رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

ويأخذ نعجات ، الخلاصة أن الحاجة التي تكون أثمن يأخذ صاحبها من الثاني زيادة ، ليس من الدراهم بل من الأمتعة ، لأن الدراهم قليلة جدا لا تكون إلا عند الكبار ، لأن لهم خوّات وعندهم طروش يبيعون منها ، وللبعض صرة معلومة من الحج. أما الرعايا فبوسعي أن أؤكد أن من العرب من لا يعرف حتى شكل الدراهم.

أما بخصوص نسائهم ، فإنهن يتعبن أكثر من الرجال ، لأن كل التعب على الحريم ، مثل جلب الماء والحطب ، والطبخ ، وحلب النوق ، وتحميل البيوت عند الرحيل ، ونصبها وقت النزول. وأما في المسير فإن جميع النساء تركب ، فلا ترى حرمة ماشية ، لأن ذلك عندهم عيب كبير ، ولكن ترى كثيرا من الرجال مشاة إذ بينهم كثير من الفقراء ليس عندهم مركوب. وبالحقيقة إن كل التعب على الحريم إلا أنهن موقرات وكلامهن مسموع مثل نساء بلاد الإفرنج. وكثير من الأمور ، من كلية وجزئية ، تجد النساء لها حلا ، لأن الكثير منهن لهن قوانين (١) وعادات (٢) مثل الإفرنج ، بضد طرائق الإسلام الحضر. أولا ليس عندهم خباء ، لا من بعضهم ولا من الغريب. ثانيا أن جميع تدبير البيت بيد الحريم ، ثالثا لا يبت أحد بأمر إلا بعد أن يستشير حرمته ، فإن استحسنت تدبيره عمله وإن لم تستحسنه لا يعمل به ، رابعا دماؤهم حامية من أدنى سبب يثورون وتقع الفتن سواء مع بعضهم أو مع الغريب ، كذلك لا يتعشون في القيظ الشديد (٣) ، فيتناولون طعام العشاء أحيانا قرب منتصف الليل ، خامسا لا يتزوج أحد بامرأة إلا بعد عشرة معها. سادسا لا يبول أحد وهو قاعد مثل الإسلام بل وهو واقف ، واعترضنا عليهم مرارا بذلك فكان الجواب من الأنسب أن نلوث (٤) أرجلنا من أن نلوث وجوهنا (٥) ، فرأينا ذلك عين الصواب ، سابعا منذ أن يخلق الولد إلى أن يموت لا يحلق رأسه بل إن شعورهم دائما مرسلة مثل الإفرنج (٦). ثم عندهم ١ / ١٢٦ أن الذي يموت على فراشه رذيل (٧) ، ويقولون عنه فطس ولا يقولون مات ، وأما الذي / يموت بالحرب فإنهم يقولون عنه مات بعزه شهيدا ، ويترحمون عليه ويقومون الصدقات على روحه ،

__________________

(١) يريد عادات.

(٢) «وذيات» (؟).

(٣) عبارة الصائغ مبهمة جدا فهو يقول : «كذلك لا ينعشوا إلا لقيذ كثير».

(٤) «نطرطش».

(٥) لم أر قط بدويا يبول واقفا.

(٦) البدو يقصون شعورهم ويحلقون رؤوسهم ولكن أقل بكثير من الحضر.

(٧) قال خالد بن الوليد عند وفاته : «ها أنا أموت على فراشي مثل اللئيم».

٢٨١

لا سيما إذا قتل بمعركة مع الروم (يعني العثماني) ، فذاك مرحوم ومغفورة ذنوبه ، لأن العثماني ، إذا استطاع ، يدخل ويقتل ويسبي الحريم. فلهذا السبب ، من قتل في حرب مع العثماني يكون عندهم مقبولا لأنه حامى عن عرضه وماله ، وقتل بشرفه أمام عياله ، ولا يحزنون عليه. وعندهم البكاء على الميت حرام والحزن حرام. والبكاء على الميت لا يكون قط أمام الرجال ، ولكن إذا كان الميت عزيزا على أهله فإن النساء يعملن نياحا عليه وحدهن ، فيخرجن خارج البيوت حتى لا يراهن الرجال ، إلى مكان بعيد عن البيوت ويعملن نياحة ويقلن القصائد ويبكين. وأما الصراخ مثل أهل المدن فغير موجود عندهم. وهذا الشيء يحصل نادرا لبعض الأمراء ومشايخ مناصب فقط.

٢٨٢

[نهاية الرحلة]

ثم من الآن وبعده سنتكلم على ختم السيرة لكي يكون مربوطا بالكراس الرابع عشر ، حتى يعلم القارئ كيف كان منتهى سياحتنا.

فمن بعد وصولنا إلى جبال شمّر والجوف ، أصابتنا تلك ريح السموم كما مرّ في الكراس ٢ / ١٢٦ الرابع عشر ، ثم لم نزل نتنقل مع العربان إلى بلاد حوران ونزلنا إلى دمشق. / وسرنا إلى حلب ، ومن هناك أردنا الذهاب برا إلى اسلامبول إذ كان بلغنا حضور بونابارته بالجيش العظيم إلى بلاد المسكوب (١). ثم لم نزل نتنقل من بلد إلى بلد وحدنا ، من غير مرافقة قفل ، إذ لم يتيسر لنا قافلة وقتئذ ، فقط الخواجه لاسكاريس وأنا وخادم أرمني ، وكان فصل الشتاء ، وقد انقطعت الطرق من الثلج والبرد الشديد وأثناء مسيرنا في إحدى القرى ماتت فرسي النجدية العظيمة التي كان أهدانيها الوهابي ، وكنت مزمعا على إعطائها إلى اللاجي (٢) واستنفع

__________________

(١) يخبط الصائغ بالتاريخ خبط عشواء ، لأن نابليون احتل موسكو في ١٥ أيلول سنة ١٨١٢. ومن سياق الحديث يستدل على أن الذهاب إلى اسلامبول كان سنة ١٨١٤ أو شتاء سنة ١٨١٣.

(٢) كذا ولعله يريد الألجي أي السفير.

٢٨٣

بثمنها ، لأنها كانت تساوي مبلغا وافرا من المال ، فمن جملة النحوس أنها ماتت. فصرت تارة أمشي وتارة أركب قليلا مع الخادم إلى أن دخلنا اسلامبول ، وأقمنا بالطريق ثلاثة أشهر ونحن بعذاب شديد. فحين وصولنا بلغتنا الأحوال التي جرت على الجيوش الفرنسية في مدينة موسكو ونواحيها فغمنا ذلك جدا ، وزاد الغم علينا إذ حدث وقتئذ طاعون في اسلامبول ، فاضطر حضرة الجنرال اندريوسي (١) ، الذي كان السفير (٢) يومئذ ، أن يرسلنا إلى محل خارج البلد يقال له كاغة خانه ، فأقمنا هناك ثلاثة أشهر إلى أن انتهى الطاعون. وكانت تواردت ١ / ١٢٧ الأخبار بانكسار الجيش الفرنسي وتراجعه وتلك الأحوال / التي حصلت المعروفة ، فصعب علينا ذالك جدا وأصابنا غم شديد ، وأصبحنا لا نعرف ما ذا نفعل ، وكنا مثل المجانين. وبعد أن أقمنا خمسة أشهر في اسلامبول قال الخواجه لاسكاريس : أنا الرأي عندي أن نتنقل بحرا من جزيرة إلى جزيرة إلى أن نعود إلى بر الشام ، وفي مسيرنا نستنشق أولا أخبار فرنسا ، ثم أريك جزر ارشيبيلاكو (٣) ونرى كيف الله تعالى يدبرنا. فاعتمدنا على هذا الرأي ، وسافرنا من اسلامبول مع قايق أروام ، ودرنا بعدة جزر ، وكانت الأخبار تأتينا بعكس ما نتمناه.

ثم سافرنا من جزيرة الساموس ، مع مركب آت من اسلامبول يشحن قمحا إلى جزيرة الساقظ ، فسافرنا معه تلك الليلة ، وبعد منتصف الليل ابتدأت عاصفة عظيمة وإعصار شديد جدا ، فذهب بعدد من البحارة وأخذ بعض الركاب من على ظهر المركب ، فرمينا الحنطة بالبحر ، ولم يبق برميل ولا صار ولا شراع [إلا ذهبت به الرياح] ، فدخلنا جزيرة الساقظ ونحن على آخر رمق ، فوجدنا بالجزيرة الطاعون فظللنا شهرين في دار صغيرة في حصار من الطاعون تحت اشراف الخواجه بورفيلو (٤) الذي كان عندئذ قنصلا. وخلال هذه المدة توسخت ثيابنا وأصبح من اللازم غسلها غير أننا كنا لا نستطيع أن نعطي حوائجنا ٢ / ١٢٧ خارج البيت خوفا من الطاعون ، فوجدت من المستحسن أن أقوم أن بغسلها ، وكنت رأيت / النساء تغلي الحوائج فتنظف عاجلا من غير تعب الأيادي. فأخذت من عند بيت القنصل دستا كبيرا جدا من النحاس ، وصبرت إلى الليل لكي أضع فيه الحوائج التي علينا وأغسل الجميع غسلة واحدة ، وحين كان وقت النوم وضعت جميع حوائجنا في ذلك الماعون ،

__________________

(١) Andreossy كان سفيرا من ٢٦ / ٥ / ١٨١٢ إلى ١٣ / ٨ / ١٨١٤.

(٢) (إلجيّ).

(٣) Archipielago.

(٤) Bourville.

٢٨٤

وأشعلت النار وذهبنا للنوم. فقمت قرب الصباح فوجدت دخانا ورائحة حريق ، فركضت نحو الدست فإذا بالحوائج مثل الفحم محترقة عديمة النفع لأن الماء قد نشف من طول الليل واحترقت الحوائج ، فصرنا تارة نضحك وتارة نتحسّر ، واضطررنا أن نبقى نحو ثلاثين يوما بطاق القمصان التي نمنا فيها ليلة الغسيل وما كان عندنا غيرها إلى أن انتهى الطاعون فطلعنا واشترينا حوائج وكسينا حالنا ، وهذا من جملة المصائب.

ثم بعد ذلك نوينا على التوجه إلى بر الشام ، وإذ وصل كتاب إلى الخواجه لاسكاريس من قنصل أزمير يطلب منه أن يحضر عنده بشغل ، فاقتضى أن يرسلني مع قايق ذاهب إلى اسكندرية ، لكي أتوجه إلى بر الشام وانتظره في حماة ، وأعطاني مكتوب توصيه إلى حبيبه وهمشريّه (١) الخواجه دروفيتي (٢) ، وذهب الخواجه لاسكاريس إلى أزمير. فوصلت أنا إلى ١ / ١٢٨ اسكندرية فوجدت الطاعون أيضا / بالاسكندرية ، فواجهت الخواجة دروفيتي من غير ملامسة ، وبعد أربعة أيام سافرت إلى بيروت ومن هناك توجهت إلى حماة أنتظر الخواجه لاسكاريس ، فأقمت أربعة أشهر أنتظره في حماة ، وبعد ذلك حضر عندي وأخبرني أن الذين طلبوه إلى أزمير ، بوساطة القنصل ، هما الجنرالان الشهيران لالمان وسافاري (٣). ثم بعد اجتماعه مع الجنرالين المذكورين رأوا أنه من المستحسن ، لأجل عدم كشف المادة ، أن يأخذ حماية الإنكليز ، فاضطر أن يعود إلى اسلامبول ويدخل عند إلجي (٤) الإنكليز ويطلب حمايته. فقبل الإلجي طلبه ، وحالا أخرج له فرمانا سلطانيا فيه توصية مشددة إلى كامل [الأراضي الخاضعة] للحكم العثماني بإعطاه كل حماية وصيانة له ولترجمانه وأتباعه ومن يلوذ به. فأخذ الفرمان والبوظابرة (٥) وحضر إلى عندي لحماة ، وأخبرني بالذي جرى ، وأعطاني الفرمان. فقلت له : يا سيدي قد غلطت ، فهذه الحماية ستضرنا ، ولكن قد تم الأمر وما عاد ينفع الندم.

ثم في أثناء تلك الغضون حضرت والدتي من اللاذقية إلى عندي ، لأنها كانت أخذت

__________________

(١) همشري : الرجل الكريم العصامي.

(٢) Drovetti ، وكان قنصل فرنسا في الاسكندرية على عهد نابليون الأولى ، ثم عزل وقت سقوط الامبراطورية وعاد إلى منصبه بعد ذلك.

(٣) Lallemand ,Savary ، والواقع أن لاسكاريس قابل هذين الجنرالين في ازمير خلال ربيع سنة ١٨١٦.

(٤) سفير.

(٥) جواز السفر.

٢٨٥

خبرا بمجييء إلى حماة. فبعد فراق سبع سنوات من غير خبر ولا مكتوب كانت قطعت أملها ٢ / ١٢٨ مني. فحين رأتني طار عقلها من الفرح ، وأخذت تعانقني وتبكي ، / ولا تصدق أنها تراني باليقظة بل تقول هذا منام. ثم بعد قليل من الأيام تم الاعتماد على التوجه إلى مصر القاهرة عند الخواجه دروفيتي (١) لأنه يحب كثيرا الخواجه لاسكاريس وهمشري ، وهناك ندبر حالنا ، لأننا رأينا أن الرجوع عند العرب أصبح غير ضروري ودون فائدة. فالتزمنا أن نسافر من حماة ووالدتي معنا. فبعد وصولنا إلى طرابلس اتفق أن مركبا كان مقلعا إلى دمياط فأراد الخواجه لاسكاريس أن يسافر به. فترجته والدتي ، لأنها ما كانت امتلأت من رؤيتي ، أن يسمح لي بالتوجه معها (٢) للاذقية مدة قليلة ، وبعدها أروح عنده إلى مصر. فبعد رجاء كبير سمح لي أن أتوجه معها (٣) وأقيم عندها مدة ثلاثة أشهر ، أرى أهلي وأحبابي ، ثم أعود إلى مصر.

__________________

(١) «درويتي».

(٢) «معنا» (؟).

(٣)

٢٨٦

[وفاة لاسكاريس والحجز على أوراقه]

فودعنا بعضنا وهو ذهب إلى دمياط ، ونحن رحنا إلى اللاذقية. وفي اليوم الثاني من وصولنا ، أول عمل قمت به أني حلقت لحيتي التي كان عمرها سبع سنوات ، ووضعتها بورقة وكنت أهدي منها كل محب أو محبة بعض شعرات ، حتى فرقّت لحيتي على كل أحبابي ، وجلست بكل راحة أتمتع بمشاهدة الإخوان ، إلى أن مضت الأشهر الثلاثة الموعودة ، ونويت ١ / ١٢٩ على السفر ، وكنت أترقب فرصة الذهاب إلى مصر / وإذ حضر مركب بيليك (١) فرنساوي من الاسكندرية ، وأخبرنا بوفاة المرحوم لاسكاريس في مدينة مصر بمرض الظلظارية (٢) فحين بلغني هذا الخبر المشؤوم ، لا يتصور أحد حالتي مما أصابني من الغم والحزن والكدر ، لأنني أولا كنت أحبه جدا وأصبح عندي مثل والدي ، ثانيا تأكدت أن سياحتنا خلال سبع سنوات (٣) وتعبنا ذهبت سدى من غير ثمرة ، ثالثا تيقنت أن أجرتي مدة سبع سنوات ، عن كل سنة ألف غرش ، بموجت الشرط الذي بيننا ، ما عدت أستفيد منها بمصرية واحد. فجلست باللاذقية حزينا مكسور القلب والخاطر. ثم بعد مدة أرسل الخواجه دروفيتي بمكتوب يطلب حضوري عنده ، لندبر مادة المرحوم لاسكاريس. ففرحت نوعا ما وبالحال ،

__________________

(١) brick ، سفينة.

(٢) كذا ويريد الظنطارية أو الزحار. والواقع أن لاسكاريس توفي سنة ١٨١٧ وقد يكون مات مسموما.

(٣) مدة الرحلة مبالغ بها لأن ابتداءها كان في ١٨ شباط ١٨١٠ ونهايتها بعد رجوع الصائغ من الدرعية أو بعد سفره مع لاسكاريس إلى استنبول أي شتاء سنة ١٨١٣.

٢٨٧

عند أول فرصة ، توجهت إلى القاهرة (١) ، فما وجدته بها ، ولكن أخبرني الخواجه دوساب ، الطبيب (٢) الفرنساوي ، أنه في بلاد الصعيد ، ذهب ليبحث عن العاديّات (٣) ، فاضطررت أن أذهب إلى الصعيد ، فوجدته في بلد يقال له أسيوط. وهناك أخبرني أن قنصل الإنكليز ، مستر سالط (٤) ، أخذ جميع ما كان مع لاسكاريس وحجز عليه ، من آلة هندسة عظيمة ، ٢ / ١٢٩ وكتب ، وأوراق ، وقطع / عاديّات ، وكل ما وجد معه ، وسبب ذلك لأنه مات تحت حماية الإنكليز. فالآن الرأي عندي ، حين تصل إلى مصر ، أن تذهب عند قنصل الإنكليز ، وتطلب كتب معلمك لاسكاريس وأوراقه وتترجاه لكي يعمل لك طريقة لتحصل على نتاج علوفتك (٥) ، وأكثر الأمل أنك تستطيع الحصول على كتاب سيرة سياحتكم ، المأخوذ من اليومية بخطه باللغة الفرنسية ، فأنا اشتريه منك بالمبلغ الذي تريده. فكن رجلا شجاعا ولا تخف.

ثم حين كنا بالقاهرة ، ذهبت عند القنصل وطلبت جميع ما ذكرنا. فعبس وجهه وقال : أنا أعرف من علمك وأرسلك عندي تطلب ذلك ، فجميع ما تطلبه لا تستفيد منه بشيء ، لأن [الرجل] مات تحت حماية إنكلترا ، فهو من رعايانا وليس له وارث. فبموجب أمر الدولة حجزت على موجوداته ، وأرسلت بها إلى لوندره.

فرجعت وأخبرت الخواجه دروفيتي فقال : كذب ، لم يرسل بشيء ، وحفظ بالجميع عنده. فعدت ثاني يوم عنده بكل جراءة وطلبت منه جميع حوائج لاسكاريس. فعبس بوجهي واغتاظ جدا وشرّدني من بيته بكل حماقة وأرسل إلى كتخداي بك محمد علي باشا وترجاه أن ينفيني (٦) من البلد ، ليخلص مني بالكلية. ولو لا جاه دروفيتي ومحبته مع الباشا ، ١ / ١٢٩ لكان حصل لي أذية وكسر خاطر. /

ثم بعد ذلك سافر الخواجه دروفيتي ، وبقيت أنا بعد ذلك مدة في القاهرة (٧) ، ثم

__________________

(١) «توجهت لمصر».

(٢) «الحكيم».

(٣) «يحوش انتيكات».

(٤) Salt استلم مهام وظيفته سنة ١٨١٦.

(٥) علوفة ، مرتب شهري أو سنوي ، والصايغ يريد ما يستحق له من أجرة.

(٦) «يسركلني».

(٧) «مصر».

٢٨٨

توجهت إلى دمياط ، ومن هناك رجعت إلى اللاذقية من غير فائدة كليا ، وخسرت جميع مصاريف سفرة مصر من مالي ، وراح التعب والشقاء باطلا ، ودخلت اللاذقية وصرت أبحث لي عن عمل أعيش منه.

وهكذا كان منتهى سياحتنا سيئا جدا : مات المعلم وذهب سدى تعب التلميذ وأجرته ، ورجع إلى حضن أمه كما كان خرج من عندها والسلام.

٢٨٩

ملحق

رحلة الصايغ إلى الدرعية (مترجمة من الفرنسية)

وتعليق الشيخ الحنبلي عليها ، وملاحظاتنا

نقلا عن مخطوط تحت رقم ٢٢٩٩ ، محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس.

«أقول ، وأنا الفقير إلى الله تعالى ، فلج أنس فرسنل (١) الفرنساوي ، هذه نكتة أخذتها من رحلة مسيو الفونص دلامارتين الشاعر الفرنساوي ، وكان أصلها كتابا عربيا لفتح الله الصائغ الحلبي ، ولم يمكني تحصيل هذا الأصل ، فرجّعت القصة من الفرنساوية إلى العربية ، لكي أطلع عليها أرباب الخبرة من العرب ، وأعلم من شهادتهم هل صدق فتح الله أم لا ، فالمرجو ممن نظر في هذه الترجمة ، وشاهد هذه الحادثة أو وصله علمها أن يخبر بصحته الموافق وكذلك بالمخالف. حرر بجدة في شعبان سنة ١٢٥٣ (٢)».

ولما اطلع عليها العلامة العمدة الشيخ الحنبلي (٣) ، كتب عليها ما نصه :

«نظر فيها الفقير إلى مولاه العلي ، أحمد بن رشيد الحنبلي ، فوجد صاحبها لم يصدق

__________________

(١) FulgenceFresnel.

(٢) ١٨٣٦.

(٣) بعد أن استولى إبراهيم باشا على الدرعية سنة ١٢٣٣ / ١٨١٨ ، ألقى القبض على الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد وأمر بقلع أسنانه. ثم ذهب به إلى القاهرة حيث أحسن والي مصر معاملته وأسند إليه التدريس في القلعة وفي الأزهر إلى وفاته سنة ١٢٥٧ / ١٨٤١.

٢٩٠

في شي مما أخبر عنه ، لا في وصف سعود ولا كلامه ولا أفعاله ، ولا صدق من جهة وصف الدرعية ولا عادات جماعات سعود وعزائمهم ، ولا أسماء الوزراء ، ولا أبو مسلم ولا الحضرموتي ولا هيدل (١) ، ولا في عدد أقارب سعود (٢) ولا أولاده ، ولا في طعامه ولا في مال الحجرة ـ أربعين جمل تحمل الجواهر خاصة ـ ولا في قوله أن أهل المدينة وأهل مكة (٣) واليمن يأتون إلى الدرعية في كل أربعاء للسوق وخروج النسوة ، ولا أرى هذا الرجل إلا كذاب مزور أشر بطر.

ولنا صاحب من أكبر أهل الدرعية ، ابن للشيخ الوهابي ، موجود الآن تحت سفرية أفندينا الخديوي ، اسمه إبراهيم ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، من المشايخ الركع العبّاد العلماء ، لما عرضت عليه كلام هذا النصراني ، رأي مثل ما رأيت ، وكذبه مثل ما كذبته ، وأخبر أن الدريعي ما قدم الدرعية ، لا في أيام سعود ، ولا في أيام أبيه عبد العزيز ولا في أيام ابنه ، وقد أشرت في الكتابة بتكذيبه باختصار ، وهذه إشارة بالإجمال ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم». هذا كلامه بحروفه (٤).

قال الفقير إلى ربه تعالى فتح الله الصايغ النصراني الشامي في كتاب رحلته ما معناه :

«ثم وصلنا إلى كرسي مملكة الوهابية ، بعد أربعة عشر يوما من سفرنا من الشام (٥) ، ونحن راكبون على الهجن ، فالمسافة كلها قدر أربعين يوما من سفر القوافل ومشي الجمال ، والمسافرون ـ غير الفقير ـ أحد عشر وهم : الدريعي بن شعلان ، شيخ الرولة ، وكان يحكم على القبائل الشمالية والشرقية جميعها من حدود الهند إلى البصرة وحد نجد ، ومن العراق والجزيرة والحماد إلى الشامين وحوران والجليل» (٦).

__________________

(١) الصايغ يكتب : أبو السلام وعبد الله الهدّال.

(٢) وصف الصايغ عبد الله بن سعود ، أما الشيخ الحنبلي فيتكلم عن سعود.

(٣) الصايغ تكلم عن أهل مخا.

(٤) من الجدير بالتنبيه إليه أن الشيخ الحنبلي ، عند ما كتب هذا التعليق ، كان عمره زاد على تسعين سنة ، وكان مضى على مغادرته الدرعية نحو خمس عشرة سنة.

(٥) كان السفر من الصحراء المعروفة بالحماد ، قرب هيت ، على الفرات.

(٦) هذا الوصف لسطوة الدريعي غير موجود في الرحلة.

٢٩١

كتب الشيخ الحنبلي ما نصه :

«الدريعي شيخ عرب من عرب الشام ، ولا يحكم على جميع عربان الشام ، كيف يحكم على ما ذكره هذا الكذاب ، وفي قبائل الشمالية والشرقية والشامية نحو من سبعين حاكما مثل الدريعي».

وكان قد جرى الحرب بينه وبين ابن سعود الوهابي ، فغلب الدريعي في بعض الوقائع ، ثم دعاه ابن سعود للاصطلاح والمحادثة في شروط الصلح ، فذهب إلى نجد ومعه ابنه سعدون وابن أخيه ، واثنان من رؤساء جنوده وخمسة عبيد من السودان ، وجميعنا راكبون على هجن.

كتب الشيخ الحنبلي :

«لا نعرف أن سعود غزا الدريعي فغلبه ، إن كان بعض العرب من أتباع الوهابي غزا على الدريعي فغلبه الدريعي ربما. وأما سعود فغزا ستا وخمسين غزوة ، صغيرة وكبيرة ، لا يعرف أنه غلب وهزم في واحدة».

فوصلنا الدرعية بالسلامة ، وتلك المدينة يحيط بها نخل كثير ، وهي متقاربة ببعض ، لا يكاد يفوت الفرس بين جذوعها ، فتستتر البلدة وراء ذلك السور الأخضر ، وسموه نخل الدرعية. ولما عبرنا النخل المذكور وجدنا تلالا كأنها سور ثان من نوى التمر ، وهي تشبه سدود حصى ، وراءها سور المدينة الحقيقي ، فسرنا بجانبه حتى وصلنا إلى باب ، ومن ذلك الباب إلى قصر سعود.

كتب الشيخ الحنبلي :

«النخيل لا يحيط بالدرعية ، وهذه صورة الدرعية مع النخيل :

نخيل

نصف الدرعية

نصفها الثاني

نخيل

٢٩٢

وبين النخيل واد مفتوح ، يدخل منه إلى الدرعية من غير سور ولا أبواب ، قدر ربعها ، يقال له باب سمحان ، ولا يدخل من ذلك أحد من المسافرين» (١).

وقصره واسع ذو دورين ، وهو مبني من حجر أبيض منحوت جيدا. فلما بلغ ابن سعود خبر وصولنا أمر بإدخالنا إلى محل من محال قصره ، منظوم ظريف الأثاث فجلسنا فيه ، ثم جيء بطعام وافر فأكلنا ، وتفاءلنا بالخير وشكرنا الله تعالى ، حيث لم نطع من خوّفنا من السفر. ولما جاء المساء نظمنا ملابسنا وتزينا ثم حضرنا لمقابلة الملك ، فرأينا رجلا كان عمره خمسا وأربعين سنة ، في عينيه عبوس واتساع ، وجلده أسمر ، ولحيته في غاية السواد ، عليه قباء مشدود في وسطه بحزام أبيض ، وعلى رأسه عمامة مخططة خطوطا حمراء وبيضاء ، وعلى كتفه اليسرى مشلح أسود ، وفي يده اليمنى قضيب ملك ، كأنه علامة ملكه (٢).

كتب الشيخ الحنبلي :

«[لحيته] في غاية البياض (٣). [وهم] يلبسون القبا ولا تحزم الأحزام السلاح. [وفي يده] ليس بقضيب بل مشعاب ، وليس علامة على الملك ، بل ينقله العام والخاص».

وكان جالسا في صدر قاعة مفروشة بالحصر والبسط الفاخرة ، وأكابر مملكته

__________________

(١) إن عبارة الشيخ الحنبلي من الإبهام بمكان ، فكيف يدخل إلى الدرعية من واد مفتوح ، وكيف لا يدخل من ذلك أحد من المسافرين؟ ويستنتج من كلامه أن الدرعية ما كان لها سور ولا أبواب ، وكرر مرتين قوله : ليس للدرعية باب (انظر ص ٢٩٨ و٣٠٥) ، مما يحملنا على الظن أنها كانت مدينة مفتوحة ، مع أنها كانت محاطة بوسائل دفاعية هامة ، لأن عاصمة الوهابيين كانت مهددة بالحروب والغزوات. ويعلمنا المؤرخ الفرنسي ما نجان أن الدرعية كانت مكونة من خمس بليدات : هي شبه أحياء ، وكان لكل واحدة منها سور وأبراج ، وهي غصيبة وطرفيّة وسهل وقسّيرين وطريف. وكانت غصيبة وطرفية مبنيتين قرب جبل وكانت تحميهما قلعة حصينة (مانجان ، تاريخ مصر ، ج ٢ ، ص ١١٨). وعندما هاجم إبراهيم باشا الدرعية ، صمدت له القوات الوهابية ، وسدّت بعض العناصر (بوابة سمحان في الطرف الشمالي من القلعة حيث تمركز عبد الله نفسه داخل الأسوار. وفي الخامس من تشرين الثاني ، شن إبراهيم باشا هجوما شديدا مركزا على حصون المدينة من جميع الجهات) (عبد الله فيلبي ، تاريخ نجد ، ص ١٥٣ و١٥٩).

فمن الواضح الجلي بعد هذه الشواهد أن قول الشيخ الحنبلي أن الدرعية ما كان لها سور ولا أبواب لا معنى له ، لأنها كانت مقسمة إلى خمسة أحياء ، وكل حي منها كان محاطا بالأسوار والأبراج ويدخل إليه من باب حصين. ولم يغادر إبراهيم باشا الدرعية إلا بعد أن دمرها ودمر حصونها وأبراجها.

(٢) لم يقل الصائغ أن القضيب علامة ملك ابن سعود.

(٣) الحنبلي يتكلم عن سعود والصايغ عن ابنه عبد الله.

٢٩٣

واقفون (١) بين يديه ، وكان الديوان والمخدات وملابس الرجال جميعها من القطن والصوف اليماني ، حيث أن الحرير محرم في بلاد حكمه ، وكذلك جميع الأشياء التي لها رائحة من زهو الترك وعوائدهم كانت محرمة عنده وفي مملكته (٢).

كتب الشيخ الحنبلي :

«لا يرون الوقوف بين أيديهم وعلى رؤوسهم ، بل خادمهم ومخدومهم سواء في الجلوس. وسعود لا يحرم عادة الترك ولا غيرهم ، بل يحرم ما حرمه الله ورسوله ، على قدر معرفته ، وهو وأهل مملكته يلبسون الكشمير وجيب الجوخ والبابوج وكثير مما يلبسه الترك».

ولما سلم الدريعي على ابن سعود ردّ عليه‌السلام بعبوس وانقباض ، فجلسنا ساكتين منتظرين كلامه. فبعد نصف ساعة ، لما رأى ابن شعلان غضبه وأنه لم يأمر بتقديم قهوة ، بدأ بالكلام وقال له : أراك يا ابن سعود لا تقبلنا مع ما نستحقه من الإكرام والفضل ، وكنا نتوقع منك غير ذلك. فإنك دعوتنا إلى بلادك ومنزلك فجئنا ، فإن نويت على الشر فاظهره ولا تخفه.

فقال ابن سعود والشرار متطاير من عينيه : أي والله ، أي والله ، الشر بيننا وبينك ، ولنا عليك كثير من الجنايات ، وذنوبك أكثر من أن تغفر. فإنك قمت عليّ وخالفتني وأبيت طاعتي ، وأغرت على بني صخر بالشام ، وخرّبت بيوتهم مع معرفتك أنهم تحت حمايتي وحكمي ، وأفسدت عليّ أهل الوبر ورشوتهم على مخالفتي ، وصيرتهم قائمين على حكمي وكسرت جنودي ونهبت ما لها وساعدت أعدائي الزرق ، وهم الترك المشركون الفاسقون الفاجرون المنجسون.

وبالغ في الغيظ والشتم إلى النهاية ، حتى أمرنا بالذهاب عن حضوره والاستنظار إلى صفح خاطره.

__________________

(١) يقول الصايغ : «فقط العبيد قايمين على أرجلهم».

(٢) يقول حافظ وهبه : «وأمر [سعود] ... بترك لبس الحرير والذهب» (الجزيرة العربية في القرن العشرين ، ص ٢١٦). ويظهر أن هذا التحريم كان يجري فقط على الرعية ، إذ قال مؤلف «لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب» : «وكان [سعود] يحمل السيف دائما ، وسيفه عليه من الفضة والذهب والجواهر ، مرصع غلافه بها على صفحات الذهب من جانب أعلاه وأسفله ... وأما لباس نسائه ... فغالبه من الحرير الهندي المصنوع بالذهب ... وقد جملهن من الحلي شيء عظيم من الذهب المرصع بالجواهر النفيسة» (ص ١٧٦).

٢٩٤

قال النصراني : وكنت أنظر إلى الدريعي بن شعلان فأرى عينيه تشتعلان ، ومناخيره تنتفخ ، وأخاف كل لحظة من تلك اللحظات المنحوسة أنه لا يستطيع كظم غيظه فيرد كلام الملك بكلام أشد من كلامه فيهيج غضب الملك أكثر ، ولكنه مع اضطراب فؤاده رأى نفسه بلا نصرة ولا حماية من طرف الملك الذي يلومه ، فامتنع من التكلم وكظم غيظه ، ثم قام بغاية الوقار والهيبة وانصرف بالتؤدة ليشاور نفسه في أمره.

وكانت نجد ترتعد من هيجان ابن سعود لا أحد يتجاسر على مخالفة مراده. فجلسنا في محلنا مدة يومين بلياليها ما نسمع شيئا من أخبار الدولة ، إذ لا يرغب أحد في معاشرتنا.

والذين كانوا يكرموننا غاية الإكرام عند وصولنا اجتنبونا الآن ، واستهزأوا باعتمادنا على ذمة رجل قد اشتهر بالخيانة وسفك الدماء ، فكنا في كل وقت نترقب مجيء أعوان الظالم لقتلنا ، ونتفكر بغير منفعة في كيفية خلاصنا من مخالبه ، ثم في اليوم الثالث قال الدريعي : إن الموت أحسن من التحير والارتياب ، فبعث خلف أحد من وزراء الوهابي كان يسمى أبا السلم (١) فقال له : ابلغ سيدك كلامي هذا : كلما تريد أن تفعله فافعله حالا ، لا أذمك بل أذم نفسي التي ركنت إليك وصدقتك.

فانصرف أبو السلم ولم يرجع ، وما جاءنا من الملك إلا خمسة وعشرون عبدا أسود ، وقفوا ببابنا ، ففهمنا أننا أسراء لا محالة.

كتب الشيخ الحنبلي :

«لا نعرف أبا السلم ولا سمعنا بوزير له يسمى بهذا الاسم ، فمدة مملكة سعود اثنتا عشرة سنة ، ومملكة عبد الله أربع وكسور ، ومدة مملكة أبيه عبد العزيز أربعون سنة ، ومدة مملكة جده نحو ثلاثين سنة ، وما سمعنا لأحد منهم وزيرا يقال له أبو سلم» (٢).

قال النصراني : فعندما شاهدت ذلك صرت ألعن الرغبة المنحوسة التي أوقعتني في الخطر ، وهي الرغبة في الإغتراب من خواص النصارى الطبيعية ، وأما الدريعي فلم يكن يخاف من الموت ، ولكنه كان لا يصبر على الحبس والغصب ، وكان يتمشى في سجنه طولا وعرضا ، كما يتمشى الأسد الأسير أمام حدائد قفصه ، ثم قال : والله لقد طالت هذه الحال ،

__________________

(١) عبارة الصايغ : «أبو السلام ، من أحد مدبّري الوهّابي».

(٢) عبارة الصايغ : «أبو السلام ، من أحد مدبّري الوهّابي».

٢٩٥

أريد أن أخلص ، أريد أن أخاطب ابن سعود وألومه بخيانته وغدره ، فإني أرى الصبر لا منفعة فيه ، وعلى كل حال إن متّ متّ موت الشريف الأنيف.

فبعث خلف أبي السلم ولما دخل إليه قال له : ارجع إلى سيدك وقل له : أني أقسم عليك بذمة العرب أن تسمع كلامي ، ثم بعد ذلك افعل ما شئت.

فأذن له في المقابلة ، فأدخلنا أبو السلم عليه ، فعند ذلك لم يأمرنا بالجلوس ، بل استمررنا على الوقوف (١). ولما سلم الدريعي عليه لم يرد السلام ، بل قال له بغلظة : ما تبغي؟

فاستقام الدريعي استقامة الأنيف وقال : جئتك يا ابن سعود معتمدا على وفاء عهدك وصدق مواعيدك ولم آخذ معي إلا عشرة رجال ، وأنا أحكم على ألوف من الناس. وقد صرت الآن بلا حماية في يديك وأنت داخل مملكتك ، فإن شئت سحقتنا ودققتنا تحت الرحا ، لكن اعلم أنه ما من لابس كوفية من حدود الهند إلى حدود نجد ، ومن بلاد العجم والبصرة والعراق والجزيرة إلى الحماد والشامين وحوران والجليل إلا ويطلب منك دمي ويأخذ منك ثأري ، وإن كنت ملك العرب كما تدعي ، فكيف هانت نفسك وملت إلى الخيانة والغدر وهما من صفات الترك لا من صفات العرب. فإن القوي الشجاع تكبر نفسه وتستنكف عن الغدر ، وإنما يستعمله الضعيف الجبان ، ثم أنك تفتخر بجنودك وجيوشك وتزعم أن مملكتك من عند الله ، فإن كان حسبما تقول. وتحب محافظة مجدك ، فدعني أذهب إلى بلادي ثم قاتلني ، وإن كان الله مع جيشك فلا بدّ أن يقهر جيشي ، ولكنك إن غدرت بي فنصيبك العار ، ونتيجة العار استخفاف الناس ونتيجة استخفاف الناس انقراض الملك. هذا ما لزم ذكره لك ، والآن افعل ما شئت ، ثم تندم حيث لا ينفع الندم ، فلست أنا إلا واحدا من ألف ، لا ينقص فقدي قبيلتي ولا يغيب من الدنيا آل شعلان ، فيخلفني ابني سهن (٢) ، وهو الذي سيجيء ليأخذ حق دمي ، وحق دمي دم ، فقد انذرتك فافتح عينيك.

وبينما يخاطبه بهذا الكلام كان يكرم لحيته ويهدي غضبه ، ثم قال للدريعي بعد سكون : اذهب بسلام لا يعتريك إلّا خير ، فانصرفنا.

__________________

(١) عبارة الصايغ : «فحضر ثاني أبو السلام وتوجهنا معه جميعنا فدخلنا وسلمنا حسب العوايد وجلسنا بآخر الناس».

(٢) الصايغ يكتب «سحن».

٢٩٦

ولم يزل الحراس يحرسوننا. وكان أهل الدولة لما سمعوا كلام الدريعي ورأوا جسارته ، ارتعدوا من خوفهم عليه ، وتعجبوا بعد ذلك من صبر الوهابي وحلمه ، فجعلوا يطلبون معاشرتنا ، ودعانا أبو السلم إلى وليمة ببيته.

كتب الشيخ الحنبلي :

«لا يتكلم الدريعي بهذا الكلام لأنه كذب ، ويكذبه كل واحد ، فلو تكلم عند سعود بأنه يطلب دمه من ذكر كذبه ، وإن تكلم ... أكثر ما يحمل عليه أنه حشاش. وهو لا يملك إلا على طائفة من العرب تبلغ خيلهم ثلاثة آلاف خيال ، ورجالهم عشرة آلاف ، نهاية ما بين هجان وقراب وخيال خمسة عشرة ألف ، وعند البصرة طائفة من العرب يقال لهم المنتفق يبلغون ثلاثين ألفا ، وطائفة يقال لهم الخزاعل يبلغون خمسين ألفا ، لا هم في ملك سعود حتى يكونوا في ملك الدريعي ، والدريعي من عنزة ، وبقية طوائف عنزة في حكم غير الدريعي ، ولو وقعوا في الدريعي قتلوه أعظم من سعود وهم يزيدون على ستين ألف ، قدر جماعة الدريعي أربع مرات ، فهذا النصراني تكلم بما لا ينقل وبما لا يعقل. ومن عادة الوهابي سعود وابنه عبد الله وأبيه لا يرضون للرعايا بعزائم الدريعي وأمثاله من أكابر العرب (١) ، بل دار الضيافة عنده ولا يعرفها أحد لا أبو السلم ولا حضرموتي ، مع أن المذكورين لا وجود لهم».

وأما الفقير فما كنت مطمئنا بالكلية من جهة نفسي واعلم أن ابن سعود لا يجسر أن يقتل ابن شعلان أو يحبسه ويجعله أسيرا ، ولكنني أخاف أن ينسب إلي ذنب الحروب التي جرت بينهما ، إذ كان الدريعي منذ سنين لا يعمل شيئا إلا بمشاورتي ومشاورة الشيخ إبراهيم ، وهو مسيو لاسكاريس الإفرنجي. فقلت للدريعي : تسلم أنت لأن الوهابي يخاف من جنودك ، وأما أنا فأقاصص لأجلكم وأكون الذبيحة التي تتصالحون عليها وتتحالفون.

فلما سمع الدريعي كلامي حلف لي أنك لا يوصل إليك إلا بالدوس علي ، وأنك لتكون أول من يخرج من باب الدرعية.

__________________

(١) جاء في كتاب «لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب» : كان سعود ، في أول حكمه ، يجيب من دعاه إلى غداء ولو كان فقيرا. وكان من عادة الشيخ ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي تولى القضاء بعد موت أبيه أن «لا يضيف أحدا قط إلا أهل رأس الخيمة ، فإنهم إذا وفدوا على سعود لم يأكلوا إلا عنده وهو يرضى بهم ويكرمهم». (ص ١٧٦ ، ١٧٧).

٢٩٧

كتب الشيخ الحنبلي :

«ليس للدرعية باب ، كما ذكرنا».

ثم في اليوم التالي دعانا الوهابي إلى حضوره ، وقبلنا ألطف قبول وأمر بالقهوة ، وبعد مدة قليلة سأل الدريعي عن أتباعه ومن معه ، فقلت في نفسي ها هو جاء دوري أنا ، وخفق قلبي بعض الخفقان ، ولكني أفقت من ذلك التحير بعد مدة يسيرة ، ولما سمّاني له ابن شعلان باسمي ، التفت إليّ وقال : هل أنت فتح الله النصراني الشهير؟

كتب الشيخ الحنبلي :

«مادح نفسه يقريك السلام».

قلت : نعم.

قال : أرى أفعالك أعظم منك.

فقلت : رصاصة البندقية صغيرة ، وتقتل رجالا عظاما.

فتبسم وقال : ما أكاد أصدق الذي اسمعه من أخبارك. فأريد أن ترد على سؤالي جوابا مطلقا خالصا : ما هي غاية التحالف بين القبائل الذي أنت ساع به منذ سنين؟.

فقلت : هي واضحة ، إنا أردنا أن نجمع عرب الشام تحت حكم الدريعي لكي نمتنع عن الترك ونخالفهم ، فكنا بينك وبين أعدائك حاجزا لا يوصل منه إليك.

فقال الوهابي : فإن كان الأمر كما تقول ، فلما ذا قصدتم كسر جيوشي بقرب حماة؟.

كتب الشيخ الحنبلي :

«هذا كلام غير معقول ، ما كسرت جيوش الوهابي عند حماة. إن كان العرب بعضها مع بعض ، اللهم : والدريعي من جملة أتباع الوهابي أيام هذه الحكاية. ولكن الرجل لا يدري ما يقول».

فقلت : لأنك حينئذ كنت مانعا لأمرنا ، فإننا لم نكن نجتهد في سبيلك ، بل في سبيل الدريعي. فكما أنك تحب أن تجمع العرب تحت طاعتك ، ثم تحارب الترك وتطردهم من بلاد العرب ، كذلك نحن جامعون لهم تحت طاعة الدريعي ، فإذا ثبت حكمه في الشام والجزيرة والعراق وبلاد العجم انقلبنا إليك وعاهدناك ، وكنا منيعين حصينين لا يقدر علينا إلا الله ، ومما

٢٩٨

يليق بنا وبك أن نجتهد في سبيل واحد ، ولم نجئك إلا بنية المعاهدة الوثيقة ، فقابلتنا أولا بكلام ناقص في عرضنا ، فعاتبك الدريعي بكلام ناقص بعرضك. وأمّا نيتنا فهي خالصة ، ومما يدل على ذلك أننا جئناك بغير سلاح وسلمنا أنفسنا لذمتك وهمتك.

يقول الحنبلي :

«وإذا جاء أحد عشر رجلا بسلاح ما ذا يصير في الوهابي؟».

فكنت أرى في أثناء مخاطبتي له إنحلال أثر الغم من وجهه شيئا فشيئا. فلما انتهى خطابي قال : مليح ، ثم التفت إلى عبيده وأمر بثلاث قهوات. فشكرت الله في قلبي على إلهامه إياي. وما كان باقي جلوسنا عند الملك إلا معروفا وإكراما ، فانصرفنا بانشراح وانبساط. ثم في العشاء دعينا إلى وليمة عظيمة عند أحد الوزراء يقال له الحضرموتي (١). فلما خلونا به حدثنا سرا بقساوة مولاه وظلمه العظيم وكراهية جميع الناس له. وذكر أيضا غناه الوافر ، فإن المال الذي ظفر به عند نهب مكة والمدينة شيء لا يحصى ، لأنه قد كان أمراء المسلمين وملوكهم وخلفاؤهم وسلاطينهم في أوائل الإسلام إلى أيام الوهابي يهدون في كل سنة إلى بيت الله وحرم الرسول هدايا ثمينة من الجواهر والقناديل التي من ذهب وغير ذلك. وزيادة على ما تهديه العامة من عبيد الله. وكان في المدينة كرسي أهداه ملك من ملوك العجم. فهذا الكرسي وحده لا تثمن قيمته ، فإنه كان من ذهب صب ، وفيه لآليء وألماس. وكان كل أمير يرسل تاجا من ذهب مفضضا بالجواهر ، يعلق في سقف الحجرة بمقام الرسول. وعندما سلبها الوهابي كان عدد التيجان أكثر من أن يحصى. وكان على قبر النبي جوهرة حمراء لا تعلم قيمتها (٢). وإذ افتكرت فيما حازت الأعصر من المال على هاتين البقعتين لا تتعجب من أن الملك الظالم ساق برجوعه أربعين جملا محملة بمجرد الجواهر ، زيادة على خالص النقدين. وإذا

__________________

(١) في المخطوطة : «من رجال ديوان الوهابي».

(٢) يعلمنا السائح بوركهارت الذي كان اعتنق الإسلام وزار مكة والمدينة سنة ١٨١٤ أن سعودا عندما فتح المدينة المنورة نهب مال الحجرة. ومن جملة الجواهر النادرة التي أخذها «نجمة رائعة مرصعة بالماس ، كانت معلقة على قبر النبي ، وكثيرا ما يتحدث العرب عن هذه الجوهرة وهم يسمونها الكوكب الدري». (رحلة إلى الجزيرة العربية ، ج ٢ ، ص ٦٢ من الترجمة الفرنسية). ويذكر مانجان أن عبد الله بن سعود ، عند مقابلته مع محمد علي ، كان يحمل صندوقا صغيرا من العاج ، فيه ثلاث مخطوطات فاخرة للقرآن الكريم جلدها مرصع بالياقوت ، وثلاث مئة لؤلؤة كبيرة الحجم وزمردة معلقة بسلسلة من الذهب ، وكل ذلك مما أخذه سعود من الحجرة (مانجان ، ج ٢ ، ص ١٤٠).

٢٩٩

حسبت هذا كله ثم الزكاة التي يأخذها الوهابي من حلفائهم وهي عشر أموالهم فلا بدّ أن تجعله أغنى ملوك الأرض ، وخصوصا إن اعتبرت قلة مصروفة وأنه يحرم الزهو وفخر الملابس وتنعمات الدنيا غاية التحريم ، وأنه عند حروبه تتجهز كل قبيلة بمالها ، وعليها المصروف والخسارة ، ولا تعويض لها.

كتب الشيخ الحنبلي :

«لم ينهب مكة ، وأما المدينة فأخذ مال الحجرة اسما له وحقيقته لغيره. لم يوجد في الحجرة ولا تاج إلا تاج السلطان سليم رحمه‌الله وحزامه ، وبيع الحزام بأربعة آلاف بندقي. قبر النبي لم يعلق عليه شيء ولا يتوصل إليه أحد (٢٠). ما أخذ سعود من الحجرة لم يذهب منه إلى الدرعية إلا بستة سحاحير ما بين مذهب مرصع بجواهر وذهب خالص. وأما جوهر مجرد من الذهب فكيس فيه زمرد أخضر ألف واحدة قدر بيض الحمام ، وأربعة آلاف دون ذلك. وأرسل الكيس للشريف غالب وقال له : بعه على خواجات مكة وجدة وخذ بثمنه رزا وقمحا وسمنا لعسكره الذي في المدينة ، فأخذه الشريف غالب بثمن بخس وأرسل ببعض الثمن ما ذكر للعسكر الذي في المدينة».

ثم أنه في اليوم التالي ، حملني السرور الحاصل من إطلاقي على أن ذهبت أتنزه طول نهاري وأتفرج على كل شيء مما يوجد في الدرعية وصحرائها. وتلك البلدة مبنية بالحجارة البيض (١) ، وتحتوي على سبعة آلاف نفس (٢) ، وأغلبهم أقارب سعود أو وزراؤه أو رؤساء جنوده. لا صنائعية فيهم إلا القندقلية والبياطرة وهم قليلون. ولا شيء للبيع حتى مما يؤكل ، وكل واحد من سكان البلد يعيش من ملكه كغيط أو روضة تنبت قمحا وبقلا وفواكه. وفيها دجاج كثير ، ولهم غنم وأبل كثيرة ترعى في الصحراء.

وفي كل يوم أربعاء تجيء أهل مكة (٣) واليمن ويقايضونهم على المتاجر بابلهم وغنمهم وليس لهم متجر سوى هذا السوق.

__________________

(١) يقول روسّو ، قنصل فرنسا في بغداد ، إن دور درعية كانت مبنية بالحجارة ، بينما البيوت في الأحساء وبصورة عامة في جميع بلاد الجزيرة العربية كانت من الطين والقصب (روسو ، وصف ولاية بغداد ، ص ١٣٥ ، باريس ١٨٠٨).

(٢) يذكر حسين خزعل أن الدرعية كانت تضم قوات عسكرية نحو أربعة آلاف مقاتل (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ص ٢٤٩ ، دار الكتب ، بيروت ، ١٩٦٨).

(٣) في المخطوطة : «مكا ، كرسي اليمن ، المحل الذي تخرج منه كميات القهوة ، لا مكة ...».

٣٠٠