رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

قبرا ، على الطريقة القديمة مثل الأبراج ، وداخلها مخادع ، لكل ميت مخدع على قدّه وصورته من حجر فوق مخدعه ، وكل قبر من ثلاث إلى أربع طبقات يصعد إليها بسلم حجري ، أما السقوف فمن الحجر أيضا. ثم دخلنا المكان الآهل بالسكان ، الذي يطلق عليه اليوم اسم القلعة ، مع أنه في الواقع هيكل الشمس ، وكان في داخله نحو مئتي عائلة.

دخلنا تدمر وكان معنا كتاب توصية من شيخ القريتين إلى شيخ تدمر المدعو رجب العروق. وكان رجلا مسنا (١) ، جليلا ، وقد فرضت عليه الدولة تقديم نصف تكاليف حملة الحجاج ، مثل الشيخ سليم ، إلى وزير الشام ، كما تقدم الشرح سابقا. فدخلنا وسلمنا عليه فترحّب بنا وأكرمنا غاية الإكرام. وفي اليوم الثاني طلبنا من فضله أن يجد لنا مكانا نقعد نبيع رزقنا فيه ، فأعطانا بيتا صغيرا بالقرب منه. وأما سلامة ، فأبتدأ أهل تدمر تداويه إلى أن صحّ نوعا ما ، فوهبنا له مالا (٢) وافرا فركب وذهب عند أهله. وابتدأنا نحن نداوي قدم الشيخ إبراهيم خلال عدة أيام حتى استراح.

ثم فتحنا رزقنا وابتدأنا نبيع إلى أهل تدمر ، حتى نتم القول بالفعل ونظهر للناس أننا تجار (٣). وكنا كل يومين أو ثلاثة نذهب وندور بين الخرائب ، فرأينا الأشياء التي تدهش الأبصار. ولا إفادة من وصف ما شاهدناه لأن هذا المكان مشهور ، وكتب عنه كثير من أمثالنا من السواح ، وسيكتب عنه بعدنا. وفي بعض الأيام خرجنا نتنزه ونمتع أبصارنا ، لأننا كنا كل يوم نرى شيئا جديدا من الأمور التي تحير الأفكار ، فوجدنا عددا كبيرا من أهالي تدمر مجتمعين حول عامود كبير ، أمام باب الهيكل ، وهم يريدون أن يشعلوا النيران حوله كي يسقط ويأخذوا ما في داخله من الرصاص لبيعه ، وهذا ما كانوا فعلوه سابقا في كثير من العواميد العظام. فحين نظرنا ذلك تألمنا وقلنا : أين عيون الذين نصبوا هذا العامود ، وكم أنفقوا من الذهب حتى رفعوا هذا العامود العظيم في هذا المكان. والآن يريد هؤلاء الجهلاء الغشماء كسره وفناءه لأجل ربح دني. فقال لهم الشيخ إبراهيم : يا جماعة ، أنا رجل أصلي من قبرص ، وعادتنا لا نحب الخراب ، فاحسبوا قيمة الرصاص الذي ستكسبونه من هذا العامود وأنا أسلمها لكم ولا تكسروا وتعطلوا هذه القطعة النادرة الوجود. فقالوا نستخرج منه كمية من الرصاص نبيعها بدمشق بنحو خمسين غرشا. فقال لهم : هذه الخمسون غرشا واتركوا

__________________

(١) «ختيار».

(٢) «بخشيش».

(٣) «بياعين رزق».

٦١

العامود. فأخذوا الدراهم وتركوا العامود. وكان طوله اثنين وستين قدما وثخنه عشرة أقدام ، من حجر الطبخ (؟) الملون : أزرق وأبيض وأحمر. وفي ذلك الوقت أخبرونا على مقطع العواميد وأنه بعيد نحو ساعة ونصف عن تدمر لطرف القبلة ، فاعتمد رأينا أن نذهب في اليوم الثاني ونرى هذا المكان. وبالغد ذهبنا مع ثلاث أنفس بالأجرة إلى ذلك المحل ، ورأينا بطريقنا أشياء كثيرة وأمورا غريبة ، لا نرى من حاجة لذكرها لأن الذين سبقونا عرفّوا عن جميع ذلك. ثم وصلنا الموضع المقصود وهي مغاير منقورة بالإزميل ، ووجدنا شيئا كثيرا من الرخام الأبيض ١ / ١٧ وقطعا كبيرة جدا / مرمية على الأرض من زمن قديم. ووجدنا عامودا من الرخام الأبيض الخالص ، الشغل لا يحتاج إلى شيء غير نقله إلى البلد. وكذلك وجدنا عامودا آخر تم نصف عمله وبقي مهملا ، فكأن الوقت ضاق على العمال فلم يكملوا صنعه ولم يتمكنوا من نقل العامود الخالص.

وكان رجوعنا من طريق غير الطريق الذي ذهبنا منه ، فوجدنا محل عين ماء مطمورة بحجار كبيرة يسميها التدامر (١) عين اورنس. فأخذ الشيخ إبراهيم يفكر ، وبعد رجوعنا إلى البيت قال : أتعرف يا ولدي بماذا أفكر؟ قلت بأي شيء تفكر؟ أفيدنا. قال : هذه العين رأيناها مطمورة ويسمونها أورنس بسبب عدم معرفتهم بتصحيح الأسماء القديمة ، فهذه عين أورليانوس ملك رومية الذي حضر من رومية طمعا بغنى تدمر ، ونكاية بزنوبيا ملكة تدمر يومئذ ، وحاصر البلد وأخذها اقتدارا ، ودخل البلد وأباد منها خلقا كثيرا. ولا يعرف أحد ماذا جرى بالملكة زنوبيا إلى يومنا هذا (٢) ، وأظن أن اورليانوس هو الذي أمر بحفر هذه العين ليستقي منها ويسقي عساكره ، فوجدت هذا الرأي عين الصواب وقريبا جدا من العقل ولكن غير موجود في التاريخ ولا مذكور في محل ، إنما هو ظن لا أكثر.

أما صنائع أهل تدمر فهو نقل الملح والقلو (٣) ، لأن بالقرب منهم محل يستخرج منه الملح اسمه السّبخة (٤). أما القلو فهي حشيشة يحرقونها فتذوب وتصير حجرا ، فينقلونها

__________________

(١) سكان تدمر.

(٢) يعلمنا التاريخ أن الملكة زنوبيا وقعت بين أيدي الرومان وقيدت إلى روما مغلولة بسلاسل من ذهب سنة ٢٧٢ م.

(٣) القلي أو القلى رماد الغض والرمث يغسل به الثياب (لسان العرب ، مادة قلو).

(٤) السّبخة : الأرض المالحة.

٦٢

إلى حمص والشام ويبيعونها لأجل طبخ الصابون. وأيام توجه الحجاج إلى مكة ، يذهبون لكي يحملوا ما ذكرت سابقا لوزير دمشق ، وذلك بالإجرة.

ثم وفي بعض الأيام أخبرنا بعضهم عن مغارة تبعد عن تدمر ثلاث ساعات ، فيها أنواع من المعادن وهي نكتة لمن يراها. فتوجه اهتمامنا لزيارة تلك المغارة ، ورجونا من الشيخ رجب العروق أن يرسلنا إلى المغارة مع أناس طيبين معروفين. فقال لنا : يا جماعة ما أكثر غلبتكم ، أنتم جماعة بياعين على باب الله الكريم ، ما لكم ولهذه الأمور الصعبة؟ فقلنا له : إذا كنا بياعين هل تحرم علينا الفرجة؟ / فقال : قوي مناسب ، غدا أرسلكم وأرسل معكم ستة رجال بواردية للمحافظة عليكم. لأن العربان كانت ملأت سهل تدمر من مختلف القبائل. فبكرنا في اليوم الثاني ، وأخذنا معنا فنود الشمع وكثيرا من خيوط القنب ومسمارا كبيرا ، وسوف نشرح لأي شيء تلزم هذه الأشياء في هذه الرحلة الصغيرة.

فمشينا ومعنا الرجال المرسلين من قبل الشيخ رجب. وسرنا نحو ساعتين من الزمن لطرف الشمال للشرق. فوصلنا إلى جبل صغير ، وفي نصف سفح الجبل ثقب كبير مثل باب ، فأشعلنا الشموع ودققنا المسمار على باب المغارة ، وربطنا طرف خيط القنب بالمسمار ، ودخلنا جميعا لأننا إذا ابقينا أناسا على الباب وأرادوا ضررنا حلّوا الخيط فلا يعود يمكننا الرجوع إلى الباب. فلهذا السبب أدخلنا الجميع معنا. فحين صرنا داخل المغارة ، وجدناها واسعة وفيها مخادع ونزلات وطلعات وعوجات ولفتات ومغاير ، الشيء الذي يضيع فيه جيش (١). وكان دائما طرف الخيط بيدي ، لأني ما كنت أثق بأحد غيري ، حفظا على حياتي وحياة المسكين معلمي الشيخ إبراهيم. فوجدنا في تلك المغارة أمورا غريبة. فجميع سقفها نازل من الشبّ العطاري ، وقطعه كبيرة مثل القناديل ، وأرضها ملآنة من ملح البارود ، وأكثر حيطانها من الكبريت الأصفر ، ولم تزل ظاهرة الأماكن حيث كانوا يقطعون منها هذه المعادن ، ووجدنا في بعض المحلات نوعا من التراب أحمر اللون مثل السّمّاق ، طعمه حامض ، ناعم جدا. وأخبرنا بعضهم أننا إذا وضعنا منه في محرمة يخرقها ويخرج ، فأخذنا منه شيئا قليلا لنجرب ذلك. وعلمنا أيضا أن كثيرا من الناس دخلوا هذه المغارة وضاعوا ، منهم واحد دخل وضاع كل الضياع وظل في المغارة مدة ثلاثة أيام ، وأخيرا ، بأمر الصدفة ، دخل ذئب إلى المغارة لتكون له مأوى وولج في أعماقها لأنه على معرفة بها ، فرأى

__________________

(١) الصائغ يكتب «أرضي» بدلا من جيش في عدة مواضع من مذكراته ؛ والكلمة من التركية.

٦٣

ذلك الرجل الذئب وصرخ فيه ، فخاف الذئب وطلب باب المغارة ليهرب فلحقه الرجل وتمكن بهذه الواسطة من الخروج من المغارة سالما بعد أن يئس من حياته ، إذ لا يعرف أولها من آخرها ولم نزل نمشي في داخلها إلى أن انتهت الخيطان التي معنا ، فعزمنا عندئذ على الرجوع وخفنا من الضياع ، مثل غيرنا ، في تلك المغارة الشاسعة ، وخرجنا من ذلك المكان ١ / ١٨ ولكن بتعب عظيم لأن / الموضع رديء جدا وداخل المغارة وعر كثيرا فطلعنا إلى خارج الباب وجمعنا الخيطان وجلسنا نأكل ما معنا من الزاد وتوجهنا بعد ذلك طالبين تدمر.

وصلنا إلى تدمر وسلمنا على الشيخ ودخلنا إلى غرفتنا ، وكان قرب المساء. وحين أتت ساعة النوم خلع الشيخ إبراهيم ثيابه ونزع حزامه ، فوجد أن المحرمة التي وضع فيها التراب مخزوقة والتراب منتثر في عبه. فجمعنا التراب ورأينا أن المكان من المحرمة ، حيث كان التراب ، قد تأكلّ ، فأخذنا التراب ووضعناه في قنينة وهي فقدت مع حوائجه في مصر ، مع غيرها من الأشياء التي كانت معه. وقبل النوم سجلنا جميع ما رأيناه بالدفتر ، من الورقة اليومية ، على حسب عادتنا كل ليلة ، ثم نمنا.

وفي اليوم الثاني أخذنا نتحدث عن المغارة فقال الشيخ إبراهيم : إن أهالي تدمر كانوا يخرجون منها المعادن ولربما أيضا كانوا يخرجون الذهب إذ يوجد فيها الكبريت الذي هو أبو الذهب ، إذ حيث يوجد الكبريت الأصفر يوجد أيضا الذهب ، وهذا شيء طبيعي وكيمائي. وبالأكيد يجب أن يكون فيها ذلك المعدن (١) ، لأن مخادع المغارة غير طبيعية ، ولكنها من حفر اليد. وهناك أيضا أشياء كثيرة تحتاج إلى شرح ، ولكن بما أنه قد سبق الكلام عنها قبلنا فليس في الإعادة إفادة. وهذه الكلمات التي كتبناها عن تدمر فاعتقادنا أنه لم يعرفها غيرنا من السواح ، فلهذا السبب حرّرناها.

وأثناء ذلك الوقت كانت امتلأت نواحي تدمر بالعربان من كل الجهات ، والأمير مهنا الفاضل الذي نحن نرغب في الوصول إليه كان اقترب من أراضي تدمر ، وتيسرت أمورنا بعون الله وأصبحنا في غاية الحظ. وبعد قليل من الأيام حضر الأمير ناصر المهنا ، من أولاد الأمير مهنا الفاضل وكبير أبنائه ، ودخل تدمر مع عشرة خيالة فقط ونزل عند الشيخ. فذهبنا

__________________

(١) عبارة الصائغ : «وبالأكيد لازم يكون ذلك معدن».

٦٤

وسلمنا عليه ، فآنسنا وترحب بنا. ثم قال له الشيخ رجب : يا ناصر ، هؤلاء الناس معهم بضاعة تصلح للعربان ، وهم يرغبون في الذهاب عندكم ليكونوا تحت نظركم وحمايتكم خوفا من أن يسطو عليهم بعض أوباش العرب. فقال أهلا وسهلا ، يا مرحبا بهم ، ليبشروا فما يصيبهم ٢ / ١٨ غير مطر السماء. /

٦٥

نمره ٣

[مع قبيلة الحسنة]

بعد هذا الترحيب استكثرنا بخير الأمير ناصر وشكرناه على هذا الكلام وقلنا له : بما أننا تعرفنا بجنابك ومرادنا أن تكون لنا سندا فيجب أن نأكل الخبز معك. وحالا دعوناه إلى منزلنا وذبحنا له رأس غنم وصنعنا غداء مناسبا ، وأخرجنا له مما معنا من حلو ، مثل الزبيب والتين اليابس والجوز ، فسره ذلك كثيرا ، لأنه كان آتيا من البادية (١) ويشتهي أكل الحلو.

وكان معه جميع خيالته والشيخ رجب وعدد كبير من أهل تدمر وصار الناس في انشراح كبير. وفي مجرى الحديث ، بعد الغداء ، تكلمنا عما وقع لنا أثناء حضورنا من القريتين ، وكيف قام بتشليحنا بعض العرب من الحسنة وأخذوا منا بعض الحوائج والدراهم. فاغتاظ جدا من ذلك وحلف أنه سيقاصصهم ويسترجع منهم الحوائج والدراهم ، فترجيناه عندئذ كل الرجاء أن يصفح عن هذا الأمر ولا يكلم المعتدين بهذه السيرة ، لأننا نحن سمحنا لهم. فقال : على حسب رغبتكم ، إذا كنتم سمحتم لهم فإني لا أكلمهم بهذا الأمر إكراما لكم.

وثاني يوم نوى أن يذهب عند أهله ، وكان مراده ومرادنا أن نتوجه معه ، إلا أن عربه وأباه كانوا بعيدين عن تدمر نحو ثمانية أيام فقال : من الأنسب أن تنتظروا حتى نقترب أكثر ، فأرسل إليكم أناسا وجمالا لإحضاركم عندنا. فترجيناه عندئذ أن يسأل أباه أن يرسل إلينا

__________________

(١) «الجول».

٦٦

بكتاب من يده ، مع الأشخاص الذين سيحضرون لإيصالنا عنده ، حتى نطمئن بالأكثر عن حالنا ، فوعدنا وسافر مع خيالته.

ثم ثاني يوم حضر إعرابي من قبيلتهم اسمه باني حسيني. وبعد دخوله تدمر بقليل من الوقت حضر سبعة خيالة ، من كبار الفرسان ، من قبيلة يقال لها الضّفير ، سوف نتكلم عنها. وكانت العداوة على أشدها بين هاتين القبيلتين. فحين بلغهم أن في تدمر بدويا من الحسنة ، من أتباع مهنا الفاضل ، عقدوا النية أن يلحقوا به حين يسافر من تدمر ويقتلوه. ووصل خبر ذلك الكمين إلى البدوي (١) ، فحالا أحضر فرسه أمام البيت الذي نحن فيه وأخذ من عندنا قطعة من اللباد وبللها بالماء ووضعها على ظهر الفرس مباشرة ووضع العدة عليها وشد ٢ / ١٩ الحزام ، فما مضى ساعة من الزمن إلا وابتدأت الفرس تسهل / وظلت إلى الصبح على هذا الحال حتى فرغ ما في جوفها وصارت مثل الشبابة ، فرفع عندئذ اللباد عن ظهرها وشد حزامها شدا قويا ، وركب مع طلوع الشمس. وكان الخيالة السبعة ركبوا قبله وكمنوا له على الطريق ، على بعد ساعتين من تدمر ، وكانوا قادرين على قتله في تدمر ، ولكن بهذه الطريقة يقع اللوم على شيخ تدمر من قبل الأمير مهنا. ثم وصل باني إلى موضع الكمين فنفذوا عليه كأنهم اللمع البارق ، فجدّ على فرسه وصاح بها : «اليوم يومك يا حمراء» ، وطار مثل الطير الذي يشق الهواء بجناحيه ، وظلوا يجرون خلفه مدة أربع ساعات إلى أن وصل إلى بعض منازل العرب ، فرجعوا عنه حالا ووصلوا إلى تدمر بعد غياب الشمس. وكنا مع كل أهالي تدمر ننتظر على الباب ، لأننا كنا على معرفة بالقضية ونريد أن نعلم بما حصل ، فإذا بهم قد عادوا وليس معهم فرس باني ولا حوائجه. فسألناهم عما وقع فقالوا لا شك أنه راكب على عصفور لأن خيلنا مشهورة بالركض ، ونحن نعلم أن فرسه مثل خيلنا بل دونها ، غير أننا شاهدنا منها فعلا غريبا بعيدا عن العقل. فضحكت وقلت لهم : أتعرفون ماذا عمل؟ إنه بلّل اللباد بالماء ووضعه على ظهر الفرس كل الليل حتى خفت وأصبحت مثل الشبابة وما بقي في جوفها شيء ، فلهذا السبب ركضت بهذه السرعة ، فقالوا : لم نسمع بحياتنا بمثل هذه الشيطنة من أحد.

وبعد خمسة أيام حضر عندنا ثلاثة أنفار ، ومعهم ثلاثة جمال ، من عند الأمير مهنا يطلب ذهابنا عنده ، وسلمونا الكتاب الذي كنا رجونا من الأمير ناصر أن يرسل به ، وكان

__________________

(١) «فصاح النظير أجا خبره عن ذلك الرباط».

٦٧

بهذه الألفاظ : «من مهنا الفاضل بن ملحم إلى الشيخ إبراهيم وعبد الله الخطيب ، بعد السلام عليكم ورحمة الله لديكم ، حضر ولدنا ناصر من تدمر وأخبرنا عنكم وأنكم تريدون الحضور إلى عندنا ، حلّت البركة (١) بمجيئكم ، فاحضروا ولا تخافوا ، فلا يصيبكم غير مطر السماء ، أمان الله عليكم ورعايته ، وسلموا على أخينا الشيخ رجب العروق». ثم الدعاء والتوقيع : تحيات مهنا الفاضل ، مع الختم بالحبر إلى جانب الاسم. فحالا بادرنا وحزمنا حوائجنا وما بقي معنا من الرزق. وصباح اليوم الثاني ودعنا الشيخ وسائر الأحباب وتوجهنا. وكان مسيرنا ما بين الشرق والشمال نحو أربع ساعات ، ثم وصلنا إلى قرية يقال لها أرك ولها ماء جارية عظيمة وتحتوي على نحو عشرين بيتا ، سكانها مثل أهالي تدمر ، وهم متوافقون مع التدامرة على حمل الحجاج ونقل الملح ، ويمارسون نفس الصناعات. فملأنا الجود ماء من ذلك المكان وسرنا طالبين منازل مهنا الفاضل. وفي طريقنا التقينا بعدد من العربان ، ولكن لم يعكر أحد منهم لنا خاطرا ، إذ كان معنا رجال من أتباع مهنا ، إلا أنهم كانوا يلقون علينا الأسئلة ، فيرد عليهم رفقاؤنا العرب : إنهم رائحون عند الملحم ، وهذا لقب طائفة مهنا الفاضل ، فأبوه اسمه الفاضل ، وهو مهنا ومن بيت الملحم ، والعادة عند العرب أن يسموا الإنسان بأسمه واسم أبيه حتى يعرف من هو ولا يبقى مجهولا. وبعد مسير عشر ساعات من تدمر ، وصلنا إلى النزل السعيد ، فوجدنا نزلا عظيما للعرب ، يجمع نحو ألف وخمس مئة بيت ، في مكان يقال له ضبع. فدخلنا بيت مهنا ، فترحب بنا وعمل لنا غاية الإكرام وأمر لنا بالقهوة فسقونا القهوة ثلاث مرات متوالية ، وهذا من جملة عوايدهم إذا كان الضيف عزيزا عليهم يقدمون له القهوة كثيرا. ثم أحضروا لنا العشاء وكان مطبوخا وحارا جدا ، وعادتهم أن يأكلوا بأيديهم من غير معالق ، وكنا جائعين فاضطررنا أن نأكل مثلهم بأيدينا ، وكان ذلك لأول مرة ، فحصل لنا من جراء ذلك أضرار وحروق بأيدينا. فقال لنا المهنا : يا ضيوف ، أظن (٢) أن أيديكم احترقت من الطعام ، بسبب عدم إعتيادكم؟ فقلنا نعم ولكن لماذا لا تستعملون المعالق ، فقال واحد منهم نحن جماعة بدو ، نمشي على ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا ، وكل شيء عندنا طبيعي : اليد يدك والفم فمك ، كلاهما عضوان منك ، فلأي سبب نحتاج أن نجعل بينهما واسطة غريبة من خشب. فقلنا الحق معك. والتفت إلى الشيخ إبراهيم وقلت له : هذا أول فيلسوف من العرب.

__________________

(١) «يا حلة البركة».

(٢) «على تخميني».

٦٨

وفي اليوم الثاني أمر المهنا أن يذبحوا لنا جملا وذلك لأجل إكرامنا ، لأننا استخبرنا عن ذلك فأخبرونا أن هذه عادة العربان إذا أرادوا أن يكرموا ضيوفهم إذا كانت الضيوف غالية عليهم جدا ، فهم يذبحون جملا لأنه أكبر ما عندهم. فأكلنا ذلك اليوم لحم الجمل للمرة الأولى ، فوجدنا أن طعمه كلحم الغزال نوعا ما. والنتيجة أنه حصل لنا إكرام زائد لأنه بيت ١ / ٢٠ مشهور بالكبر والقدم والصيت والكرم. ومهنا رجل / طاعن بالسن ، عمره نحو ثمانين سنة ، حقير من الرجال (١) ، ذقنه مثل الكوساة ، شديد الطرشة ، يجب على من يتكلم معه أن يصرخ بأعلى صوته حتى يسمع ، ضعيف الجسم ، غشيم على بركة الله ، ملبوسه زري جدا. إنما محاسنة كثيرة : نظيف القلب لا يعرف الغش ، كريم ومن بيت قديم من أكابر العرب. فهذه المحاسن تغطي على عيوبه ، وتجعله مقبولا عند العرب وعند الحكام في البلاد ، لأن عليه وظيفة من طرف والي الشام قديمة العهد ، وهو يرافق الحجاج إلى مكة من دمشق ذهابا وإيابا. وله من وزير دمشق كل سنة خمسة وعشرون كيسا يقبضها قبل ذهاب الحجاج يسمونها الصّرّ (٢). له ثلاثة أولاد أكبرهم ناصر وهو الذي تقدم ذكره ، وثانيهم فارس وثالثهم حمد ، جميعهم فرسان يركبون الخيل ومتزوجون وكلهم في بيت واحد. فالبيت طوله ثلاثون ذراعا ، من الشعر الأسود ، مقسوم إلى ثلاثة أقسام بقواطع من جنسه أي من الشعر. القاطع الأقصى للطبخ والمؤنة والعبيد والخدام ، والثاني للحريم والنوم ، والثالث من الطرف الآخر ديوان مجلس الرجال يسمونه ربعة. هذا الذي عرفناه ثاني يوم من وصولنا عنده.

وفي اليوم الثالث فتحنا بضائعنا وابتدأنا نبيع للعربان. فازدحمت علينا النساء للشراء لأنهن رأين أن بضاعتنا جيدة ورخيصة ، فكنت أقول للشيخ إبراهيم : يا سيدي ، هذا السعر لا يلائم ، نحن نخصر عليهن ، فقال : فكأني بك نسيت الشرط الذي بيننا : لا تعارض ولا تسأل عما أفعل. فسكت وقلت بنفسي الحق عليه.

هذا وبعد يومين رأينا أن بعض عربان هذه القبيلة أخذوا يتواردون ويجتمعون خارج البيوت بالسهل ، إلى أن صاروا نحو خمسين نفرا بخيولهم ورماحهم. وخرج ناصر المهنا من البيت هو وابن عم له يقال له الشيخ زامل ، وذهبا حيث اجتمعت الناس ، وبقيا هناك نحو ساعتين ثم رجعا. أما الخيالة فكل واحد منهم ركب وذهب إلى بيته. فصرنا نحن نتشوق

__________________

(١) كذا ، والصائغ يريد أن يقول : لا يؤخذ بعين الاعتبار.

(٢) الصّرّ : راتب تقدمه الدولة لبعض كبار المشايخ للمحافظة على الحجاج ، ولعل هذه الكلمة محرفة عن الصّرّة أي كيس الدراهم.

٦٩

لنعرف شيئا عن هذا الاجتماع وعن السبب الذي دعا إليه. فأخذت معي قليلا من المرجان الأحمر ودخلت عند الحرم ، إذ كان سبق لنا أن دخلنا على الحريم وشاهدنا منهن كل إكرام. فأهديت ذلك المرجان إلى حرمة الشيخ ناصر يقال لها نورة ، فأخذته بكل قبول ووضعت لي تمرا لكي آكل وجلست إلى جانبي تتحدث معي ، فقلت لها : يا سيدتي ، الغريب يسأل ٢ / ٢٠ دائما عما لا يعنيه (١) ، فلأي سبب صار هذا الجمع / اليوم مع العريان؟ قالت : أخبرك ولكن لا تعلم بذلك أحدا ، فاعلم أن زوجي ناصرا له عداوات كبيرة مع العربان ، ودائما عليه ديات تنمي وتكثر ، وذلك بغير رضى أبيه وبغير رضى شيوخ القبيلة ، لأن مراده أن يتقدم على أبناء جنسه بوساطة الحكام العثمانين ، ولهذا السبب قد كثرت العداوة بينه وبين القبائل وابتدأت الغارات فيما بينهم ، واليوم اجتمع هذا الجمع وتم الاتفاق بينهم على أن يقوموا غدا بغارة على قبيلة يقال لها الضّفير ويكسبوا جمالها ، وذلك للنكاية والأذى وتنغيص عيشهم ، لأن الغزو شيء يقهر العربان جدا ومثله الظفر بهم ، إنما يعطي الله النصر لمن يشاء. فقمت وأنا مسرور منها إذ بلغت مرادي ، وكلمت الشيخ إبراهيم بجلية الخبر ، فبان عليه القلق وقال : يا ولدي ، هذا الخبر سيئ لا يوافق مصالحي ، لأني أرغب في معرفة وصحبة أناس ليس لهم معاشرة ولا مودة مع العثماني ، وها نحن قد وقعنا على إنسان ضد مطلوبنا ، لأن مهنا رجل طاعن بالسن ، والكلام إلى ولده ناصر ، والمذكور مراده السيطرة بوساطة العثماني ، وهذا ضد مصالحي. فلم أرد أن أسأله عن سبب ذلك ، إنما هذا الكلام شغل فكري كثيرا.

ومن غياب الشمس ابتدأت العربان تتوارد وتجتمع خارج البيوت ، إلى أن صاروا نحو ثلاث مئة خيال. وثاني يوم من قبل شروق الشمس ركب ناصر وابن عمه زامل وأخوه الصغير حمد وساروا جميعهم بكامل الخيل إلى ناحية الشرق ، وبعد ثلاثة أيام عادوا بكاملهم وخرجت العربان للقائهم بكل فرح ولعبوا على ظهور الخيل ، واحضروا معهم مئة وثمانية جمال من أموال الضفير. وبعد أن ارتاحوا أخبروا عن غارتهم وعما جرى لهم مع القبيلة المذكورة ، وهو أنه بعد توجههم ، وصلوا ثاني يوم ، وقت الظهر ، إلى المكان الذي كانت ترعى فيه جمال الضفير ، بعيدا عن البيوت ساعتين ، وليس مع الجمال إلا الرعيان فقط ، فأغارت الخيل على الجمال لكي تأخذها وهرب الرعيان سريعا نحو البيوت وأخبروا عربهم ، فركبوا حالا وطلبوا ناصر المهنا وربعه. وأما ناصر فإنه أرسل حالا الكسب ، أعني الجمال التي أخذها ، مع قليل من

__________________

(١) يقول الصائغ : «يا ستي ، الغريب بيصير كثير الغلبة».

٧٠

١ / ٢١ الخيل ، على طريق غير الطريق المعروف ، حتى يوصلها إلى قبيلته ، وإذ / وصلت خيل الضفير إليهم ووقعت الحرب بينهم ، فما قتل غير واحد من الضفير وجرح اثنان من الحسنة ، أعني من قبيلة ناصر ، فدخل الليل ورجع كل واحد إلى حال سبيله. وفي ضحى اليوم الثاني حضر ناصر وكامل الخيل ، ومعه الكسب الذي أخذوه من الضفير.

وفي ذلك اليوم أتى ناصر عندنا وهو فرحان بانتصاره ، ضحوك الوجه ، وجلس عندنا في المكان الذي نبيع فيه ، وابتدأ يتكلم مع الشيخ إبراهيم بالتركي. فقال له الشيخ إبراهيم : يا شيخ ناصر ، أنا لا أعرف التركي ، ولكن أعرف فقط الرومي [اليوناني] ، لأني قبرصي ، وقليلا من العربي ، علمني عبد الله الخطيب. فقال ناصر ، يا إبراهيم ، العز بالترك والجاه بالعثماني ، وأنا أتكلم بالتركي ، ولي مخالطة مع الحكام في جميع أنحاء البلاد ، وإن شاء الله إني بوساطتهم أقهر العربان وأسود عليهم. فقال له الشيخ إبراهيم ، يا ناصر ، اعلم أن الشجر تقطع بفرع منها ، والعثماني ليس عندك في كل وقت ، والعربان أبناء جنسك أخير لك ، لا سيما وأن العثماني صاحب ملاعيب ولا يحب إلا أهل جنسه ، فيريك المحبة حتى يحصل بوساطتك على مآربه ، ويجعل العرب ضعفاء تحت حكمه ، وإن استطاع أبادهم جميعا. ثم قال له : خذ حذرك واعمل على خلاصك ، ولكن سوف تندم على رأيك.

هذا ، وفي تلك الأثناء وصله مكتوب (١) من والي الشام سليمان باشا والي عكا مضمونه أن يحضر إلى دمشق لتنصيبه على الديرة ويطرد العربان الذين لا يدخلون تحت طاعته ويكون أمير ديرة الشام وكل القبائل تحت يده. ففرح بذلك فرحا شديدا وحالا توجه إلى دمشق مع عشرة خيالة.

وأما نحن فبقينا مع مهنا. وفي مساء اليوم الثاني أمر العربان بالرحيل صباحا. ولما كان الغد ، قبل طلوع الشمس ، ارتمت كافة البيوت وحمّلت حالا ، وركبت الرجال على خيولها وأناس على الجمال ، والنساء الوجيهات في الهوادج المجوّخة (٢) ، وسارت الجمال غير المحملة أماما مع الرعيان وبعدها الظعون (٣) أعني [الجمال التي تحمل] البيوت والألبسة ، وأمام

__________________

(١) في المخطوطة : «بولردي» ، كلمة تركية تعني رسالة رسمية من ممثل السلطات العثمانية يصدر فيها أوامره ويعلن عن إرادته.

(٢) أي المفروشة بالجوخ.

(٣) في الأصل : الضعون.

٧١

الجميع الخيل يتقدمها نحو عشرين خيالا مجربين بالحرب والقتال يسمونهم السلف ، وعليهم ٢ / ٢١ أن يراقبوا السير ليروا من يأتي من بعيد ومن يكون في الطريق. وهذا أول رحيل رأيناه / وهذا شيء رائع حقيقة ولا سيما رؤية نساء أعيان القبيلة في الهوادج. فالهودج مثل السرير يوضع على ظهر الجمل ، وله مثل السرج ، وهو مركز على قوائم من خشب علوها نحو ذراعين مشدود بعضها ببعض. وهو واسع ، تقعد فيه المرأة وتضع أولادها معها ، وداخله مغطى بالجوخ الوردي والأصفر ، وعلى دائره شرّابات ملونة من الصوف. والنتيجة شيء ظريف ولائق بهن. أما نساء الفقراء فإن كل واحدة منهن تعمل لها على ظهر الجمل مثل بركة مدورة من البسط والثياب ، وتقعد هي وأولادها في وسط هذا المحل الذي يسمونه حصارا أي أنه يحصر الأولاد ويمنعهم عن الوقوع. ونساؤهم على الإطلاق يلبسن فقط الثوب الأزرق مثل القميص ، وفوقه عباءة سوداء حساوية ، وعلى رؤوسهن شملات سوداء طولها ثلاثة أذرع ، طرفها على الرأس وباقيها ملفوف على الرقبة ، وأما الطرف الثاني فمرمي وراء الظهر ، وفي أيديهن أساور من الزجاج ، ومرجان مضموم دورين أو ثلاثة ، وحبوب كهربا ، وهن حفايا لا شيء بأرجلهن كليا.

وكان الأمير مهنا راكبا على جمل ، لأنه أريح له نظرا إلى شيخوخته ، والناس يمشون حوله ، فشبهناه بأبينا إبراهيم الخليل أيام حياته ، لأنه كان على هذه الصفة كما هو معلوم.

ثم وصلنا قبل العصر إلى المحل الذي كنا نقصده ، وهو مكان يقال له المحرّم ، بالقرب من حماة ، لأن سيرنا كان إلى جهة الغرب. ولما قربنا تسابقت الخيل وكل واحد نصب رمحه في مكان ، وربط فرسه بالرمح ، والمعنى أنه يريد أن يكون بيته في ذلك المحل. فوصلت الظعون ، أعني النساء والبيوت ، وكل امرأة عرفت فرس زوجها ورمحه ، فنصبت البيت إلى جانب الرمح. وفي قليل من الوقت ، بعد أن كان ذلك المكان خاليا من كل شيء ، صار فيه بلد وأناس وجمال وخيل وبيوت بمقدار أهالي حماة ، وماء ذلك المحل جمع من المطر ، وكل تلك الأرض غدران مجموع بها الماء. وبالقرب منها أرض عالية أكثرها من الصخر وهي منقورة باليد ومملؤة من ماء الشتاء.

وبعد إقامتنا بثلاثة أيام وإذا الرعيان راكضة وهي تصيح : يا أهل الخيل الحقوا. ١ / ٢٢ فضجت العربان وقامت الصيحة من كل جهة ، وإذ وصلت الرعيان / وأخبرت أنه حضر غزو عظيم وجموع كثيرة بقوة هائلة من عرب الضفير وأخذوا كل النوق والجمال. فركبت الخيل

٧٢

وكانوا نحو ألف خيال وطلبوا العدو ، وكان الوقت قريبا من العصر ، وهكذا كان تدبير العربان يجعلوا غاراتهم قرب المساء ، حتى إذا طلبهم العدو يدخل الليل ويرجع الطالب عنهم ، وهم يعودون سالمين بالكسب ، وما رجع عرب الحسنة إلا بعد يومين وأخبرونا أنهم ظلوا يركضون وراءهم وهم أمامهم إلى أن أتى الصباح ، ثم التقى الطرفان ووقع الحرب والقتال بينهما نحو أربع ساعات ، فقتل من الضفير ستة أنفار ومن الحسنة عشرة واسترجعوا من الكسب نحو النصف أي خمس مئة حيوان والنصف الثاني راح مع الضفير. فحزنت العربان على الذين قتلوا وعلى النوق والجمال التي خصروها ، وصاروا يدعون على ناصر حيث أنه ابتدأ بالشر مع الضفير وغزاهم أولا. وحالا كتب مهنا إلى ابنه ناصر بدمشق وعرفه بجميع ما جرى مع عرب الضفير وأرسل الكتاب مع هجان خاص.

وبعد بضعة أيام حضر ناصر من دمشق ، ومعه جوخدار كبير من طرف الوزير وهو يحمل كتابا (١) مشددا مضمونه اشعار لكامل العشائر والقبائل يحيطهم علما بما يلي : «إننا قد وجهنا ولدنا الأمير ناصر المهنا على كامل أيالتنا (٢) ومأواه (٣) ومنازل العربان. المراد من الآن وصاعدا أن تكونوا في قدم الإطاعة في كل ما يأمر به ، ومن لا يطيع ويهتدي لا أمان له ولا رأي ، فيقتضي عندئذ أن نرسل حالا عساكرنا المنصورة فتنهب أرزاقكم وتحرق بيوتكم ، ونسلّم حريمكم إلى العساكر ونجعلكم عبرة لمن اعتبر. ها نحن قد أنذرناكم فاحذروا من الحركات المخالفة واعتبروا ذلك».

وهذا كان بتدبير ناصر المهنا ، وكان أكثر خوفه من قبيلته ، بسبب الرجال العشرة الذين قتلوا. وبذلك الوقت كانت الأراضي امتلأت من العربان ، فصار ناصر يعلمهم بوصول هذا الكتاب ، وكل من حضر يقرأه له ، ويتكلم مع الجوخدار بالتركي ، مع أن كل ذلك ما كان عند العربان بثقل حبة خردل.

٢ / ٢٢ وفي أثناء ذلك حضر / في بعض الأيام شيخ قبيلة الرّفاشة ، المسمى ذرّاك بن معجل ، شاب نشيط ، فتلا عليه الكتاب وجعل يقول له : هؤلاء حكام ولهم ملك كبير في اسلامبول ، وسيف السلطان طويل ، ويجب الإطاعة لهم والخضوع ، ولا تكن أنت غير طائع

__________________

(١) في الأصل : بولردي أي مرسوم.

(٢) «إيلتنا» أي ولايتنا.

(٣) كذا ولعله يريد المكان الذي يأوي إليه.

٧٣

فتندم. فتغير لون ذرّاك من هذا الكلام ونهض قائما وقال : يا ناصر آغا ، اعلم أن العربان جميعهم ضدك بسبب موقفك هذا ، فإن كان مرادك أن تكون كبيرا عند العثماني فانزل للشام والبس قابوقا في رأسك واجلس بالسرايا عند الوزير ، وكن كيخيا (١) واحكم على أهالي الشام ، فيأخذون لك هيبة. وأما نحن العربان ، فأنت ووزيرك وسلطان اسلامبول فلستم عندنا بثقل بعرة الجمل ، وإن كنت تقول لا تقعد في ديرتي الشامية ، فهذا كلام قوي مناسب ، وأنا أصغر وأضعف كافة قبائل عنزة (٢) (وهذا الاسم عام يطلق على جميع عرب البادية) (٣). ولكن الآن ، حال وصولي إلى قبيلتي ، سأرحل بكامل عربي إلى ديرة بغداد ، عند الدّريعي بن شعلان ، كسّار جموع العثماني. فتغيرت ألوان ناصر من هذا الكلام ، والتفت إلى الجوخدار وأخذ يفهمه بالتركي ، فابتدأ الجوخدار يتكلم بالتركي مظهرا نفسا كبيرة ، ليومه على الناس ، على حسب طرائق العثماني المشهورة. فقال له ذرّاك : لا تكن فضوليا (٤) ، فو الله العظيم ولو كنت في حماية الناصر مهنا وأنت جوخدار الوزير ، فإن أردت لا أدعك تأكل خبزا بقية عمرك. ودخل الحمق بينهما. ثم ركب ذرّاك فرسه وأخذ رمحه بيده وقال لا عليكم سلام ، واعمل يا ناصر ما تصل إليه يدك ولا تتوان. وسار إلى عربه الذين كانوا يبعدون ست ساعات عن منزلتنا. فاغتاظ ناصر من هذا الكلام وتمسك بغيه الخايب. أما أبوه مهنا فإنه تكدر جدا لما سمع الدعوى وقال لابنه : يا ناصر إنك تريد أن تكسر عمدان بيت الملحم؟ فالعمدان هي من الخشب ، فهم يضعونها في وسط البيت لأجل ارتفاعه ، وأكبر بيت يكون على أربعة عمدان. وإن كان البيت على عامدون ينقسم مناقصة ، وإن كان على ثلاثة فينقسم مثالثة ، وإن كان على أربعة ينقسم مرابعة. ووقع الخلاف بين ناصر ١ / ٢٣ وأبيه مهنا ، / وحصل بينهما غليظ الكلام ، وكثير من العربان وضعوا الحق بيد مهنا ، وخافوا على أرواحهم وسحتهم أي رزقهم من غارات العربان عليهم ، بسبب أفعال ناصر الرديئة.

ثم ثاني يوم حضر بدوي وأخبر أن ذرّاك وصل بكامل عربه وتوجه ناحية الشرق طالبا الجزيرة (أعني بين النهرين أي الفرات والدجلة) ، وأن جميع العربان قد رجت قلوبها من ناصر

__________________

(١) «كاخيا» أو كدخدا أي الموظف الكبير أو المشير الأول.

(٢) «عنازة» ، يريد عنزة وهم من عرب الشمال ، أما شمّر فهم من عرب الجنوب.

(٣) «الجول».

(٤) «غلابه».

٧٤

ومرادهم تنكيس بيت ملحم نكاية بناصر. فبلغ الخبر العجوز (١) مهنا فانحصر جدا وأمسك بذقنه وقال : يا ناصر ، أتريد أن تهان هذه الشيبة عند آخرتها؟ غدا يذهب العربان جميعهم ويلتحمون (٢) مع الدريعي بن شعلان ، ويحضرونه إلى هذه الديرة ويملكونه إياها ، غصبا عنا وعن العثماني ، فإذا حصل ذلك فأين يكون لنا مأوى ، فنضطر أن نهجّ (أي ننهزم) إلى عند ابن مسعود (أعني الوهّابي) ، حتى يحمينا من شر الدريعي وفعله المشهور. أما تذكر الله يا شين (أعني يا ردي).

فبعد ذلك جلست أنا والشيخ إبراهيم وأفهمته كامل ما حصل. فسكت حصة وقال : يا ولدي ، اعلم أن هؤلاء الناس غير نافعين لصالحي لأن الوئام لا يوجد بينهم وبين العشائر ، ومرادي أن أتقدم إلى ناحية بغداد ، إلا أن هؤلاء الأقوام ، بسبب العداوة وعدم المحبة بينهم وبين العربان ، لا يستطيعون التقدم إلى المشرق ، بل إن من صالحهم أن يبقوا دائما في نواحي البلاد تحت نظر العثماني. ولذا علينا أن نقضي هذا الصيف معهم ، ومتى حان الربيع ندبر أحوالنا. ثم قال لي : أريد منك أن تستخبر ، بكل لباقة ، من أحد العربان ، عن الدريعي ومن يكون من الناس وما هي أحواله وما هي أطباعه ، وإذا كانت إقامته دائما في نواحي ديرة بغداد أم أنه يتقدم أكثر فأكثر إلى نواحي المشرق (٣) ، حيث لي بذلك مصلحة كبيرة. فابتدأت أبحث عن من يخبرني بمطلوبي ولا يكون من عرب مهنا ، فوجدت واحدا من ٢ / ٢٣ البدو يسمى عبد الله الشاعر ، من دير الشّعّار / قرية على حافة نهر الفرات ، واستخبرت منه عن الدريعي. وبما أنه شاعر فهو يعرف جميع العربان وأحوالهم ، فأخبرني عن الدريعي وأحواله ١ / ٤٥ ومزاياه بالتفصيل ، وصرنا نتسامر بخصوص الحال الواقع من ناصر (٤) ، / فقلت له : يا عبد الله (هذا اسمه) ، إن الناس تلهج بذكر الدّريعي كثيرا ، فمن هو هذا الرجل من الناس. قال : يا سيدي إن الدريعي رجل عظيم بين أبناء عصره ، شجاع ، عظيم بالحرب شديد بالقتال ، جرّبته المعارك ، فارس لا يوصف ، له معارك شتى انتصر بها جميعا مع العرب على الحضر ، حتى أنه لا يحسب حساب الوهابي نفسه. ومن جملة أفعاله أنه كسر أرضي (٥) وزير

__________________

(١) في الأصل : «الاختيار» ، ويريد الصائغ أن يقول : الختيار أي الرجل المسن.

(٢) أي يصبحون لحمة واحدة.

(٣) أي إلى جهات الإيران وحدود الهند.

(٤) تتمة الكلام صفحة ١ / ٤٥ و٢ / ٤٥ و١ / ٤٦ من المخطوطة.

(٥) جيش.

٧٥

بغداد الذي هو بقدر سلطان اسلامبول. قلت وكيف [كان] ذلك؟ قال : اعلم يا سيدي أن الدريعي نهب ذات يوم قفل بغداد ، وكان آتيا من دمشق. فاغتاظ الوزير من ذلك ولكنه لم ير على نفسه حتى يتم خيانة العثماني. فأرسل مكتوب أمان وراية مصحوبة بأقسام عظيمة إلى الدريعي أن يقوم وينزل إلى بغداد لأجل غرض ضروري وفيه خير له. فمن طبع العربان عدم الخيانة وقلبهم سليم ، فصدق [كلام الوزير] ونزل إلى بغداد بعشرة خيال فقط. فحين دخل على الوزير أمر بحبسه وتقييده بالجنزير هو والرجال الذين معه. وثاني يوم طلب منه ألفي جمل وخمسة آلاف رأس غنم وخمسين فرسا كحيلة وعشرين هجينا أو يقتله. فقال له الدريعي : على الرأس والعين (١) أدفع جميع المطلوب ، ولكن إذا أمرت ، فإن ابني يكون رهنا مكاني ، وأنا أخرج لأدبر المطلوب. فقبل الوزير ذلك وحالا أرسل الدريعي وأحضر ابنه سحن (٢) ، وطلع هو من السجن. وفي مدة خمسة أيام ورد جميع ما ذكرناه زائدا غير ناقص. فأطلق الوزير سحنا. فعندما رأى الدريعي ابنه عنده نهب أول قفل اتى من حلب إلى بغداد ، وابتدأ ٢ / ٤٥ يضرب وينهب ضيع وقرى بغداد ، / وزاد على ذلك حتى قطع السابلة على بغداد فتضايق الوزير من ذلك وابتدأ يعد مهمات توجيه الأرضي (٣) حتى يضرب الدريعي. فجمع العساكر والخيم والمدافع وكامل المهمات الواجبة ، وخرج من بغداد بأرضي [يضم] ثلاثين ألف مقاتل ، بكل نظام وتدبير ، وطقومه (٤) مثل أرضي همايون (٥). فحين بلغ ذلك إلى الدريعي تأخر عن بغداد نحو يومين وجمع عربانه وغير عشائر يقود عليهم (٦) فوصل الأرضي ونصب [خيامه] أمام أرضي الدريعي. وثاني يوم جرت حرب عظيمة وقتل جملة فرسان من الفريقين ، وثاني يوم كذلك وثالث يوم أيضا ، فلم يكسب أحد بل كانا متساويين بالقوة. ورابع يوم انسحب الدريعي ليلا مع كامل العربان والبيوت إلى قرب بغداد ليقطع الجلب عن الأرضي ، فظن الوزير أن الدريعي ولّى هاربا فسرّ وقال لقد ذهب وكفانا خيره وشره ، لأن الوزير كان خائفا من الكسرة. وأما الدريعي فإنه ركب تلك الليلة ذاتها ، واستصحب معه خمسة آلاف خيال من المجرمين بالحرب والقتال ، ومشى بهم ليلا وصبّح أرضي الوزير ، قبل بزوغ الفجر ، فقسم خيله

__________________

(١) «قوي مناسب».

(٢) كذا ، ولعله يريد صحن لأن من عادة الصائغ أن يبدل الصاد بالسين.

(٣) الجيش.

(٤) ألبسته النظامية.

(٥) أي جيش السلطان.

(٦) كذا ولعل الصائغ يريد أن الدريعي كان يقودهم.

٧٦

خمسة طوابير ، ودار بهم على أطراف الأرضي ، وعمل إشارة ، وهجم وهجمت الطوابير الخمسة بلحظة واحدة كأنهم الأسد الخاطف ودخلوا أرضي بغداد وابتدأ ضرب السيف والقتل. وكان عساكر العثماني أكثرهم نائمين ومعلقين أسلحتهم ، فقاموا من نومهم مثل المجانين ، وصاروا يقتلون بعضهم بعضا ، فانكسر الأرضي وصاح فيه غراب البين ، فنظر الوزير إلى ذلك واضطرب (١) وخاف جدا ، فما وعى الناس إلا وقد ركب بطاق المسد ، من ١ / ٤٦ غير بابوج ، وانهزم ودخل بغداد ، / وكذلك العساكر ، منهم من قتل ومنهم من رمى روحه بالدجلة. وغنمت العربان جميع ما حوي الأرضي ، من خيل وسلاح وعدة خيل وقومانية (٢) وذخائر ودراهم وملبوس وخيم ومدافع ، وجميع ما كان بالأرضي من كلي وجزئي ، شيء كبير القيمة. وقتل من العسكر عدد وافر. ودخل الوزير بغداد ولحقه من استطاع ، وأغلق الأبواب ، وظن أن العربان لا حقون به إلى داخل البلد ، ودخل عليه الخوف والوهم (٣). ووقعت سطوة الدريعي في قلوب أهالي بغداد ، حتى وصلت إلى الأطفال يخوفونهم بالدريعي لكي يناموا. وشاع خبر الدريعي بعد ذلك وكبر صيته عند العرب والحضر حتى وصل إلى الوهابي وإلى كامل البادية (٤) والمسكون (٥). والآن لا يوجد بين العربان من هو أكبر منه. ومن جملة أطباعه أنه يحب الكبر والمال ، والمشي في الدروب الصعبة والوصول إلى المعالي. وهذه مزايا الدّريعي ابن شعلان. فحكيت جميع ذلك إلى الشيخ إبراهيم فسرّ وقال : هذا هو الرجل الذي يتمّ مطلوبي (٦). وفرح الشيخ إبراهيم وكان مسرورا مني جدا.

وثاني يوم ، دعاني ناصر وأملى علي كتابين ، الواحد إلى صدد والآخر إلى القريتين ، مضمونهما طلب الخوة منهم. وذلك لأن له كل سنة من صدد راتب قدره خمس مئة غرش وست مشالح ، وكذلك له ألف غرش وست مشالح من القريتين. ومن كل ضيعة له خوة ، وذلك من جميع قرى طبراق حلب وحماة وحمص ودمشق ، كل قرية على قدر أهميتها. وهذه الخوة لا بدّ منها مثل الميري ، وأكثرها يعطيها أهالي القرى المساكين إلى مهنا ، ليرد عنهم

__________________

(١) «وانعبط».

(٢) مؤونة.

(٣) ذكر هذا الحادث عبد الله فيلبي في كتابه : تاريخ نجد ، ص ١٢٣.

(٤) «الشول» أو «الجول» كما جاء في أماكن أخرى من المخطوطة.

(٥) أي المعمورة.

(٦) بقية الصفحة بياض.

٧٧

غارات العرب ، خوفا على طرشهم (١) وحالهم. فوجدنا أن أهالي القرى مظلومون جدا ، لأن عليهم أن يرضوا خاطر العثماني والعرب ، وهم رعايا فقراء جدا ، وحسبنا بالتقريب ما يصل إلى مهنا من الأموال. فيصله من القرى ، باسم الخوة ، نحو مئة كيس ، وله على حماة وحمص كل سنة كميات من الحنطة ، وله أيضا الصرة التي تعطى له من أجل الحج ، وتصله الهدايا من كامل أكابر البلاد والحكام فيرسلون إلي بالألبسة والأرز والدبس وغيرها من الأشياء التي لا يوجد عنده منها. ومع ذلك فهو دائما مفلس وعليه دين ، على الرغم من أن لا مصروف عليه. فالحنطة تأتيه مجانا والأرز كذلك ، كما ذكرنا. أما السمن فتعطيه العربان ، وعنده الغنم يذبح كل يوم منها ، وتأتيه الهدايا من العرب أيضا وليس عليه علوفة (٢) لعسكر أو لخدم ، أما الألبسة فليس هناك غير القميص والعباية والكوفية والجزمة ، هذا بالنسبة إلى مهنا نفسه وأكابر قبيلته ، أما بقية الناس فلا شيء بأرجلهم على الإطلاق ، فالغني يزيد على الفقير بالجزمة فقط. ففكرنا بذلك وصرنا نسأل أنفسنا أين تذهب الأموال التي تصله ، واستخبرنا عن هذا الأمر ، فعلمنا أن أمواله تصرف على العربان فهو يكسوهم ويكسو خيلهم ويكرمهم. ومتى ما صار عنده قليل من المال يفرقه على الفداوية أعني الفرسان المشهورة بالحرب ، ومتى أتته حاجة جديدة لا يلبسها بل حالا يعطيها للشخص الذي يكون أمامه. فهذا الذي جعله ١ / ٢٤ كبيرا بين العربان ، وهذه عادة العرب وعلى الأخص طائفة بيت الملحم. / ولا شك أن جميع العربان غير راضية عنهم ، إلا أن كرمهم خلق لهم حزبا كبيرا واسما شهيرا بين العشائر. والواقع أنهم وإن كانوا من بيت قديم ، فإن أفعال ناصر من شأنها أن تبعد الناس عنهم. ولكن كرمهم واسم بيتهم القديم جعلهم يثبتون.

ثم رحلنا من تلك المنزلة إلى أخرى بقرب حمص يقال لها الجديدة ، ماؤها نبع يجري على الأرض ، وهي تبعد ثلاث ساعات عن نهر العاصي الذي يقع غربيها. فنزل مهنا إلى حمص مع عشرة خيالة ، وبقي فيها يومين وحضر ومعه هدايا من حاكم حمص وأكابرها ، لأنهم يخشون منه على قوافلهم وأرزاقهم الشاردة والواردة. لأن من عادة العرب ، إذا لم يكونوا راضيين عن بلدة ، أن ينهبوا قوافلها. وبعد حضور مهنا بيومين. ركب ناصر بنحو خمس مئة خيال

__________________

(١) ماشيتهم.

(٢) علوفة : مرتب شهري أو سنوي.

٧٨

على قبيلة يقال لها عبد الله (١) أميرها يسمى سطام الدّغيمي (٢). وكان المذكور في منزلة بقرب تدمر يقال لها أسدين (أعني النهدين) لأن بها تلتين ، الواحدة إلى جانب الأخرى ، بالحجم نفسه. وبعد ثلاثة أيام حضر ومعه نحو مائتي ناقة وغنم كسبها ، وأخبر أن موقعة عظيمة حصلت بين الطرفين ، وقتل من ربع ناصر ثلاثة أفراد ومن العبد الله نحو عشرة ، وأتوا بثلاثة أفراس عظام ، وأخذ لهم فرس واحد ، وهو فرس زامل ابن عم ناصر الذي ذكرناه سابقا.

فضجّ العربان جميعهم من هذه الغارة ، وتأكد لهم أن ناصرا يقصد خراب العرب ، ويريد الشر معهم ، لأنه أغار على عرب سطام من غير سبب ولا عداوة سالفة بينهم ، ولكن يرغب في كسر شيمتهم حتى يسود عليهم ، فاشتغلت الطروش (أعني المراسلات) بين العربان يخبرون بعضهم بعضا ، وانذروا الناس لكي يجتمعوا ويكونوا على حذر من الحسنة ، ووصلت مكاتباتهم إلى الدريعي وإلى عرب نجد وشمر ، ونمت العداوة بينهم ، وعزموا على الغارات على عرب الحسنة ، أتباع مهنا ، وشاع هذا الخبر في كامل ديرة عربستان ، ووصل إلى أمير يقال له دوخي بن سمير (٣) ، ويقال لقبيلته ولد علي ، يقيم في ديرة حوران فوق دمشق. فهذا الأمير يأخذ صرّة (٤) من وزير الشام لأجل الحج ، مثل مهنا تماما ، وبينه وبين بيت الملحم قرابة من جهة النساء ، وهم أحباء من زمن قديم ، فلما بلغته هذه الأمور اغتاظ ٢ / ٢٤ جدا وخاف على بيت الملحم ، ولم يتحمل ذلك ، فركب حالا ومعه نحو ثلاثين خيالا / وأتى عندنا خصوصا ، فلقيه الناس بكل إحترام. ونزل من على ظهر جواده ، وهو مسود الوجه عابس. فأمر مهنا بالقهوة فقال له : يا مهنا قهوتك مشروبة ، فإني لم آت لأشرب القهوة بل لأقول لك أن بيتك وحمولة بيت ملحم سوف تتلاشى عن قريب ، من أفعال ولدك هذا ناصر باشا ، وذلك من نوع الاستهزاء. ثم قال : واعلموا أن كل العربان ضدكم ومرادها أن ترد النقا عليكم ، (رد النقا معناه اشهار الحرب) ، لأن في اصطلاح العرب متى قلت مردود عليك النقا (٥) ، معناه خذ حذرك مني لأني أصبحت خصمك (٦) وأعلنت الحرب

__________________

(١) «عبد له» ؛ من عنزة ، «تلفظ لفظة الجلالة برقة زائدة» (وصفي زكريا ، عشائر الشام ، II ، ٣٩).

(٢) الدّغيم ، من السلقا ، من عنزة.

(٣) «دوخي ابن سمير».

(٤) «صرّ».

(٥) هذا الاصطلاح لم يزل معمولا به ، (انظر : العزيزي ، قاموس ، ج ١ ـ ص ٣٤٤).

(٦) الصائغ يكتب : «أنا ضشمانك».

٧٩

عليك. أما الجوخدار ، فكان سافر إلى حماة قبل يوم واحد فقط ليذهب بعد ذلك عند باشا دمشق. فتغيرت ألوان مهنا وقال لابنه ناصر : هل أعجبك هذا الشغل؟ أتريد أن تبيد اسمنا ويكون خلاص بيت ملحم على زمانك؟ فزعل ناصر وقال : ليفعل العربان ما يريدون ولا يقصّروا ، إن شاء الله أني سأحضر لهم عشرين ألف عسكري من البلاد. وذلك لأنه ما كان يشد ظهره فقط بباشا الشام ولكن أيضا بدالي (١) باش يقال له الملّا اسماعيل ، رجل كبير الشأن مقيم في حماة ، صوته يجمع دائما ثلاثة إلى أربعة آلاف دالاتي (٢).

فمن بعد جدال طويل وكلام كثير مع الدوخي ، لم ينتج عنهما فائدة ، بات تلك الليلة وثاني يوم قال : يا ناصر ، أنا ذاهب عند أهلي ، ولكني لا أكون ضدك ، بسبب حق الخبز والملح والقرابة والصحبة ، وكذلك لا أكون معك ، إذ لا يجوز ذلك ، لأن مشيئتك رديئة وقصدك تنكيس أبناء جنسك. ثم ركب وتوجه إلى ديرته حوران ، بكل حمق وغيظ.

أما مهنا فإنه خاف من هذا الكلام ، وثاني يوم رحل ونزل بقرب حماة ، وكان بينه وبين حماة ساعة ، وذلك بمشورة ناصر ليكون قريبا من البلاد ، فإذا احتاج إلى عساكر يطلبها من حاكم حماة ومن الملّا اسماعيل الذي ذكرناه سابقا. أما العربان فإنه تم رأيهم على تنكيس راية بيت الملحم ، وارتبطوا مع بعضهم بعضا ، وصار كل من رأى أحدا من غير قبيلته يقتله. وكانت الصيفية رديئة قضيناها بالخوف والجزع ولم يعد لنا رغبة في الذهاب عند قبائل أخرى ، ١ / ٢٥ لأننا أصبحنا معروفين من أتباع بيت الملحم ، فيصيبنا ضرر من العرب بسبب ذلك ، / والتزمنا أن نبقى دائما مع قبيلة مهنا.

وأما المذكور ، فغشيم جدا كما تقدم الشرح عن طباعه ، وبسبب غشمه ينقاد إلى ابنه ناصر في كل ما يريده. ومما يحكى عن غشمه أن وزير الختم ، حين رجع من مصر بعد أن غادرها الفرنسيون ، مرّ على دمشق بجميع الجيش (٣) الهميوني (٤) ، فصار كبار البلدة ووجهاؤها وأعيانها يأتون للسلام عليه. وبطريق الإتفاق كان مهنا حينئذ بدمشق ، فتحسن

__________________

(١) دالي باش أي رئيس الدلاتية.

(٢) الدلاتي (من التركية) : جندي من المشاة أو الفرسان يضع على رأسه القاوق أي قبعة مستطيلة أسطوانية الشكل.

(٣) في الأصل : أرضي.

(٤) الهمايوني أي السلطاني أو الملكي.

٨٠