نفحات الذّات - ج ٣

كريم الأنصاري

نفحات الذّات - ج ٣

المؤلف:

كريم الأنصاري


الموضوع : العامة
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-974-4
ISBN الدورة:
978-964-397-972-0

الصفحات: ٤٤٠

لا ريب أنّ النصّ ثابتٌ لا يتغيّر محتواه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (١) (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) (٢) ، هذا الذي نعتقده منهجاً ونسقاً لا خلل ولا نقص ولا تهافت فيه ، فهو مطلقٌ بمحتواه ، والمتغيّر إنّما هي الأدوات ، والمراد بالأدوات : الأساليب والطرق التي تختلف باختلاف الانتماءات والملاكات والظروف والإمكانيّات والفضاءات وعوامل اُخر ; تبعاً لذلك فالنتاج الحاصل يتناسب طردياً مع أدواته ، وبذلك تتلوّن الأفهام والتفاسير والمعاني والاستنباطات والتأويلات .. كلٌّ منها لا يرقى ـ مهما بلغ من الدقّة والعمق والبيان ـ فوق مستوى النسبي ، أي لا يمكن لنا أن نطلق عليه أرقى من هذه التسمية والعنوان ; إذ إنّه فهمٌ معيّنٌ يناله الخلل والنقص وعدم الإحاطة ، نعم بإمكانه أن يكوّن تصوّراً عالياً وبلورةً شامخة يأخذان حيّزهما ومداهما الزماني والمكاني الكافيين ، لكنّه يبقى فهماً بين الأفهام ومعنىً بين المعاني وقراءةً بين القراءات وتفسيراً بين التفاسير ، لا يسدّ منافذ الفهم الاُخرى ولا يغلق الباب أمام المحاولات اللاحقة التي تسعى بأدوات وآليات متفاوتة أن تستنطق النصّ بعد أن تحاكيه محاكاةً مراعية فيها الضوابط والملاكات العلميّة التي من شروطها وقيودها أخذ الواقع وملابساته والوارد ومحتواه بعين الاعتبار ، وهذا ما يوفّر فضاءً معرفيّاً يخلق أجواءً فكريّة ملائمة للخروج بناتج يحفظ النصّ بحفظ الاُصول

__________________

١ .. سورة الحجر : ٩ ..

٢ .. سورة فصّلت : ٤٢ ..

١٤١

والثوابت ويناغم الجديد والحديث ، ممّا يعني : صنع عجينة مركّبة أساسها وقواعدها وأعمدتها وجوهرها الاُصول والثوابت ، وغلافها ومظاهرها ووسائطها مستفادة من الوارد الجديد ، العجينة التي بإمكانها أن تكون غذاء الحياة المعاصرة ، فتسدّ الرمق وتشبع الجائع وتروي الضمآن ، كما تصنع مناعة قويّة وأرضيّة صلبة تكادح بها الآفات بألوانها وأساليبها .. فلا مندوحة من الأخذ بالحادث الجديد والعمل به مادام لا يتعارض مع اُسسنا وجوهر عقائدنا ..

إنّ الذي يجعلنا أكثر اطمئناناً بإمكانيّة الخروج من المأزق النوعي الذي يعترضنا بين الحين والآخر دعوة النصّ الشفّافة لنا بضرورة الأخذ بزمام الاُمور والتصدّي للإجابة عن سؤال الحياة الكبير ، شريطة التقيّد «بالوسطيّة» بما تعنيه من مفهوم ومبدأ وإطار ونهج وممارسة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) ..

إنّ النصّ بمطلقيّة محتواه متسام فوق القيود الزمانيّة والمكانيّة والأفهام والتفسيرات النسبيّة صبغةً ومضموناً ، وهذا ما يؤهّل الوسطيّة أن تكون أصلاً ثابتاً من ثوابت الحياة والفكر والتأريخ ، ممّا يجعلنا نركّز البحث بلَيِّ جِيدِهِ قليلاً وعطفه حيال الوسطيّة ، كي نتمكّن من الحصول على النتيجة المتوخاة ..

__________________

١ .. سورة البقرة : ١٤٣ ..

١٤٢

ولسنا في غفلة عن الالتزام بالمعايير العلميّة والمنهجيّة في إدارة البحث من جهة عدم استباق النتائج وإعلان الحكم ابتداءً بلا مزاولة للدليل والشاهد ، وهذا ما جعلنا نعبّر عن محاولتنا بهيئة المضارعة «يؤهّل» لا الماضي ، غير منكرين في الوقت نفسه المعاني والأفهام السابقة التي خاضت مجال البحث ذاته وتوصّلت إلى النتائج المطلوبة طبق معاييرها ومقاصدها ، بل لا نروم الإتيان بشيء جديد على صعيد المعنى والفهم لأصل «الوسطيّة» وفاعليّتها وعمق جذورها وتأثيراتها التأريخيّة والفكريّة ..

إنّنا على عزم لإيجاد نوع من التناغم والتواصل والتلاقح والتلاقي والتفاعل والانسجام بين الاُصول والثوابت من جهة ، وبين الحداثة والمعاصرة من جهة اُخرى ، من خلال طرح فهمنا لمعنى «الوسطيّة» المستقى من صميم القيم والمبادئ الدينيّة .. وهذا التناغم إن عُدّ فهماً ومعنىً بين المعاني فلا غضاضة ..

إنّ العيّنات المتوفّرة لغويّاً منها ما يشير إلى كون الوسط من كلّ شيء : أعدله ، ويقال : شيء وسط ، أي بين الجيّد والردي ... أوْسَطُ الشيء : أفضله وخياره ... وَسْط القوم : بينهم ... وَسَط الدار منها ، ووَسْط القوم غيرهم ... وتوسَّط بينهم : عَمِلَ الوساطة ، وتَوسَّط : أخذ الوَسَط .. الوَسَط : المعتدل (١) ..

__________________

١ .. تاج العروس ١٠ : مادّة وسط ، السيّد محمّد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي ، دار الفكر بيروت ; المنجد ، مادّة وسط ، دار المشرق بيروت ..

١٤٣

أمّا «الوَسَط» في النصّ الإلهي المقدّس :

فقيل : معناه خياراً أو عدولاً ، هو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كالمركز ، ثم استعير للخصال المحمودة البشريّة ; لكونها أوساطاً للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين الجبن والتهوّر ، والحكمة بين الجربزة والبلادة ..

على أنّ من نظر بعين الإنصاف لم يَرَ في الآية أكثر من دلالتها على أفضليّة هذه الاُمّة على سائر الاُمم ..

نعم ، ذهب بعض الشيعة إلى أنّ الآية خاصّة بالأئمّة الإثني عشر ، ورووا عن الباقر أنّه قال : «نحن الاُمّة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجّته على أرضه» وعن علي كرّم الله وجهه : «نحن الذين قال الله تعالى فيهم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)» وقالوا : قول كلّ واحد من اُولئك حجّة فضلاً عن إجماعهم ، وأنّ الأرض لاتخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومَن عليها ..

ولا يخفى أنّ دون إثبات ما قالوه خرط القتاد (١) ..

وقيل : يعني كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمّد عليه السلام وبما جاءكم به من عند الله ، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملّته ، وفضّلناكم بذلك على مَن سواكم من أهل الملل ، كذلك خصصناكم

__________________

١ .. الآلوسي البغدادي ، روح المعاني ٢ : ٤ ـ ٥ ، دار إحياء التراث العربي ..

١٤٤

ففضّلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم اُمّةً وسطا ...

وقال زهير بن أبي سلمى :

هُم وَسَطٌ ترضى الأنامُ بحكمهم

إذا نَزَلَتْ إحدى الليالي بمُعظَم (العظائم)

وأرى أنّ الله تعالى ذكره إنّما وصفهم بأ نّهم «وَسَط» لتوسّطهم في الدين ، فلا هم أهل غلوٍّ فيه ، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهّب ، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ، ولا هم أهل تقصير فيه ، تقصيرَ اليهود الذين بدّلوا كتاب الله ، وقتلوا أنبياءهم ، وكذبوا على ربّهم ، وكفروا به ... ولكنّهم أهل توسّط واعتدال فيه ، فوصفهم الله بذلك ; إذ كان أحبّ الاُمور إلى الله أوسطها (١) ..

وقيل أيضاً في صدد بيان معنى الآية : كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم اُمّةً وسطاً .. كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل ، كذلك جعلناكم اُمّةً وسطاً .. أنّه تبارك وتعالى خصّ هذه الاُمّة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً ، لا وجوباً .. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم اُمّةً وسطا ..

[إلى ذلك :] أوّلاً : إنّ الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ، ولا شكّ

__________________

١ .. محمّد بن جرير الطبري ، جامع البيان ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ، دار المعارف بمصر ..

١٤٥

أنّ طرفي الإفراط والتفريط رديئان ، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين ، فكان معتدلاً فاضلاً ..

ثانياً : إنّما سُمّي العدل وسطاً لأ نّه لا يميل إلى أحد الخصمين ، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين ..

ثالثاً : المراد بقوله (وَسَطاً) ، ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلاّ بكونهم عدولاً ، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة (١) ..

وقيل : الله سبحانه وتعالى جعل هذه الاُمّه وسطاً بأن جعل لهم ديناً يهتدي منتحليه إلى سواء الطريق ، وسط الطرفين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، بل يقوّي كلاًّ من الجانبين ، جانب الجسم وجانب الروح ، على ما يليق به ويندب إلى جمع الفضيلتين ، فإنّ الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضاً ولا جسم محضاً ، ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كلا الكمالين والسعادتين المادّيّة والمعنويّة ، فهذه الاُمّة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كلّ من طرفي الإفراط والتفريط ، فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف ، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وهو المثال الأكمل من هذه الاُمّة ـ هو شهيد على نفس الاُمّة ، فهو (صلى الله عليه وآله) ميزان يوزن به حال الآحاد من الاُمّة ، والاُمّة ميزان يوزن به حال الناس ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط ..

__________________

١ .. اُنظر الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، ج ٤ ص ١٠٨ ، ١٠٩ ..

١٤٦

هذا ما قرّره بعض المفسّرين في معنى الآية ، وهو في نفسه معنى صحيح لا يخلو عن دقّة ، إلاّ أنّه غير منطبق على لفظ الآية ، فإنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما يصحّح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان ، وميزاناً يوزن به الجانبان ، لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين ، أو يشاهد الطرفين ، فلا تناسب بين الوسطيّة بذلك المعنى وبين الشهادة ، وهو ظاهر ، على أنّه لا وجه للتعرّض بكون رسول الله شهيداً على الاُمّة ; إذ لا تترتّب شهادة الرسول على الاُمّة على جعل الاُمّة وسطاً كما تترتّب الغاية على المغيّى والغرض على ذيه ...

فقد تبيّن بما قدّمناه :

أوّلاً : إنّ كون الاُمّة وسطاً مستتبع للغايتين جميعاً ـ الشهادة والشهداء ـ وأنّ قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) الآية ، جميعاً ، لازم كونهم وسطاً ..

وثانياً : إنّ كون الاُمّة وسطاً إنّما هو بتخلّلها بين الرسول وبين الناس ، لا بتخلّلها بين طرفي الإفراط والتفريط ، وجانبي تقوية الروح وتقوية الجسم في الناس ... (١)

وقيل : «الوسط» سببُ التقاء الطرفين ، وهو تعدّي الحكم إلى المحكوم عليه (٢) ..

__________________

١ .. السيّد محمّد حسين الطباطبائي ، الميزان ، ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٣ ، مطبعة إسماعيليان ..

٢ .. الغزالي ، معيار العلم ص ٦ ، ١٣٥ ..

١٤٧

وقيل : «الوسط» هو الدليل ، وهو الواسطة في العلم بين الملزوم واللازم ، وهما المحكوم والمحكوم عليه ، فإنّ الحكم لازم للمحكوم عليه مادام حكماً له (١) ..

وقيل : إنّ الوسطيّة في المنظور القرآني هي صفة رئيسة وجامعة للاُمّة الإسلاميّة ، بل إنّها إرادة الله لهذه الاُمّة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) وإذا كانت الوسطيّة تعني رفض الانحياز إلى طرف ضد طرف وقطب من أقطاب الظاهرة دون القطب الآخر ، فإنّها في المفهوم الإسلامي ليست التوسّط المعزول عن الطرفين والقطبين والمغاير لهما تمام المغايرة ، إنّها موقف جديد وثالث ، ولكنّه لا يغاير قطبي الظاهرة المدروسة ، وإنّما يجمع بالنظرة الشاملة كلّ ما يمكن جمعه ، ويؤلّف كلّ ما يمكن تأليفه من قطبي الظاهرة المدروسة .. إنّها ليست نقطة رياضيّة ثابتة تتوسّط قطبي الظاهرة المدروسة ، وإنّما هي موقف جديد يتأ لّف من عناصر الحقّ والعدل في القطبين معاً .. إنّها العدل والتوازن بين القطبين ، وليست الانحياز لواحد منهما ، ولا المغايرة التامّة لهما .. إنّها الحقّ بين باطلين ، والعدل بين ظلمين ، والاعتدال والتوازن بين تطرّفين وغلوّين (٢) ..

نقول : التفاوت في الفهم والاستنباط هو الحقيقة التي لا تقبل الترديد ; استناداً إلى قاعدة المطلق والنسبي المشار إليها ، ولعلّ من

__________________

١ .. ابن تيميّة ، الردّ على المنطقيّين ج ١ ص ٢١ ، ١٩٤ ..

٢ .. محمّد عمارة ، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام ص ١٣ ، ١٨٤ ..

١٤٨

الخصائص الهامّة التي أبقت النصّ حيويّاً نابضاً هي قابليّته على التكيّف والمرونة عبر المحاولات الجادّة ذات الأنساق والمناهج العلميّة السليمة ; حيث تبذل الجهد وعناء البحث وغاية التأمّل ومنتهى الدقّة وشامخ الإنصاف فترشح منه المعاني والمفاهيم والقراءات التي تفتح آفاقاً جديدة في فضاءات الفكر والمعرفة ، آخذةً الحاجة المعاصرة مأخذ الجدّ ..

والذي يثلج الصدور أنّ رواشح النصّ لا تقف عند حدٍّ معيّن من المعاني والتفسيرات والقراءات ، وهذا عامل آخر يجعل محاور العلم الثلاثة ـ الفكر والتأريخ واللغة ـ مستمرّة الحركة والفاعليّة ، اللّتين لابدّ وأن تنتجا فهماً راقياً للقيم والمبادئ والنظم الروحية والجسمية بما يتناسب مع قانون الفطرة العام ; إذ هو المحور والقوّة الجاذبة التي تستقطب من رام العودة وتطرد مَن سواه ..

إنّنا نرى في (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) : تحميلاً لمسؤوليّات ووظائف رياديّة ، انتخاباً من لوازمه : وجوب التصدّي المصيري الخطير من خلال منهج مرتكز على قيم ومبادئ منشورة بنصٍّ إلهي (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) نُسِخَتْ به المناهج السالفة الشقيقة ، ولسنا نعني بالنسخ : الطرد والتنقيح المطلق ، فهذا غير متصوّر في حقّ الباري تبارك وتعالى ، إنّما هو نسخ اشتمل على الحذف والإضافة والتعديل والتغيير بما يتلاءم وتطوّر التلقّي الإنساني التأريخي ، فالعقل البشري بدا مهيّأً في القرن السادس الميلادي لتفهّم النصّ الإلهي بشكله ومحتواه المتكامل ، هذا النصّ الذي اُغلق باب صدور أيّ نصّ إلهي سواه إلى الأبد ، فلم نَرَ أو نسمع

١٤٩

بنصّ إلهي جديد ، وهذا أدلّ دليل على كون القرآن الكريم نهاية مطاف الرسالات السماويّة ، لذا انبرى الكثيرون للتشكيك بصحّة صدوره إلهيّاً وقالوا : إنّها إفرازات وخيالات وإبداعات وصناعة أحاسيس ومشاعر محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، رغم إقرارهم بنبوّته (صلى الله عليه وآله) ، قالوا ذلك ليُسقطوا حجّيّة القرآن عليهم ويبقوا منتصرين لدياناتهم التي أوقف القرآن مشروعيّتها ودواعي دوامها (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (١) ، (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَمُ) (٢) ..

وبما أنّنا نرى صحّة الرأي القائل بـ «التطوّر الدلالي للّفظ» ، الأمر الذي نضيفه إلى رصيدنا من الأدلّة والشواهد ، نجد أنّ «الوسطيّة» التي كُلّفت بها الاُمّة ـ الاُمّة التي نعتقدها بما هي الوجه الآخر للرسالة والدين والفكر الإلهي ، مثلما نعتقد أنّ التغاير بين الاُمّة المقصودة في النصّ وبين الرسالة ليس سوى المفهوميّ منه فحسب ـ هي وسطيّة التوازن ، أي إيجاد وحفظ وبثّ التوازن بتحويله إلى منهج وممارسة وثقافة وأخلاق تستمدّ البشريّة منها القيم والمبادئ ، وهذا ما يعود بنا إلى النقطة المحور ، إلى العقلي العملي ; إذ العقل النظري ليس بإمكانه أن يكون طرفاً ولاعباً في معادلة القيم والمبادئ والأخلاق ، ولا شكّ أنّ التوازن مفهوم أخلاقي نميّز من خلاله العدل والظلم الحسن والقبح ، فالوسطيّة رسالة أخلاقيّة ، ومسؤوليّة اُمّة ..

__________________

١ .. سورة البقرة : ١٢٠ ..

٢ .. سورة الإسراء : ٩ ..

١٥٠

إنّ المعالجة الأخلاقيّة أشقّ اختبار يعرف من خلاله مدى نجاح الفكر والمنهج ، ولاسيّما أنّ المعاناة الاُولى الشاغلة للوجود الإنساني معاناة الأخلاق ، فكلّ الرؤى والأنساق والإبداعات تدّعي هدفاً أخلاقيّاً يسمو بالنفس البشريّة من مهاوي السقوط والانحراف إلى مراتب الخير والفلاح.

إنّ العدالة هي قلب الأخلاق النابض بلا أدنى ريب ، فإن سرت في ممارسات الوجود الإنساني لم يعد للشرّ والظلم والقبح مفهومٌ عملي ومعنىً وميدانٌ ومعترك ، وحيث إنّ «الوسطيّة» المعهودة من معانيها العدل كما أشرنا ، فنحن اُمّة العدالة ، والعدل أصلٌ من اُصولنا ، على أنّ المراد من الاُمّة ليس كلّ فرد فرد من أفرادها ، بل الاُمّة بما تعنيه من رسالة وقيم ومبادئ ودين كما أسلفنا ..

والإمساك بالعصا من وسطها وجهٌ من وجوه العدالة ، ونوعٌ من أنواع حفظ التوازن ..

وكيف للدين على ضوء كونه الفكر والحركة الدائمة في الحياة أن يحلّ إشكاليّة الأصيل والوارد الجديد ـ إشكاليّة الثابت والمتغيّر ، التراث والحداثة ـ بحلٍّ مرتجل سريع؟! فإنّه إثراءٌ للإشكاليّة وتجذيرٌ لها ، وسلوكيّةٌ لا تتناغم مع وسطيّتنا وعقلانيّة مبادئنا وحركة الدين الدؤوبة التي تعني التغلّب على عوائق الظرف أنّى كانت ، بل لا تتناسب مع رسالتنا التي نحملها للبشريّة بأسرها ، ولا تنسجم مع قابليّة النصّ للتحاور

١٥١

والوصول إلى أرضيّة خصبة من التفاهم والتوافق ، بل هي في نهاية المطاف على برادوكس مع العدالة التي نعتقدها ..

نعم ، إنّ المعايير العلميّة والمناهج المعرفيّة التي يقرّها الدين هي فصلُ الخطاب في حسم الإشكاليّة ، وهذا ما يعني عرض الجديد على الأصل بإجراء سلسلة من المراحل المختبريّة كالمراجعة والاستقراء والتحليل والحفر والمقارنة ... فإن قادتنا النتائج إلى حلّ إشكاليّة الجديد ، وإلاّ فلا ..

علينا إذن التعامل معياريّاً ، توازنيّاً ، وسطيّاً ، فلا نرفض مطلقاً ولا نقبل مطلقاً ، فمحاكاة الثوابت محاكاةً علميّة حاكمةٌ علينا ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا تبعيّة وتقليد والتقاط ذليل ، نعم عزٌّ وكرامةٌ وسموّ مبادئ فوق الاستفزاز والاستبداد والاستبعاد والنفي والتحريف والترويع.

ولا نستبق النتائج ، فنحن اُمّة تجنح حيث جنح البرهان واستقرّ الدليل ..

وحيث يلعب التطوّر الدلالي للّفظ دوراً حاسماً في توجيه البحث وحسم الحوار ، فإنّنا نرى اللفظ موّاجاً يتحرّك حيث يتحرّك المكان والزمان ، فالكثير من المفاهيم والمعاني التي كانت سائدة آنَ انطلاق الرسالة غير سائدة حالياً ، كما أنّ الموضوعات قد تغيّر وتطوّر الكثير منها ، وتعطّلت أحكامٌ بفعل غياب موضوعاتها ، وظهرت أحكامٌ اُخرى بفعل حدوث موضوعات جديدة ، بل وتطوّرت موضوعات تطوّراً لافتاً عظيماً عمّا كانت عليه في عهد الرسالة الأوّل ..

١٥٢

والدين الذي نعتقده متكيّفاً مع كلّ الظروف ، مجيباً عن سؤال الحياة ، ليس بإمكانه غضّ الطرف عن كلّ هذه التحوّلات والتطوّرات والتغيّرات ; ولاسيّما أنّه أعلن حضوره الدائم في مختلف صنوف الحياة حضوراً إلى قيام الساعة ..

نعم ، إنّنا لازلنا في معاناة إثر المناهج والأنساق والآليات الضعيفة التي خاضت مراحل الصراع تاريخيّاً ولاسيّما بعد عهد التأسيس وذاك الازدهار الذي لم يكن يخلو من إشكاليّات أساسيّة ..

وعلى ضوء ما قرّرناه فالوسطيّة المقصودة في النصّ هي ذلك التكليف الملقى على عاتق الاُمّة ، فلابدّ أن تمارس مسؤوليّاتها ووظائفها المنبعثة من العدل ، فهو بالأحرى انتخابٌ لرسالة ودين جاء مكمّلاً لكلّ الأديان والرسالات السماويّة السالفة ، وليس من المعقول أن يكون هذا الانتخاب انتخابَ عبث ولعب ، وإنّنا إن تخلّفنا أوتراجعنا وانحسرت كفاءتنا وقدرتنا في تحمّل المسؤوليّة إنّما بسبب ضعف الآليات والمناهج لا ضعف المحتوى ; فالسماء لم تخطئ أبداً في الانتخاب ، الانتخاب صحيح ، فلابدّ من تغيير كبير في أنساقنا وأدواتنا ، تغيير ينتشلنا من حيث نحن فيه إلى حيث لابدّ أن نكون ، إلى مستوى الجعل والتأسيس الوارد في النصّ ..

إنّ النظرة الفاحصة الشاملة والإشراف على كلّ المجريات وتسجيل كافّة الملاحظات والانبعاث من مبدأ الوسطيّة في التعامل مع الأحداث

١٥٣

والناس والأفكار ، الوسطيّة بما تعنيه من مفهوم عقائدي علمي معرفي ، يقود إلى ممارسات لا تخرج عن إطار وشعاع التكليف المناط والمسؤوليّة الملقاة على عاتق الاُمّة ، فكما لا جبن ولا تهوّر ، بل شجاعة ، ولا جربزة ولا بلاهة ، بل حكمة ، ولا غلوّ ولاتقصير ، بل اعتدال في الدين ، ولا إسراف ولا بخل ، بل جود .... فأيضاً لا رفض للجديد مطلقاً ولا قبول كذلك ، بل تعامل معياري منهجي نسلّم بالنتائج حيثما تكون ..

فهكذا وسطيّة شاملة هي المقصودة في النصّ ، «وسطيّة جوهريّة» لا وسطيّة قشور فاقدة القيم والمعايير العلميّة ; إذ الوسطيّة الجوهريّة قادرة على تحمّل المسؤوليّة وإدارة كفّة الاُمور ، ولاسيّما أنّها تراعي الفواصل والمسافات والقياسات ، وتنطلق بمنطلق أخلاقي قائم على العدل ..

إنّها حركة دائمة تجرف معها كلّ العناصر الباطلة الشاذّة ولا تُبقي إلاّ العناصر المتلائمة .. تبعثر وتحفر في العمق لتبلغ قراءات جديدة ومعاني حديثة ومفاهيم مبتكرة تحمل معها مقوّمات المناعة والتكيّف والانتشار والنمو ..

على ضوء ما تقرّر فليس التنافر المزعوم بين «الأصالة والمعاصرة» مرفوضاً وباطلاً فحسب ، بل إنّهما محكومان بالتمازج والتلاقح والانسجام ، وكيف يمكن تصوّر الأصالة بمعزل عن المتغيّرات فلا تحرّك ساكناً ، وأيّ ثوابت تلك التي تخشى التحوّلات وتهاب الولوج خوفاً ورهبةً؟!

١٥٤

ولسنا بصدد تصنيف الاُمّة ـ كرسالة ودين ـ إلى أنّها هل تسمو فوق كلّ الأديان والمذاهب والانتماءات ، أم أنّها لابدّ أن تخوض المعترك اُسوةً بالآخرين لتثبت الكفاءة والاقتدار ، على اختلاف القولين ..

إنّنا نرى في الاُمّة ـ بما تعنيه من أصالة وثوابت وقيم ومبادئ ـ الأهليّة الفائقة في التعامل مع الجديد ومعالجة الإشكاليّات التي تحوم حوله وتنبثق منه ، ونرى فيها ـ بعقلانيّتها ـ المبلور المناسب الذي يستقبل الجديد المتناغم ويلفظ الشاذّ المتنافر ..

نحن نفتقر الحميّة المعرفيّة والغيرة الفكريّة اللتين تعنيان : تشمير ساعد العلم والثقافة والعمل بالمعايير الصحيحة ; كي نسمو فوق النكوص والتراجع والتخلّف ، لا أن تكون المواجهة عاطفيّة فنبرّر التقاعس والسكون بحجّة الذود عن الثوابت والاُصول ; فإنّ التمترس خلف العناوين الكبيرة والموضوعات العريضة والارتماء بأحضان الادّعاءات التي تؤمن بالسكوت والسكون تمهيداً لمرحلة الظهور كما يزعم البعض ، جلبا علينا ويلات الذلّ والهزيمة والانحطاط والفساد ..

وكم هي الفاصلة بعيدة بين القيم والمبادئ وموازين العقل ، وبين التصوّر القائم على السكوت عن رواج الانحراف ـ بل حتى الإعانة عليه ـ بداعي إيجاد الشروط المناسبة والفضاء المطلوب لظهور الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، وهل هو ـ روحي فداه ـ رهن شروطنا أم رهن شروط سامية أملاها عليه الله تبارك وتعالى؟! وكيف لنا فهم ملاكات الأحكام وعللها ولاسيّما

١٥٥

موضوع الغيبة والظهور البالغ الأهمّيّة حيث يتوقّف عليه مصير الإنسانيّة طرّاً ، ونحن لازلنا وسنبقى لا نعرف علل الأحكام البسيطة وأسبابها؟!

كلّ البحوث والمطالعات والرؤى الدينيّة متّفقة على كون وجود الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين نعمة مباركة وخير للبشريّة ، والأئمّة عليهم السلام كانوا كلّهم معيناً من القيم والمبادئ النبيلة ومصدر عطاء ولطف ، ولا يستثنى الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف عن ذلك ، فهو قطب الخير والهداية أنّى كان ويكون ، حاضراً أم غائباً ، إنّه اللطف الإلهي المتجلّي ، وكيف بهكذا لطف أن يتناسب مع تلك الادّعاءات الرخيصة التي تأخذ بالاُمّة إلى مهاوي الرذيلة والضلال بحجّة التمهيد للظهور؟!

إنّ الامام عليه السلام نصّ السماء الناطق وبرهانه العلمي العملي ، النصّ الذي وهبته الإرادة الإلهيّة لنا لنكون على النهج الأقوم ، النصّ الذي لم يغفل لحظةً عن التأكيد على دور العقل ـ بتأمّله وتفكّره وتدبّره ـ في الهداية وخير البشريّة ، وهذا ما لا يتّفق قطعاً مع الدعوات الرامية إلى إمهال الفساد ليسري ـ بل الإعانة عليه ـ انطلاقاً من استنباطات وتأويلات ومعاني لا تتناغم مع حيويّة النصّ وحركته الدائمة ..

إنّ التكليف يحتّم علينا بذل غاية الجهد ، كلٌّ طبق ما يمتلك من قدرات وطاقات ومساحة نفوذ وتأثير ، لأ نّنا اُمّة وسط ، والاُمّة الوسط ـ بمعانيها المتقدّمة ـ لا يمكن لها أن تخذل الناس وتسلبهم فرص الخير والسعادة والهداية ، فهي بمثابة الأب الذي يرعى ولا يفرّط ، يسعى إلى

١٥٦

توفير الأمن والاستقرار للأبناء ، ولا يألُ جهداً على جادّة النموّ والازدهار ..

هكذا ينبغي أن نكون على ماقرّره النصّ وأمضاه العقل .... أمّا كيف ستؤول الاُمور وكيف سيكون التأريخ بعد الظهور فهذا خارج عن نطاق اختياراتنا وإمكانياتنا الذاتيّة ..

على أنّ النصّ قد أخبر عن نوعيّة النظام الذي سيحكم العالم (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (١) ..

وظاهر النصّ يحكي أنّ المنظومة التي ستدير سدّة الاُمور نهاية المطاف هي منظومة العدل والمبادئ ، منظومة الموازين ، وليست هي عمليّة تطييب خواطر كما قد يفهم من ذلك من باب التعويض وجبران ما فات ، إنّما هي وظيفة من وظائف الاُمّة الوسط التي تعيد الاُمور إلى نصابها الطبيعي طبق نظام المقاييس والمعايير السليمة ..

ولكنّ السؤال الذي قد يدور في بعض الأذهان في كيفيّة وواقعيّة تحوّل عناصر السلطة والمالكيّة ممّن هم اليوم سلاطين العالم وقادته إلى المستضعفين ، فإن كان البحث منظوراً إليه خارج نطاق الإعجاز الإلهي فلابدّ أن نستقرئ ونحلّل ظرف المستضعفين ومدى توفّر عناصر النهوض فيهم ليغيّروا المعادلات والموازين القائمة ..

إلاّ أنّ مؤن التغيير على أرض الواقع ليست سوى مؤشّرات مخيّبة

__________________

١ .. سورة القصص : ٥ ..

١٥٧

للآمال ، باستثناء بعض المحاولات الجادّة التي لم ترق بعدُ إلى مرحلة الريادة العالميّة فضلاً عن الاقليميّة .... رغم ذلك فهي تستحقّ عناء المطالعة والتامّل ..

نعم ، صرّح النصّ بكون الإرادة الإلهيّة ـ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ...) ـ هي التي تغيّر ميزان القوى لصالح المستضعفين ، ولكن بأيّة أدوات وآليات؟ فهذا ما لا يكشف النصّ تفاصيله على غرار نهجه في الإخبار عن المغيّبات والمستقبليّات إخباراً كلّيّاً ..

الدعم الإلهي القاطع في تغيير موازين القوى لصالح المستضعفين واضحٌ شفّاف .... لكنّ التساؤل بشأن كفاءة «المستضعفين» في إدارة كفّة الحياة والصراع يبقى تساؤلاً حيويّاً ، الأمر الذي يُرجع البحث إلى نقطة محوريّة مركزيّة ، قضيّة موضوعيّة اللفظ وتطوّره الدلالي ودوره الحاسم المصيري ، فأيّ «المستضعفين» حطّ عليهم رحال النصّ وبنى حكمه فيهم ، لا شكّ أنّهم ليسوا مستضعفي ذلك الزمان مفهوميّاً ، إنّهم مستضعفو هذا الزمان بمن فيهم اُمّتنا التي عانت ولا زالت تعاني انتكاسات وهزائم وتراجع واستبداد واستغلال واستضعاف وتحقير وإذلال لا يمكن السكوت عنها والقبول بها ، فهذه «الاُمّة الوسط» بفضل عدلها وموازينها ومبادئها والمسؤوليّة الملقاة على عاتقها يمكنها تبوّء الدور الحاسم ; لكنّ ذلك يستدعي جهوداً ومساعي للتغيير (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا

١٥٨

بِأَنفُسِهِمْ) (١) ، بما يتناسب مع الفطرة وحاجة الظرف ، وقبل كلّ ذلك : التزامٌ بالاُصول والثوابت وتعاملٌ مع الجديد معياريّاً ومنهجيّاً ، حينها يحقّ للاُمّة أن تطالب السماء بالوفاء بالوعد والمنّة المعهودة ، يحقّ للاُمّة أن تستجمع قواها الجسميّة والروحيّة وتهتف بالمنقذ المنتظر كي يظهر ويقودها حيث أرادت السماء ، فيغلق بظهوره ملفّ بحث «نهاية التاريخ» إلى الأبد ..

وليس بالضرورة أن تستجيب السماء لرغبة الاُمّة وطموحها فتقرّر الموقف نزولاً عند ذلك ، فهي لها ملاكاتها وضوابطها في تنفيذ الأحكام وإجراء القوانين ، والذي نريد قوله : إنّ الاُمّة المؤهّلة فكريّاً وعقائديّاً وأخلاقيّاً راجحة على الاُمّة المنتفية فيها هذه المواصفات ، رجحاناً يجعلها تمتلك داعياً قويّاً لتحمّل المسؤوليّة العالميّة ، لا ينقصها سوى قيادتها المغيّبة ; ومن هنا جاء مفهوم «الانتظار الإيجابي» مفعماً بحيويّة القيم والمبادئ والحركة الفكريّة والعلميّة الدؤوبة ، على خلاف «الانتظار السلبي» الذي يدعو إلى «التصحّر القيمي والمبادئي والفكري» بحجّة التمهيد للظهور ; فالأرض إن مُلئت بفعل المنحرفين والفسّاق ظلماً وجوراً فهذا لا يعني أبداً التخلّي عن مبادئ العدل والقسط ; إذ صراع الخير والشرّ عمليّة دائمة لم تتوقّف منذ البدء حتى قيام الساعة ..

ولا شكّ أنّ «الانتظار الإيجابي» ـ بفعل النشاط والفاعليّة المتميّز

__________________

١ .. سورة الرعد : ١١ ..

١٥٩

بهما ـ يتناغم طبيعيّاً مع «الجديد المقبول» ليكوّن نسيجاً متناسقاً من الأصالة والمعاصرة ..

وقد خاب ظنّ من يعتقدون أنّ الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف سيظهر ويعود بنا إلى آليات وأدوات الصدر الأوّل من الرسالة ، فإنّه ـ بحكم العقل وحيويّة النصّ وتطوّره الدلالي والخصائص العلميّة والمعرفيّة التي يمتاز بها أهل البيت (عليهم السلام) ـ سيرتقي ذروة التقنية والوسائل الحديثة للبلوغ بالقيم والمبادئ إلى حيث تشاء السماء وحيث هي المهمّة الملقاة على عاتقه عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، ولاسيّما أنّه اللطف وقطب الخير والبركة والرفاه والازدهار ; ومتى كان إمامٌ من أئمّة الهدى (عليهم السلام) غير ذلك حتى يكون الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف هكذا؟! إنّ «حرفة العاجز» تستدعي الاختباء خلق القشور والتشبّث بالمظاهر خوفاً من ولوج الجوهر الذي يعني مزيداً من الجهد والمراجعة والتحليل والمقارنة والاستقراء والاستنباط والحركة الدائمة المواكبة لتطوّر الآليات والأدوات ..

ولابدّ من الإشارة إلى ما يعانيه «النص الحديثي» عندنا من مشاكل تحتاج إلى حلول ومعالجات ، فغالبه لا يتعدّى دائرة الظنّ المعتبر ، أي بقي في دائرة الظنّ ولم نعالجه سوى بجابرات ـ فيها من الكلام الكثير ـ أخذت به إلى عنوان الإضافة «الظنّ المعتبر» ولمّا يبقى الظنّ ظنّاً لا يرقى إلى مرتبة اليقين فإنّنا نواجه مشكلة ، لا يمكن حلّها إلاّ بسلسلة خطوات تمشيطيّة وفلترة علميّة صحيحة ، وهذا ما يعني : «ثورة حديثيّة» وتنقية من موجودات قد نعدّ بعضها داخلة ضمن قائمة الثوابت ، وكسراً لحواجز

١٦٠