نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

جميع الانتماءات والتيّارات والتوجّهات مع الحفاظ على الاُصول والثوابت .. كما يمتاز بالشفّافيّة في بيان الآراء والانتقادات والأفكار .. ولقد كان هذا الواقع مقبولاً معروفاً لدى الغالب من هذه الأطراف ; إذ يحملون النقد منه والاعتراض محل الحبّ والحرص .... إلاّ أنّ بعض الأحداث جعلت أحد طرفي المعادلة يعلن انزعاجه من ميله الواضح إلى الطرف الآخر ، مخالفاً ـ كما يرى ـ قاعدة البقاء على مسافة واحدة من الجميع ، مضافاً إلى أنّ حسّاسيّة والتهاب الأوضاع الراهنة بشكل استثنائي وامتلاك الطرف المنزعج لزمام الاُمور ـ رغم علاقات الرأس الأساس الواسعة والنفوذ القوي والاحتماء بالمرجعيّة القويّة ـ تجعل الاُمور أكثر تعقيداً ..

إنّ «حفظ التوازنات» صعب مرير مع البقاء على «الشفافيّة» ، فقد تمرّ القضايا بأمن وسلام في تلك المرحلة وتلك إلاّ أنّ في البين مراحل لا يمكن تجاوزها بسهولة ، فالأمر إذا استدعى سقوط رؤوس لم نكن نحتمل حتى فرض سقوطها نظراً لذاتيّة وجودها ضمن المعادلة الحالية ، فكيف بمن سواها؟!

إنّ نظرتنا التي نتحرّك بها هي على ضوء ظواهر الأرقام والشواخص وما غاب عنّا لا يخضع لتحليل العقل والمنطق .. ولقد شهدت العقود الماضية أحداثاً ومواقف تجاه الأطراف والشخصيّات المختلفة سواء على مستوى الانتماءات الموالية أو المخالفة وغيرها ، تستدعي التأمّل والتدبّر كثيراً ، ولاسيّما مع حضور الراديكاليّة في كلّ مكان وزمان ..

٣٠١

فقد يصبر هذا وذاك على النقد والاعتراض مرّة أو مرّتين في الظروف العادية ، لكنّه لا يتحمّل ذلك إذا تكرّر ، خصوصاً في ظروف كالتي نشهدها حالياً ..

من جانب آخر فإنّ «حفظ التوازنات» قد يستدعي السكوت عن أشياء تخالف القناعة الذاتيّة وربما الاُصول والثوابت ، من هنا بات الجمع بين الشّفافيّة وحفظ التوازنات أمراً غير مقدور عليه في موارد كثيرة ، ولا سيّما إذا أضفنا إلى كلّ ذلك : أنّ النقد والاستشكال والاعتراض مهما كان بنّاءً وإيجابيّاً فإنّه بمواجهة مشاعر وأحاسيس وصفات إنسانيّة اُخرى ، أعني : أنّها تحفر في الذاكرة «شيئاً» مهما بلغ الأمر من إخلاص وحرص وحبّ ، وقلّما نعثر على ذاك الذي يقبل النقد ويستوعبه دون أدنى ردّ فعل عاجل أو آجل ، بشكل مباشر أو غير مباشر ..

أقول : ذلك حاصلٌ مهما بلغت الأنساق والمناهج والأدوات من رقي علمي معرفي مستند إلى المعايير والاُسس الصحيحة ، نعم قد يتّخذ الفضاء مجالاً عقلانيّاً أكثر منه فوضويّة وخشونة ، لكنّ الآثار تترتّب على كلّ حال ..

الجندي الهادئ لمذهب التشيّع

هكذا جعل أحد الباحثين عنوان مقالة مقتضبة عن الرأس الأساس أراد لها التوسّع مستقبلاً ..

أوقفني العنوان وقفة استشكال ونقد ، ناهيك عن المحتوى الذي

٣٠٢

ينقصه الكثير ، إلاّ أنّ الكاتب اعتذر ضمنيّاً من خلال إفصاحه عن بحث مفصّل سيظهر فيما بعد ، قد يُتلافى فيه ما أوردناه ..

نعم ، مصطلح «جندي» و «هادئ» وجدتُ فيهما حجّةَ النقد والاستشكال ; إذ قد تجاوز المعهود مرحلة «الجنديّة» وبات حالةً وظاهرةً حريّاً بها أن تراجَع وتُستقرأ وتقارَن وتُبحث وتحلَّل وتُسنتَج منها النتائج والحصيلة التي تقود إلى حكم يؤسّس لقواعد وضوابط اختصاصيّة يخرجها من غبار المبالغة والمغالاة إلى مجالات التطبيق والممارسات ، أي الخروج بنهج ونسق يأخذ طريقه إلى الفضاءات العلميّة المختصّة ..

إنّ القارئ والمطّلع الجيّد على ما يدور في أروقتنا يدرك حقيقة ما أقول ، مثلما يدرك أنّ المعهود حركةٌ لا تعرف السكون ، وموجٌ هادر لا تحدّه المرافئ والشطآن ، إنّه يخلق من السكون حركة ، وأدلّ دليل على الشيء وقوعه ، فما هذه الشواخص العمليّة إلاّ ترجمة لقسم ممّا يجول في ذاته وأعماقه من سيل عظيم من أفكار النشاط والفاعليّة التي لو اُفرج عنها لقلبت كثيراً من المعادلات والموازنات القائمة .. نعم ، إنّه يرفض استباق الأحداث ويعتقد أنّ الناتج العملي خير وسيلة إعلام وتبليغ ، فهو يعمل أكثر ممّا يتكلّم ، لا أقول إنّه لا يتكلّم ، فهو يتكلّم الخبرة والتخصّص والأفكار الموّاجة ، يتكلّم النقد والاستشكال الشفّاف النابع من الحبّ والحرص والوفاء بلا غرض ولا عدائيّة ، ولا أقول إنّه لا يخطئ ، وربما للكثيرين ملاحظات عليه ، إلاّ أنّ الاُمور تؤخذ بنتائجها ، وكفّة الميزان تهبط بالأثقل وزناً لتعلو به في سلّم الحسابات العلميّة والرقميّة والماديّة ..

٣٠٣

لا شكّ أنّه أنجز ما عجز عنه الكثيرون وفكّر بما لم يفكّر به الآخرون .. إنّك إلى جنبه لا تشعر بالوقفة والسكون ، فكيف لنا وصفه بالهادئ؟! ففي الوقت الذي تراه يقول ويتكلّم فهو لا يثرثر ، بل يعمل وينتج ، وما وجدتُه يوماً مستسلماً لمرحلة من مراحل العمل والإنتاج ، فالحركة الدؤوبة لا تفهم معنى الاستسلام والقبول بالموجود ..

خلاصة الكلام : إنّه شغل الناس بالحركة والنتاج والفاعليّة بشتّى ألوانها وأصعدتها ، يقولون : إنّه قد أنسى مَن قبله وسيُتعِبُ مَن بعده ..

كذا إنسان ، ليس من اللطف والإنصاف أن نصدر عنه بحثاً أو مقالاً يختصره في عنوان «الجنديّ الهادئ لمذهب التشيّع» ..

* * *

«الببغائيّة» ظاهرة سلوكيّة إنسانيّة تعكس واقعاً من التخلّف والتقليد والتبعيّة وانعدام الإبداع ، وتساهم في خلق فضاءات تناهض النموّ والابتكار والحرّيّة ، وتعطّل حركة العقل والتفكير والنقد والبناء .... وسبب التسمية معروف لا حاجة بنا لتوضيحه ..

أروقتنا تعجّ بهذه الظاهرة وروّادها ، وباتت دواعيها غير مفتقرة لشرح وبيان ، إلاّ أنّ المثير للانتباه هو التسابق المحوم في عرض أرقى مستويات «الببغائيّة» لنيل رضى وحبّ الرأس الأساس الذي أراه من الفطنة والذكاء والدهاء بمكان لا تنطلي عليه معها هذه الأساليب وأمثالها ، رغم أنّ الإنسان بطبيعته النوعيّة يسترخي للثناء والمديح ..

٣٠٤

وقد استقرأتُ الببغائيّين عندنا فما وجدت فيهم مبدعاً فكريّاً وعلميّاً وثقافيّاً وتخصّصيّاً ، إنّما هم اُناس ظلّوا يراوحون في مواقعهم ، بل التراجع فيهم بيّن ملحوظ .. وهذا الاستقراء ليس جديداً على فضاءات الإنسانيّة وأروقتها الاجتماعيّة والأخلاقيّة وغيرها ، فالكلّ متّفق على ذلك وإنّما أنا أعيش واقعاً أنقل حقائقه الملموسة المحسوسة ..

من هنا أنّى لنا التشبّث بطموحات تتوفّر على تربية وصنع كوادر وطاقات كفوءة بإمكانها سدّ الثغرات وملء الفجوات وجسر الهوّة وهي تمارس أرقى مراحل التبعيّة والتقليد والخوف ، بل تتنافس على تقديم أجمل المسرحيّات الببغائيّة ، وأنا على يقين بأنّ المقصود رغم إظهاره الحبّ والمودّة لهذا الببغائي وذاك ، وهذه من أساليبه المعروفة في الجذب والاستقطاب ، لكنّه لا يحترم إلاّ الآراء المبدعة الناضجة التي حذفت الخوف والتبعيّة من قاموس أنساقها ، وانطلقت انطلاقة وعي وفكر يعمل على بناء وتقوية القواعد والاُسس الكفيلة ببقاء وتطوّر الفضاء ، ولاسيّما أنّ الظرف ليس ظرف مجاملات ومجالس مدح وإطراء وثناء ، إنّما نفتقد الإرادة النوعيّة والعزم الجادّ والتلاحم العميق ، المستندة طرّاً إلى المناهج والمعايير العلميّة الصحيحة ، لمواجهة التحدّيات والأخطار والتوجّه صوب التأصيل والانتشار على شتّى الأصعدة والميادين ..

* * *

٣٠٥

أعجبني نوع التفكير الذي يمتلكه بعض الجدد المنتمين إلى الحلقة الضيّقة ، ولعلّي لم أكن منتظراً منه هذا المقدار من الإحساس والانتباه والتحليل لبعض القضايا والاُمور ; إذ الفرصة لم تسنح قبلئذ للحوار الشفّاف بيننا ، فوجدته واقفاً على بعض المسائل وقوفاً واعياً رغم حداثة سنّه وحداثة انتمائه إلى هنا ، كما عثرت فيه على الإنسان الذي لا يقبل الخضوع للمغريات الموجودة ، ناشداً بذلك النموّ والتطوّر ..

كلّ ذلك بمقدار المحاورة والطرح النظري ، أمّا عمليّاً فالواقع هو الذي يحدّد مقدار التناغم والتطابق بين القول والفعل ..

إنّنا يجب أن نبني الأفكار والآراء ضمن اُسس ومعايير علميّة منطقيّة ، بعبارة اُخرى : لابدّ لنا من إنشاء منظومة متكاملة منسجمة الأدوار والمراحل ومتوفّرة على الأدوات والآليات التي تضمن الحاجة وتواجه الموانع والإشكاليّات مواجهة معرفيّة واعية ، ولا شكّ أنّ النقد القائم على الاُصول العلميّة السليمة سيكون عامل استحكام وبناء وتطوير ... لكنّ الملاحظ أنّ فضاءنا يفتقد الشروط المناسبة لممارسة الفكر النقدي دوره في عمليّة البناء والنموّ ; إذ التلقّي السلبي والفهم الخاطئ لموضوع النقد ورفض التفاصيل فيه ، والاسترخاء بالتكيّف على حدّ القشور والظواهر دون الولوج في العمق والجوهر ، والعاطفة المفرطة الممزوجة بالرغبة الذاتيّة والثقافة المبتنية على الفرديّة ... لها الأثر الرئيس في بطء حركة النقد عندنا ..

* * *

٣٠٦

في لحظة ما ، في موقف ما ، لعلّه اختبار أو محكّ بسيط حتى .... تظهر الخفايا وتتجلّى الاُمور على حقائقها ، فتُبرِز الذات ما في أعماقها وحناياها من مخزون طالما سعت إلى دفنه تحت ظواهر الشعور والسلوك ، أو تركه تابعاً خلف قضبان التصنّع واختلاق الصور ..

لا مواربة ، فإنّ تلك اللحظة والموقف والاختبار والمحكّ تضع أو تعيد كلّ شيء إلى مربّعه الحقيقي ، بمعنى : أنّها تنسف وتطوّح بكلّ ما شُيّد وبُني على أساس هشّ وقاعدة رخوة واسطوانة جوفاء ، فكما قيل : «إنّ حبل الكذب قصير» فهنا أيضاً بناءُ الكيان الإنساني على اُسس وقواعد وأعمدة هشّة ورخوة وجوفاء ، بناءٌ موهونٌ كبيت العنكبوت ..

إنّنا نختبىء غالباً خلف ثقافة مستورَدة أساساً ، ولا نعني بالاستيراد أن يكون بالضرورة خارج الفضاء والمنظومة التي نتحرّك ونعيش في إطارها ، بل قد يكون من داخلنا بخلق الفرص والظروف التي نحتاجها لتمرير أو تبرير ما لا يتناغم مع القيم والثوابت والاُصول ، لكنّه يحقّق للذات مطامحها ومراميها ، آنذاك لا يعني القفز فوق الحقائق والمفاهيم الحقّة سوى تمرّداً وتعدٍّ ونوعاً من أنواع الاستيراد ، ثقافيّاً كان أم غيره ..

إنّنا بذلك نخادع أنفسنا ، ومن خادع نفسه ضعيف ، فالضعيف هو الذي يفتقد المقوّمات الموضوعيّة للبقاء والثبات والتقدّم إلى الأمام ، ذلك التقدّم القيَمي والأخلاقي ، لذا يتشبّث بكلّ ما اُتيح له من أداة وآلية كي يبقى بقاءً على حساب الحقّ والحقيقة ..

٣٠٧

وضعفنا المفرط هذا يفرض علينا الاحتجاج بأحاجيج سخيفة ، بعيدة كلّ البعد عن المعايير العلميّة وجوهر الاُصول والثوابت ..

ولعلّ الضعف ضعفان :

ضعفٌ تقصده ، وضعف يقصدك ، أمّا الأوّل فهو الخمول والكسل والركون والقبول بالواقع المتخلّف علميّاً وثقافيّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً .... وكذا الاختباء والتعشعش على القشور والظواهر التي تؤمّن القدر الكافي من حاجة الذين يرون في الاُمّة مطيّة الرغبة الذاتيّة من سلطة واستبداد وهيمنة ، الأمر الذي يلازمه الترويج لثقافة البقاء على هذا المنوال خشية نهوض العقل الجمعي بطرق الجوهر والعمق والجذور .... خشية التسلّح بأدوات المعرفة السليمة ، التي تعني : المراجعة والاستقراء والمقارنة والتحليل والحفر والتنقيب في لبّ الاُصول والثوابت ... خشية كشف زيف الأحاجيج التي أبقت عناصر القشور فاعلة في فضاءاتنا التي نال منها الجهل والفقر والظلم سهماً أوفى ... خشية استلاب العناوين والمواقع التي توفّرت بفعل خمود ذلك العقل ..

إنّ الإصرار على إبقاء الاُمّة مركونة في زوايا التبعيّة والتقليد والجهل والفقر والظلم هو إصرار على سلب إرادة العلم والثقافة والعدل والازدهار ، ولا شكّ أنّ هذا الإصرار هو ضعفٌ نقصده ..

أمّا الضعف الذي يقصدنا فهو حينما نلمس الاختراق والانحراف وضياع القيم ورواج ثقافة الفساد فلا نعمل شيئاً لصدّها والتغلّب عليها ،

٣٠٨

آنذاك تعيرنا تلك الثقافة وذلك الاختراق البدائل الرخيصة التي تسلبنا هويتّنا وانتماءنا القيَمي والمفاهيمي ، فتجعلنا أذلّة نتسوّل على طرقاتها وندقّ أبوابها كي تمنحنا زاد الحقارة والانحطاط في ذواتنا فنزداد تبعيّةً وتقليداً وضعفاً ..

* * *

تأرجح الأفكار والأحاسيس والمواقف والأحكام ، بما في ذلك ما نعتقده من ثوابت العقل والأعماق والحنايا التي نذود ونذبّ عنها بشدّة وحماس ، هل هي حالة نوعيّة تعترض الإنسان ، أيّ إنسان ، إلاّ ما عصم الربّ ، أم أنّها تستولي على بعض دون البعض الآخر؟

هل تعدّ مراجعة مقصودة أو غير مقصودة لسلسلة الالتزامات والميول فيتخلّلها أحياناً جدولة الأحكام والمواقف والرغبات ، أو إعادة قراءة تخرج بجديد التصوّر والتصديق؟

ويبقى السؤال الكبير : لِمَ هذا التأرجح والقلق وعدم الثبات والاضطراب ، من أين يأتي ، وما مقصده ، ومتى تغلق حكاياته؟

إنّنا نريد تجاوز عقدة «العزّة بالإثم» كي نخوض البحث خوضاً أكثر شفّافيّة ، وما يمنحنا الجرأة على ولوج ذلك العمق شهادة الثوابت ، منها : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (١) (أَفَحَسِبْتُمْ

__________________

١ .. سورة العنكبوت : ٢ ..

٣٠٩

أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (١) ... بل لو تأمّلنا النصّ بأكمله وحكم العقل والإجماع الدائر في فضائه لالتقينا في نقطة واحدة ، نقطة أنّ الإنسان في محكّ ، أي لابدّ أن يقتحم غمار هذا المحكّ ـ رغم أنفه ـ وهنا تتلوّن الأساليب والآليات والأدوات التي تمنح الحصيلة النهائيّة لونها الخاصّ بها ..

وحيث نسير جميعاً إلى مصير واحد لا مفرّ منه بتاتاً تنكشف فيه الاُمور والخفايا على حقائقها ـ كما نعتقد ـ فياليت شعري هل نصفّي الحساب قبل حلول المصير المهيب ، قبل (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (٢) فتكون (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) لا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) (٣)؟

لِمَ لا نسارع إلى حسم الموقف قبل فوات الأوان ، لِمَ نتقاعس بانتظار اللحظات الأخيرة ، ونحن لا نعلم متى وأين وكيف تكون النهاية؟

لست معتقداً بسهولة تصفية الحسابات قبل أوان الموت ، فالأمر يتطلّب مزيداً من الجدّ والجهد الشاملين على شتّى أصعدة الذات ، مزيداً من الخسائر والتضحيات ، مزيداً من الصبر والألم والمعاناة ، ولاسيّما أنّ ترويض النفس ومنعها عن رغباتها ولذائذها والانهماك في تهذيبها وتطهيرها من أدران المادّة وشوائبها أمرٌ على غاية الصعوبة والمشقّة بلا

__________________

١ .. سورة المؤمنون : ١١٥ ..

٢ .. سورة عبس : ٣٤ ـ ٣٦ ..

٣ .. سورة عبس : ٣٨ ـ ٤٠ ..

٣١٠

ريب ، فإنّ الالتزام الحقيقي بالقيم الحقّة والمفاهيم السليمة التزاماً عمليّاً صادقاً هو بوّابة التحليق في آفات اليقين والاطمئنان حيث تنعدم كلّ حالات التأرجح والقلق والاضطراب ..

أسفي كلّ أسفي على نفسي التي لازالت تعاني التأرجح والقلق والاضطراب والخوف ، نفسي التي كلّما روّضتها عن منقصة أتت بغيرها أشدّ منها أو عادت لها بفعل ضعفها ومسكنتها ، كلّما اُذكّرها تنسى ، خصوصاً آن غضبها وتعبها أو حال زهوها وانتعاشها .... قلّما وجدتها خارجةً عن نطاق التأرجح والقلق والاضطراب والخوف ..

لا يخفى أنّ التفكير بشيء أمرٌ والحصول عليه أمرٌ آخر ، فانشغال الذهن بمسائل اليقين والعلم والاطمئنان انشغالاً لا يخضع للاُسس والمناهج الصحيحة ولا يقترن بالجدّيّة وتحمّل المشاق ، لا حاصل منه سوى الألم والحيرة والتخبّط ، أمّا الالتزام بتلك الاُسس والمناهج بعزم وجدّ فإنّ رواشحها تسوق إلى ذاك اليقين والعلم والاطمئنان ، وتحلّق بالعقل والقلب في آفاق الكمال الإنساني المنشود ; إنّها بلا شكّ معادلة فكريّة مشاعريّة عمليّة ، وإلاّ فمجرّد التفكير الأجوف بقضايا العلم واليقين والاطمئنان أشبه بالبطالة الذهنيّة المقنّعة التي لا تعمل ولا تنتج ..

إنّ قناعتي وذودي وحبّي لهويّتي وانتمائي أراها لا تكفي لبلوغ تلك الفضاءات والآفاق الطيّبة ، فالقناعة التي أنا عليها والتي تمخّض عنها ذلك القبول والذود والحبّ لم ألمس منها بَعْدُ يقيناً يباشر عقلي وقلبي ...

٣١١

وأعترف أنّي بلغت أوقاتاً نادرةً نالني الاطمئنان فيها ، فشمخ به قلبي وعقلي وروحي ، لكنّي ضيّعت فرصتي فتناثر المحصول في يوم عاصف ، ذلك المحصول الذي لم يأت عبثاً ، بل كان عصارة جهد فكري مشاعري ضميري ، وهذا ما ذكّرني بمقولة : «إنّ تحقّق النصر هامّ لكن الأهمّ منه الحفاظ عليه» ..

أرى أنّ ذخيرتي ـ أقصد الفكر الذي اُؤمن به ـ غنيّة فاعلة بما فيه الكفاية ، وإنّما الخلل في آلية التزوّد ، في تقاعس التفكير الذاتي وصلابة القلب واضطراب الروح وأثر المنافيات التي طالما بقيت وبقي معها الألم والمعاناة يكبران همّاً يقضّ المضجع ويسلب الوسن ..

إنّ «خارطة الطريق» العَقَدية المرسومة لبلوغ الهدف الأقدس والمقصود الأسمى خارطةٌ عقلانيّةٌ ، علميّة ، إنسانيّة .... رغم الفروع الدخيلة والمحطّات الزائفة والقرى الوهمّيّة ، رغم الاستنباطات الخاطئة والمصادرات الظالمة والاستلابات المرفوضة والعداءات المتشعّبة ، رغم الأحقاد والأضغان والترويع والحذف والتحريف ..

نعم ، أشدّ ما نفتقر إليه التوسّع والانتشار في فضاءات العقلانيّة التي تشكّل أداة هامّة في التغلّب على الأوهام والإشكاليّات والشبهات التي تظهر بين الحين والآخر ، ولاسيّما أنّنا نمتلك المقوّمات المناسبة لإيجاد الحواضن الجيّدة لتأقلم العقلانيّة وانسجامها مع مفاهيمنا وقيمنا وأفكارنا ..

مناقشاتي المتعدّدة مع الذات لا أدري هل أسفرت عن نتائج واضحة

٣١٢

أم لازلت أدور في حلقة مفرغة ، وغشاوة الموقف تلوح من خلال جهلي بحدودي وحدود الوعي والإيمان والحسّ والسلوك الخاصّة بي ، ونوع الانطباع عنّي ، ومدى منزلتي في قلوب الأهل والأصحاب وسائر الناس ، فلقد أحببت الناس طرّاً ولم أكره أحداً فيهم ولكن هذا لا يعني أنّهم يحبّونني كلّهم ، فكثيراً ما اُدهَش بغضب هذا وذاك منّي لأسباب غفلتُ عنها أو تسامحت في أهمّيّتها إلاّ أنّها مؤثّرة وحاسمة لدى الآخرين ، فما راعيتُ شعورهم ، وهذا خطأ رغم انتفاء العمد والقصد ; إذ الكياسة والفطانة خصيصتان من خصائص المؤمن أراني ضعيفاً في الاتّصاف بهما ..

وإذ أعدّ النقد من مزاياي ، وأرى في شخصيّتي نقّاداً وناقداً بنّاءً ، فهلاّ مارستُ النقد بحقّ ذاتي ، كيف أنا بين اُسرتي ، حرمي وأبنائي ، أرحامي ، جيراني ، أصحابي ، زملائي ، أساتذتي ، مدى التزامي بالقيم والمفاهيم التي أحسب أنّني منتم إليها ، إخلاصي ، خلواتي ، أسراري ، أحاسيسي ، أفكاري ، مظاهر سلوكي وسيرتي ...

كلّما أستجمع نقاط النقاش الذاتي المعهود كلّما أجد تأخّري عن قافلة الركب ، الجميع دون استثناء ، فأنا أقف خلفهم مرتبةً ، لذا تراني كثيراً ما أحسستُ بالذلّ والحقارة حينما ألمس في غيري خصالاً أفتقدها بل اُكابر بحيازتي لها كذباً وافتراءً ورياءً ، كالعلم والإيمان والإخلاص والأخلاق والأمانة والحبّ ، ولا اُخفي محاولاتي المبذولة على صعيد اللحاق بركب المتقدّمين لكنّها إلى الآن بلا جدوى ; حيث لازلت ضعيف الإيمان غير راسخ العقيدة ، أعيش القلق والاضطراب والتأرجح والخوف ،

٣١٣

فأين أنا من مراتب العلم واليقين والاطمئنان ، فلا زلتُ هشّ الفهم والنضوح والوعي ، صلب القلب والأحاسيس والمشاعر ، فالغيبة والغيرة والحسد ونكران الجميل والخيانة والاستخفاف واللامبالاة والغضب والعجلة والغرور وسوء الظنّ والشهوة والمتعة ... تخالط عقلي وأعماقي وتنازعني المصير لتصرعني وتطرحني مهزوماً لا أبلغ مرتبة الذين أفلحوا وفازوا ....

وكم أتشدّق في دعائي وصلواتي وخلواتي برغبة تعجيل الفرج والصلح وحبّ الخير للآخرين وطلب الرحمة للأموات والابتهال بزيادة العلم واللحاق بركب الصالحين والإغناء بالحلال الربّاني عن الحرام وبفضله تعالى عمّن سواه وبطاعته سبحانه عن معصيته وتنوير العقل والقلب والوجه بنور الإيمان ... ولا أراني عاملاً جادّاً لها ، فكلّ همّي تأمين منافعي ورغباتي ، أنانيةً منّي ليس إلاّ ، والأقبح من ذلك إظهاري ما ليس في باطني وإسراري ما ليس على ظاهري ، نفاقاً منّي ليس إلاّ ..

إنّ حبّي لعقيدتي وهويّتي واُسرتي وأهلي وفضائي ومجتمعي واُمّتي وإنسانيّتي واعتزازي بمكوّنات ثقافتي ومعارف مدرستي لا يكفي لنيل المراد ; فالمفروض بي العمل الجادّ بمقرّرات الإيمان طبق خارطة الطريق التي رسمتها دوائر الهويّة الحقيقيّة ، كي يكون الحبّ نابعاً من الإيمان الصحيح ، وهذا هو الحبّ الذي يمهّد الطريق إلى بلوغ المنى وتحقّق الآمال ..

٣١٤

نعم ، إنّ الملاك والميزان (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الاْنسَانَ لَفِي خُسْر * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (١) ..

فالإيمان ممارسة عمليّة واعية للقيم والمبادئ والمفاهيم الحقّة ، الأمر الذي يلازمه الألم والمعاناة وتحمّل المشاق ..

أينفعني حبّي لمحاور هويّتي وأقطاب انتمائي وأعلام ثقافتي وهداة معرفتي ومحرار أفكاري دون التقيّد المطلوب بالمحتوى الذي جرى التأكيد على العمل به ، أو دون العمل بالأدبيّات التي ركّز عليها ذلك الفكر والمدرسة المعهودة؟

هنا تتضارب النصوص التي تصرّح طائفة منها بكفاية الحبّ المشار إليه ، والطائفة الاُخرى التي تصرّح بوجوب العمل بما أقرّه الفكر والمدرسة المعهودة .. ولعلّ التفصيل فيهما يخرج المقام عن حالة الطرح المتّخذة هنا من حيث الاختصار والإيجاز ، وعصارة الحلّ تكمن آخر المطاف في مراعاة جملة من القواعد العقليّة والاُصوليّة والمنطقيّة ، مثل : الاحتياط حسن على كلّ حال ، احتط لدينك أخوك دينك ، الجمع أولى من الطرح .. لذا بات الحبّ الحقيقي العملي هو ذلك الحبّ المقترن بالالتزام بمقرّرات المحبوب وتوصياته ، وجوباً كانت أم حرمةً أم استحباباً أم كراهةً أم إباحةً ... الأمر الذي ستقرّ به يقيناً عيون المحاور والأقطاب والأعلام الهداة ..

__________________

١ .. سورة العصر : ١ ـ ٣ ..

٣١٥

ماذا يعني الوقوع في عمل الخطأ ثم السعي إلى إيجاد المبرّر بشتّى الأدوات والآليات .. أليس هذا قفزاً على المعايير والاُسس السليمة للتفكير ، ألا يجوز بي أن اُفكّر ثم أعمل ، وهل يصحّ العمل بلا تفكير؟ ثم إذا وقع الخطأ تراني ألهث خلف الدليل والقرينة والشاهد لإضفاء الشرعيّة والصحّة على سلوكي ..

ماذا يعني رفض النقد الموجّه لي والغضب من الملاحظات المطروحة عنّي والإسراع باستخدام ما تيسّر من وسائل الحوار والنقاش لردّ ونفي ذلك النقد وتلك الملاحظات ، ولكنّي ما إن أختلي بذاتي أعترف بصحّة كليهما بعد أن تأخذني العزّة بالإثم آنَ البحث والحوار والنقاش ، أليس منطقيّاً أن أكون صادقاً مع ذاتي ومع الآخرين؟

ثم إنّي إن تقبّلت النقد أو سكتُّ عن إبداء ردود الفعل الفوريّة ، لِمَ تراني أعمل بمنهج الانتقام وتصفية الحساب حين تمرّ الأيّام وتسنح الفرصة للنيل ممّن انتقَدَ ولاحظ ، بأساليب وطرق مختلفة ، فأقتفي زلاّته وهفواته وأستمع بشهيّة لما يقال فيه بلا تفحّص واستفسار وتحليل ; لأ نّي عثرت على ما يروي غليلي ويطفئ نار غضبي ووجدي ..

إلامَ كلّ هذا الخلاف والجفاء والاحتقان؟ كلّ هذا الألم والمعاناة؟ في لحظة هدوء وتفكّر حينما يختلي الإنسان بذاته يجد ألاّ قيمة سوى للمبادئ والمفاهيم التي تقوده إلى إعمار ما اخترب من أحاسيسه وأفكاره ، إلى خير الدنيا والآخرة ، حيث تخرجه من دائرة الحزن

٣١٦

والإحباط والضبابيّة والحيرة والقلق والتيه إلى فضاءات السرور والأمل والشفّافيّة والحسم والاطمئنان ومعرفة الذات ، فيحلّق ألِقاً في رحاب الحبّ الحقيقي والإيمان الصادق ..

* * *

لا أعلم مدى تفاهم العقل والشعور إزاء بعض التصوّرات والرغبات ، هل هي عقليّة محضة ، أم شعوريّة محضة ، أم نتاج كليهما؟ فرغم قناعتي وتمسّكي بحضوري العلمي الثقافي ، تراودني رغبةٌ ترقى أحياناً حدّ التمنّي تقودني إلى التصوّر وربما التصديق بالتفرّغ الكلّي والاستقلال والعزلة والتوجّه صوب المحطّات الخاصّة بي بلا تقيّد والتزام وارتباط ووصاية وظلّ ، بلا فضاء أراه يغمطني حقّاً طوراً أو ألحظ فيه مواقف وأساليب وقضايا تؤلمني وتثير أشجاني طوراً آخر .. فلا أدري هل اُصارع ازدواجيّةً في ذاتي أو اُكادح واقعاً من جهة ورغبةً من جهة اُخرى ، فهذا معقلٌ حقّقتُ من خلاله العديد من المطامح والغايات وأتمتّع فيه بموقع وسمعة واحترام وتقدير .. وتلك خلوات أنأى بها من همّ الالتزام والوصاية وهمّ اللحظات والمواقف التي اشمئزّ منها وتؤلم أعماقي وحناياي ..

وربّ قائل يقول : المانعُ مرتفع والمقتضي موجود ، إلى ذلك : الشعور المتواصل بأ نّك تنال نصيبك من الجفاء إثر بعض المواقف والاُمور .. فما عليك إلاّ أن تغلق ملفّ حضورك إلى الأبد ..

أقول : كلّ ذلك صحيح ، ولكنّ الجفاء لا يمكن الردّ عليه بجفاء آخر أشدّ منه ، فإنّني أعتقد بحرمة هذا المعقل وبخدماته الجليلة للقيم والمبادئ

٣١٧

الحقّة ، مضافاً إلى أنّني سأكون في زمرة الناكثين والخائنين إن تخلّيت عمّن أعتزّ وأفخر بأفضاله عليّ ..

بماذا يفسّر هذا الحال ، أهي ازدواجيّة معايير ، أم صراع ناشئ من رواشح متناقضة إثر تناقض الأوضاع ضمن الفضاء الواحد ; حيث توجد أهداف مقدّسة ونتاج شامخ وحضور فاعل ومنزلة رفيعة ، إلى جانبها اُمور وأساليب ومشاهد ونتائج لا تتناسب ونتاج وحضور ومنزلة هذا الفضاء؟

لا أدري مدى تجانس العقل والشعور في صياغة هذا التصوّر ، ولكنّي أكاد أقطع بأ نّها ليست مجرّد رغبة صاغها الشعور بمفرده ، فالخلفيّة الطويلة والخبرة العريضة والقرب المركّز من مواقع القرار والمشاهدات والمسموعات والدلائل والقرائن ... كلّها تشير إلى وجود القضايا المشار إليها .. نعم ، لو تعاملنا بالأدوات العقليّة والمنطقيّة والاُصوليّة مع الفضاءين الموجودين طبق القواعد الترجيجيّة لأمكننا الحصول على نتائج وقرارات علميّة تحسم الصراع والنزاع لصالح أحد الطرفين ..

مع لحاظ جوانب الأمرين بنظر الاعتبار وبعد سلسلة فحوصات ومراجعات وتحليلات وقراءات ومقارنات وحفريّات ، وبالاستفادة من أدوات الترجيح وقوانينها ومراحلها ، نجد راجحيّة البقاء على الحذف ، راجحيّة الوجود على العدم ، ولاسيّما أنّ مصلحة الاستمرار أقوى بكثير من مصلحة التوقّف ..

أمّا التفكير أو الشعور بالحاجة إلى الراحة والاسترخاء والتفرّغ

٣١٨

والعزلة على حساب القضايا الأساسيّة فإنّه أمرٌ ربما فيه من الأنانيّة ما لا يخفى ، فمن أجل الرغبة الذاتيّة لا يمكن الحكم سلباً على الحقائق الموضوعيّة المتوفّرة بهذا الحجم والكثافة والفاعليّة والنجاح ..

نعم ، أن تؤول الأوضاع إلى ذلك المصير الضبابي بفعل غياب الرأس الأساس ، أو تغيّر المعادلة الموجودة أو تحقّق الظروف القاهرة ، فهذا بحث آخر لا ارتباط له بعناصر الشعور أو العقل المشار إليها .... لذا تراني أحياناً أعيش افتراضيّاً مرحلة ما بعد الغياب المذكور الذي إن حصل سقط كلّ شيء في فخ التراجع والخمول والدمار والضياع ، وهذا راشح طبيعي من رواشح ثقافة التأسيس والتنظيم والعمل والتفكير بآلية واُسلوب الفرديّة ، رغم كلّ النجاحات المتحقّقة ، فالثقافة الفرديّة لا تنتج ـ كما قلنا مراراً ـ سوى أدوات ومكائن تعمل ليل نهار بعيدةً كلّ البعد عن فضاء البرمجة والتخطيط والإبداع والبناء الذاتي ، فالكلّ معاني حرفيّة إزاء معنى استقلالي واحد هو الرأس الأساس ..

نعم ، ربما يأتي ذلك اليوم الذي تتغيّر فيه الأوضاع ، فنتحاور حواراً جادّاً تحكمه المعايير بلا أدنى عسر وحرج ، بلا إمام ومأموم ، حينها يمكننا المرور على الماضي مروراً تحليليّاً نقديّاً شفّافاً ، فنقول ما أضمرته الصدور طيلة هذه السنين صوناً للحرمة والرفقة والظروف الحاكمة ، وتخرج رواشح الفكر على حقيقتها بلا أدنى ملاحظة وخجل ، فيرتفع لحن النقد واللوم ، ويتّسع مجال التذكير بتلك الأساليب والسلوكيّات التي تتنافى مع القيم والأخلاق والعهود والمواثيق التي صاغتها مبادئ الهويّة

٣١٩

والانتماء ... نتعارك ، نتحاور ، بألم وقسوة ومرارة ، ولكن بعيداً كلّ البعد عن أجواء الشامتين والمخالفين الذين يتربّصون بنا الفرقة والشتات ، ناهيك عن الوقت الحاضر الذي لابدّ من التسامي فيه على الخلافات والآلام صوناً للمبادئ وحفظاً لتاريخنا واحتراماً لأهدافنا واعتزازاً بنتاجنا ..

إنّ حنيني إلى سالف الأيّام ـ رغم مرارتها ـ مردّه إلى تلك الحالات التي كانت حاكمة علينا آنذاك ، حالات الإخلاص والاُلفة والرغبة والشوق والصبر على المشاقّ وضيق الإمكانيّات ، فجميعنا كنّا نجهد ونعمل وننتج من أجل هدف مشروع ; حيث كان ولازال رائدنا الذود عن حمى الدين والقيم الحقّة عبر إحياء ونشر علوم آل محمّد (عليهم السلام) .... لكنّ الحالات الجديدة بدّلت الكثير ، وصار الإخلاص والاُلفة مورد تزلزل وضعف ، فما عادت الاُمور والأخلاق والأوضاع والأهداف كما كانت آنذاك .... ولعلّ العسر يصنعنا واليسر يهدمنا ، لا أدري قد تكون فتنة يتخطّاها قومٌ ويسقط في فخّها آخرون ..

مخطئٌ من يعتقد موت الأفكار أو قتلها بمجرّد استبداد أو خنق للأصوات ، فإنّها لابدّ وأن تعلن عن وجودها سواء بالنطق أو الكتابة أو الرسم أو التمثيل أو الإشارة ، ولا تعجب إن كان الصمت والعزلة يعبّران أحياناً كثيرة عن فكرة ورؤية معيّنة ، ولاسيّما أنّ المتلقّي الواعي والمترجم الجيّد موجودان على طول الخطّ ..

٣٢٠