايةً ولا تحقّق مقصوداً ، فلِمَ لا نجعل من عقولنا وقلوبنا وأحاسيسنا مسرحاً للصفاء والوئام والحبّ ونزيح عن ذواتنا عناصر القطيعة والجفاء والزعل ، فإنّنا نتقاطع ونلتقي في الأكثر ولا نختلف إلاّ في القليل ، ولعلّ الخطوة منّي والخطوة منك تسمو على هذا القليل أيضاً ، ولستُ أدّعي زوال الخلاف إنّما أن نلتقي حتى مع وجود الخلاف لا أن نفترق والمشتركات أكثر فينا .... إنّ الجفاء والقطيعة أمران مؤرّقان ولاسيّما إن

٣٥٢

كانت جذورهما تافهة سخيفة ، بل حتى مع شدّتهما وعمقهما فإنّ الحوار الإنساني الجادّ يفتح فضاءات من التلاقي يذوب معها جليد الجفاء وصخور القطيعة وتجفّ دماء الحروب وتنقشع رواسب الحقد والكراهيّة ، فلابدّ لنا من التخلّي عن قواعد الثقافة المرفوضة ، ثقافة القطع والعنف والحذف والتشويه ، والسعي إلى إياب علمي لاُصولنا وثوابتنا ومعارفنا التي تدعو وتروّج للحبّ والسلم والأمن والصلح ; إذ مهما بلغت بنا ذروة الخلاف فلابدّ من الإبقاء على رابط وخيط يعيد الاُمور إلى مجاريها في الظروف المناسبة ، وليس من الحكمة والمنطق بناء المعادلة على طرفين لا ثالث لهما : «إمّا معي وإمّا ضدّي» ، فالطرف الثالث لابدّ منه في المعادلة كي يعيد التوازن ويصلح الاُمور ويشكّل نقطة الارتكاز في العودة إلى طاولة الحوار لطرح ومناقشة ومعالجة الإشكالات الحاصلة ، وبدونه فإنّ ثغرة الخلاف تتّسع لتصبح خندقاً ثم وادياً سحيقاً يصعب معه مدّ جسور التلاقي من جديد ..

* * *

لستُ مهتمّاً كثيراً بكتابة شيء عن سيرتي الشخصيّة ، فاُترجم كما يترجم البعض لذواتهم ، لكنّي مؤمنٌ بالمراجعة والمقارنة والبحث والاستقراء والتحليل كمحاور مفصليّة في البناء والتنمية .. وبقدر ما تسعفني الذاكرة وتعينني على استحضار ما مضى من المحطّات والأحداث فسأبذل جهداً لأكون واقعيّاً في التعامل ـ مراجعةً ومقارنةً وتحليلاً ـ مع سالف الأيّام وحاضرها ، علّني أقطف نتائج ورواشح تدعمني في تعميق

٣٥٣

وتطوير أفكاري وممارساتي ..

كان الصفّ الأوّل الابتدائي نقطة انطلاق فاشلة من جانبين :

الأوّل : انعدام الرغبة في الحضور الفاعل ; ولعلّه بسبب القيود والالتزامات التي تفرض التخلّي عن حرّيّة اللهو واللعب ونظائرهما ; أو لأجل الهيبة التي هيمنت عليّ جرّاء الفضاء الجديد ، ولعلّ الاُستاذ آنذاك ما كان يجيد فهم وتشخيص العقدة النفسيّة التي تصيب بعض التلامذة الجدد ليعمل على معالجتها ورفعها ; أو للسنّ المبكّر الذي اُدخلت به المدرسة ، فالقرائن والشواهد الكثيرة تؤكّد تسجيلي وأنا في سنّ الخامسة من العمر ، وهذا ما يؤهّلني على أقصى تقدير علمي منهجي للالتحاق بالصفوف التمهيديّة ـ الروضة ـ لا الصفّ الأوّل الابتدائي ..

هذه الأسباب مجتمعة قادت بي إلى بغض المدرسة وهروبي المتكرّر منها وتحايلي على العائلة ، فشكّلت بداية غير موفّقة على الصعيد العلمي ، وأسّست لعقدة عانيتُ منها كثيراً في حياتي ..

الثاني : البقاء في ذات الصفّ لسنة اُخرى بسبب الرسوب ، وهذا ما يعني سنة كاملة من التخلّف العلمي وعدم اللحوق بركب المستقبل ; إذ حركة التطوّر لا تستكين ولا تفهم معنى التوقّف ..

كنت ولداً مشاكساً مَثَلي مثل الكثيرين من أقراني ، أزعجْنا «بوكاحتنا» عوائل محلّتنا وشكوا بنا أهلينا ، بل حتى الأهل قد عانوا منّا الأمرّين بفعل فضاء الطفولة الذي كان يتيح لنا اللهو واللعب بصوره

٣٥٤

وأشكاله المختلفة ..

كان أخي الأكبر المحور الذي أخافه وأهابه وأحسب له ألف حساب ، وأعترف له بالفضل على تربيتي وتنشئتي حينما كان يراقبني وسائر إخواني خشية الانحراف والانزلاق في متاهات تبعدنا عن جادّة الصواب ، وبالفعل فقد كانت مرحلة صعبة وحسّاسة ولاسيّما تلك الأجواء وما كان يشوبها من الظواهر والأفعال الرديئة ، وهي موجودة في كلّ مكان وزمان ، وتتفاوت بتفاوت الآليات والأدوات ، أحمد الله تبارك وتعالى أن جاوزتها بخير وأمان ..

لازلت أتذكّر بقايا ومخلّفات الدعايات الانتخابيّة وآثارها على الجدران ، أيّة انتخابات لا أدري ، ولكنّي كنت أسمع كثيراً بالقوميّين والشيوعيّين والبعثيّين وهم ينعتون الإسلاميّين والمتديّنين بالمتخلّفين والرجعيّين والعملاء!

كنّا نحيي مناسبة عاشوراء بالحضور في المساجد والحسينيّات ، وكانت العادة جارية بعقد المجالس في الفضاءات المفتوحة وقيام البعض بتسقيف الشوارع بـ «البواري» المصنوعة من الخوص ، والبعض الآخر كان ينصب أيضاً المراوح الكهربائيّة في الشوارع أثناء الصيف .. ولا أنسى مواكب العزاء وهي تتّخذ من شارع الحبّوبي مسارها الرئيس ، وكنّا نتسارع في أوائل صباح يوم العاشر لنشهد مواكب العزاء ولاسيّما المشهورة منها كموكب «زاير كريم» وموكب «الهيسو» وموكب «عبّاس

٣٥٥

جميلة» ويعدّ يوم العاشر من محرّم يوماً خاصّاً في نفوسنا ، فأجواء الحزن كانت تخيّم على كلّ شيء ، وشعورنا بالوحشة لا يوصف ، حتى كنّا نرى السماء كأ نّها قد تغيّرت وأحمرّت وشاطرت أهل البيت عليهم السلام الألم والمواساة باستشهاد أبي الأحرار الحسين عليه السلام ..

أمّا «الهودج» فلازال عالقاً في ذهني ويشكّل مؤشّراً رائعاً في أعماقي ، وكان يحمله «مجيد طخماخ» من أهل السنّة ، المحبّ لأهل البيت عليهم السلام ، وكان «السنّة» متعايشين معنا في مجتمعنا ويشاركوننا مناسباتنا المحزنة والمفرحة ، ولم أشعر يوماً وأنا هناك بوجود مائز وحاجز طائفي بيننا وبينهم ، والغريب أنّي وبعد إبعادي بسنوات كثيرة علمت أن بعض أصدقائي المقرّبين لي هو من أهل السنّة وكذا كان لي أصدقاء مسيحيّون وصائبة طيّبون تعايشوا معنا بأمن وسلام واُلفة ..

ولشهر رمضان المبارك طعمه الخاصّ ، والعجيب أنّنا بطفولتنا كنّا نميّز الأشياء بأحاسيسنا وجوارحنا ، فللأشهر المعروفة كمحرّم ورمضان وأيّام الفرح والحزن طعم ومذاق استثنائي ، وكانت عيوننا ترى الأشهر والأيّام ، بل تلمس تجانس الطقس والهواء معها ، فمن خلال عاشوراء كنّا نشهد السماء وقد تغيّرت وأضفت على نفسها هالةً من الحزن واصطبغت باللون الأحمر ، لون الشهادة ، لون دم المعصوم (عليه السلام) الذي سال على ثرى الطفّ والثلّة الشريفة من أهل بيته وأصحابه الكرام .... كما كنّا نرى السماء بلون الصيام حين يحلّ شهر رمضان ولاسيّما في الساعات الأخيرة المداهمة للغروب لمّا تبدأ الأواني و «الصواني» بالتنقّل من بيت إلى آخر

٣٥٦

حاملةً أنواع المأكولات ، عملاً بالعادات العرفيّة والشرعيّة من باب استحباب تفطير الصائم ، أضف إلى ذلك فقرات السهرة المختلفة التي تستمرّ حتى السحور ، وكنّا نسعى للحصول على وجبة السحور الدسمة التي تمنحنا طاقة التحمّل حتى الظهر ، وبذلك نكون قد صمنا «صوم العصافير» ، ولم يخطر ببالي أن صمت «صوم العصافير» إلاّ نادراً ..

كلّ شيء كان يبدو كبيراً واسعاً شاهقاً في عيوننا ، ولعلّ السبب يعود إلى كون الطفل الصغير يرى الأشياء قياساً إلى صغره ، فتبدو له أكبر وأوسع وأشهق ممّا هي عليه ، وقد اتّضح لي الأمر جليّاً بعد ما سافرت إلى العراق عام السقوط ; إذ وجدت الأشياء والأبنية والشوارع في مدينتي صغيرة ومنخفضة وضيّقة ، فذاك شارع الحبوبي الذي كنت أتهيّب عبوره وجدته مجرّد شارع ضيّق لا يتجاوز عرضه الأمتار القليلة ، كما وجدت بيتنا منخفض الارتفاع بخلاف ما كنت أراه سابقاً عالياً شاهقاً ، أمّا شارع محلّتنا القديمة «محلّة الجامع» فكان بعيوننا من الوسع بحيث نقيم فيه مباريات كرة القدم ، بينما وجدته حالياً ـ وهو ذاته لم يتغيّر ـ مجرّد فرع من الفروع الضيّقة ..

وهكذا كانت طموحاتنا وأمانينا صغيرة كصغرنا ، أمّا قلوبنا فكانت كبيرة جدّاً ، لا تفهم معنى الحقد والزعل وكلّ الأشياء الرديئة التي تعلّمناها في الكبر ورست آثارها على صفحات قلوبنا التي ما كانت تحمل في طفولتها إلاّ الحبّ والوفاء والجمال ..

٣٥٧

قلّما استفدنا في طفولتنا من عقولنا وأفكارنا ; إذ كان الحسّ والشعور موجّهنا الأوّل نحو قبول الأشياء أو رفضها ، وهذا ما يعني البساطة والسذاجة التي تطغي على غالب أمثالنا ، ولاسيّما نحن أطفال الجنوب ، حيث المعروف عن الجنوبيّين عموماً خصال البساطة والصفاء والشهامة والكرم والحميّة ، وتصوّري المنهجي الفعلي أنّ الجنوبيّين أثبتوا أنّهم أقلّ «ظاهرة صوتية» وأكثر شجاعةً وفاعليّةً وجدّيةً وانتماءً حقيقيّاً للمبادئ والقيم ، رغم كوني أمقت وأقف بقوّة ضدّ المحاصصة الديموغرافيّة والإثنيّة والمناطقيّة والطائفيّة ; لطبيعة الفكر الذي اُؤمن به وأعمل لأجله ، لذا أعرض عن الخوض في اُمور هي أشبه بلغو الحديث ..

ولصحبة الطفولة وعلاقاتها حديثها الخاصّ ولاسيّما حينما نأتلف مرّة ونتقاطع اُخرى ، نشكّل تكتّلاً ضد هذا الفرد أو تلك المجموعة ، وكذا العكس ، نتشاجر ، نتضارب ، يومٌ نَهزِم وآخر نُهزَم ..

ولكلّ موسم ألعابه الخاصّة التي لا تفوتنا أبداً ، منها : السباحة ، كرة القدم ، الدعبل ، الچعاب «كعب الغنم» ، يا حافظ يا ستّار ، اعظيم اللوح ، سبع حفر ، السهم ، البريد ، غمّيضة الجيجو ، الصور ...

كنّا لا نفهم من أيّامنا وليالينا سوى اللعب والمرح خصوصاً أيّام العطل التي نحسب لها ألف حساب ..

ولم أكن مهتمّاً بالدراسة حتى الخامس الابتدائي لمّا رسبت فيه وانتقلنا من محلّة الجامع إلى شارع بغداد ، فتغيّرت المدرسة بطبيعة الحال ،

٣٥٨

من اليعربيّة إلى أبي تمام ، وفي مدرسة أبي تمام قضيت أجمل أيّام الدراسة ; إذ كنت من الطلاّب المتفوّقين ، فأحرزت المرتبة الاُولى في الصفّ الخامس والمرتبة الثانية على المدرسة ـ وربما على المحافظة ـ في الصفّ السادس الابتدائي ; حيث الامتحانات عامّة تقام في زمان واحد في كافّة أنحاء العراق «البكلوريا» ..

إلى ذلك : كنت أحد أعضاء فريق المدرسة الرئيسيّين بكرة القدم ، ولسوء الحظ منعتني الإصابة من إكمال باقي المباريات ، بالأخصّ المباراة النهائيّة التي فزنا بها على مدرسة الجماهير أو الجمهوريّة وأحرزنا كأس المحافظة ، كما كان لي نصيب بجوائز المدرسة في مسابقاتها المختلفة ..

أمّا السفرات المدرسيّة إلى نواحي المحافظة وأقضيتها والاستعداد لها بتوفير الأكل مثل البيض المسلوق والكباب المقلي ـ والدجاج نادراً ـ والنهوض مبكّراً فلها في الذاكرة مساحة وصور جميلة ، إنّها لحظات الطفولة واليفاعة التي لن تعود أبداً ... فحينما تبدأ الحافلة بالحركة نشرع بقراءة الأناشيد والفرحة تغمرنا ، وكان المعروف أنّ الذين يتّخذون من الكراسي الأخيرة في السيّارة مكان جلوسهم المسمّى بـ «خانة الشواذي» هم المشاكسون والوكّح ، وأحياناً تفرض الصدفة جلوس طالب هادئ مسالم وسط هؤلاء المشاغبين ، فيالها من مصيبة عليه!!

كان بيتنا في محلّة الجامع من البيوت المميّزة الشاهقة الجميلة ولاسيّما في شارعنا بالذات ، واللون الأبيض مختصٌّ به وببيت الحاج

٣٥٩

خليل فقط .. ويشرف بيتنا من الجهة الخلفيّة على السوق الذي يغصّ صباحاً بمختلف السلع كالأسماك والخضر والفواكه والدجاج ، وترى الناس تموج فيه لتحصل على حاجتها ، ووقته من الفجر إلى الظهر لا غير ; إذ ليس هذا السوق مبنيّ بالمعنى المتعارف من الدكاكين والبناء الدائم ، بل عبارة عن أرض كبيرة جدّاً نسمّيها نحن «الخرابة» يفترشها الباعة في الصباح الباكر بما لديهم من بضائع ، وتتحوّل بعد الظهر إلى ساحة كرة القدم وألعاب اُخرى ، وكان فيها بعض بيوت الخوص «البواري» التي اُزيحت وخرّبت بعد فترة ، وبيوت الخوص هذه أنقذت أخي الثاني مرّة ; إذ سقط من سطح بيتنا الشاهق ووقع فوقها ، ولولا هذه البيوت التي احتضنته وهو هاو من شاهق لما كان يُعرَف مصير حياته ..

ولي في هذه «الخرابة» ذكريات حلوة ومرّة ، والمُرّة منها : أن تحرّشت ذات مرّة بالكلاب المستقرّة هناك ، فلحقني كلب وعضّني بظهري ، وأسرع بي زوج خالتي إلى المستشفى ، فغرسوا في بطني مصلاً لقاحيّاً في سبع مراحل كما أتذكّر ; ولولا هذا اللقاح لكنت اُصاب بأمراض خطرة كما قيل وقتها ; إذ كان الكلب الذي عضّني بقولنا مكلوباً «مچلوباً» ..

كم كنّا بسطاء بأمانينا التي لم تكن تتجاوز حجم عقولنا وعدد سنين أعمارنا ، وكان ولع السيّارات مهيمناً علينا ، ولم أكن أحلم أن يمتلك أبي وأهلي سيّارة ناهيك عن الحقيقة والواقع ، رغم وضعنا الاقتصادي الجيّد قياساً إلى سائر العوائل والناس الذين كانوا يعيشون فقراً مدقعاً .... فكنت

٣٦٠