رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

مثل هذا بالطريق عدوا (١) ، بعد أن فهمت صفاته وصارت طباعه عندي معروفة. فرجل مثل هذا يجب اكتساب محبته قبل كل شيء. ففكرنا بالأمر ولم نجد طريقة إلا باحضار رسالة من الأمير سعد ، كي يصير واسطة للتعرف به. فكان رأي الشيخ إبراهيم أن أرجع أنا عند سعد. ولكن الدريعي لم يستصوب هذا الرأي ، خوفا عليّ من عربان تلك الديرة غير المعروفين منا أن يقتلوني. فلزم أن أحرر مكتوبا إلى سعد من طرف الدريعي وطرفنا ، مضمونه السؤال عن خاطره ومدحه وأسفنا على فراقه (٢) وعرفناه بعد ذلك مادة الرديني ، وطلبنا منه مكتوبا إلى المذكور ، على حسب حسن معرفته ، لكي يصير واسطة المحبة وعقد الصحبة معه. وأرسلنا المكتوب مع هجان شاطر من عرب الأمير هبش ، وتواعدنا مع الهجان إلى محل معلوم. وثاني يوم رحل هبش بكامل عربه. فودعناه واستكثرنا بخيره على تعبه معنا. وابتدأنا نحن نرحل رويدا رويدا منتظرين قدوم الهجان. وكان مضى على ذهابه ثمانية أيام ، وكنا دخلنا في طبراق بلاد كرمان ، وإذ وقع الصوت (٣) ، فركبت الخيل وطلبت صوت (٤) الرعيان. وكانت غارة علينا من عرب الرديني يريدون أخذ طرشنا (٥). فوصلت خيلنا وصارت الحرب بشدة نحو ساعتين من الزمن ، فما استطاعوا أن يأخذوا شيئا بل انكسروا وارتدوا ووقعت الدماء من الطرفين. فغمنا ذلك ، لأن هذا الأمر يصعب معه الوفق والمحبة فيما بيننا ويبعد الصلح. وبعد يومين وإذ بركب عظيم مقبل علينا ، وشنّ الغارة على طروشنا لأجل فتح الشر. فركبت فرساننا وركضت رجالنا وتصاعد العفار. وكانوا أكثر مننا إلا أن عربنا أشد حربا منهم وأفرس من فرسانهم. وظهر ذلك اليوم فعل من الدريعي بذاته ما فعله عنتر. وكنا دائما خائفين أن ٢ / ١٠٢ تأتي عربان ملبية نداءه (٦) ، لأنه يقود قبائل كثيرة ، والمدن قريبة منه. /

فرجحنا عليهم بالحرب ، ولكننا حسبنا له حسابا كبيرا ، لأنه يستطيع أن يأتي بعربان وعساكر ويضرنا لأننا قليلون. ثم وفّق الباري تعالى إذ نفذ علينا الهجان حين انكسروا ، وانفصلنا عن بعضنا ، ومعه كتاب عظيم من عند الأمير سعد إلى الرديني وكان بهذه اللفظات :

__________________

(١) «ضشمان».

(٢) «وتمجيد له على فراقه».

(٣) «صوط».

(٤) «صوط».

(٥) الماشية.

(٦) أي نداء الرديني.

٢٤١

بسم الله الرحمن الرحيم ، رب الخلق أجمعين ، والصلاة والسلام وأعظم التحيات والإكرام على شرف الأئمة وأجملهم ، وأكبر الأبناء وأعرفهم ، وأحسن الخلفاء وأفرسهم ، الإمام الأكبر ، الكبريت الأحمر ، سيدنا ومرشدنا الإمام علي الأعلى صاحب سيف ذي الفقار ، لعن الله من عاداه والويل ثم الويل لمن آذاه وطوبى لم أجاب دعاه وبعد ، هذا كتاب من أسعد (١) البخاري ، نسيب الجدين ، وأصيل (٢) النسبتين ، إلى أخينا الأمير الدريعي ابن خنكار ، والثاني نعرفكم أنه حضر إلى بلادنا وداس ترابنا أخونا الأمير الدريعي ابن شعلان ، من سكان ديرة بغداد والشام ، فحضر من بلاده إلى عندنا ، يقصد صحبتنا ومعرفتنا ، ويريد محبتنا. فحل ضيفا علينا (٣) وأكل خبزنا وأجرى المحبة معنا. ونحن أكدنا له [محبتنا] ، وصحبناه وأعطيناه كلاما وثيقا وصار كواحد منا. فكما استحسنت هذا الأمر الذي سيؤول فيما بعد إلى نجاحنا ، كذلك أريد منك أن تفعل معه كما فعلت أنا ، وترى الورقة التي بيده منا ، وتعمل بموجبها ، وإياك الخلاف فتخرج من خاطرنا ، وتكون خالفت قول سيدنا الإمام الأعظم كما هو معلوم ، وقوله تعالى في الجفر الجامع والنور اللامع لا تكرهون شيئا فعسى هو خير لكم (٤). فأنا أعرف أن الاتحاد مع هؤلاء الناس به خير لكم وللعرب أجمعين والسلام.

فأرسلنا بالكتاب حالا مع الهجان الذي جاء به للرديني ، وكان المذكور بعيدا عنا نحو عشر ساعات فقط. وكان معه مكتوب آخر من سعد للدريعي ، مضمونه محبة وسؤال عن خاطر وجواب مكتوبنا ، وبه يعرفنا بمزايا الرديني ، وأنه يحب المكسب والبراطيل. فقال ١ / ١٠٣ الدريعي : سبحان الله ، من جملة مزاياه الرديئة أنه يحب البرطيل ويقبل الرشوة / فالله يعيننا عليه. وقد كنا تأكدنا من مكتوب سعد أن الجماعة روافض (٥) لأن الإمام علي مكرم عندهم إلى هذا الحد ، وهذا شيء معلوم أنهم يحبون الإمام علي كما يحبون الله. وسعد من هذه الملة. والشيء الذي جعله يحبنا ويرضى بالشروط فهو الشرط الأول المكتوب في ورقة الشروط لأنه يشعر بعدم البحث والكلام بأمور الديانة. وقد لاحظنا حين قرأنا له الشروط أنه سرّ

__________________

(١) أسعد ، كذا.

(٢) «واصلين».

(٣) «فانضاف عندنا».

(٤) الآية : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

(٥) «أرفاض».

٢٤٢

جدا من الشرط الأول وقال هذا ألزم من جميع الشروط ، لأن هؤلاء الناس لا يحبون من يفتح لهم سيرة ديانتهم ، بل مرادهم دائما كتمانها ويظنون أن ليس هناك من يعرف أنهم روافض.

ثم بعد ذهاب الهجان بيومين ، وإذ أرسل الرديني خبرا قبل وصوله إلى عندنا أنه آت ليضيفنا. فركب الدريعي وجميع الكبار وأولاد الدريعي والشيخ إبراهيم وأنا ، وكنا نحو ثلاث مئة خيال وركضنا لملاقاتهم. وإذ وصل إلينا الأمير الرديني وكان ركبه من نحو خمس مئة خيال ، كلهم بألبسة مفتخرة وسلاح عظيم وتفنك مفضضة وسيوف ثمينة ورماح رؤوسها مفضضة ، عظام ، أكابر. فاستقبلناه وترحبنا به وجلس. وهو رجل شاب ، عمره نحو أربعين سنة فقط ، لأن والده كان توفي من مدة قصيرة ، وهو ورث الحكم من بعده. وأراد الدريعي أن يعد له غداء ، فما قبل إلا بشرب القهوة. ثم طلب خلوة ، من بعد كلام كثير عن أحوال البلاد وغيرها من الأديار ، وأمور الوهابي ومادة حماة مع المذكور ، وشكر الدريعي على فعله. ثم اختلينا ، وكان بالخلوة هو وابن عمه واثنان آخران من مدبري قبيلته. فقال الرديني : يا إخواننا ليس من الضروري أن أعرف أمورا كثيرة ، أطلعوني على الورقة التي عملها لكم الأمير سعد وأنا على موجبها أعطيكم واحدة نظيرها. فأريناه إياها وقرأنا له الشروط ، فأعجبه ذلك ، وبالحال كتب بيده ورقة مثل ورقة سعد كلمة بكلمة وختمها وقدمها لنا. فقمنا ٢ / ١٠٣ بعد / (١) ذلك لشرب القهوة ، وصار بيننا وبينه محبة وكلام ثابت. فقال الدريعي : يا أمير ، يجب أن يصير بيننا خبز وملح. فامتنع لأنه رافضي جدا ، لا يأكل من أكلنا. ففهم الشيخ إبراهيم ذلك ، فذهب حالا وأتى برغيف خبز وقليل من الملح وقال للرديني والدريعي : تخاوا واعقدا الحلف على هذا الخبز والملح وكلاهما (٢). فتحالفا عليهما وأكلا الرغيف والملح وحدهما فقط. ثم طلب الرديني الذهاب ، فقدم له الدريعي فرسا من أحسن خيول قبائلنا ، أخذها الدريعي من أحد عرباننا ، وأعطاه بدلا منها فرسا من عنده وأربعين جملا حتى رضي. فسر منها الرديني جدا إذ ليس بين خيله نظيرها ، لأن خيلهم ليست مشكورة لا بالحسن ولا بالفعل مثل خيلنا. ثم ودعناه وركبنا معه نحو ساعة من الزمن ثم رجعنا. وكنا استخبرنا عن قبيلته فعرفونا أنها تحتوي على ستة آلاف بيت ويقال لها المعازيز ، بارودهم أكثر من رماحهم.

__________________

(١) ابتداء الكراس رقم ١٣.

(٢) «وكلوه».

٢٤٣

[العودة إلى بر الشام]

وفي اليوم التالي نبّه الدريعي إلى الرحيل بكل سرعة ، إذ كان دخل فصل الصيف (١) ولم يبق لنا عمل يعوقنا في ديار العجم ، لأن كبار قبائلهم التي تجب صحبتها قد اكتسبناها وحصلنا على مطلوبنا. فجدينا بالرحيل يوميا ، والمرحلة كانت من اثنتي عشرة ساعة إلى خمس عشرة ساعة ، ولم نزل على هذا الحال حتى دخلنا طبراق بغداد ، وقطعنا الدجلة وصرنا بالجزيرة. فنزل الشيخ إبراهيم إلى بغداد وجاء لنا بدراهم إذ لم يبق معنا مصرية واحدة (٢). فابتدأت تتوارد علينا أخبار الوهابي ، وبلغنا أن الأمير عبد الله الهدّال رجع عنده مكسورا ومنهوبا ، وأخبره بالذي جرى عليه من الدريعي عند حماة. فدخله الغيظ والحمق وقرّ رأيه على إرسال جيش عظيم بقيادة ابنه ورؤساء عساكر غير الأمير عبد الله ، لتدمير الدريعي ونهب سورية وربح أهلها ، فمنعه أكابر ديوانه من ذلك ، وأشار عليه واحد من مدبريه يقال له أبو محسن قائلا : إن كان يمكن أن تعمل طريقة لجذب الدريعي / إلى طرفك واكتساب محبته

__________________

(١) يريد الفصل الحار ، وهو يبتدئ ، في هذه الأقاليم ، منذ أواسط نيسان.

(٢) هل قام الصايغ بهذه الرحلة إلى إيران أم هي من نسج خياله كما يتبادر إلى الذهن عند قراءتها؟ إننا نطعن بصحتها ، إلا أن لاسكاريس نفسه ، في مقال له صدر بعد وفاته ، تحدث عن جولته في البادية وسفره إلى بغداد ثم إلى الممونا (كذا) على حدود الهند الشرقية (كذا). ويظهر أن العودة من إيران كان خلال ربيع ١٨١٣ ، أي قبيل سقوط نابوليون وبعد انكسار جيوشه في روسيا. ولكن أخبار هذه الحوادث السياسية الهامة ما كانت وصلت إلى السفارات النائية بسبب بطء المواصلات في ذلك التاريخ.

٢٤٤

[فيكون ذلك أفضل] ، ولا سيما أن الدريعي أصبح الآن قويا جدا ، وأنت لك عدو كبير من طرف العثماني ، إذ كان يشتمّ من الأخبار أن محمد علي باشا في على وشك السفر لأجل أخذ مكة والمدينة ، ورد الوهابي إلى بلاده (١).

فانشرحنا من هذا الخبر وصرنا مطمئنين من طرف الوهابي. ولم نزل سائرين حتى نزلنا منزلة يقال لها مقتل العبد وكان نازلا هناك قبيلتان يقال لهما النّعيم والبقّارة (٢). فحضر مشايخهما عندنا ، ويقال لشيخ قبيلة النعيم فهد ابن صالح ، عشيرته تحتوي على ثلاث مئة بيت فقط ، عشيرة صغيرة ، كذلك [يقال لشيخ قبيلة البقّارة] سعدون ابن والي ، عشيرته تحتوي على ألف ومائتي بيت. كذلك بعد مرحلتين حضر عندنا عليان ابن نجد شيخ قبيلة بو حربا ، ودخل بالاتحاد ووضع ختمه واسمه ، وعشيرته تحتوي على خمس مئة بيت.

__________________

(١) من المعلوم أن الجيش المصري احتل المدينة المنورة في شهر تشرين الثاني سنة ١٨١٢.

(٢) «البكارة».

٢٤٥

[رسالة من عبد الله بن سعود]

ثم رحلنا وقطعنا الفرات من مقطع بالقرب من بلد يقال لها هيت ، وصرنا بالحماد ، قاصدين تدمر وبر الشام ، وإذ مقبل علينا هجان وبصحبته مكتوب إلى الدريعي من عند الوهّابي من غير ختم ، هذا من جملة عاداتهم (١) أنهم يبقون مكاتيبهم مفتوحة من غير ختم. وكان طول المكتوب نحو شبر وعرضه ثلاث أصابع ، وهذا من جملة نظام الوهّابي أن يصغر مكاتيبه حتى تكون بضد مكاتيب العثماني وفرماناته الكبار. وكان بهذه الألفاظ لا غير :

بسم الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، خالقك ومفرق أصابعك ، من بعد أن نقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. من عبد الله ابن عبد العزيز ابن عبد الوهاب ابن سعود (٢) القائم بسيف الله على القوم المشركين ، لإشهار حقيقة الدين (٣) ، إلى ولدنا الدريعي ابن شعلان أهداه الله إلى الصراط المستقيم أمين. نعلمك يا ابن شعلان إن كنت تؤمن بالله وحده ولا تشرك به أن تطيع أمر عبد الله ، القائم بأمر الله ، وتحضر حالا إلى عندنا وترفع من ٢ / ١٠٤ بالك كامل الوساوس ، وأنت عندنا بأعز منزلة وقبول ، / فقد صفحنا عن جميع زلاتك ، وغفرنا وسامحنا كامل سيآتك (٤). فإن حضرت إلى عندنا جعلناك واحدا منا. وإياك والعناد فإنه

__________________

(١) أي عادات الوهابيين.

(٢) كذا والنسب خطأ ، والصواب : عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود.

(٣) «لاشتهار حقيقة والدين».

(٤) «سيادتك».

٢٤٦

من أعظم الكفر ، والسلام على من أجاب المطلوب وجعل من أهل الجنة محسوب ، والامضاء الرهوب (١) من الله ابن سعود عبد الله (٢).

فابتدأنا نتشاور ورأينا من المستحسن أن يذهب الدريعي عنده لعدة أسباب : أولا لأجل الكشف عن أخباره ورؤية بلاده والاستفهام عن أحواله ، ثانيا ربما نستطيع أن نبرم الصلح معه لأن الصلح معه يومئذ أحسن بكثير من عداوته ، لأننا أصبحنا أقوياء وصرنا حزبا كبيرا ، لذلك تأكد عندنا أنه يرضى بالصلح معنا مثل قرنين مع بعضهما ، ولكنه ما كان في أول الأمر يرضى بهذه الصفة لأننا كنا ضعفاء ، بل كان مراده أن نكون من جملة رعاياه بإعطاء الجزية (٣) ، وتحت أمره في كل ما يريد ، فما كان بإمكاننا أن نفعل أدنى حركة من مطلوبنا ، ثالثا لكي نريح القبائل التي تبعتنا من شره ، إذ يوجد دائما قبائل متفرقة ، كما هي عادتهم بالبادية (٤) ، فيقوم بعمل أذيات لها ، [وبالصلح] تكون آمنة على نفسها من طرفه ، وغير ذلك من أسباب سياستنا وهي عديدة. فاعتمد رأي الدريعي على الذهاب عند الوهابي فقال الشيخ إبراهيم : ما هي نيتك يا ولدي ، هل لك جراءة على التوجه مع الدريعي عند هذا الرافضي ورؤيته الغريبة؟ فقلت : نعم أتوكل على الله وأذهب ، وإن هي إلا موتة في سبيل الله ، إذ من المعلوم عندي أنه يبغض جنس النصارى ، وإذا لم يفعل شيئا مع الدريعي فإنه يقتلني أنا ، أولا لأن قلبه ملآن مني بسبب ما بلغه عني ، وثانيا لأني نصراني عدو الدين. ولكن لا بد لي من الذهاب ولو فاحت من ذلك رائحة الموت ، فإني أحسب نفسي قد متّ وأن [هذه السفرة] من جملة الأخطار (٥) المميتة التي جرت على رأسي. فقال الدريعي : لك بسعري ، لا يحدث لك شيء إلا بعد أن يقتلني أنا. فاعتمد رأينا على ذلك وشاع الخبر فأتى كبار القبائل وودعونا ، وجهزنا لوازمنا ، ودبرت أموري مع الشيخ إبراهيم وودعته وداعا كبيرا وطلبت منه الدعاء ، وأوصيته بوالدتي إن جرى علي شيء يكون نظره عليها. وقبل ركوبنا أمر الدريعي ابنه أن يرحل بالعربان ويذهب إلى حوران إلى أن نحضر عن طريق الحجاز.

__________________

(١) «المرهوب».

(٢) تسنّم عبد الله بن سعود العرش الوهابي ، بعد وفاة أبيه في أيار سنة ١٨١٤. ولكن جرت العادة أن يشارك ولي العهد والده في الحكم ، لا سيما وأن الحروب كانت ترغم الملك على أن يكون على رأس جيوشه لمجابهة العدو ، فكان يسند أمور الدولة وإدارة العاصمة إلى ابنه عبد الله. ومن البديهي أن الرسالة الأصلية قد بقيت في حوذة الدريعي وأن الصايغ قد أعاد سبكها بأسلوبه العامي البدوي.

(٣) كذا ، ويريد الزكاة.

(٤) «الجول».

(٥) «قطوعات».

٢٤٧

[السفر إلى الدرعيّة]

١ / ١٠٥ وركبنا وكان عددنا اثني عشر نفرا لا غير ، / وهم الدريعي ، وابنه سعدون ، وابن أخيه الأمير هجري ، وابن عمه جبل الدريعي ، واثنان آخران من وجوه العرب ، وأنا ، لله عبد ، وخمسة عبيد لا غير كل واحد على هجين. فأول ليلة وصلنا عند عرب يقال لهم بني صلوب (١) الذين صنعتهم (٢) صيد النعام لأجل ريشه ، ويأتون به إلى القرى حيث يبيعونه ، وأهالي القرى يأخذونه إلى بغداد وحلب ودمشق ويبيعونه إلى تجار الإفرنج. وهؤلاء الناس مساكين جدا وفقراء ليس عندهم جمال ولا غنم بل حمير فقط. مأكولهم من لحم الغزلان وملبوسهم جلودها يفصلونها مثل أثواب البادرية (٣) ، بأكمام عريضة جدا ، [والثوب] مغلق من الأمام طويل ، يحنو على الأرض ، رؤيتهم تفزع إذ يظن الإنسان أنهم وحوش ، وبيوتهم صغار حقيرة جدا. أما زواجهم فهو مع بعضهم بالمراضاة : متى العريس رضي بالعروس وهي رضيت به. وتقدم العروس إلى أهلها من عريسها نصف ما يصطاده من الغزلان مدة سنة كاملة. وهؤلاء العرب يدّعون أنهم من أصل بني عبس قبيلة عنتر. فلم نتأكد من ذلك ، بل اعتمدنا على أن نحقق ونبحث عنه.

__________________

(١) الصّلبة أو صليب (زكريا ، عشائر الشام ، ٢ ص ١١٢ وما بعدها).

(٢) «كارهم».

(٣) أي الرهبان الفرنسيسكان ، من كلمة بادري أي بادره Padre ، أب.

٢٤٨

ثم سافرنا في اليوم الثاني ، ولم نزل جادين بالسير على اطلاق الهجن إلى غروب الشمس. فوصلنا إلى منزلة عرب عظيمة يقال لها رام (١) بني هلال ، بها رام كبير من نبع ماء منحدر من جبل صغير فعمل راما أمام الجبل. وبعضهم يسمى هذا المكان المذبنة (٢) يعني الحامية ، ليس بمعنى السخن ولكن بمعنى الذي يحمي من العدو.

وفي اليوم الثاني جدينا بالمسير أيضا. وفيما نحن سائرون إذ أقبلنا على بقعة من الأرض صغيرة ، نابت بها من شجر الطرفة كمثل حرش صغير. فحين اقتربنا منها وقفت الهجن عن مسيرها ، فتعجبنا من ذلك ولم ندر ما هو السبب ، وكل الهجن كانت تنظر إلى ذلك الحرش. ٢ / ١٠٥ فنزل واحد من العبيد وتقدم / إلى قرب الأشجار وصاح (٣) قائلا : انزلوا وانظروا إلى أثواب الحيات. فنزلنا عن الهجن وتقدمنا فرأينا أن الأرض والأشجار مغطاة بأثواب الحيات ، شيء لا يعد ولا يحصى ، أشكال وأشكال ، كبار وصغار من جميع الألوان ، ألوف ألوف ، ربوات ربوات ، ولكن ليس بينها واحدة طيبة (٤) ، ولكن توجد فقط أثوابها. فظننت أنه لم يبق في الدنيا أفعى إلا أتت وخلعت (٥) ثوبها في هذا المحل. وشكرنا الله لأننا ما رأيناها طيبة لأنها كانت بالحقيقة أكلتنا ، إذ كان بين الأثواب أثواب حيات كبيرة جدا بقدر ثخن غنمة (؟) (٦) المركب.

ثم رجعنا ركبنا وجدينا بالمسير إلى المساء ، فما وجدنا عربا ، فنمنا بالخلاء ، وأكلنا مما معنا من الزاد إلى الصبح. وفي اليوم التالي جدينا بالسير ، وقبل العصر أقبلنا على نزل عرب عظيم لا يعرف أوله من آخره ، فاستخبرنا من الرعيان عنه فقالوا هؤلاء عرب شمّر ، وأميرهم اسمه نجم الضرغام. فوصلنا إليهم ونزلنا في بيت المذكور ، فاستقبلنا بالترحيب والإكرام ، وكل أنس ووداعة. وهذه كانت أول قبيلة نراها من أتباع الوهابي ، وهم وهابيون أيضا. فقبل كل شيء أخفينا غليون التوتون لأن التوتون ، كما هو معلوم ، محرم عندهم جدا ، ومنعه الوهابي بكل شدة وصرامة ، والذي يلاحظون عنه أو يرونه يشرب التوتون فليس له مغفرة ولا رجاء ولا سماح ،

__________________

(١) الرام نوع من الشجر ، والظاهر من كلام الصائغ أنه يعني الواحة أو الحرش.

(٢) كذا ، ولعله يريد المذيبة.

(٣) «عيّط».

(٤) على قيد الحياة.

(٥) «شلحت».

(٦) لعله يريد صاري المركب.

٢٤٩

وقصاصه القتل والموت السريع ، وهذا كان عندنا معلوما من السابق. ونحن أربعة من ركبنا نشرب التوتون ، ومعنا غليون واحد صغير لأننا كنا حاسبين هذا الحساب. فاستخبرنا تلك الليلة من الأمير نجم عن أحوال الوهابي ، وفهمنا منه برمز العين أن أرواحنا عنده في عين ١ / ١٠٦ الخطر لأنه غدّار ، ويستعمل الخيانة بعض الأحيان. / فمن هذا الخبر قد ارتجت قلوبنا وندمنا على الحضور عنده. ولكن قال الدريعي : لا بد من الوصول إلى عنده ولو كان منتهى حياتي على يده ، لا يمكن أن أرجع من غير الوصول إلى عنده.

ومشينا في اليوم التالي إلى المساء وتقابلنا مع قبائل عرب كثيرة لأننا دخلنا في أراضي نجد ، وهي وديان وجبال وسهول ومياه ، وبها قرى لم تزل مسكونة ، والعرب المقيمون بها يزرعون ويفلحون. وبها أيضا بلاد قديمة متهدمة ، كانت في السابقة عامرة ومملكة عظيمة في زمن بني هلال الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب ، وأراضيها جيدة ، وبها فواكه ، وأكثر ما يوجد فيها البلح وله لفة عظيمة ، [وبها أيضا] قبائل عربان أشكال وأشكال لا يعلم عددها غير رب السماء. فالجميع من أتباع الوهابي وعلى مذهبه. وكنا دائما نسمع عن مزاياه الرديئة ، وظلمه لعربانه ، ورداءته وترفضه وقلة الوداد له في خواطر عربانه ، لأنه غير محبوب عندهم من ظلمه لهم.

فمن بعد أربعة عشر يوما من حين خروجنا من عند أهلنا ، إذ أقبلنا على نخل الدرعية ، ودمنا نمشي نحو أربع ساعات بين النخل الملتحم بعضه ببعض وحامي البلد ، وهو نافع جدا لها لمنع العدو. فلم نزل نمشي إلى أن وصلنا إلى باب البلد فوجدنا دائر البلد تلالا سوداء صارت على نعت السور ، وكان ذلك جميعه من العجوة القديمة التي تتكدّس (١) من سنة إلى سنة ، يرمونها خارج البلد على بعضها ، ومع المداومة فإنها كثرت وتراصّت على بعضها وصارت حصنا للبلد كمثل السياح. فدخلنا البلد وهي مركزة على جانب واد ولها أبواب تغلق كل ليلة مساء وتفتح عند الصباح (٢). ولم نزل سائرين إلى السرايا فدخلناها فإذا هي سرايا واسعة جدا ، حجرية على طابقين.

__________________

(١) «تنعكس».

(٢) «بكرا».

٢٥٠

[بين يدي ابن سعود]

ثم حالا أخبر [الحرس](١) ابن سعود أن الدريعي قد حضر ، فأمر بقناق (٢) داخل السرايا فأدخلونا إلى محل نظيف مفروش وأتوا لنا حالا بالغداء. وقريبا من العصر طلب ٢ / ١٠٦ الدريعي عن يد واحد [أن يستأذن لمواجهة ابن سعود فكان الجواب أن] / يتوجه الدريعي ومن معه لمواجهته من غير طلب إذن ، إذ لم تجر العادة بذلك. فدخلنا إلى المكان الذي كان جالسا فيه ، وكان عنده جمع كبير من خواصه. فسلمنا عليه ، كل واحد منا وحده ، من غير أخذ يده ولا تقبيل أذياله على حسب عادات العثماني ، بل حين دخولنا يؤشر كل واحد بيده عليه ويقول السلام عليك يا ابن سعود ويجلس ، والعبيد فقط قائمون على أرجلهم. وهو جالس في صدر المحل ، عمره نحو خمس وأربعين سنة بلحية سوداء ، وعليه قنباز أبيض من القطن ، وزنار شاش أبيض من القطن أيضا ، ومشلح حساوي (٣) أسود غطش (٤) من غير قصب ، وعلى رأسه كوفية ولفة من القطن ، قلم أبيض وقلم أحمر رفيع يسمونه دسمان ، وبيده محجلات من شجر المحلب. فهذا ملبوسه دائما لا غير ، إذ حرام عنده اقتناء الحرير والأشياء

__________________

(١) «أخبروا».

(٢) شقة ؛ نزل.

(٣) «حصاوي».

(٤) غامق السواد.

٢٥١

المفتخرة الملونة. وأما المحل الذي هو الديوان ، فهو مفروش بالحصر ، وسجادات الصوف ، ومخدات وجوهها صوف ، من شغل اليمن لا غير.

فبعد ما جلس الدريعي ابتدأ يسلم عليه بهذا الكلام. عساك طيب يا ابن سعود ، عساك عدل ، لعلك مبسوط (١) وهو يرد عليه : لله الحمد طيب يا ابن شعلان ، ولكن بوجه عبوس يرد السلام. ثم جلسنا نحو نصف ساعة ، فما أمر بالقهوة ولا تكلم ، فهذه علامة الغضب.

فبعد ذلك قال له الدريعي : ما لي أراك يا ابن سعود عابسا فينا ولا تتكلم معنا؟ نحن وطأنا محلك والآن عندك ، فتكلم بالذي في قلبك علينا. فردّ عليه الوهابي قائلا : أنت عليك ذنوب كثيرة ، وأفعالك لا تغفر ، أولا عصيت علي ، ثانيا ضربت قبيلة بني صخر التي في بلاد الجليل مع علمك الأكيد أنها تلوذ بي ، ثالثا أفسدت العربان علي وجعلت لك حزبا ضدي ، ١ / ١٠٧ رابعا / كم وكم من الغزوات التي أرسلتها أنا فطلعت ضدها وضربتها وسفكت دماءها وعطلتها عن أوامري ، خامسا قويّت الروم يعني العثمانيين عليّ في مادة حماة ، وكسرت عرباني وأخذت أموالها وسفكت دماءها حبا بخاطر العثماني ، الذي هو أكبر عدو لله من القوم المشركين ، شرابي المنكر ، لوطيين (٢) ، وغير وغير أشياء لا تعد من التي فعلتها ضدي وقصدت بها تدميري وخرابي. فإذن مالك عندي سماح أذهب إلى قناقك.

فاحمرت عيون الدريعي ، ودخل عليه الغيظ والحمق ، ونهض قائما وتوجهنا جميعنا إلى قناقنا ، وجلسنا في تفكير ووسواس أشكال وأشكال. وتجنبنا جميع الناس الذين كانوا عرفونا ، ولم يبق أحد يقترب مننا ، ودخل علينا باب الخوف ووقع بنا الندم على رمي أرواحنا بيده ، وصرنا نلوم بعضنا بعضا على ما فعلنا ، وصارت الناس تتحدث بقلة عقولنا وحضورنا إلى عنده ، لأن الجميع كانوا على يقين وتأكدوا أننا مقتولون من كل بد ، ودون أقل شك ، لمعرفتهم بطبع السلطان ، [فهو] غدار ، مكار ، خائن ، دموي ، مترفض. فأقمنا تلك الليلة وذلك النهار من غير أكل ولا شرب ، ولم يدخل أحد علينا خشية ، لأننا صرنا من المغضوب عليهم ، حتى أننا ما كنا نجرأ أن نخرج خارج المنزل (٣) ، وحرم علينا النوم من شدة الفكر

__________________

(١) مسرور.

(٢) «لواطية».

(٣) «المنذول».

٢٥٢

والوهم. وما كنا نندم على ما مضى إذ ما كان ينفع الندم ، بل صارت أفكارنا إلى الوسيلة التي تمكننا من الخلاص من يد هذا الظالم. فثالث يوم ، أرسل الدريعي واستدعى رجلا يقال له أبو السلام ، من أحد مدبري الوهابي. فحضر المذكور ، وهو رجل طاعن بالسن حسن الأخلاق ، فترجاه الدريعي أن يذهب من طرفه عند ابن سعود ويقول له هكذا : «يقول لك الدريعي : الذي في خاطرك افعله عاجلا ، ولا لوم عليك إذ ما لك ذنب ، فهو باختياره رمى ٢ / ١٠٧ بروحه بيدك». فتوجه أبو السلام / وتكلم بذلك. فما ردّ جوابا بل أرسل خمسة وعشرين عبدا مسلحين يرصدوننا على باب المنزل لئلا نهرب. فصرنا تحت الحوطة (١). فاشتد علينا الوسواس إذ كنا دائما منتظرين الموت. فأخذت ألوم نفسي على حضوري ، ورميي حالي في مثل هذه المهالك الملعونة التي لا لزوم ولا حاجة لها ، فقط لأجل البحث وكثرة الغلبة. فأقمنا يومين تحت الحوطة والأفكار المتنوعة ، فكثر الغم على الدريعي وضاقت أخلاقه وكاد يقتل نفسه من شدة قهره ، إذ هذا شيء ما قط ذاقه ولا جرى عليه ، من بعد حريته وإمارته وكبره (٢) يصبح تحت الحوطة محبوسا مهددا بالموت ، فيئس من روحه وقال : إنه من المستحسن عندي أن يكون تدبير هذه المادة مع ابن سعود بالكلام القاسي الصارم ، وخرق الحجاب معه وكسر الجرة ، ومن المؤكد عندي أن بالمعروف [لا تصلح أمورنا] ويتأتى عنه قتلنا (٣). فبسبب ذلك ، الكلام اللين والرجاء لا تنجينا ، وإن هي إلا موتة في سبيل الله ، لكم بسعري ، فإن متنا نمت كلنا ، وإن خلصنا نخلص كلنا. فقلت له : يا أبو سحن ، جميع ما قلته صحيح ، ورأيك فيه الصواب ، ولكن يا عزيزي على ظني أنه يمكن أن تخلصوا أنتم ولكن أنا غير ممكن أن أخلص من يده ، أولا لأن قلبه محروق مني بسبب ما سمع عني ، ثانيا إني نصراني عدوه الأكبر فكيف يمكن خلاصي؟ فقال : يا عبد الله وحق باسط الأرض ورافع السماء إن قتلنا لا أدع أحدا يقتلك إلا بعد أن يقتلني أنا وكل من معي ، وإن خلصنا لا يكون أحد أمامنا حين خروجنا من هذه البلد إلا أنت ، وثق بكلامي والله شاهد على ما أقول. فقلت : «لا حول ولا قوة إلا بالله ، بالرغم عني أقول افعل يا أمير ما تراه مناسبا ١ / ١٠٨ لخلاصنا». /

وبالحال أرسل واحدا من العبيد الذين يحرسوننا ليحضر أبو السلام. فأتى المذكور.

__________________

(١) «اليسق» ، كلمة تركية ، أي الحفظ والمنع والحراسة.

(٢) «كبرته».

(٣) عبارة الصائغ : «لأن عندي ماكد [ـ مؤكد] بالمعروف لا تمضي معه إلا بقتلنا».

٢٥٣

فقال له الدريعي : يا أبو السلام ، أريد منك ، بحق ذمة (١) العرب ، أن تروح عند ابن سعود وتقول له : الدريعي يريد أن يكلمك خمس كلمات وبعدها افعل الذي تريده يدك ولا تتوان (٢). فذهب أبو السلام وقال له ذلك بحضور جمع كبير كان موجودا عنده. فصار الحاضرون يشيرون عليه أن أرسل وأحضر الدريعي واسمع ما هو كلامه. وإن كنت تريد قتله فيمكنك أن تقتله في أي وقت أردت. فأذن بمواجهته. فحضر أبو السلام مرة ثانية وتوجهنا معه جميعنا ، فدخلنا وسلمنا حسب العادة وجلسنا بآخر الناس. فقال ابن سعود : «ما هو الكلام الذي تريد أن تقوله لي ، تكلم به». فقال : اعلم يا ابن سعود أنني الآن بيدك ، وليس معي غير أحد عشر نفرا وأنا ، ومن المؤكد أنه لا يمكنني أن أقاتلك بهم إذ من المعلوم عندي أن عندك [مثلهم] ألوفا وربوات ، فإن نفخت علينا تعملنا رمادا ، وهذا شيء مؤكد. ولكن كن على حذر ، وحياة الله الذي لا يعبد سواه ، من حد أبواب الهند الشرقي (٣) إلى العجم والجزيرة والبصرة والحماد وعربستان و [من] بلاد حوران إلى حد أبواب نجد ، كل من لبس على رأسه كوفية يطالب بدمي منك ويأخذ ثأري (٤). فإن كنت سلطانا حقا وتدعي بالعروبة ، فمن العيب عليك أولا الخيانة التي هي صنعة العثماني المشهور بها ، وثانيا الغدر فهو ليس من شأن الملوك الأقوياء (٥) بل للعاجزين. فجيوشك كثيرة وسيفك طويل. فإن كنت حقا أنت الوهابي سلطان العرب والحجاز واليمن ، ردني إلى مكاني وخذني بقائم سيفك ، فيكون لك الفخر بذلك. وإن قتلتني بالغدر والخيانة يكون ذلك سقوطا لفخرك ، وحقارة لشأنك ، وخرابا لملك وتدميرك للأبد. وأكثر من ذلك ليس عندي ما أقول. فافعل ما تريد يا خاين عهود العرب وبوّاق (٦) في من يدعس بساطك ، وسوف تندم ، فما أنا إلا واحد من جملة ٢ / ١٠٨ ألوف / وصفوف ، إن قتلت لا أنقص وإن بقيت حيا لا أكثر ، تسلم طائفة بيت شعلان

__________________

(١) إن الحلف بذمّة العرب من أعظم الأقسام ، وأغلظها استنادا إلى الأعراف البدوية ، وفي هذا المعنى يقول الشاعر المخضرم متمم أبو نويرة :

أدعوته بالله ثمّ قتلته

لو هو دعاك بذمّة لم يغدر

(انظر كتاب الأغاني ج ١٤ ، ص ١٥٥ ، بيروت ، دار الحياة ، ١٩٥٧).

(٢) «وما تطوّل».

(٣) كذا ، والصواب الغربي.

(٤) الدريعي يتكلم بهذا الكلام لأن جميع العرب الذين ذكرهم دخلوا معه بالرباط وأصبح رئيسهم.

(٥) «الطايلة».

(٦) الخائن ؛ في مصطلح أهل البادية البوّاق هو الضيف الذي يخون صاحب البيت الذي أضافه.

٢٥٤

وسحن أميرهم ، ووراءه عدة قبائل وعشائر لا تعد ، جميعها تطالب بدمي ، فكن على بصيرتك وافتح عينيك ولا تقل ما أنذرتك على فعلك الرديء معي. فتبسم بضحكة خفيفة وصار يلعب بذقنه (١) ثم قال : قم ارجع إلى محلك واسترح ، لا يصير إلا الخير. وأمر العبيد إلا يعودوا إلى الحوطة علينا. فرجعنا إلى منزلنا وحالا (٢) وصلنا الغداء من بيت أبو السلام. فاطمأنينا نوعا ما وسكن روعنا. ولما كان الغد استدعانا عنده فحضرنا وأظهر البشاشة والميل إلينا ، وأمر بالقهوة لأننا إلى الآن لم نكن قد شربنا قهوته. وبعد ذلك سلم على الدريعي سلام المحبين ، وسأله عن الذين معه كل واحد بمفرده ، إلى أن صار الدور لي ، فقال له : هذا عبد الله الخطيب. فالتفت إلي وقال : أنت عبد الله الخطيب النصراني؟ قلت : نعم أنا هو. قال : يظهر أن فعلك أكبر منك. قلت : نعم يا ابن سعود ، وما هذا بعجيب فالرصاصة صغيرة ، وتقتل سلطانا كبيرا. فضحك وقال : قد حققت جميع ما قيل لي عنك. ولا أريد منك سوى سؤال واحد أريد أن تجيبني عليه بالصواب وتقنعني. قلت : وما هو؟ قال : هذا الرباط الذي لكم خمس سنوات تشتغلون به ما هي الغاية منه؟ فقلت : يا سيدي هذا شيء واضح كالشمس فنحن بوساطة الحرية عملنا على اتحاد القبائل ، وجعلناها روقا (٣) واحدا مع بعضها ، وجعلنا على رأسها الدريعي ابن شعلان وذلك لامتلاك عربستان كي نكون حصنا لك في وجه الأتراك (٤). قال : قوي مناسب ، ولكن لماذا حين حضر الجيش من طرفي منعتوه عن أخذ حماة وبذلتم جهدكم في تدميره / وكسره؟ قلت : صحيح لأن مرادنا أن نملكها نحن لا أن تملكها أنت. وبعد امتلاك عربستان (٥) وتدبيره وترتيب حكمه كما يجب ، فعندئذ نعمل الاتحاد معك ونكون على سوية لأننا جميعنا عرب ، وجنس واحد ، وحاشا أنك تقسو علينا أو نقسو عليك. ونحن لم تزل هذه نيتنا ، وما حضرنا عندك ، يا ابن سعود ، إلا لأجل إتمام ذلك وربطه ، وعقد الشروط الواجبة فيما بيننا ، لتقويتنا وتقويتك واتحادنا معك. وبما أن هذه غايتنا فإن الدريعي تكدر جدا نهار أمس وتكلم بكلام غير لائق ، لأنه يريد هو تقويتك

__________________

(١) لحيته.

(٢) وصول الغداء بهذه السرعة إلى عدد كبير من الأشخاص يدل على أن ابن سعود كان أعطى الأوامر بهذا الخصوص قبل أن يتكلم الدريعي معه.

(٣) «روك» ؛ والروق : القرن.

(٤) «في وجه باب الأتراك».

(٥) في المخطوطة : «بعد امتلاك عرب» ، وهذه العبارة لا معنى لها.

٢٥٥

ورفع شأنك وأنت قصدت أن تنزل من شأنه وتكسر شيمته أمام الناس. فصدق المغرور (١) هذه الحيلة (٢) وسرّ جدا ، وصرت عنده في عين القبول وأصبحت مطمئنا على نفسي من ضرره لي فيما يتعلق بأمور الديانة. وما كان هناك واسطة لإقناعه غير هذه الطريقة ، أو لنخلص من يده ويجعلنا مقبولين عنده. ثم أمر بالقهوة أولا وثانيا وثالثا ، وهذا عندهم كرم زائد ، وفناجينه كبيرة تطفح بالقهوة الممتازة لأنه هو سلطان اليمن (٣). ولكني كنت مقهورا جدا إذ ما كنت أستطيع أن أشرب التوتون ، لأن هذا محرم عنده جدا جدا ، والذي يشربه ما له قصاص إلا القتل.

ثم توجهنا إلى قناقنا مسرورين. وتلك الليلة دعينا إلى العشاء عند واحد من رجال ديوان الوهابي يقال الحضرموتي (٤) ، وكان حديثنا تلك الليلة مع المذكور عن أحوال ابن سعود وحكمه ، فتبين لنا أن باطنا لا يوجد أحد يرضى به ، ولكن بالظاهر فقط. ثم أخبرنا المذكور على تحف وأموال أخذها الوهابي من على قبر الرسول بمكة (٥) : شيء لا يوصف ، أربعون جملا محملة ذهبا ، وجواهر ، وقطع سلاح مجوهرة ، وأشياء ثمينة التي تجمعت من حين دفن محمد إلى الآن ، [هدايا] من سائر ملوك الإسلام والعرب والأعاجم ، فتجمعت التحف والأموال والقطع الثمينة في ذلك المكان. النتيجة شيء لا يثمن ، ومن الجملة كرسي مرسل من العجم ، مرصع بالجواهر الكبيرة داخلا وخارجا لا يستطيع أحد أن يثمنه ، ونحو مئتي ٢ / ١٠٩ قنديل / من الذهب ومجوهرات ، شماعدين ذهب مرصعة بالجوهر واللؤلؤ الثمين ، صناديق من ذهب ملآنة ذهبا ، عقيق ، وتيجان مجوهرات ، وأيضا جوهر ، قطعة واحدة بحجم الجوزة التي كانت معلقة على قبر محمد ، النتيجة شيء ما له ثمن ولا يدخل بعقل. فجميع ذلك في خزينة الوهابي سوى الغروش التي يجمعها من الجزية ، والأموال من خيل وجمال وغنم وغير ذلك ، من البلاد التي تحت حكمه ، مثل الحجاز واليمن ، وحتى المكان الذي يخرج منه اللؤلؤ هو تحت حكمه ، وأماكن أخرى يجمع أموالها ويضع في خزينته بالدرعية. فتأكد لنا أنه أغنى من كافة الملوك ، لسبب واحد أن ليس عليه مصروف كليا. لأن أكثر مصاريف الملوك ، كما هو معلوم ،

__________________

(١) «التيس».

(٢) «النصبة».

(٣) امتد الحكم الوهابي إلى تهامة اليمن.

(٤) «الاضراموطي».

(٥) من المعلوم أن قبر الرسول بالمدينة.

٢٥٦

على العساكر والسخاير (١) (؟) والكسوة والعلف والأكل والجبخانات وخصوصا في أيام الحروب ، فهذه الأشياء جميعها لا تكلفه أي مال (٢) ، وعلاوة على أنه لا ينفق على رعاياه ولا يخصر مصرية واحدة ، فإنه يأخذ منهم الجزية ويكثّر خزائنه.

__________________

(١) السّخرة عمل يقوم به الناس دون أجرة.

(٢) «ببلاش».

٢٥٧

[وصف الدرعية]

ثم ثاني يوم درنا بالبلد. وهي بلدة صغيرة بها مياه وافرة داخل البلد. عماراتها من الحجر الأبيض ، تحتوي على سبعة آلاف نسمة ، أكثرهم من أقربائه وأتباعه ومدبريه وعقّاده ورؤساء عساكره ومن يلوذ به أيضا. ولا يوجد فيها سوق للبيع من نوع أكل وشرب ، بل كل واحد يأكل من بيته ، والغريب يضيفونه عندهم ويتسابقون عليه بالدعوات (١). وأما صنائعهم فحياكة الخام وشغل المشالح السود والبيض ، والدسمانات ، والزنانير المقلمات بأبيض وأحمر. وهناك أيضا دكاكين سيوفية وقندقلجية لأجل شغل التفنك. ودكاكين بياطرة ودكاكين صناع ١ / ١١٠ حوائج الجمال ومرجلات (٢) (؟) الخيل من لباد / لأنهم يصنعون كثيرا من اللباد (٣) في بلدهم.

مرؤتهم قليلة ، وليس لهم قوة للاستطاعة على الشغل والتعب ، بل إنهم يحبون الراحة وقلة العمل ويحبون أيضا الجمعيات والحديث الكثير ولو كان من غير فائدة ، فقط للحكي وتقطيع الوقت. نساؤهم لسن محسنات كثيرا ، وأكثرهن سمر غامقات ، والبيضاء كمثل السمراء في بلادنا ، يخرجن للطريق وهن مغطيات بمشالح سود إلى فوق رؤوسهن ، [واسعة

__________________

(١) «عزائم».

(٢) كتابة الكلمة غير واضحة ، ولعله يريد سروج أو مسروجات.

(٣) «لأن يشتغلوا لبابيد كثير».

٢٥٨

بنوع أن المشلح الواحد يكفي لامرأتين](١). وهن حافيات بلا نعال (٢) ، مثل نساء عرب البادية ، إلا أنهن يزدن عليهن الغطاء (٣) ، وملابسهن كملابس نساء العرب إلا أنهن لا يقتنين الحرير ، لأنه محرم عندهن. يشككن في عراقياتهن (٤) ذهبا ، وفي طرف شملاتهن أيضا.

عندهم بساتين خارج البلد ، في الوادي ، بها أنواع الفواكه ، مثل الموز والتين والرمان والبلح والليمون والبردقان وقصب المص والبطيخ الأصفر والعجور وجوز الهند ، ومأكولهم لحم الجمل وحليب النوق ولحم الضأن (٥) قليلا ، ويزرعون الحنطة سقيا ، وأكثر ما عندهم الذرة البيضاء والصفراء ويستعملونها للخبز والطبخ أيضا ، ويكثر عندهم الدجاج. وأكلهم قليل جدا وهم يشبعون بأقل شيء. ومصروفهم قليل جدا أيضا لأنهم جميعا يزرعون على نفقتهم (٦) ذرة وحنطة ، ولهم مواشي وخيل ، وملبوسهم متواضع لا يكلف دراهم كثيرة ، وأكلهم كذلك لا يقتضي له نفقة كبيرة ، وكل شيء بأرخص الأثمان (٧) ، وليس هناك ما يباع من لبس أو أكل ويحوج إلى صرف الدراهم. والشيء الذي ينقصهم مهما كان يجلبه لهم أهالي ينبع بحرا إلى مكا (٨) ، كرسي اليمن المحل الذي يخرج منه كميات القهوة ، لا مكة التي بها قبر محمد ، بل إلى مكا ، بلد عظيم ، من تخم (٩) صنعاء اليمن بالقرب إلى ديرة الجوف ، التي بينها (١٠) وبين باب المندب ستة أيام لا غير ، وهي تابعة لليمن ولكن مالكها ٢ / ١١٠ الوهابي / ، بلدة كبيرة جدا بقدر مدينة حلب ، يعطي سكانها الجزية للوهابي ويخافون منه كثيرا. فأهالي مكا يأتون باللوازم للدرعية ويبيعونها ويشترون منها غنما وجمالا ومشالح وخيلا وما يلزمهم ، لأن كل نهار أربعاء يوجد سوق (١١) بالدرعية للبيع والشراء من مواشي ولباد

__________________

(١) يقول الصايغ : «مرتين في مشلح واحد».

(٢) «لبّاسات».

(٣) «فقط ذايدين بالغضا [ـ بالغطاء] عليهم».

(٤) «عراقيهم».

(٥) «الضان».

(٦) «كيسهم».

(٧) «ببلاش».

(٨) يريد الصائغ مدينة مخا على ساحل البحر الأحمر.

(٩) تخم ج تخوم : حدود.

(١٠) أي مخا.

(١١) «بازار».

٢٥٩

ومشالح وشملات. وأهالي الدرعية يبيعون أيضا إلى قرى بلاد الحضرموت (١) ، وقد بقي منها شيء قليل إلا أن أكثرها خراب ، والحضرموت ، كما هو معلوم ، كانت بالسابق بلادا عامرة عظيمة ، وأما الآن فأكثرها خراب ، وهناك بعض القرى تابعة للوهابي ، أهلها فقراء جدا يعطون الجزية تحت رق العبودية. وأما عملة الدرعية فالريال الفرنجي ، وذهب مشخص (٢) ، وذهب مجر ، ونصف ريال وربع ريال ، وذهب جنزرلي صنع مصر قديم ، وذهب أبو ورده قديم ومصريات فرط ، وأما عملة العثماني فلا يتعامل بها قط. ثم عند المساء رجعنا إلى المنزل وقيدت جميع ما رأيته وسمعته في اليومية.

__________________

(١) «الاضرموط».

(٢) عملة ذهبية كبيرة (اسماعيل الأكوع ، المدارس الإسلامية في اليمن ، ص ١٩٤).

٢٦٠