رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

عنده أن يذهب ويسلم على الوزير ، فدخل عليه وهو بطاق القميص الوسخ والمشلح الأسود وكوفية على رأسه وجزمة قديمة في رجله. فدخل على الوزير وسلم عليه على عادة البادية وقال : السلام عليك يا يوسف ، يا وزير السلطان ، عساك بخير ولعلك عدل ، ثم جلس بجانب الوزير من غير إذن ولا دعوة. فاغتاظ الوزير منه واحمرت عيناه لأن هذا شيء يخالف المراسيم العثمانية ، وعلى الخصوص أنه الصدر الأعظم ، عائد من مصر منصورا ، ويرى نفسه أكبر من سلطان اسلامبول ، فغضب وأمر القواصة (١) أن يأخذوا مهنا ويقتلوه. فقبضوا عليه وطلعوا به إلى خارج الديوان. أما مهنا ، فبسبب طرشته وعدم معرفته باللغة التركية ونظافة قلبه ، وبالنظر أيضا إلى عادات العرب أن يطعموا الضيف حال وصوله عندهم خوفا من أن يكون جائعا ، فإنه ظن أن الوزير أمر له بالغداء. فحين أخذوه إلى وسط السرايا ليقتلوه ، ترامى جميع الحاضرين ، من الأعيان ومن الصيارفة اليهود الذين شاهدوا ما جرى ، على أقدام الوزير وقالوا : يا سيدنا احذر عاقبة عملك ، فهذا يقال له مهنا الفاضل أمير عنزة ، هذا الذي يغفر (٢) الحج ويرد عنه غوايل العرب. ومن دون إذنه لا يمشي الحجاج. وفضلا عن ذلك إن قتلته لا تستطيع بعدئذ أن تخرج من دمشق بسبب شر العربان. فبردت همة الوزير وأمر حالا برده ، فعادوا به أمام الوزير ، فأجلسه إلى جانبه وأمر له بالقهوة فقال مهنا بباله : صحيح أن العثماني كلب بخيل ، كأنه ندم على الغداء فاستعاض عنه بفنجان قهوة ، لأن مهنا ، على الرغم ٢ / ٢٥ من كل هذه الضجة (٣) لم يفهم جلية الأمر. وبعد القهوة أمر الوزير له ببدلة / وحوائج من ملبوسه ، فأحضروا له قنبازا (٤) مقصبا عظيما وشال كشمير وفروة سمّور ، فألبسوه إياها. وأمر له الوزير بألف غرش فاحضروها حالا. وشرب قهوة مرة ثانية. وبعد ذلك صاح مهنا على العبيد الذين كانوا معه ، وكانوا ثلاثة ، فحضروا أمام الوزير ، فشلح القنباز وأعطاه لواحد منهم ، والشال للثاني والفروة للثالث. فتعجب الوزير منه وقال للترجمان : قل لمهنا كأنه ما قبل هديتي؟ قال مهنا : يا ترجمان قل لوزير السلطان أننا نحن العرب لا تغوينا الملابس الجميلة ولا نتكبر بالملبوس ، أنا ابن ملحم وأبي الأمير فاضل ، وإني معروف عند عشاير العربان سواء كنت لابسا هدوما (يعني ثيابا) زينات أم شينات (أي جميلة أم زريّة) ، مفهوم وكبير عليهم. فتعجب الوزير من كلامه وسرّ منه بالرغم عنه. وله حكايات كثيرة مثل هذه.

__________________

(١) يريد القوّاسة ، والمفرد قوّاس وهو الحاجب أو البواب ، بالمصطلح الحلبي.

(٢) يخفر أو يحفظ.

(٣) «الكركبة».

(٤) في الأصل : غنباز.

٨١

ثم نرجع إلى ما كنا بصدده : لم تزل العداوة والغارات على الحسنة ، قبيلة بيت ملحم ، حتى صارت كل العشائر خصومهم (١). فقضينا كل الصيف معهم بكل عذاب وخوف ووجل ، من محل إلى محل ، حتى ابتدأت العربان تشرّق ودخل فصل الخريف. وأخيرا بقينا معهم ، وكنا بقرب حلب ونحن مرادنا التوجه نحو دمشق والدخول إلى حلب ، هذه رغبة الشيخ إبراهيم. وظللنا نترقب الفرصة لنجد من يسير بنا إلى دمشق فصعب الأمر لأننا لا نستطيع الذهاب وحدنا ، أما عرب مهنا فلا يسعهم أن يتطرفوا خوفا من سائر القبائل ، واقتضى الأمر أن العرب أخذونا إلى ضيعة يقال لها السّخنة ، شرقي حلب يومين ، تحوي على نحو مئة بيت من الجمالين ، يصنعون القلو للصابون يحملونه إلى حلب ويبيعونه أيضا. بها حمام ماء ساخنة طبيعية ، ولهذا السبب سميت السخنة. وأما أهلها فخيرون كرماء ، يحبون الضيوف. فكانوا يتقاتلون علينا حتى يضيفونا عندهم ، كل واحد بدوره ، لأن ما بها شيء للبيع مما يخص الأكل والشرب ، نساؤها حسنات جدا ، وجميع لوازمها من حلب. فجلسنا بها نحو عشرين يوما حتى توفر لنا أناس ، بكراء وافر ، أخذونا إلى تدمر ، فسلمنا على الشيخ رجب وحكينا له عما جرى لنا عند العربان ، واستقمنا عنده ستة عشر يوما ، حتى توفق لنا من أخذنا إلى القريتين ، فدخلنا وسلمنا على الشيخ سليم وعلى الخوري موسى الذي ١ / ٢٦ كنا نازلين عنده وأبقينا رزقنا تحت يده. فسألنا الخوري / عن بضاعتنا وعن بيعنا ومكسبنا فقلنا له : بعنا والله الحمد وربحنا ما لا كنا نتأمل ، والحقيقة أننا فقدنا الرأسمال والمكسب ، وجميع ثمن الرزق الذي كان معنا راح بخاشيش وهدايا وكراء وبراطيل وديون للعرب ، وظللنا جالسين بالقرية ثلاثين يوما حتى توفق لنا أناس يأخذونا إلى ضيعة بعيدة عن القريتين ست عشرة ساعة ، يقال لها دير عطية ، على طريق دمشق (٢). ولكنهم لم يعطونا دواب وخافوا من العرب أن يشلحونا ويأخذوها منا في الطريق. فاضطر الشيخ إبراهيم أن يشتري له كديشا وركبت أنا على حمار ، وكان معنا أربعة أنفار ، بمئة غرش ، ليوصلنا إلى دير عطية. وفي ذلك الوقت كان دخل فصل الشتاء العظيم. وبالقرب من دمشق (٣) يقع برد شديد لا يوصف. فخرجنا من القريتين وأبقينا رزقنا عند الخوري. وكان النهار باردا ، مع هواء وثلج ورياح شمالية قاسية جدا. فمررنا في طريق يقال له بين الجبلين. وإذ نفذ علينا خيول العرب نحو عشرين خيالا. ومن شدة البرد والخوف رمى الذين معنا بنادقهم من أياديهم ، فوصلت إلينا الخيل

__________________

(١) «ضشمانهم».

(٢) في الأصل : الشام.

(٣) في الأصل : الشام.

٨٢

السوابق وشلحونا ، وشفقة بنا أبقوا لنا القميص والقنباز وأخذوا جميع ما معنا وذهبوا ، ولكنهم لم يأخذوا الحمار والكديش. فاشتد علينا البرد ، وعصف الريح القوي ، فازرقت أجسادنا واحمرت عيوننا وغابت حواسنا وقصرت السنتنا وجمدت دماؤنا وزاغ بصرنا ، وخصوصا أنا أشرفت على الهلاك قبل الجميع. فرأى الشيخ إبراهيم حالي وأني عدمت كليا ، فابتدأ يبكي ويشير بيده للذين معنا ليعملوا لي طريقة كي لا أموت. وصرنا جميعنا نتباكى ، ولا يفهم أحد من الآخر ، ويئسنا من الحياة وقطعنا أملنا منها بالكلية. ثم وقعت على الأرض مثل قطعة من الخشب وغبت تماما عن الوجود. فصار الشيخ إبراهيم يلطم على رأسه ويبكي ويعيّط وكأنه مربوط اللسان فيقول فقط : أي ، أي ، أي. وكان معنا شاب من جملة الأربعة يقال له موسى بن وردة ، نصراني ، سرياني ، صاحب نخوة ومرؤة زائدة ، فركض وسحب سكينا من على جنبه وأمسك بالكديش وأرماه على الأرض وشق بطنه من فوق إلى عند ذنبه وحملني بسرعة من الأرض ووضعني في بطن الكديش وابقى رأسي خارجا ، وأنا لا أعي على شيء ولا أعلم ٢ / ٥٦ (١) ماذا فعلوا بي. فبعد نصف ساعة وعيت على حالي ودبت الروح / في جسدي ، فأخرجوني وحملوني على الحمار وسرنا ، وبعد ساعتين وصلنا إلى الضيعة ونحن على آخر نفس. فدخلنا إلى بيت واحد بيطار نصراني يقال له حنا بيطار ، من النصارى الروم ، حيث كان معنا كتاب توصية له من الخوري موسى. فحين رآني في تلك الحال ، طمرني في كومة زبل ، وعمل النيران حولي ، وابتدأ يسقيني نبيذا ، وكذلك عمل مع الشيخ إبراهيم حتى دفئنا وسكن روعنا. فأخرجنا وأحضر لنا طعاما وأكلنا ودخّنا (٢) توتون ، وزال عنا كل مكروه ، ولكن يا له من يوم عظيم. ثم سافر رفقاؤنا في اليوم الثاني وتدينت من البيطار مئتي غرش وأعطيتهم أجرتهم مئة غرش ، وخمسين غرش بخشيشا إلى الثلاثة ، وخمسين غرشا بخشيشا أيضا إلى موسى ابن وردة لأنه هو الذي خلصني من الموت. فجلسنا في دير عطية أربعة أيام وتوجهنا إلى دمشق.

__________________

(١) اعتبارا من هذه الصفحة يبتدئ الكراس الرابع من الكتاب كما فصله الصائغ ، إذ وضع رقم ٤ في أعلى الصفحة.

(٢) «وشربنا».

٨٣

[من دمشق إلى حوران]

كان دخولنا إلى دمشق الشام في ٢٣ كانون الأول سنة ١٨١٠ نهار السبت. فنزلنا في بيت الخواجه شاباصون الطبيب (١) الفرنساوي. وبعد بضعة أيام ، تبين لنا أن إقامتنا في دمشق ستطول. فانتقلنا إلى دير اليسوعية ، وكان خاليا لا يسكنه أحد. وأخذنا خادما ليطبخ لنا من أهالي الشام ، وصرنا ننتظر خلوص فصل الشتاء حتى نسافر عند العرب مرة ثانية. وأما بخصوص مدينة دمشق فعظيمة ، منتزهاتها ومياهها كثيرة وبساتينها عظيمة ليس فيها من الأفرنج سوى الطبيب ، ودير اسبنيولية ، ودير كبوشيين. ودير اليسوعية خراب ما به أحد ، إسلامها أردياء ونصاراها (٢) أنجس ، وأحوالها معلومة فلا حاجة للشرح عنها.

وفي بعض الأيام إذ كنا ندور بالسوق ، إذ بواحد بدوي يأتي صوبنا ويسلم علينا بكل معرفة ومحبة ، فتعجبنا وقلنا له : من (٣) أنت يا وجه الخير. فقال سبحان الله كيف تنسوا أصحابكم بسرعة : أنا هلال الذي تخاويت معكم ، وأكلت خبزكم وملحكم بالمعرة ، ولي زمن وأنا أفتش عنكم ، فأين كنتم خلال كل هذه الغيبة؟ فلزم أن نأخذه سرا وذهبنا إلى الدير ، لأن الشيخ إبراهيم أمرني بذلك ، حيث قال : هذا نحتاج إليه حتى أستخبر منه عن بعض

__________________

(١) «الحكيم».

(٢) «نصارتها».

(٣) «مين».

٨٤

الأمور الضرورية لنا. وحين صار بالدير أطعمناه وسقيناه ، فانبسط وطابت نفسه. فسألناه أين أهلك؟ فقال : في حوران ، لأنني من عرب قبيلة يقال لها ولد علي. أميرنا يسمى دوخي ابن سمير (وهو الذي تقدم ذكره ، من أقرباء بيت ملحم). وفهمنا منه أن في ديرة حوران ١ / ٢٧ وبلاد الجليل أربع قبائل من العرب. / اسماؤها : ولد علي ، السّرحان ، بني صخر ، السّرديّة. فهذه القبائل الأربع لا تشرق بالشتاء ، مثل عرب غير قبائل ، لنحو المشرق ، بل وصولها إلى نحو الزرقا والبلقا. ومنها من يصل إلى الأمونية ، بلاد اسماعيل ، قرب البحر الميت ، وترتد إلى حوران ، قبل تغريب العربان على بلاد سورية ، مع أول الربيع. [وقال] : إذا كنتم تشتهون أن آخذكم بأول الربيع عندهم ، كي تبيعوا شيئا من رزقكم فيحصل لكم ربح. وأنا المسؤول عن كل شيء رديء يحصل لكم. فاعتمدنا على ذلك ، وتواعدنا أن نطلع معه في آذار لنبيع شيئا من رزقنا لهذه القبائل. وقال لي الشيخ إبراهيم : إن مرادي أن أرى هذه القبائل ، ولو حصل خسارة (١) وتعب. واعلم يا ولد أن مقصودي أن أدور على كامل قبائل العرب ، ولا تسألني لأي سبب ، فقلت : قوي مناسب ، الله يعطينا يد المعونة.

ثم استخبرنا من هلال عن أحوال العربان ، وأمور بيت ملحم ، ماذا يقول العرب عنهم. فأخبرنا بكل ما طلبنا منه. لأنه كان شيطانا خبيرا بالأمور ، عارفا جيدا [بأحوال العرب](٢). فأخبرنا أن كل العربان ضد بيت ملحم ، وأن كبرتهم لن تطول من أفعال ناصر المهنا. فسأله الشيخ إبراهيم عن الدريعي فأخبره عن كل ما سأله ، وعن أحوال المذكور وأطباعه ومشيته وعقله. فسرّ الشيخ إبراهيم وقال لي : يا ولدي أريد منك الوصول إليه ، واعمل كل ما تقدر عليه واستعمل كافة الوسائط لكي نصل إليه. فقلت له : يا سيدي أنت أخرجتني من حلب لأجل البيع والشراء ، والآن أراك (٣) تطلب مني أمورا صعبة التي لا تؤول إلى البيع والشراء. إن الوصول إلى الدريعي صعب على ما فهمت. فإن كان لأجل بيع بضاعتنا ، فإننا نبيعها لغير عربان ، ولا يلزم كل هذا التعب. فقال : ألم أشرط عليك أن تكون معي بطاعة عمياء ، من غير بحث ولا سؤال عما أريد. فانقهرت جدا من نفسي وقلت : ما هذه الوقعة مع هذا الرجل؟ الله يخلصنا منه على خير. ولكن قلت في بالي : «اصبر يا ولد

__________________

(١) في الأصل : خصارة.

(٢) زيادة من المحقق ليستقيم المعنى.

(٣) «وهلق أشوفك».

٨٥

حتى ترى آخر الحكاية ، طول البال جميل والعجلة غير مقبولة ، لقد وقعت (١) فاصبر على ٢ / ٢٧ مصيبتك / حتى الله يفرجها عليك.

فبعد ثمانية أيام سافر هلال من عندنا وأعطيناه بخشيشا. وصار الوعد أن يأتي بأول الربيع ليأخذنا عندهم. ثم كتب الشيخ إبراهيم مكتوبا وأرسله إلى حلب مع ساع خصوصي. وإذ بعد عشرين يوما حضر قفل حلب وأحضر لنا صرة دراهم ، تحت يد شاباصون ، داخلها خمسة آلاف غرش جميعها ربعيات. فقال : خذ من الدراهم (٢) بقدر ما تريد واشتر لنا بضاعة تصلح (٣) للعرب ، حتى نطلع نبيعها لأن حضور هلال بقي قريبا ، حيث كانت مضت الشتوية. فاشتريت بضاعة بنحو ثلاثة آلاف غرش تصلح للعرب من جميع الوجوه (٤) ، وبقينا بانتظار هلال. ثم قلت للشيخ إبراهيم : يا سيدي هل يا ترى هل سنعود بشيء من أصل هذه الثلاثة آلاف ثمن هذا الرزق. فضحك وقال : إن معرفة كل أمير من أمراء العرب تسوى عندي ثلاثة آلاف غرش هذا مكسبي وربحي ورأسمالي (٥). فقلت : أما أنا فلا أرى أين ربحي. فإذا كان ربحك أنت عشرة العرب ، على ما يظهر لي ، ومعرفتك بهم ، فما هو ربحي أنا من ذلك؟ قال : يكفيك تدبيري الذي سوف ترى ثمرته العظيمة إن شاء الله ، وتربح جاها ومالا (٦) واسما تفوق على كافة أبناء عصرك (٧). ولا أستطيع أن أصرّح لك بأكثر من ذلك فيكفي [ما قلته] ، وإنك ستعرف رويدا رويدا جميع [الأمور]. ولكن أريد منك ، قبل كل شيء ، أن ترخي لحيتك (٨) حتى تصبح مثل العرب ، ولا تبقى بهيئة تختلف عنهم. والحقيقة أن جميعهم بلحى ، ولا يمرون الموسى (٩) على وجوههم بل إنهم على العهد القديم الذي كان قبل ظهور سيدنا المسيح. ومن عدم امرار الموسى على ذقونهم ، ثلاثة أرباع العرب لحاهم كوساة ، مثل سحن اليهود.

__________________

(١) «صار ووقعة» (وقعت).

(٢) «مصريات».

(٣) «خرج العرب».

(٤) «ووجه كل شيء».

(٥) «رسمالي».

(٦) «وغرش».

(٧) عسرك.

(٨) «ذقنك».

(٩) «موس».

٨٦

فبعد قليل من الزمن إذ حضر هلال ومعه جمّالان وإثنان من البدو غيره ، حتى يحملونا عندهم. فلزم أن أجد حالا مكانا للجمال وأدخلت العرب الدير. فترحبنا بهم وعملنا لهم إكراما زائدا وأخبرونا أن أهلهم ، من قبيلة ولد علي ، نازلون على ماء المزيريب (١) وأنهم بعيدون عن دمشق (٢) نحو ثلاثة أيام. فبعد يومين دبرنا شغلنا وطلعنا من دمشق (٣) في ١٥ آذار ١٨١١ ، وكان صار لنا سنة وثمانية وعشرون يوما (٤) منذ مغادرتنا حلب. فذهبنا مع العرب ونمنا ليلتين بالبرية من غير مأوى ، وهو طريق معروف من دمشق إلى المزيريب (٥). وفي اليوم الثالث وصلنا عند العرب ، فوجدنا نزلا عظيما نحو ألف بيت ١ / ٢٨ بمواشي وخيل عظيمة ، فنزلنا في بيت / دوخي بن سمير. فعمل لنا إكراما زائدا وذبح لنا ذبيحة ، حيث كان صار بيننا معرفة ، من يوم الذي جاء إلى بيت مهنا ، لأجل مادة ناصر. وهو رجل عظيم عاقل مدبر يومى إليه ، محبوب من عربان قبيلته التي تعد نحو خمسة آلاف بيت ، وعليهم رؤوساء من أقربائهم ، وكذلك القبائل الثلاث الأخرى وهي بني صخر والسّرحان والسّرديّة ، فهم أحبابه ومعه في كل أمر يريده ، وطمعهم قليل ليس مثل قبيلة مهنا ، رزقهم كثير وخيلهم عظام مشهورة بالصيت (٦).

وفي الليلة التي وصلنا فيها كنا نتحدث بسيرة الخيل وحسنها ، فحكى لنا الأمير دوخي نكتة حدثت في قبيلته ، وكان هو وقتئذ ولدا ، فقال : إن واحدا من البدو يقال له جبل كان عنده فرس عظيمة جدا لها صيت زائع عند العرب والحضر : فسمع بها وزير الشام يقال له أسعد باشا من بيت العظم ، فأرسل طلبها من صاحبها بثمنها. فما رضي ببيعها لأن فرس البدوي أغلى عنده من امرأته وأولاده (٧). فأرسل هدده بالكلام فما صار فائدة. فعجز الوزير عن ذلك ومن بعد ما عمل كافة الوسائل ما حصل عليها ، والدعوى صارت مسموعة عند كل الناس. واغتم الوزير جدا لأنه لا يستطيع أخذها قهرا ، ولا يرضى البدوي أن يعطيها بثمنها بل أكثر. فجاء بدوي عند الوزير يقال له جعيفر وقال له : يا سيدي ماذا تعطيني إذا

__________________

(١) «المذاريب».

(٢) «الشام».

(٣) «الشام».

(٤) على الصحيح : سنة وخمسة وعشرون يوما ، لأن الصايغ غادر حلب بتاريخ ١٨ شباط ١٨١٠.

(٥) «المذاريب».

(٦) «بالسيط».

(٧) بالأصل : «فأرسل طلبها من صاحبها بحقها ، فما عطاها لأن البدوي فراسه عنده أغلا من مرته وأولاده».

٨٧

جئتك بالفرس؟ فقال أعطيك ملأ عليقها دراهم. وكان البدوي من عرب بني صخر. فراح ودخل عند عرب ولد علي ، وصار يدور [بين المنازل] ويميزها إلى أن وصل إلى بيت جبل ، صاحب الفرس المعروفة. فنظر وميز جيدا محل الفرس ، وعرف أين يربطها صاحبها خلال كل ليلة. ثم ذهب واختبأ في مغارة قريبة إلى أن انتصف الليل ، فجاء إلى بيت جبل ، فوجد الفرس أمام البيت ، وأرجلها مقيدة بالحديد ورأس الجنزير الغليظ ، قد أدخله جبل إلى وسط بيته حيث دق سكة وفرش فوقها فراشه ونام هو وامرأته عليها. فخلع جعيفر ثيابه وبقي عاريا حسب عوائد العرب ، لأن رجالهم ينامون عرايا تماما. ودخل بكل ظرافة بين جبل وامرأته. ٢ / ٢٨ فتارة يتمطى ويلزّ بالمرأة ، فتظن / أن زوجها في نومه [قد فعل ذلك] فتتزحزح له عن مكانها قليلا ، وتارة يلز بالرجل فيظن أنها امرأته فيتزحزح لها قليلا. ولم يزل على هذه الحال حتى عمل فاصلا بين المرأة والرجل بمقدار ذراع. وكان معه سكين حادة (١) فقوّر الفراش وخلع السكة من الأرض ووضعها (٢) على الأرض ، وقام بكل ظرافة من بينهما ، وطلع وسحب الجنزير والسكة إلى خارج البيت ، وخلّص قوائم الفرس ، ولبس ثيابه ، وأخذ رمح جبل ، وركب على الفرس ، ومدّ الرمح ولكز به جبلا ، ونبهه من نومه وقال : يا جبل ، لا تقل ما أنذرتني ، فها أنا جعيفر أخذت الفرس للوزير. فقام جبل مصروعا مثل المجنون ، ورمى الصوت في منازل ولد علي ، فركبت الخيل حالا وطارت خلفه. وكان بينها خيول عظام مشهورة ، ولكن ليس لها شهرة هذه الفرس إنما تقربها. وركب جبل فرس أخيه وهي أيضا عظيمة ، مشهورة. وصارت المطاردة فيما بينهم ، وظلوا على هذه الغارة ست ساعات. وكان أكثر الناس اقترابا من جعيفر أربعة خيالة ، وعلى الأخص جبل المذكور ، فإنه اقترب كثيرا ولم يبق لامساكه إلا القليل وفي ذلك الوقت صاح جبل : يا جعيفر : «انستر لجامها واقرص أذنها اليمين واعطبها بالركب ، تروح ولا تعود تلتحق». وهذا عند العرب يسمونه السرّ. فلكل فرس سرّ لقّنها أياه صاحبها وهو لا يقوله إلى أحد ، وذلك فقط في حين الحاجة الماسة. ففعل جعيفر حسب ما قال له جبل ، فطارت الفرس كأنها اللمع في كبد الجو ، وفي قليل من الوقت غاب جعيفر عن الخيل. فقال الخيالة الأربعة رفقاء جبل : ما هذا العمل يا جبل؟ فقال : أفضل أن تؤخذ فرسي ولا يقال أنه وجد بين خيول ولد علي من يلحقها ويعيدها ، فيكون ذلك عارا عظيما علي ، وإنه أحب إلي أن تذهب مني ولا يطلع عليها هذا الصيت ،

__________________

(١) «حادقة».

(٢) «ونيمها».

٨٨

فرجعوا. وأما جعيفر فإنه أخذها للوزير وحكى له ما فعل ، فأنعم عليه وأعطاه على حسب ما وعده وأكثر.

وحكى لنا أيضا أن بدويا ، من عرب نجد ، كان عنده فرس عظيمة مشهورة أكثر من فرس جبل الذي ذكرناه آنفا. فعشقها بدوي آخر من غير قبيلته وأرسل يشتريها ، فلم يرض صاحبها ببيعها. وعمل الآخر كل جهده للحصول عليها فلم يصل إلى نتيجة. فاضطر أن يذهب بنفسه إلى نجد ودخل بين العرب وترقب الفرصة ، وعلم أن صاحب الفرس سيمر من الطريق الفلاني. فراح صبغ حاله بالحشيش وربط رأسه وحزم رجليه وعصب رقبته وعمل ١ / ٢٩ نفسه / مريضا عدمان ، مشرفا على الموت وبحالة التلف. وراح ورمى نفسه على الطريق التي سيمر بها صاحب الفرس. وإذ حضر صاحب الفرس راكبا فرسه ومارا في الطريق ، فرأى هذا الرجل المسكين مرتميا ، وهو يعن ويتلوى على جانبه ويستجير ويصيح. فأتى نحوه صاحب الفرس وسأله عن حاله فقال له : يا صاحب الخيرات ، أنا رجل فقير وغريب ، وبي أوجاع كثيرة ومشرف على الموت. ولي يومان بهذه الأرض المنقطعة من غير أكل وشرب ، وقد عدمت بالكلية ، ولم يبق لي قوة على القيام من هنا ، فافعل معي خيرا والله يكافئك عني. فتوجع قلبه له ، ونزل من على ظهر فرسه ، وحمله بين يديه ، ووضعه على ظهر الفرس ، ومشى أمامه حتى يأخذه إلى بيته. فذلك الحين ، وقت صار على ظهر الفرس ، نهزها بالركب وطار بها. فصاح عليه صاحب الفرس : يا فلان قد فهمت ملعوبك ، ولكني أرجو منك أن لا تحكي هذه الحكاية لأحد لكي لا تصير سببا لقطع الخير ، إذ لا يبقى في الدنيا من يشفق على عاجز يحمله ، خوفا من حيلة مثل هذه ، فتكون سببا لعدم فعل الخير في العالم. فأصغى البدوي إلى هذا الكلام وارتدّ على أعقابه ، ونزل من على الفرس وسلمها له. فتصافحا كثيرا وصارا أخوين وذهبا سوية إلى بيت صاحب الفرس ، حيث بقي البدوي في ضيافته ثلاثة أيام ، ثم رجع إلى عند أهله.

فهتان الحكايتان اظهرتا لنا مروءة العرب ونخوتهم. وقد سرّ الشيخ إبراهيم جدا تلك الليلة. وقال لي عند النوم : يا ولدي ، إنني لا أريد شيئا من هذه القبائل ، سكان حوران وبلاد الجليل ، إنما أود فقط أن تتمرن على عشرة العرب وتتقوى بلغتهم لأن كلامهم يختلف كثيرا عن كلام أهل المدن ، والذي لم يعاشرهم لا يمكنه أن يفهم منهم شيئا ما. فلا تتعب نفسك

٨٩

كثيرا ، إنما مرادي فقط أن تعرفهم وتعرف عددهم وأسماء أمرائهم على وجه الاختصار (١) ، لأن ليس لي حاجة معهم ، وسنقضي بعض الأيام عندهم وبعدها نتوجه عند الأمير الدريعي ، وهناك إن شاء الله سنبيع ونشتري ونجمع المكاسب التي أنا قاصدها ، فقلت : الله يربحنا.

وثاني يوم فتحنا رزقنا وبعنا جانبا منه ، وقدمنا الهدايا إلى دوخي وأكابر العربان ، ٢ / ٢٩ واستقمنا عنده خمسة عشر يوما. وبعدها / توجهنا مع هلال واثنين آخرين من البدو إلى قبيلة سرحان ، وكان مسيرنا عشر ساعات لجهة الغرب. ثم وصلنا إلى النزل وكان مقداره نحو مئتي بيت فقط. فنزلنا في بيت شيخهم الذي يقال له إدغيم بن علي وهو زوج بنت دوخي ، وقبيلته تحوي على ألف ومئتي بيت ، ولكنهم كانوا مقسومين بسبب الأرض النازلين بها فليس فيها من الماء ما يكفيهم جميعا. واسم المحل الذي كانوا به المريحات ، ماؤه نبع قليل ممتد من القبلة إلى الشمال.

والسبب أن اسمهم سرحان أنه كان لهم جد قديم ، وكان له بنت جميلة جدا ، فأرسل أمير من أمراء العرب الذين سبقوا بني فزارة ـ لأن الظن أن أصلهم من بني فزارة ، على أيام عنتر ـ وأحضره عنده لأنه كان يريد أن يتزوج ابنته. ولكن الشيخ ما رضي أن يعطيها ، وقام من المجلس من غير سلام وذهب. فسأل الأمير عنه فقالوا أنه سرح يعني راح. فانزعج خاطره منه وسماه السرحان. وبقي هذا الاسم منحصرا به ، وقسم العربان وتبعه قسم منهم ، وعرفوا بعرب السّرحان إلى يومنا هذا.

وأما الشيخ إدغيم فهو رجل حسن المنظر والسلوك ، إلا أنه طماع ، لأنه طمع بنا وأخذ مننا بمقدار مئتي غرش رزقا من غير حق وأكلها علينا (٢). وعلى ما فهمنا أنهم ليسوا رجال حرب مثل غيرهم من العربان ، وهم وجلون نوعا ما. فاستقمنا عندهم ثمانية أيام ثم قمنا توجهنا إلى عند عرب السّردية مع هلال وواحد من البدو من عرب السرحان. وكان مسيرنا بجد خلال ثماني عشرة ساعة ، مرحلة (٣) واحدة ، لجهة القبلة. فوصلنا نصف الليل عندهم إلى بيت شيخهم الذي يقال له فدغم ابن اسراج. وكانوا نازلين في أرض يقال لها الصالحة. وهي قبيلة تحوي على ألف وثمان مئة بيت. إلا أنهم كانوا نحو خمس مئة بيت فقط.

__________________

(١) «الاقتصار».

(٢) ابتلع ثمنها.

(٣) بالأصل : «قناق».

٩٠

وأما باقي البيوت فكانت في غير أمكنة. وهذه هي عادتهم حتى لا يزاحم بعضهم بعضا على الماء والمرعى ، لأن البرية (١) واسعة ، فتنقسم القبيلة إلى قسمين أو ثلاثة فيكون الماء والمرعى عندهم بكثرة. فأهدينا لشيخهم وكبرائهم بنحو خمس مئة غرش من ألبسة ودراهم ، لأن ١ / ٣٠ الشيخ إبراهيم كان مسرورا كثيرا منهم إذ كانوا عشورين جدا / ويحبون الضيف. وفي ذات يوم إذ كنا ندور بين العربان ، مررنا على بيت أرملة عجوز ، فركضت وسحبتنا إلى بيتها وذبحت لنا رأس غنم ، ولم يكن عندها غيره ، واستجدت (٢) خبزا من عند قصرانها (٣) (يعني جيرانها) ووضعته أمامنا. فقلنا لها يا أمنا العجوز لأي سبب هذه الخسارة؟ قالت من زار إنسانا ولم يضفه فكأنه زار ميتا. فسرّ الشيخ إبراهيم من كلامها وقال لها : يا أمي العجوز : ما لك أحد؟ قالت : ما لي غير الله ، لأني غريبة ولست من هذه القبيلة ، أصلي من عرب بغداد من قبيلة يقال لها () (٤) وأميرها اليوم () (٥). وكان خطفني زوجي منها وأحضرني إلى هذه الديرة. وكان لي أولاد ورجال ، منهم من مات موتا طبيعيا ومنهم من قتل في حرب الوهابي. لأن في ذلك الوقت كان الوهابي مقتدرا ويقاتل العرب الذين يرفضون طاعته ولا يعطونه الزكاة أي العشر (٦).

ثم رجعنا إلى بيت فدغم ابن اسراج. وكانت إقامتنا عنده سبعة أيام. وتوجهنا إلى عرب قبيلة بني صخر مع هلال واثنين آخرين من عرب السردية. وكان سيرنا إلى الشمال للغرب ، كل ذلك النهار إلى المساء. فوصلنا إلى نزل عرب صغير نحو عشرين بيتا من عرب السردية. فبتنا تلك الليلة عندهم. وثاني يوم مشينا على طريقنا الأول ، وقبل غياب الشمس وصلنا إلى النزل ، وكان نحو ألف وخمس مئة بيت ، في أرض عظيمة يقال لها الرّبرابية. فدخلنا إلى بيت أميرهم الذي يقال له سلامة ابن نجر. وتحوي قبيلته على ألفين وسبع مئة بيت : رجال مشهورة ، خيل عظام ، أغنياء أكثر من السرحان والسردية. وأما أميرهم سلامة فرجل كريم ولكنه خفيف العقل. كل من جاء عنده يظن أنه جاسوس يريد أن يقطع رأسه. وكل

__________________

(١) «الجول».

(٢) «وشحذة».

(٣) القصير ، بالمصطلح البدوي ، هو من يلتجئ إلى عشيرة غير عشيرته ويعيش بين أهلها.

(٤) كلمة غير مقروءة ، وكتب الصائغ في الهامش : خنكار.

(٥) «الدريعي ابن شعلان» ، ولكن الصائغ خط على هذا الاسم بالحبر الأسود.

(٦) «من العشرة واحد».

٩١

ليلة عند النوم يضع أناسا تحرسه كل الليل. له ولدان شباب ووالدته وأخ أصغر منه. فتحدثنا معهم بخصوصه وما السبب حتى اعتراه هذا الداء. فأخبرونا أنه حين كان ولدا ابن عشر سنين وقع في جب ماء فاختل عقله. وكلما تقدم بالعمر تزداد علته وكذلك كلما زاره ٢ / ٣٠ أحد [يعاوده هذا الوسواس]. / ومن جديد الان ، منذ نحو شهرين ، كلما جاء أحد عنده يظن أنه يريد أن يقطع رأسه ، حتى يأخذه إلى ابن سعود ، أعني الوهابي ، مع أن قبيلتنا (١) فقط محبوبة عند الوهابي ، ونحن نعدّ من أتباعه (٢) ، ونعطيه كل سنة عشر المال حتى نخلص من شره. ولا يوجد في قبائل حوران وبلاد الجليل وكامل عربستان (٣) من هو راض بالوهابي مثلنا ومحبوب عنده.

فابتدأنا نتكلم معه (٤) ونآنسه بالكلام ، وهو يرد علينا بالصواب ويتكلم معنا بكل رقة وظرافة. وأمه من طائفة قديمة ، وآباؤه وأجداده أمراء سابقا يأخذون صرة من الحج ، كل سنة عشرة أكياس. وله أخوة على قرى الشام وحوران إلى حد البحر الميت. ويأخذ هو أيضا مثلما يأخذ دوخي ابن سمير أمير ولد علي.

ثم فتحنا بضائعنا وبعنا وتعرفنا بكثير منهم ، واستقمنا عندهم أحد عشر يوما. وكان العربان قد غرّبوا وامتلأت الأرض منهم ، فاقتضى أن نذهب إلى دمشق (٥) ، حتى نأخذ باقي حوائجنا ودراهمنا ، لأن الذي كان معنا رجع منه شيء قليل جدا. وما بقي بددته النفقات والكراء والبخاشيش.

__________________

(١) الضمير يعود إلى ولديّ الأمير وأخيه.

(٢) في الأصل : «ونحن محسوبين على كيسه».

(٣) «عرب بستان».

(٤) أي مع الأمير سلامة.

(٥) الشام.

٩٢

[من دمشق إلى الجزيرة]

وطلبنا من هلال أن يذهب معنا إلى الشام ففعل. وثاني يوم من وصولنا ، أتانا هلال بخبر سمعه من بعض العربان الذين التقى بهم في السوق ، أن الدريعي تقرب نحو الغرب وهو الآن نازل بقرب زيتا (١) بالجزيرة ، وأن ابن الدريعي وهو شاب يقال له سحن غزا عرب الحسنة ، أي قبيلة مهنا ، وكسب منها غنائم وافرة ، وكان مهنا نازلا بقرب القريتين. فسرّني هذا الخبر جدا لأنه الشيخ إبراهيم كان طلب مني الوصول عند الدريعي كما تقدم الشرح. فقلت يا هلال هل بوسعك أن تأخذنا عند الدريعي؟ فقال : يا سيدي كان ذلك غاية مرادي إلا أننا محسوبون نحن ومهنا بالحال الواحد ، وأنا لا أعرف أحدا من الرّولا (٢) عرب الدريعي ، وأخاف أن نلتقي بواحد منهم فينهبنا فتكون القضية خسارة لكم ويبقى العتب والعار عليّ. فقلت وكيف العمل؟ قال اصبر إلى غد حتى أدور بالشام ، لأرى ما فيها من العرب المعروفين وكيف يدبرها الله. ولما كان الغد ذهب هلال ودار بالبلد ورجع قرب غياب الشمس إلى عندنا ومعه واحد من البدو. فسلّم علينا وترحبنا به. وسألنا هلالا من هذا الرجل؟ فقال : ١ / ٣١ هذا الذي / يقدر أن يأخذكم عند الدريعي ، لأنه ليس من عرب عنزة (٣) بل من عرب بني

__________________

(١) «ذيتا» وأحيانا «ذيته».

(٢) كذا ، والصواب الرّولة أو الروالة (انظر : أحمد وصفي زكريا ، عشائر الشام ، ج ٢ ، ص ٢٣ ، دمشق ، ١٩٤٧).

(٣) الرولة والحسنة هم أيضا من العنزة.

٩٣

سعيد ، أميرهم يسمى فحل الخليل ، وإقامتهم بالزور ، شرقي حلب نحو ثلاثة أيام على ضفة (١) الفرات ، وهم عرب أيضا ولكنهم لا يرحلون إلا مراحل صغيرة ، ويشربون دائما من ماء نهر الفرات. وهم اليوم صحبة مع الدريعي ومهنا وكل العربان ، لا يعترض لهم أحد بالطريق ولا يأخذ منهم شيئا. ففرحنا بذلك وسلمنا عليه مرة ثانية ، حسب عوايد العرب ، وسألناه عن اسمه فقال : جاسم الحمد. فقلنا له : أتقدر يا جاسم أن تأخذنا؟ قال : نعم ، إن شاء الله آخذكم سالمين غانمين إلى بيت الدريعي ابن شعلان ، ومعي ربع (يعني رفقاء) يحملونكم ، لأن معنا جمالا جلبنا عليها سمنا وبعناه بالشام. فاطمأن فكرنا بالأكثر إذ معهم جمال ودراهم ثمن السمن ، وهم أصحاب تجارة. فربطنا معهم رباطا متينا ، وتم الاعتماد على أن نتوجه بعد ثلاثة أيام على باب الله الكريم. فدبرنا أمورنا وأخذنا لوازمنا ونمنا في الليلة الثالثة عندهم بالخان ، ومشينا مع الصبح. فركب كل واحد منا حمارا ، وسرنا على الطريق الذي جئنا منه للشام ، حيث أن مرادنا أن ندخل (٢) القريتين ونأخذ الرزق الذي تركناه أمانة عند الخوري موسى. فوصلنا بالسلامة إلى القريتين ، وبكل راحة ، من غير أن يحصل لنا كدر بنوع من الأنواع. وكنا فرحين جدا بهذا التوفيق. ولكن ثاني يوم من وصولنا جاءنا خبر أن الدريعي (رد النقا) على بني سعيد ، أي عرب جاسم الذي نحن معه ، ومعنى ذلك أنه أشهر الحرب عليهم وعاداهم. فحين بلغ هذا الخبر جاسما ورفقاءه رجت قلوبهم ، وخافوا جدا على أرواحهم وجمالهم ورزقهم ، وحالا قرّروا على الذهاب إلى صدد ، ومن هناك إلى حمص وحلب ثم إلى الزور عند أهلهم ، متبعين الطريق الذاهب من حلب لأنه أكثر أمانا لهم. فغمنا جدا هذا الخبر وصعب الأمر علينا ولم يبق لنا رأي نعتمد عليه. وسافر رفقاؤنا في اليوم الثاني ، وبقينا نحن في القريتين ، لا نعرف ما ذا نفعل ، إذ لا نجد لنا باب فرج يوصلنا إلى مطلوبنا. فاسودت الدنيا بعين الشيخ إبراهيم وفقد شهية الطعام. وداق علينا الحال جدا ، وابتدأت الأخبار تتوارد علينا ، وعلمنا منها أن العربان انقسمت إلى قسمين : أناس مع مهنا وأناس مع الدريعي ، وابتدأت الغارات بينهم والمعارك والركض على بعضهم ، وبلغنا أن الدريعي أغار على ٢ / ٣١ بني سعيد وأخذ منها / مكاسب جزيلة.

ولم نزل جالسين في القرية أثني عشر يوما حتى كادت تخرج أرواحنا من كدرنا وعدم

__________________

(١) في المخطوطة : جفت.

(٢) «نفوت على القريتين».

٩٤

توفيقنا. فقال لي الشيخ إبراهيم : يا ولدي ضاع عقلك ومعرفتك ، اما كنت وعدتني بالوصول عند الدريعي؟ قلت : نعم ، ولكن ما كنت أتوقع ما حدث من الأمور. وأما من خصوص الذهاب عند الدريعي ، فيظهر لي أن هذا الأمر عسير جدا. فإن كنت ترغب في الوصول إليه لأجل البيع والشراء ، فإني لا أرى ضرورة ذلك. وأنا الذي أحب المتجر أكثر منك صغر في عيني. ولكن إذا كان مرادك الوصول إليه لأجل غايات أخرى ، فعرفني بها حتى أعمل حسابي. قال : اعلم يا ولدي أن سفري هذا مقسوم إلى عشر نقاط مرتبة من حين خروجي من باريس (١) : أولا الوصول من باريس (٢) إلى حلب بالسلامة ، ثانيا الحصول على إنسان موافق لأوامري ومطيع لأقوالي مثلك ، ثالثا تعلمي اللغة العربية وتقويتي بها ، رابعا الوصول إلى تدمر ، خامسا الدخول عند العرب بطريقة مناسبة تغطي أهدافي ، سادسا كشف أحوال العربان وأمورهم ومعرفة كبارهم واكتساب صحبتهم ، سابعا رمي الاتحاد والوفق والمحبة بينهم حتى يكونوا جميعهم برأي وعمل وقول ويد واحدة ، ثامنا ابعادهم عن محبة العثماني وعشرته ، تاسعا معرفة كافة الصحاري ومياهها ومنازلها والمسالك الملائمة إلى حدود الهند ، عاشرا الرجوع بالسلامة إلى بلاد سورية. فقلت : وبعده يا سيدي ، ما ذا يكون الهدف من ذلك؟ فقال : أنسيت الشروط؟ لا تسألني عن شيء بل أنا من نفسي رويدا رويدا أعرفك إذا اقتضى الأمر ، فإلى الآن يكفي الذي قلته ، فدبر حالك واعلم أن لا بدّ من الوصول عند الدريعي ولو متنا.

فتلك الليلة حرم النوم على عيني من شدة الأفكار ، وما كنت أستطيع أن أجد طريقة لتنفيذ ذلك. ومن بعد أن استعرضنا اراء كثيرة ، تحسن عندي أن أذهب منفردا عند الدريعي ، وأدبر فيما بعد طريقة لاحضاره عندي ، لأن ذهابي منفردا أسهل ، بسبب طلاقة لساني الطبيعية باللغة العربية ، فمن الممكن أن أدخل (٣) [البادية] من غير أن يعرفني أحد ، لأني أثناء ذلك كنت تقويت باللهجة البدوية ، وصرت أتكلم معهم كأني واحد منهم. وذلك من جرّاء دورتنا عند عرب حوران وبلاد الجليل ، وقد نفعتني تلك الرحلة الصغيرة جدا.

فقمت يوما وتوجهت عند صاحبنا موسى بن ورده الذي كان طمرني في بطن ١ / ٣٢ الكديش ، وأعلمته مرادي سرا فقال : أمهلني اليوم وغدا أعطيك الجواب. / ولما كان الغد

__________________

(١) باريز.

(٢) باريز.

(٣) «أفوت».

٩٥

توجهت عنده وقلت له : ما ذا دبّرت يا عزيزي؟ قال : الله يدبّر كل أمر عسير ، اعلم يا أخي أنه لا يوجد عندي إلا تدبير واحد ، وإن شاء الله يكون خيرا ، وهو أني أعرف رجلا خبيرا قديرا من المسلمين ، وهو طوع إشارتي ، عارفا بالطرق ، فهيما بلغة العرب ، مجربا بالقتال ، شجاعا ، فرأيت أنه من المستحسن أن أكلمه ليأخذك إلى عند الدريعي ، فتذهبان سوية على الأقدام ، يسري بك ليلا ويكمن بالنهار ، فراح ودعاه إلى بيته ، وتوجهنا معه وتكلمنا بهذا الموضوع. فقال : قوي مناسب ، ولكن هل بوسعك المشي؟ لأن الدريعي في زيتا (١) ، ومن هنا إلى منازله نحو عشرة أيام ، كيف تستطيع أن تمشي على مشيتي مدة عشرة أيام؟ إنك ستموت في الدرب قبل وصولك ، وأخيرا سأطالب بك؟ فقلت له : لا تخف ، لا يطالبك أحد بدمي ، ولست ملزوما بي ، وإني قادر على المشي ، فما هي الأجرة التي تطلبها حتى أعطيكها. قال : خمس مئة غرش. ومن بعد جدال تم الاتفاق على مئتي غرش وعباءة ، وتدفع إليه هذه الأجرة متى سلم مكتوبا مني إلى موسى بأني وصلت عند الدريعي بالسلامة. وتم القول وأعطينا كلاما إلى بعضنا. ثم قلت إلى موسى : يا أخي أخشى أن يكون هذا الرجل مثل حسيسون الكعب الذي كان يريد أن يرينا خابية الذهب. قال : لا ، فهذا رجل معروف ، وثانيا يجب ألا يكون معك شيء يطمع به ، فيجب أن تكون حوائجك زرية جدا ، وكل ما معك لا تبلغ قيمته عشرة غروش. وبهذه الطريقة لا يطمع بك أحد لا هو ولا غيره.

فعدت إلى البيت وأعلمت الشيخ إبراهيم بما فعلته. فخاف علي جدا من ذلك وقال : يا ولدي ، ما أظن أن هذا الرأي مناسب ، إذ يخشى عليك من الموت إما من التعب ، إما من الوحوش ، إما من أحد من العرب يقتلك. فقلت : إن الإنسان الذي معي شجاع قوي لا يبالي بعشرين رجل ولا يخاف من سطوة الأسد ، مشهور بالرجولية ، وثانيا إن العرب لا تقتل من لا يكون لهم عدوا ، بل تكتفي بالسلب ، وحوائجي زرية جدا. ولهذا السبب لا أخاف من شيء بعون الله ، وإن شاء الله إني أتم مطلوبك وأصل عند الدريعي سالما وأرسل ٢ / ٣٢ إليك مكتوبا وقت وصولي / عنده سالما. فابتدأ يدعو لي ويبكي ويقول هذه الكلمات : الله يعطيك يد المعونة ، الله يرافقك ، وسلطان الخيرات يحرسك ، ويعمي عنك عيون الظالمين ، ويسهل طريقك ويردك إلى سالما ، ويتم مقصودي بوجودك ، ولا يحرمني من حياتك ، ولا يريني الردي فيك. ثم قيدنا بالدفتر كل ما يجب تقييده ، ورتبنا كل أمورنا حيث لا بدّ من فراقنا ،

__________________

(١) منزل على الفرات ، لم يعد له وجود ، على ما أخبرني الأستاذ العزيزي.

٩٦

وتواعدنا أن لا يغادر القريتين إلى أن أرسل وأحضره عندي على أهون طريقة ، وطال بنا الحديث إلى أن قارب منتصف الليل.

طلبنا النوم لنستريح من تعب الدنيا ، فأخذني عندئذ القلق وتراكمت علي الأفكار من مليح وقبيح حتى كاد يبزغ الفجر. فغفلت عندئذ ورأيت في منامي أني على رأس جبل عال سليخ (١) ، ليس به شجرة ولا عرق أخضر. وبأسفل الجبل يمر نهر عظيم يخطف الطير ، فارتعت من ذلك ونمت على رأس ذلك الجبل ، ورأيت شجرة تخرج من فمي وتعلو وتكبر حتى شقت أحناكي من الجانبين وصارت مثل القبة الخضراء. وابتدأت أشعر بألم في فمي وقلبي ، وأحسّ بأن شروشها تخرج من قلبي ، فصرت أئنّ وأصرخ في نومي من شدة الوهم والألم العظيم ، حتى فاق الشيخ إبراهيم ، فأسرع نحوي لأنه عرف أنني في اضغاث الأحلام ، فهزّني حالا إلى أن صحوت ، فنهضت من نومي مثل المجنون أبكي من الرعب (٢) ، وأشعر بألم بفمي وقلبي. فقصصت منامي على المذكور ، فتعجب من ذلك وقال : هذا حلم عظيم ، وله تفسير جيد وأن حاجتنا بإذن الله منقضية ، ولكن بشيء من الخطر والتعب.

وفي اليوم الثاني ، أحضرت مصطفى الجمّال ـ وهذا هو اسم الشخص الذي سيرافقني ـ وحضر معه موسى الوردي عند الشيخ إبراهيم ، وأتممنا الرباط وتم قرارنا على الذهاب مساء مع غياب الشمس. فأحضر لي موسى ألبسة للطريق وهي ألبسة عظيمة : أولا قميص خام وسخ / مقطع ، قنباز (٣) كان أصله قطنيا ما بقي منه غير الرسم ، كوفية عليها الدهن ويشتم منها رائحة الخمامة من بعيد ، خرقة في الأصل بيضاء ولكن مزفتة وسخة شنيعة لففتها على رأسي ، فروة غنم قديمة منهوشة من أطرافها ليس بها موضع سليم ، ولو بقدر كف وهي ملآنة قملا ، بقدمي حذاء وزنه نحو رطل حلبي قديم ، زناري سير جلد يساوي درهمين (٤) ، وقداحة ، وفي جيبي قليل من التوتون وقصبة طولها شبران من غير طقم. ثم كحلت عيوني بسواد الطنجرة ، وكانت لحيتي قد نمت وصار طولها نحو ثلاثة أصابع. وبهذه الهيئة طلعت أمام الشيخ إبراهيم. فصار يبكي ويضحك في آن واحد ، وقال : إن كنت

__________________

(١) كذا والمعنى غير واضح ، ولعله يريد : قفر.

(٢) «بكيان مرعوب».

(٣) «غنباز».

(٤) «مصريتين». ولا شك في أن الصايغ يميل إلى المبالغة على حسب عادته.

٩٧

تذهب معي إلى باريس (١) بهذه الهيئة تستطيع أن تكسب مليون غرش من الناس ، لكي يروك بهذا الزي.

ثم جلسنا وتناولنا طعام العشاء ، وودعنا بعضنا وشيعني إلى خارج القرية هو وموسى الوردي ، ثم رجعا. ونحن توكلنا على الله ومشينا قبل غياب الشمس من القريتين ولم نزل نجد بالسير إلى نحو نصف الليل. فابتدأت أرجلي تؤلمني من الحذاء القديم لا سيما وأني كنت بغير جوارب ، فتسلّخت أقدامي منه وتنفّطت (٢). فقلت لرفيقي مصطفى أني سأخلع الحذاء من قدمي وأمشي حافيا. فقال : يا أخي هذا ليل وشوك وصوان ، وإنك ستعطل رجليك إن خلعت الحذاء. فصرت أجر نفسي جرا ، وتارة أخلع الحذاء وأحمله وأمشي قليلا فتمتلئ أقدامي شوكا ، وتارة ألبسه فيشتد ألم أقدامي فأخلعه من جديد. ولم أزل بهذا العذاب الشديد إلى أن طلع الفجر. فأدخلني مصطفى إلى مغارة صغيرة ، في كهف جبل ، لنقيم فيها ذلك النهار ونعود إلى المشي مساء. فدخلت المغارة ورميت نفسي على الأرض من شدة تعبي وألمي الشديد ، وصرت أقطع من قنبازي وأمسح الأدمية من رجليّ وأربطها وأخرج المياه منها ، لأنها صارت مثل العنب ، وحالا من غير أكل ولا شرب نمت مثل الميت إلى المساء ، ورأيت منامات ٢ / ٣٢ شنيعة جدا من شدة تعبي وهمومي واحتراق دمي / فما شعرت إلا ومصطفى يوقظني ويقول : قم يا أخي قد غابت الشمس ، فاجلس وكل لقمة وصحي رأسك ، لأننا سنتوكل على الله ونمشي. فارتاع (٣) قلبي من هذا الكلام ونظرت إلى رجلي فرأيتها ورمت وزاد وجعها ، فقلت له : يا حبيبي مصطفى دعنا نقضي هذا اليوم في هذه المغارة ، لعل تشفى أقدامي وأستطيع المشي فقال : ألم أقل لك أنك لا تستطيع المشي وأنك تموت تعبا. وإني كنت عارفا بما سيحدث لعلمي أولا أنك رقيق الجسم وثانيا أنك لم تعتد على المشي كراجل. فنصحتك فلم تقبل نصيحتي. والآن إذا قضينا هذه الليلة هنا علينا أن نبقى أيضا كل النهار إذ لا نستطيع السير في النهار فيطول بنا السفر ويخلص زادنا ونهفى من الجوع. والرأي عندي إما نرجع إلى القريتين ، أو نتوكل على الله ونمشي رويدا رويدا إلى نحو نصف الليل ، ونكمن في مكان. فسلمنا إرادتنا لله تعالى ومشينا ، وأنا من غير شيء برجليّ ، غير أني لففتهما بالشراطيط إلى أن ناصف الليل. ولم يبق لي طاقة. فقعدنا في سهل رمل وبه «قلابات صغار

__________________

(١) «باريز».

(٢) «بقبقت».

(٣) تسكّر.

٩٨

لا يدروا إنسان» (١) ، إلى أن طلع الضوء ، وإذا من بعيد ، على مسافة ربع ساعة ، جمالان يرعيان على رأس تل. فخاف مصطفى جدا وقال لي : لا شك أنها هجن غزاة غرباء ، وإن ظفروا بنا فإنهم ينهبوننا وننقطع في هذه الأرض ونموت من الجوع. فالرأي عندي أن نطمر أنفسنا بالرمل إلى أن يذهبوا. فقلت أفعل ما هو أنسب. فحالا حفر الرمل وطمرني إلى رقبتي ، ثم ابتعد عني قليلا وطمر أيضا نفسه. والجمال كانت تغيب وتعود وتختفي وراء التل ، ثم تعود ترعى إلا أن عددها كان دائما اثنين ، لا يزيد ولا ينقص ، إلى أن صار نصف النهار ، وإذا بمصطفى راكض إلى صوبي ويقول : قم ولا تخف فإنها ليست جمالا ، ولكن نعامات أنثى وذكر ترعى. وذلك لأن طير النعام يكون بحجم الجمل الصغير ، ومن بعيد لا يمكن تمييزه عن ١ / ٣٤ الجمل فقمت / ونفّضت حالي من الرمل ، وشممت الهواء ، وأكلت وشربت قليلا من الماء من الجود التي معنا وحمدت الله.

ثم قال مصطفى : نم كي تستريح ، وسنمشي هذه الليلة أكثر ، لأن دربنا أكثره رمل ، وهذا سهل على رجليك. فسررت (٢) من هذا الخبر ونمت إلى غياب الشمس ، ثم قمت وأكلت لقمة ومشينا وبعد مسيرنا بساعتين صرنا أمام تدمر من جهة القبلة ، ولم نزل نمشي إلى أن قارب الفجر ، وقد أضواني (٣) التعب والسهر. فجلسنا بين تلين من الرمل كل النهار إلى المساء. ثم مشينا إلى أن لاح الفجر ووصلنا إلى نهر يقال له نهر الرحيبة ، وهو عظيم آتيا من القبلة وذاهبا إلى الشمال. فخلع مصطفى ثيابه وحملني وقطع بي إلى شرقي النهر. ثم عاد وأحضر ثيابه وقال امشي. قلت له : يا حبيبي قد طلع النهار. فقال : ولو طلع النهار ، إذ لا ينبغي أن نبقى إلى جانب النهر ، إذ يرد إليه الغزاة والعربان من جميع الأشكال فيروننا والأحسن أن نبعد نحو ساعة عن حافة النهر ونكمن ، لأن المكان الذي قطعناه يسمى المخاضة. فجلسنا تحت ظلال أشجار جميلة إلى ضحوة النهار ، وإذا بغزو كبير مكون من أربع زردات (أعني طوابير ، وهذا اصطلاح لغة العرب) ، من خيل وركب أي هجن ، نحو ألفين آتين من الشرق فقطعوا نهر الرحبية وذهبوا نحو المغرب. فقال لي مصطفى : كيف تكون حالنا لو بقينا على المخاضة ، كنا قتلنا لأن هؤلاء ليسوا من عربان ديرتنا ، بل من ربع الوهّابي ، أتوا ليغزوا على عربان هذه الديرة. وهؤلاء لا يرضون فقط بالنهب ولكنهم يقتلون

__________________

(١) كذا ، والله أعلم بمراده.

(٢) «فانبسطت».

(٣) «ضامني».

٩٩

أيضا ، فالله يساعد من يقع بين أيديهم ، فحمدت الله لأنه أعماهم عنا. ولم نزل جالسين إلى المساء ، ثم أكلنا ومشينا إلى الفجر. ثم كمنا في ردم رمل فقال لي مصطفى : بقي بيننا وبين الفرات نحو ثلاث ساعات فقط. فقلت له : بشّرك الله بالخير ، والليلة لا نمشي إلا بعد نصف ٢ / ٣٤ الليل حتى نكون صباحا على حافة نهر الفرات ، مقابل زيتا (١) لأن / داخل (٢) الفرات يعدّ من العراق ، ومن هناك نجد لنا أناسا يجتازون بنا الفرات ، إذ يوجد دائما عرب يسكنون على الشاطئ ويأخذون أجرة من الناس لقطع الفرات. ولما كان نصف الليل مشينا ، وقبل طلوع الفجر وصلنا إلى الفرات الذي ينشرح الفؤاد والقلب من حسن رؤيته ، وأصبحت زيتا أمامنا على الضفة الثانية من الفرات. فجلسنا إلى أن بزغت الشمس وأكلنا جميع الزاد الذي بقي معنا ، لأننا كنا نأكل قليلا خوفا من أن يطول بنا الطريق بسبب بعض الموانع. وبعد طلوع الشمس ، بان لنا بعض بيوت العرب على شاطئ الفرات ، وعرفهم مصطفى لأنهم أصحاب ومساكين (٣) من سكان شاطئ الفرات. فمشينا إلى عندهم فاستقبلونا وترحبوا بنا ، وحالا أحضروا لنا أكلا وشربا. وبعد ذلك سألهم مصطفى عن الدريعي في أي مكان هو الآن؟ فقالوا كان سابقا أي من مدة عشرة أيام نازلا على زيتا ثم رحل ، والآن على ما نعلم ، قد نزل في أرض يقال لها المحولة ، تبعد ثلاثة أيام ما بين زيتا والزور ، لأن الدريعي تصالح مع ربع فحل الخليل وصار على وداد مع عرب بني سعيد من بعد الخصومة (٤) ، وقد أطاع فحل وعربه للدريعي ، وصاروا يعطوه الخوة كل سنة أي مبلغا من الحبوب والملبوس والدراهم ، لأن الدريعي لا يستطيع أحد أن يعاديه ، فهو رجل مرّ في الحرب ومدبر وجيوشه كثيرة. والآن أكثر العربان تميل إليه نكاية ببيت ملحم ، وعلى الأخص بناصر المهنا ، وعلى ما نظن أنه لا يقطع الشامية ، أي غربي الفرات لأنه غير معتاد على هذه البلاد (٥) ، ولكنه قد يضرب قبيلة مهنا ثم يرجع إلى ديرته ، أي بغداد والبصرة وتلك النواحي. ففرحت من هذا الخبر لأنه يدخل في مطاليب الشيخ إبراهيم ، وقد تقدم الشرح أن مراده أن يتعرف بالأمير الدريعي وأبعاده عن العثماني وحكام بر الشام.

__________________

(١) ويكتب الصايغ أيضا : زيته.

(٢) ابتداء الكراس الخامس على حسب تقسيم الصايغ ، إذ وضع في أعلى الصفحة : نمرة ٥.

(٣) كذا والمعنى غير واضح ، فهل يريد فقراء الحال أو الأشخاص الذين يسكنون في تلك الناحية؟.

(٤) «الضشمنة».

(٥) أصل قبائل عنزة من نجد ، وأول من دخل الشامية منها الفدعان والحسنة. أما الرّولة فيظهر أن هجرتهم إلى بر الشام كانت في بداية القرن التاسع عشر.

١٠٠