رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

فأتى إلى عندي وبصق بوجهي وقال : يا كافر أي موتة تريد حتى تموت (١) بها. فكان جوابي روحي ليست بيدك. فإن كانت انتهت حياتي فإني أموت ، وإن بقي لي عمر بالدنيا فلا أنت ولا غيرك يستطيع أن يأخذ نقطة دم مني. إني فهمت أن كل ذلك تدبيرك فالله كريم. / وكان يوقد نار الحقد ويدور بين العربان يوشي بنا ويعظم الشر ومراده قتلي. فاستقمت على هذا الحال أربعا وعشرين ساعة مقيدا من غير أكل ولا شرب. فعظمت عندي المادة وضاقت بي الدنيا. وكان كل بدوي من نساء ورجال وأولاد يأتي ليراني في هذا الحال وكل واحد منهم يعمل لي عملا قبيحا.

فبعد / / أربع وعشرين ساعة اجتمعت المشايخ عند مفضي ابن عيده. فتحسن عندهم الرأي أن يبقوني عندهم ، فأطلقوني وأحضروني أمامهم وقالوا : كنا قادرين على قتلك ، ولكننا نهبك دمك إذا كنت تحكي لنا على الصحيح ما هي نيتكم؟ وما هو السبب في تدبير كل هذه الأمور؟ وإلى أي غايات تسعون؟ وما هو مرادكم من ذلك؟ فابتدأت أتكلم محاولا التمويه عليهم (٢) قائلا : إن ذلك لأجل راحتكم وحريتكم وخلاصكم من ظلم الوهابي. فكان جوابهم : وإذا نحن خلصنا من ظلم الوهابي وصرنا ممتلكين ذاتنا أحرارا في أنفسنا فما هي الفائدة لكم من ذلك. فقلت : نكون قد فعلنا خيرا معكم وعملنا جميلا. فقالوا : هذا شيء لا أصل له. نريد أن نعرف حقيقة نيتكم التي أنتم من أجلها مهتمين بهذا الأمر كل الاهتمام. فإن رأينا الشيء مناسبا ، صرنا معكم على الخير والشر وإن لم يرضنا أطلقنا سبيلك وأرجعناك إلى محلك من غير ضرر لك كليا. ونحن قادرون بعون الله على كسر الدريعي وطردكم (٣) من هذه الديرة. فقلت : يا جماعة ليس معي إذن أن أتكلم معكم بشيء ابدا // (٤) ، وذلك لأني رأيت عين الغدر منهم ، بوساطة عبسي ، لأنه يريد قتلي بلا شك ، وهو يعمل كل جهده لذلك ، فما رأيت مناسبا أن أتكلم معهم بحقيقة مرادنا أولا بسبب وجود عبسي العدو الذي يعمل ما بوسعه لخرابنا ، ثانيا وجود الشيخ برجس ابن أهديب الذي هو صهر عبد

__________________

(١) «أموتك».

(٢) «بالمحاولات».

(٣) «وتهجيجكم».

(٤) قد وضع الصائغ خطا على كل هذا المقطع الذي بين خطين / / كما لو كان يريد حذفه بنوع أننا لا نعلم إذا كان المشايخ أطلقوا سراحه ثم أعادوه إلى القيود. فهل اختلق هذا الحادث أم خانته الذاكرة كما يتبادر إلى الذهن لأنه أبقى صفحة ٢ / ٦٥ بيضاء كما لو كان يريد إملاءها بعد مراجعة مذكراته.

١٦١

الله الهدال ، كيخيا الوهابي وهو المسؤول عن خراب نظامنا. ومن جهة أخرى رأيت أن خلاصي صعب ولا بد لهم أن يقتلوني أولا بسبب كلام عبسي (١) / للعربان ضدي ، ثانيا أن مفضي ابن عيده الذي أنا عنده [في الأسر] ، محب كبير لبيت ملحم وصديق حميم للأمير مهنا الفاضل ، وعنده علم بجميع ما جرى بيننا وبينهم في سورية ، وعنده عبسي يفهمه ويوشي بنا. فما رأيت أحسن من الهزيمة فابتدأت أبحث عن طريقة [توصلني إلى نجاتي].

وقد تقدم الشرح أن العربان كانت تأتي لرؤيتي [بالقيود] ، وكل واحد منهم يهينني أنواع الإهانة. ولكن شابا بدويا أتى مرارا عديدة من غير أن يقول كلمة واحدة ، وكان فقط ينظر إلي ويذهب ، وكان أيضا يطرد الأولاد عني ، وهم كانوا يضربوني بالحجار ويقفزون فوقي ويسخرون بي. فأتى آخر مرة قبل غياب الشمس وطرد الأولاد عني وقال : هل أنت جائع لأحضر لك شيئا تأكله؟ فقلت له : أنا لا أريد أكلا وشربا وإن كنت تريد أن تفعل معي خيرا وجميلا ، وأنا لا أنسى جميلك ، فتعمل طريقة لأهرب من أيدي هؤلاء الناس. فقال : سآتيك هذه الليلة وأفكك من القيد وأوصلك عند عربك. وعند نحو نصف الليل كان سرق مفتاح قفل القيد الذي في قدمي ، وهو قيد فرس من زنجير (٢) وقفل ومفتاح يقيدون به الخيل ليلا حتى لا تسرق. فأتى نحوي بكل لباقة وفتح القفل وفكني من الزنجير (٣) ، وأخذ بيدي وخرج خارج النزل بكل هداوة وخفة (٤) ، ولم يزل حتى اجتزنا العرب ، وهو دائما معي إلى أن وصلنا إلى عربنا ، فوجدت الجميع نياما إلا الحراس ، لأن من عادة الدريعي دائما أن يضع أربعة عبيد للحراسة عند النوم. فحين رأوني عريان ليس علي ثياب تعجبوا وذهبوا وصحوا الدريعي من النوم ، فأقاق وأفاق معه الشيخ إبراهيم وكثير من الناس ، وصارت ضجة في الليل وابتدأ الشيخ إبراهيم يبكي من شدة فرحه لأني نجوت من ذلك الخطر (٥). / وحكيت لهم جميع ما جرى ، فشكر الله الشيخ إبراهيم وكامل المحبين على خلاصي ، وأعطى الشيخ إبراهيم البدوي مئة غرش بخشيشا (٦) ، وكان اسمه فاعور ، فعاد المذكور عند أهله. وأما الدريعي ، فإنه استاء منهم كثيرا (٧) واشتد قهره منهم فكتب لهم مكتوبا يطلب البدوي الثاني

__________________

(١) الصفحة ٢ / ٦٥ بياض والصفحة ١ / ٦٦ كناية عن حاشية كبيرة تأتي بعد صفحة ٢ / ٦٨.

(٢ و ٣) «جنذير».

(٤) «خفّيّة».

(٥) «القطوع».

(٦) هبة.

(٧) «أخذ على خاطره».

١٦٢

الذي كان ذهب معي ، لأنه لم يزل مقيدا عندهم وخاف عليه من أن يقتلوه لأنني هربت من عندهم ، وفي الوقت نفسه يقبح فعلهم الذي فعلوه معي. فكان الجواب لا نرسل الرجل (١) ، واستعد للحرب والقتال غدا صباحا ، ولا تقل ما أنذرناك فكن على حذر (٢).

فجمع الدريعي حالا كبار القبائل وابتدأوا بتحضير مهمام الحرب وتدبير أمورها. وثاني يوم من الصبح خرجت الجموع من الطرفين ، واصطفت الطوابير أمام بعضها ، وانفتح ميدان الحرب ، واشتد القتال بين الطرفين. وكان نهار لا يوصف شديد الحر جدا ، إلى أن غابت الشمس ، فما رجحت كفة الواحد على الآخر ولكن حصلت مقتلة عظيمة في الفريقين ، وقتلت فرس عوض جندل شيخ السوالمة التي تسوى عنده أكثر من خمسين كيسا ولا تقدر بثمن لا بكثير ولا بقليل. فتكدرنا عليها جميعنا كثيرا وأعطاه الدريعي فرسا عوضا عنها ، ولكن دونها لا تماثل التي قتلت ، فرضي واستكثر بخيره (٣) عليها.

وفي اليوم الثاني وقع القتال أيضا ، وكان أشد من اليوم الأول ، وكانوا هم الراجحين علينا بسبب أنهم أكثر منا. فهم كانوا نحو ثلاثين ألف مقاتل من خيالة ورجال ومراديف ، ونحن كنا مقدار نصفهم لا غير. فأخذوا منا في هذا اليوم أربعين ممسوكا (٤) ، يعني أسيرا (٥) ، تسمّيه العرب ممسوكا. ونحن أخذنا أحد عشر واحدا. وكان من جملة الأحد عشر ممسوكا عندنا ابن صقر شيخ قبيلة المضيان ، فقيدنا الجميع ، وهم كذلك / قيدوا مماسيكهم.

وبعد ذلك النهار قضينا ثلاثة أيام دون حرب ولا كلام بين الجانبين. ولكننا كنا متيقظين إلى بعضنا ليلا ونهارا. وبعد ذلك إذ حضر إلى طرفنا الشيخ صقر ابن حامد الذي كان ولده ممسوكا عندنا ، من جملة الأحد عشر ، وبرفقته خيال واحد فقط ، لأن هذه عادة العرب إذا وقف الحرب يزورون بعضهم بعضا ويتكلمون ويأكلون ويشربون ، وحين رجوع الحرب كل منهم ينسحب إلى فريقه. فحضر المذكور عندنا ، فرحّب به الدريعي وعمل له غاية الإكرام. وكان سبب حضوره أنه يحاول أن يفك ابنه لأنه كان غاليا عليه جدا. وكان قد

__________________

(١) «الذلمة».

(٢) «صير على حضر».

(٣) شكره.

(٤) «ممسلوك» ، ولكن في مكان آخر من المخطوطة يكتب الصائغ «ممسوك» ويجمعه على «مماسيك».

(٥) «يسير».

١٦٣

جرح يوم الذي وقع أسيرا فبقي مشغول البال عليه خوفا من أن يكون مات. ولكننا كنا داوينا جرحه كالواجب ، على حسب مداواتهم للجروح ، ومهتمين به جدا لأننا نعرف أنه غالي الثمن على أبيه وعلى كافة عربانهم ، وهو شاب عظيم وفارس مشهور اسمه حامد باسم جده.

١٦٤

[ماوراء الحلف من أغراض سياسية]

ثم جلسنا للحديث مع صقر. فقال : يا جماعة نحن متعجبون منكم على فعلكم هذا ، واجتهادكم بإدخال القبائل في اتحادكم وسعيكم العظيم في هذا السبيل ، من غير أن نرى لكم ثمرة من ذلك تستحق اثقال هذه الحروب وهذه الأتعاب التي تتكبدونها أنتم ، ويتكبدها الناس بسببكم. وإذا قلنا شفقة على العرب حتى ننقذهم من أسر ابن سعود ، فما أظن أنكم شفقون على العرب إلى هذا الحد ، ولا يكون لكم فائدة خاصة من ذلك. ويقول المثل : لا يصلي أحد حتى يطلب الغفران. فأنا واحد من الناس لا أدخل معكم إلا إذا أعلمتموني حقيقة غرضكم ، وهكذا يرى أكثر الناس. فإن شاء خاطركم افهمتموني المادة ، وأنا بعون الله معكم وواحد منكم. فكان جوابنا : أنت على حق وما تقوله هو الصواب ولكن ما هي الطريقة لنعرفك بسرنا من غير أن تضع ختمك وتقبل الشروط ؛ / قال هذا عين الصواب (١) فاحضروا ورقة الشروط لنسمعها. فأتينا حالا بالورقة وقرأناها له ، فسرّ كثيرا وقال : كنت أخمن (٢) من جملة التخمينات (٣) أن مرادكم أمور الديانة ، فوجدت أول شرط أن لا يتكلم أحد بالأمور الدينية. وكان تخميني الثاني أن ربما أنتم من طرف العثماني سياسة ،

__________________

(١) «قوي مناسب».

(٢) أظنّ.

(٣) الظنون.

١٦٥

لأجل تدمير ابن سعود الوهابي ، فوجدت كذلك من الشروط الابتعاد عن التعامل (١) مع العثماني وحكامه ، وكثير من الأشياء كنت أظنها صالحة لكم فوجدتها بعكس ذلك. وعليه فقد انفتحت على المادة جدا وضاعت ظنوني تماما ، فبالله عليكم (٢) أن تعرفوني المادة وأنا أول من أطاع وآخر من عصى. ثم وضع ختمه واسمه بالورقة وتعاهدنا معه بكل محبة ، وقلنا له : اعلم أن المراد الوصول إلى أبواب الهند ، والكشف عن طريق يكون بعيدا عن المدن ومعرفته ، ويكون به المياه اللازمة ومراعي للمواشي دائمة. فقال : حسنا ، ولكن هذا الأمر لا يحتاج إلى كل الأعمال التي تقومون بها ، فبوسعكم أن تأتوا معي ، وأنا أرسلكم إلى غير قبيلة ، وهكذا من قبيلة إلى أخرى تتنقلوا حتى تصلوا إلى الهند ، من غير هذه الحروب والمعارك التي تصدر عنكم. وأنا لا أظن أن هذا مقصودكم ، بل هو تملص مني (٣) لأنكم لا تريدون أن تعرفوني حقيقة الحال ، فإن تدبيركم ومساعيكم ليست فقط لأجل كشف الطريق ، ولا بدّ أن يكون لكم غايات داخلية لا تريدون أن تعرفوني بها على الوجه الصحيح ، وستندمون لأنني قادر ، بعون الله ، على مساعدتكم إن أعلمتموني بحقيقة مرامكم. فقلنا الصحيح أن مرادنا الوصول إلى الهند ، ولكن ليس نحن فقط بل أيضا جيش كبير نحو مئة ألف. فلأجل ذلك نريد أن نجمع العرب على رأي واحد ، ونجعل لهم رأسا كي يسعفوا الجيش المذكور ، ويساعدوا على إيصاله إلى الهند ، ويحملوا جميع لوازمه من أكل وشرب وغير ذلك من المهمات ، واركاب العساكر على الجمال والمسير معهم وإعانتهم في كل ما يلزمهم والوصول معهم / إلى الهند. قال : حسنا ولكن ما هي فائدة العرب من ذلك وما هو أملهم. فقلنا له : أولا إن السلطان الذي سيرسل هذا الجيش سيصير لكم منه خير عظيم ، ثانيا تملكون حريتكم وتخلصون من عبودية الوهابي وحكم العثماني عليكم ، ثالثا تغنمون أموالا لا تحصى من الهند ، لأن غنى الهند زائد كما هو معلوم عندكم ، رابعا من اتحادكم مع بعضكم بعضا ، وكسب مثل هذه الكميات من الأموال ، ونظر مثل هذا السلطان عليكم تستطيعون أن تملكوا أنفسكم ، وتعودوا ملوكا كما كنتم سابقا ، ولا خسارة لكم من ذلك بل تكسبون صيتا كبيرا ويحصل لكم ربح عظيم.

وصار حديث كبير في هذا المعنى ودخل الموضوع في عقله وتشرب المادة على

__________________

(١) «مقارشة».

(٢) «سايق الله عليكم».

(٣) «صرفه منشاني».

١٦٦

جليتها ، / / وتعهد لنا بإدخال كثير من القبائل معنا واتحادهم في رباطنا. ونحن وضعنا أملنا به لأنه رجل ذو عقل وتدبير ، طاعن بالسن ، مسموع الكلمة ، وعملا بالرباط تعهدنا أن نعيد كل الأسراء (١) ، وهو يرسل إلينا الأسراء الذين عندهم وأخذ على نفسه أن يهتم بأمورنا بكل رغبة ومحبة ثم أفهمناه مرادنا // (٢) فقال : يا جماعة إني قد فهمت المادة جيدا ، وعرفت الغاية من جميع ذلك ، إنما العداوة مع الوهابي لا معنى لها ولا علاقة لها بهذا الأمر ، لأن الرجل في بلاده ونحن في ديرتنا نفعل ما نشاء ، وهذه العداوة تؤدي إلى سفك الدماء ، وذهاب الرجال والأموال وتحميل أثقال شتى من غير فائدة لنا ، وليس هناك أمر ضروري يحوج إلى ذلك. فقلنا : يا صقر كل منا يعرف وجعه ، فاعلم أيها العزيز (٣) / أن الوهابي اليوم متقوي جدا ، وأخذ يملك البلاد وعمل نفسه ملكا ، وإلى الآن صارت بيده بلاد اليمن والحجاز ، حتى أنه ملك مكة المكرمة والمدينة ، وهو يرسل جيوشه إلى أماكن أخرى ، حتى وصل إلى ديرة عربستان (٤) وقرب من الشام كما هو معلوم. ونحن نرى أن العثماني غير قادر على رده ، وهو لم يزل يمتد ويملك ، فإذا ملك سورية فمن المعلوم أنه سيزحف (٥) ويملك بغداد وديرتنا هذه مع التمادي ، وإذا امتد ملكه وصارت سورية في يده وهذه الديره ، لا يعود يتم لنا أمر وتتعطل أشغالنا لأسباب كثيرة. أولا بسبب رفضه وتمسكه بأمور الديانة وشدة بغضه للملة النصرانية ، ونحن نصارى ، والجيش الذي يريد أن يمر بهذا الطريق نصراني أيضا ، فلا يمكن أن يتفق معنا ويسمح لنا بذلك ، ثانيا لربما افتكر أنها حيلة عليه من طرف العثماني لأجل خرابه وتدميره ، فعلى هذا الجيش النصراني أن يحارب في وسط الصحراء (٦) ، وأنتم تكونون يومئذ معه وتحت أمره ، وإذا لم تساعدونا بالحرب وتركتونا وحدنا في البرية نهفى ونموت من الجوع والعطش ، لأن جيشنا لا يعلم كيف يسلك في البراري ، وإذا العرب لم تساعد وتعين على الركوب ، وتدل على المسالك ، وتنقل الماء والأكل والشرب ، وتمشي أمام عسكرنا ، لا يمكننا الوصول إلى الهند. ثالثا إن سلطاننا الذي نحن في خدمته له عدو كبير ، والبحر بيد هذا

__________________

(١) «اليساره».

(٢) وضع الصائغ علامة في المخطوطة كما لو كان يريد أن يكون هذا المقطع في مكان آخر ولكن لم تظهر لنا حقيقة ذلك.

(٣) في المخطوطة إشارة إلى أن تتمة الكلام في صفحة ١ / ٦٦.

(٤) «عرب بستان».

(٥) «يسحف».

(٦) «الجول».

١٦٧

العدو ، ويستطيع أن يصل عند الوهابي من بحر الهند ، ويقوّى الوهابي ويعمل اتحادا معه ١ / ٦٩ ضدنا ويخرب شغلنا ونظامنا. فلهذه الأسباب وغيرها يجب معاداة (١) الوهابي والإنفراد عنه. /

ثم تكلمنا معه كلاما كثيرا فدخل في عقله وفهم المطلوب ، واتحد معنا اتحادا عظيما ، وأخذ على نفسه الضمان بأن يجذب إلى طرفنا كل ما يستطيع عليه من القبائل ويوفق بينها وبيننا ويكون هو المقدم في هذا العمل ، وينال مكافأة على تعبه مثل الدريعي. ونحن عملنا على أن يكون مطمئن البال وأملناه بشيء كثير ، ووعدناه بكل ما يسر خاطره ، فأمل بالعز (٢) والكسب من أموال الهند ، وهذا شيء طبيعي في العرب لأنهم يسرون جدا من النهب (٣) ، فهذه صنعتهم (٤) وليس لهم صنعة غيرها. فجلس صقر عندنا يومين كان حديثنا معه على هذه الأمور وأخذت تدابير جيدة ، وانتهى الكلام والوعد معه على أن يعمل كل جهده هذه السنة ليأخذ رأي القبائل ويمزجنا معها. وأما نحن ، فنتابع طريقنا إلى طرف المشرق. وإن استطاع أن يفعل كل هذه الأمور هذه السنة ، فإنه لا يغرّب بل يبقى بالمشرق عند القبائل التي لا تغرب ويتم العمل ، بينما نحن نغرّب حسب العوايد ، وحين التشريق يكون كل شيء مرتبا وحاضرا ، فندخل ونتم مرغوبنا.

فأطلقنا الأسراء الذين كانوا عندنا وأهدى الدريعي فرسا عظيمة لابن صقر ، وقدمنا له نحن جملة هدايا ونفقة جيب (٥) وافرة ، وودعنا بعضنا بكل محبة وذهبوا عند أهلهم. وبعد توجههم من عندنا بنحو أربع ساعات من الزمن أرسلوا مماسيكنا ، وقبل توجههم عندنا ذبحوا لهم الذبائح وصنعوا لهم غداء عظيما وأبدوا لهم غاية الإكرام والمحبة.

هذا وفي اليوم الثاني أتانا مكتوب منه ومن مفضي ومن ضويحي ، وكان بهذه اللفظات :

من مفضي وضويحي إلى الدريعي بعد السلام عليكم والثاني حضر أخونا صقر من عندكم ، والمذكور بغاية الرضى عنكم ، فهو شاكر لكم وحامد حسن مزاياكم والإكرام الزائد الذي فعلتوه معه. وقد تكلم معنا بخصوص المطلوب ، شيء قليل الذي كافي لنا لحد

__________________

(١) «ضشمنة».

(٢) «الكبرا».

(٣) «بينحظوا في النهايب».

(٤) «كارهم».

(٥) «خرجية».

١٦٨

الآن (١) ، والله يعين على كل أمر يحصل منه نفع لجيوش العرب. وقد توجه صقر عند ٢ / ٦٩ () (٢) ، لأن (٣) / المذكور بعيد عنا نحو ثلاث ساعات ليتكلم معه ، فيكون معكم علم بذلك والسلام.

فسررنا من هذا الكتاب إذ تأكدت لنا صداقة صقر. وثاني يوم رحل من أمامنا ونحن أيضا رحلنا لأن الأرض قد امتلأت بالأوساخ ولم يبق فيها مرعى. فتقدمنا إلى الأمام نحو عشر ساعات ونزلنا بأرض يقال لها مقتل العبد على شط العرب ، فأقمنا ثمانية أيام وإذ حضر عندنا صقر وابنه ، وأخبرنا أنه استطاع أن يجلب بعض القبائل إلى طرفنا وأضاف أن هذا الأمر لا يتمل بالعجل ، لأن أمامنا عربانا لا تحصى ولا تعد ، وكل واحد برأي وعقل يختلف عن الآخر ، وإذ أردنا الدخول هذه السنة نتعب ويحصل لنا هموم وحروب وسفك دماء كثيرة ، [وقال] : والرأي عندي أن أبقى بالمشرق هذه السنة ، وأعدّ (٤) لكم هذه الأمور كما يجب وحين تشرّقون من بلاد سورية يكون كل شيء جاهزا وفق مرادكم ، فتدخلون الأراضي وتصلون إلى الأماكن التي تريدونها ، وتكشفون عما تريدون ، وتفهمون جميع ما ترغبون ، ويصير كل شيء حسب مطلوبكم إن شاء الله ، ولكن بالتأنّي وطول البال ، وقد بذلت كل جهدي لأنكم وصلتم إلى هنا ، وكابدتم من المشقات والأتعاب ما لستم معتادين عليه ، لتقضوا مطلوبكم وترجعوا إلى سورية وتتموا الأمور المنوطة بكم. ولكن تحقيق ذلك غير ممكن الآن ، وأنا أقوم مقامكم بل أحسن منكم ، إذ كما يقول المثل الشجر لا يقطعها إلا فرع منها. فاعتمدنا على رأيه وجلس عندنا نهارا واحدا ، ثم ودعناه وأفهمناه جميع الأمور اللازمة وسافر بالسلامة.

__________________

(١) كذا بالحرف الواحد ، والمعنى : عرفنا القليل ولكن ما عرفناه يكفينا الآن.

(٢) في المخطوطة : ضويحي ابن حبس (؟) إلا أن الصائغ شطب الاسم بالحبر مرارا ولم يضع مكانه اسما آخر.

(٣) هنا ابتداء الكراسة نمرة ٩.

(٤) «اطبخ».

١٦٩

[العودة إلى بر الشام]

أما نحن فنوينا الرجوع إلى بر الشام ، إذ كان انتهى فصل الشتاء ودخل الربيع ، ونحن لم نزل فوق البصرة بنحو ثلاثة أيام. فابتدأنا نعود إلى الغرب ، وبعد عدة مراحل قطعنا الدجلة ودخلنا الجزيرة من القرنا ، فجلسنا يومين فقط بالجزيرة ، وقطعنا الفرات من المنصورية وخرجنا ١ / ٧٠ إلى الصحراء (١) التي يسميها العرب الحماد وهي قبلي الفرات. /

فرحلنا بعد مقطعنا ، ونزلنا أرضا تبعد عن الفرات نحو ست ساعات ليس فيها ماء جار. فحفر العرب كلهم حفرا طول قامة الإنسان ليستقوا منها. فكل عشرة بيوت أم أكثر أم أقل عملت لها حفرة ماء. وهذه المنزلة اسمها غبيب الدّرّ : الدر يعني الحليب وغبيب يعني الشرب ، كناية عن قلة وجود الماء بهذا المكان ، يعني محل شرب الحليب عوضا عن الماء. فما أطلنا الإقامة ، بل رحلنا ثالث يوم ، أولا بسبب قلة الماء كما سبق الشرح ، وثانيا لأننا كنا مستعجلين لنلحق ربيع بر الشام ، إذ الوقت أدركنا وأصبحنا في منتصف الربيع (٢) ، ونحن نخاف أن يحضر غيرنا من العربان ويضعوا يدهم على الأماكن الجيدة ، وخصوصا وأن وراءنا خصومنا وهم بيت ملحم ، فلربما كانوا شدوا أزرهم ببعض القبائل كي يملكوا الديرة ويحاربونا ، كما تقدم الشرح عنهم عام الماضي قبل تشريقنا.

__________________

(١) «جول».

(٢) ربيع سنة ١٨١٢.

١٧٠

ثم رحلنا ونزلنا أرضا يقال لها الصّارعة ، مياهها كثيرة من نبوعات ومراعيها كثيرة أيضا ، ولكن بها عشبة تسمى الخافور (١) تحبها الجمال ، إنما لها فعل غريب إذ يجن منها الجمال فقط ، وليس لها فعل على غيرها من الدواب. فمتى أكل منها الجمل صار مجنونا وعمي ، فلا يرى بعينيه شيئا ويهيج. فاستقمنا يومين في تعب (٢) عظيم مع الجمال لأنها تهجم على البيوت من غير أن تراها فتخرب البيوت وتدعس الأولاد وكل من كان بوجهها. فكانت الناس دائما راكبون وراكضون خلف الجمال حتى يردونها عن البيوت. فخلال هذين اليومين لم يستطع أحد أن ينام أو يستريح بل حصل تعب (٣) عظيم أشد من معركة كبيرة مع خصم قوي. والسبب أنهم أطلقوا على هذا المكان اسم الصارعة لأنها تصرع الجمال وتجعلها كالمجانين. وثالث يوم قلت للدريعي بالله عليكم دعونا نرحل من هذه المنزلة الملعونة فكأني بكم مسرورون من هذا التعب فضحك. وفي ذلك الوقت نفسه إذ بجمل عظيم هاج وركض نحو الدريعي نفسه ، فركضت حالا ودخلت البيت واختبأت فيه. أما الدريعي ، فإنه أخذ عامودا من عواميد الخشب التي كانت أمام البيت ، وضرب الجمل على رأسه ، فانكسر ٢ / ٧٠ العامود قطعتين ولم يردّ الجمل ، / واحترنا عمّن نقول أنه أكثر قوة الجمل أم الدريعي ، لأن المذكور يقول : لو ثبت العامود كنت كسرت رأس الجمل وقتلته. فأنا عدلت بينهما وقلت : أظن يا دريعي ، أنك والجمل بالقوة نفسها ، لأنك تحتج بأن العامود قد انكسر ، والجمل على ما أظن ما أحسّ بالضرب ، وعليه فإنكما متقاربان لبعضكما بعضا. فضحك كل من كان حاضرا.

ورحلنا ثاني يوم ، وبينما نحن في الطريق إذ نفذ علينا مكتوب من صقر مضمونه أنه ذهب عند برجس ابن أهديب ، ولكنه لم ينل فائدة ، ووقع بينه وبين المذكور إغاظة. وقد حرد صقر عليه وذهب من عنده متكدرا ، وإن برجس غرّب بكامل عربه ودخل الجزيرة ويريد أن يصل بسرعة إلى بر الشام ، ويجتمع مع بيت ملحم ومع جيوش الوهابي ، لأجل تنكيس رايتكم وخراب نظامكم وتدميركم ، من حيث أولا أنه زوج أخت عبد الله الهدال ، وثانيا أنه محب لبيت ملحم ، وثالثا أن عنده عبسي القبيسي وهو يحرك الشر عليكم دائما ، فكونوا على

__________________

(١) الخافور : «نبتّ كالزّوان» (القاموس المحيط مادة خفر).

(٢) «جنك» ، ويريد ضنك.

(٣) «جنك».

١٧١

علم بذلك وخذوا حذركم منه. فقال الدريعي : الله أكبر منه. ولم نزل نجد بالسير من مرحلة إلى أخرى.

وعلمنا أن السّلقا (١) ، وهي قبيلة عظيمة نازلة في منزلة يقال لها حزملما (٢). فقال الدريعي : هذه قبيلة عظيمة ورجالها مشهورون بالمواقع (٣). وأميرهم رجل طيب ، فيجب أن نجلبهم إلى طرفنا قبل وصولهم إلى الديرة الشامية. والأمير اسمه جاسم ابن حريميس وهو صديقي جدا. فقلت نكتب له مكتوبا ، قال الدريعي : هذا لا يناسب لأنه لا يقرأ ، فيجب أن يقرأ له أحد المكتوب ، وتصبح المادة مسموعة ، ونحن نريد أن تكون سرية. فرأى الشيخ إبراهيم أنه من المستحسن أن أتوجه أنا عنده وتم الرأي على ذلك. وثاني يوم أرسل الدريعي معي ستة أنفار ليدلوا (٤) [على الطريق] ، وأنا ركبت ذلولي وكنا سبع أنفس. وكان بيننا وبين حزملما مرحلتان ، وسرنا طالبين قبيلة السلقا. فبعد يومين وصلنا إلى المحل [المقصود] ، فما وجدنا أحد لأنهم كانوا رحلوا ولكن لا يعلم أحد إلى أي جانب توجهوا. فصرنا ندور بالبرية ١ / ٧١ إلى المساء ، فبتنا بالخلا في البادية (٥) ؛ من غير أكل ولا شرب لأننا لم نأخذ معنا / غير زاد يوم فقط ، إذ كنا متأملين بالعرب. فأقمنا ثالث يوم ندور أيضا إلى المساء ، ولكننا كنا نمشي بجد فما وجدنا أحدا ، ولم نلتق بغير عربان. فاشتد بنا العطش وخصوصا بي أنا ، فتلاشت حواسي ويبس فمي واحترق جسدي من شدة الظمأ ، حتى كدت أغيب عن الوجود ، إذ مضى علي ثلاثة أيام من غير ماء. فصاروا يضعون في فمي حصوات صغيرة وتارة رصاصات ، وكل ذلك بدون فائدة ، ولم يزل يزداد عطشي. فاسود وجهي ، ويبس لساني وصار مثل الفحم الأسود ، وجمدت عيوني ، ورميت نفسي على الأرض كالميت ، وغاب عقلي وعدمت حواسي بالكلية. ومنذ يومين كنا نبحث عن الماء فقط ولا نسأل عن العرب. وكنا دائما نبعد كأننا مسحورون ، فلا نستطيع أن نجد عربا أو ماء لنشرب. فبعد ذلك رفعوني عن الأرض وأنا غير واع ، ووضعوني على ظهر ذلولي ومشوا قاصدين منزلة يقال لها جب الغنم بها ماء. وما زالوا سائرين إلى بعد الظهر ، وكان ذلك خامس نهار من غير ماء.

__________________

(١) «السلقة» ، من العنزة.

(٢) «حذملما» ، إنما من عادة الصائغ أن يكتب ذالا بدلا من الزاي.

(٣) «بالمراجل».

(٤) «دلالة».

(٥) «الجول».

١٧٢

فأقبلنا على الجب فصار رفقائي يتسابقون إليه ، فرميت نفسي من على ظهر الجمل على الأرض وابتدأت أبكي ، إذ تصور بعقلي من شدة احتراقي وعطشي أنهم سيشربون كل الجب ولا يبقون لي شيئا ، فعادوا وصاروا يضحكون من عقلي وقالوا : أنت عدمت عقلك فهذا الجب يكفي جيوش عنزة (١) وطروشها ولا يخلص ، ونحن ستة أنفار نريد أن نشرب الجب بكامله. ثم وصلنا وحين صرنا على فم الجب ركض واحد من العرب اسمه غلفص ، واشهر سيفه وجلس على فم الجب وقال : كل من قرب منكم قطعت رأسه ورميته بالجب ، اقعدوا وأنا أسقيكم بمعرفتي. فأخذني أولا ووضع رأسي عند فم الجب وقال : شم رائحة الماء فقط شما. فابتدأت اترجاه وأسأله بإلحاح (٢) أن يسقيني. فبعد حصة أخرج قليلا من الماء قدر نصف وقية ، وصار يأتي بالواحد بعد الآخر ويدهن شفاهنا ولساننا دهنا بالماء فقط. ثم بعد حصة أخرى أخرج كمية أكبر من الماء ، وصار يعطي لكل واحد نحو نصف فنجان قهوة ٢ / ٧٣ ماء ، وبعد حصة قدر فنجان وبعد قليل قدر فنجانين / (٣). ولم يزل يدرجنا رويدا رويدا مقدار أربع ساعات حتى شبعنا ماء. وأخيرا قام من على الجب وقال : اشربوا قدر ما تريدون. وقال : لو لم أفعل ذلك معكم لكنتم متّم جميعكم إلى جانب الجب. وبالحقيقة كم من السواح وغيرهم الذين بلغنا عنهم أنهم ماتوا من شرب الماء بعد عطش. فبتنا تلك الليلة إلى جانب الجب من غير أكل ، فقط على الماء ، وكنا نشرب كل ربع ساعة وما كنا نروى. فأصبحنا ثاني يوم وكان أمامنا تل عال فصعدنا عليه عسانا نرى عربا نذهب عندهم فما رأينا شيئا إلا أن أحد رفقائنا رأى عربا نازلة بعيدا جدا ، فصار يرينا مكان نزولهم ويعلّم لنا ، ولكن ما كنا نستطيع أن نرى النزل ، حتى أكد لنا أن بينهم بيتا كبيرا على ستة عواميد وأمامه شيء أحمر. فاعتمدنا على كلامه إذ شهد رفقاؤه أنه حاد البصر بعيد النظر جدا ، فتوكلنا على الله ومشينا بسرعة. فبعد ثماني ساعات وصلنا عند العرب ووجدنا أن كلامه صحيح : بيت كبير على ستة عواميد ، وأمامه هودج امرأة الأمير وهو ملبس بالجوخ الأحمر. وكانوا هم عرب السّلقا الذين كنا نبحث عنهم ، وذلك البيت هو بيت جاسم ابن حريميس. فدخلنا وسلمنا عليه ، وأعطيناه المكتوب الذي معي وهو بخطي وقد كتبته ليكون وسيلة للوصول إليه. فأخذ

__________________

(١) «عنازة».

(٢) «اتدخل عليه».

(٣) ورقة ٢ / ٧١ بياض ـ وقد أعاد الصائغ ترتيب الصفحات فجاءت ورقة ٢ / ٧٣ بعد ١ / ٧١ ، وأخّر بعض المقاطع وقدّم غيرها ، ونحن أعدنا سبكها على حسب تعليمات المؤلف.

١٧٣

المكتوب وفرح به وقرأه (١) وترحب بنا جدا. فحكينا له ما أصابنا فصعب عليه جدا وقال : ليتكم أرسلتم هجانا فما كنت رحلت من حزملما ، ولكن ما حصل إلا خير ، أهلا وسهلا بكم. ثم سألني عن الدريعي وأحواله ، وعن جميع ما حدث فحكيت له إذ معه علم بالأمور الجارية. ثم أخذت بالكلام معه وابتدأت أتحدث معه من أبواب مناسبة وملائمة له حتى جذبته رويدا رويدا إلى طرفنا واعتمد على رأينا وأعطاني كلاما ثابتا أنه معنا على الخير والشر ، وأنه في أول اجتماع له مع الدريعي سيضع ختمة واسمه في ورقة الشروط.

__________________

(١) يقول الصائغ (ص ١٧٢) إن هذا الأمير لا يعرف القراءة.

١٧٤

[إنكلترا تبدي نواجذها]

/ / ثم أخبرني أن بنت سلطان الإنكليز أتت إلى تدمر ، دعاها مهنا الفاضل بالشتاء ، فأتت بهرج (١) عظيم وكبر زائد ، وبقيت نحو عشرة أيام في تدمر ، ووهبت أموالا وأعطت بخاشيش كثيرة وقد شاع الآن خبرها (٢) بالكرم في تدمر وبين القبائل. وهي بنت سلطان الإنكليز ، وهذا شيء أكيد ، وهي معروفة عند الحكام وكل أهالي البلاد ، ومقيمة حاليا في حماة. وصار كل من يحكي عنها ويتحدث بصيت كرمها ويعظم به ، لأن من عادة العرب أن يكبروا الحكاية ولو كانت وضيعة وخصوصا بالبرية. فدخل علي الوسواس من هذا الخبر وتصدع (٣) عقلي ، وما عدت أصدق متى سأصل عند الشيخ إبراهيم لأطلعه على هذا الخبر // (٤).

فدرنا في القبيلة ودعينا عند كبارها وهي عشيرة عظيمة تحتوي على ثلاثة آلاف بيت ١ / ٧٤ وأغنى فرسان ، أنفسهم قنوعة جدا (٥). / فأقمنا عندهم خمسة أيام ، ورحلنا معهم مرحلة. ثم

__________________

(١) «هرتك».

(٢) «خبرنا» [كذا].

(٣) «وانشعب».

(٤) جميع هذا المقطع ورد في المخطوطة صفحة ١ / ٧٢.

(٥) عبارة الصائغ غير واضحة المعنى فهو يقول : «أغنا فرسان نفسهم رضية جدا».

١٧٥

بعد ذلك وصلنا خبر أن الدريعي نازل في نواحي القبيسة (١) ، بعيدا عنا نحو أربعة أيام. فودعنا حالا جاسما وعائلته وكبار قبيلته وكامل المحبين وتوجهنا طالبين الرجوع عند الدريعي. ومن بعد مسير أربعة أيام ، وصلنا بالسلامة عند عربنا ، فوجدنا الشيخ إبراهيم والدريعي في وجل عظيم جدا بسبب تأخرنا. فحكينا لهم جميع ما حدث لنا ، فشكروا الله على سلامتنا ، وسروا جدا من مكتوب جاسم وكان بهذه اللفظات :

من جاسم إلى الدريعي بعد السلام وصلنا مكتوبكم الذي يحوي سلاما منكم صحبة عبد الله الخطيب ، وصار لنا علم بسلامتكم وحمدنا الله على هذا. وتكلم معنا عبد الله المذكور بكل ما يلزم ، وأفهمنا كل ما حدث ، وعلمنا منه عن مرادكم ، فرأيكم عندنا حسن جدا وقبلنا شروطكم ، ونحن وأنتم إن شاء الله بالحال الواحد ، ليس بيننا شيء محرم غير الذي حرمه الله. وأنا معكم وعلى رأيكم بجميع ما يصدر من خير وشر. على هذا قول الله ورأي الله ورأي محمد وعلي ، والخائن يخونه الله. ومتى تواجهنا معكم نضع ختمنا بالشروط ، ونكون معكم أحسن من غيرنا ، لأن صحبتنا معكم قديمة ومحبتنا إن شاء الله مستديمة.

ففرح الدريعي والشيخ إبراهيم بهذا المكتوب ، وقالا : ما ذهب العطش والتعب ١ / ٧٢ سدى ، بارك الله بهمتك. / ثم أخبرت الشيخ إبراهيم سرا بخبر بنت السلطان ، فتعجب من هذا الخبر وصار في وجل عظيم وأخبر الدريعي. فصرنا جميعنا متحيرين من هذا الخبر ، وصرنا نحسب أشكالا وأشكالا وحسابات شتى. وكلما اقتربنا من تدمر نسمع هذا الخبر من كل شخص نلقاه وهو يزداد ويكبر. فدخل الوسواس على الشيخ إبراهيم ، وقال : إنها أتت خصوصا ضدنا لتعكس أشغالنا ، ويظهر أن سرنا قد انكشف ، ولكن لا نستطيع أن نفهم شيئا إلا من تدمر.

ثم رحلنا ثاني يوم ، ولم نزل نرحل بسرعة ونقرب إلى نواحي تدمر. وفي قليل من الزمن وصلنا إلى تدمر ونزلنا بعيدا عن البلد نحو ساعة على ماء أبو الفوارس. فنزلت إلى تدمر ، وسلمت على الشيخ وكامل المحبين ، واستخبرنا عن المادة ، فأخبرني الشيخ علي أن بنت سلطان الإنكليز قد أحضرها مهنا الفاضل ، وأقامت ثمانية أيام في تدمر تدور فيها وترى [آثارها] ، وأعطت هدايا كثيرة لأن كرمها زائد ، وهي لابسة ألبسة (٢) رجال ، وتركب الخيل

__________________

(١) «القبيسي».

(٢) «كسم».

١٧٦

مثل الرجال ، وهي بنت سلطان ومرادها الإقامة في هذه البلاد لأنها ، على ما أخبرني ، دائما مريضة ، وقد وصف لها الأطباء (١) الإقامة بهذه الأقاليم ، وهي الآن في حماة وقد كسب مهنا الفاضل منها كثيرا ، وجميع العرب يشكرونها لأنها صرفت مالا جزيلا على العربان. وفي حماة لم يزل العرب يلفون عليها ، وهي تقدم لهم الهدايا ، لأنها تحب العرب كثيرا ومرادها المعرفة بهم ومحبتهم (٢). ولم تزل تهدي الحكام التحف الإنكليزية وأصبح لها صيت عظيم.

فهذا الخبر دخل علي منه الوسواس بالأكثر ، وعمي قلبي وتأكدت أنها مرسلة خاصة حتى تفسد عملنا. فرجعت عند الشيخ إبراهيم وحكيت له جميع ما سمعت ، فتأكدت عنده [ظنوني] ، وأشتد قهره ودخل عليه الوهم والهم. وأعلمنا الدريعي أيضا فقال المذكور : لا تفكروا بشيء ، والله العظيم لا أغير نيتي نحوكم ، ولا يمكن أن أدع أمرها يسلك وفي جسدي نقطة دم ولو صفت لي أكياس الذهب من أبواب حماة إلى الهند. فكونوا مطمئني البال والخاطر ، فأنا أعطيت كلاما ولا يمكن أن أرجع عنه حتى الموت. فابقوا أنتم على حالكم وتدبيركم ولا تغيروا شيئا مما يجب عمله ، وضعوا في عقولكم أن هذه المادة ما سمعتم بها ، وثابروا ١ / ٧٤ (تابع) على جهدكم وارفعوا كامل الوسواس من فكركم. وقال : أنا عندي الرأي أن نتوجه أولا / نحو بلاد حوران حتى نكشف أخبار ابن سعود ، وبعد ذلك نتابع الرحيل ونذهب نواحي حماة وحمص وغيرها. فقال الشيخ إبراهيم : بما أن الأمر كذلك فانزل يا عبد الله إلى القريتين واحضر لنا ما بقي من اللبس الذي عند الخوري موسى ، وخذ هذا المكتوب وأرسله مع ساع خاص إلى ٢ / ٧٤ حلب ، يكون أمينا معروفا نصرانيا حتى يجلب لنا مصريات ، / إذ لم يبق معنا مصرية واحدة. وبما أننا سنذهب نواحي بلاد حوران فسيكون حتما طريقنا على القريتين. فحين نكون قريبين منك نرسل لك خبرا ، وأثناء ذلك يكون حضر الساعي وأتى بالدراهم فتحضر عندنا. أما أنا فرغبت في ذلك إذ كنت سئمت من البرية والتعب والعطش والجوع والرحيل والنزول والوسخ والأخذ والرد (٣) والخطر. فقلت بعقلي : أنزل إلى القريتين وأقيم بها نحو خمسة عشر يوما إلى حين رجوع الساعي ، وأنام براحة في بيت الخوري وأغسل ثيابي وأغير أفكاري ، لأني كابدت أتعابا ومشقات شتى ما لا يوصف ولا يجب ذكرها.

__________________

(١) «الحكامة» ، يريد الحكماء.

(٢) «والمحبة».

(٣) «المعالجات».

١٧٧

[عبد الله يهتف باسم امرأة وينجو من الموت]

ففي اليوم التالي استعديت حالا وبكل سرعة وأخذت المكتوب ، وركبت وركب معي عبد من عبيد الدريعي اسمه فضّة ليوصلني ، وجدينا بالمسير من قبل الشمس إلى ما بعد العصر ، نحو عشر ساعات جدا عظيما فكشفنا على نزل عرب كبير ، نازلين في منزلة يقال لها القمقوم ، ما بين تدمر والقريتين ، ولم نعرف من هم من العرب إلى أن وصلنا إلى البيوت ، وإذ هم الموايجة أكبر أعدائنا ، وما عاد يمكننا الرجوع كليا ، فتقدمنا إلى بيت كبيرهم وهو بيت أميرهم برجس ابن أهديب ، وكان عنده جمع عظيم أمام البيت ، فحين نزلنا من على الذلول وصرنا على الأرض عرفني برجس وعرف عبد الدريعي ، فحالا أمر بتقطيعنا ، فأشهروا سيوفهم وركضوا علينا وقبضوا أولا على العبد فضة فقطعوه نحو خمسين قطعة ، وأنا أرى ذلك بعيني ، ثم تركوه وأتو نحوي كالغزاة (١) ، والسيوف مجردة بأيديهم ، فحين رأيتهم مقبلين علي ورأيت العبد قتيلا انقطع قلبي من الخوف ، وغبت عن الدنيا ، فما أذكر إلا أني رأيتهم جاءوا ليقتلوني فصحت أنا وقيع بنت هدّال (٢) ، وغبت عن الوجود وصرت مثل الميت لا أدرك شيئا ، ولا أدري إلا أني لما فتحت عيني وجدت نفسي في فراش ، وعلى رأسي نحو عشرين

__________________

(١) «غارة».

(٢) إن الاستجارة بالنساء معروفة عند العرب في الجاهلية والإسلام ، وما يقوله الصائغ لا يخرج عن المألوف المشهور.

١٧٨

امرأة من العرب ، منهن بأيديهن بصل يشممنني إياه ، وبأيدي غيرهن شرائط (١) محروقة ١ / ٧٥ وصوفات محروقة ، ومع غيرهن شعر محروق ، وأناس ترش الماء على وجهي / وواحدة منهن ماسكة بيدي تشد عليها وتقول : لا تخف يا عبد الله ، تراك عند بنت الهدال ، سكن روعك وقوي قلبك ، أنت عند بنت الهدال ، والله لا أخلي يصيبك مطر السماء ، لا تخف افتح عينيك. فصرت أسهو ولم يبق لي إدراك لأعرف أين أنا وأصبحت مهبولا (٢) ، أرى الناس بعيوني ولكني لا أستطيع الكلام ولا أعرف نفسي عند من أنا موجود ، إذ قد ذهب من عقلي كل شيء ونسيت وصرت مثل الطفل الذي لا يدرك شيئا. فأخذت تسقيني زبدة مذوبة إذ يبس حلقي (٣) ، ولساني مربوط وحالتي حالة الموتى. ودمت على هذه الحالة الشنيعة كل تلك الليلة ، وعند الصبح وعيت نوعا ما وصرت أتكلم رويدا. فدخل برجس حتى يراني ويتصالح معي ، فحلفت امرأته بحياة رأس أخيها عبد الله الهدال أنه لا يدخل عندها حتى يشفى عبد الله ويعود كما كان. فأقمت ثلاثة أيام وثلاث ليالي عندها وهو لا يدخل البيت بل إنه كان ينام خارجا عند الضيوف ، وما دخل البيت بسبب اليمين الذي حلفته. فبعد هذه الأيام الثلاثة ركن قلبي ورجع عقلي وملكت حواسي فدخل برجس وغار (٤) عليّ حتى يصالحني ، فامتنعت عنه ولم أرد الصلح ، فصار الحاضرون يترجوني أن أصالحه وأسمح عما مضى ، فما كنت أقبل بذلك وأخيرا أتت امرأته وقالت : إكراما لخاطري صالح برجس وتآخ معه ، فما مضى قد مضى. فلم أستطع أن أرفض طلبها لأن حياتي على يدها ، فقمت وصافحته وصالحته على شرط أن يكون هو أول محب لنا ، ويتحد معنا ويضرب ختمه في شروطنا ويكون معنا على الخير والشر. فقبل ذلك وتصافحنا ثانيا. وأهداني عبدا لأقدمه للدريعي بدلا من العبد الذي قتل ، واسمه جوهر ، وقال برجس : قتلت لكم فضة وعوضت عنه بجوهر وهو أغلى وأثمن. ثم خرجنا من [بيت النساء](٥) إلى مجلس الرجال فأمروا بالذبائح وابتدأوا يعدون ٢ / ٧٥ ضيافة الصلح ، وراقت الأمور وحصل الحظ والإنشراح. وفيما نحن / على هذه الحال قبل الغداء ، إذ وصل مكتوب من الدريعي إلى برجس لأن الخبر كان بلغه بأني قتلت وأن العبد قد قتل. وكان بهذه اللفظات :

__________________

(١) «شراطيط».

(٢) «مبهول مبضول (؟)».

(٣) «زلاعيمي».

(٤) أقبل.

(٥) «إلى برا».

١٧٩

من الدريعي ابن شعلان إلى بركز (١) ابن اهديب ، أعلم يا بركز أن مردود عليك النقا التام ، فكن على حذر (٢) ، إن مكنني الله سأجازيك على فعلك هذا أضعافا ، فنهار غد نحرّك جوادنا لقتالكم ، ولا أرجع عنكم حتى لا يبقى في قبيلتكم من يخبر عنكم ، يا خائن ، يا عثماني ، يا فاسخ عهود العرب ، الذي خرق رسوم عنزة ، الذي أساء بسمعة (٣) العربان بفعاله الردية ، يا قتّال ضيوفك ، يا أسود الوجه ، إعلم أن دم عبد الله غال جدا لا أرضى نظيره كل عشيرتك فأنذرك يا خائن فكن على حذر (٤).

فمن هذا الكلام اصفر وجه بركز والحاضرين وقالوا : لو كان عبد الله قتل كنا حسبنا حسابا كبيرا ، ولكن نحمد الله لأن عبد الله حي. و [بحسن] تدبيره و [بعد] نظره لا يحدث إلا الخير. فقلت كونوا في برج الراحة ولا تفكروا بشيء لا يصير إلا الخير. هاتوا لنا الغداء عاجلا كي نمشي ونلحق [بعربنا] قبل بساعة لنطفي هذه النار ، لأنهم متى رأوني حيا يهون الأمر. فحضر الغداء وبعد القهوة ودعناهم حالا وركبت وبعد قليل وصلت (٥). فحين رآني الشيخ إبراهيم مقبلا عليه وأنا على أحسن حال (٦) ، وقع على الأرض وصار يبكي ويقبل الأرض ويشكر الله. وركض الدريعي علي وجميع الحاضرين وهم لا يصدقون من شدة الفرح ، فجلسنا وحكينا لهم كل ما جرى من الأول إلى الآخر ، وبرّدنا همتهم وقدمنا العبد بدلا من العبد الذي قتل ، وعملنا على تهدئة خاطر الدريعي على بركز ورفعنا فكرة (٧) الحرب التي كانوا مهتمين بها ، لأني وجدت العرب جميعهم حاضرين ومستعدين ، وكان مرادهم أن يركبوا في اليوم التالي على الموايجة. فتقع أمور رديئة جدا فتلافيناها (٨). وذهبنا ثاني يوم وبعد تلك ١ / ٧٦ المرحلة نزلت إلى القريتين وسلمت على الشيخ رجب وعلى الخوري وعلى موسى بن ورده / وعلى كل المحبين وفي اليوم التالي وجدنا ساعيا إلى حلب وأرسلناه ليحضر لنا الدراهم وجلسنا نستريح ونغسل شقاء جسدنا من التعب.

__________________

(١) كذا في هذه الصفحة من المخطوطة وما بعدها ، والصواب برجس كما الصفحات السابقة.

(٢) «حضر».

(٣) «رذّل».

(٤) «حضر».

(٥) يقول الصائغ صفحة ١٧٨ أنه سار عشر ساعات سيرا حثيثا قبل أن يكشف على نزل الموايجه ، ولعل الدريعي كان اقترب من خصومه.

(٦) «طيب».

(٧) «همة».

(٨) «فمضت المادة».

١٨٠