رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

حاكما من طرفه وتوجه بعدئذ إلى حلب. فمن ذلك اليوم ابتدأ خراب هذه المدينة ولم يبق منها اليوم إلا الرسم.

ثم سافرنا من الرستن إلى حمص ، فدخلناها بعد العصر ، فسألنا حالا عن الرجل الذي نحمل إليه الرسالة ، فدلونا على بيته. فذهبنا عنده وأعطيناه المكتوب ، فقرأه وحالا رحّب بنا وأدخلنا بيته بكل إكرام. وبعد العشاء حضر عنده عدد من الناس من أمثاله ليسهروا ، ومن جملتهم رجل فقير الحال ، بثياب رثة ولحية (١) ، ولكنه كان فصيح اللسان حلو الحديث. فأخذ يتكلم عن العرب وأحوالهم وعما يحصل عندهم من الأمور. فانشرح الخواجه لاسكاريس من هذا الحديث ، وقرّب هذا الرجل منه ، وأخذ يتكلم معه بكل إنسانية ومحبة ، ويستفهم منه عن أحوال العرب. ثم سأله عن اسمه فقال له نوفل السّنكري أي الذي يصنع قرب السيوف ويصلح البنادق (٢). ثم أضاف قائلا : إنني في كل سنة ، حين تقرب العربان من ديرة حمص ، أذهب وأشتغل عندهم ، وفي الشتاء حين يشرّقون (٣) أعود إلى بيتي. ولي معارف وأصدقاء كثيرون من العرب. فسرّ الخواجه لاسكاريس من هذا الخبر وفرح ، والتفت إلي وقال : إني رأيت هذه الليلة أخي وكل أهل بيتي. فقلت له : يا سيدي لا يوجد في هذا المكان أحد من بيت دي فنتيميل؟ فقال : إن معرفتي بنوفل أحسن عندي ١ / ٧ من رؤية أخي. /

ثم انصرف الناس ، وأعد لنا صاحب البيت فراشا (٤) واحدا لنومنا. وكان من عادة الخواجه لاسكاريس أن لا ينام مع أحد ، وكان طبعي مثله. فقلت في نفسي : المسألة تحتاج إلى مسايرة وتدبير إلى أن ينام الخواجه لاسكاريس وعندئذ سأنسل بكل لطف وأنام على الأرض. وكذلك فكرّ هو أيضا بهذا الرأي. ثم أطفأنا النور لأنه ما كان يحب النوم في الضوء. وانتظرت قليلا حتى ظننت أنه نام ، ثم أنسللت من الفراش والتحفت بمشلحي ونمت على الأرض ، وفعل هو كذلك. وحين أصبح الصباح وجد كل واحد منا صاحبه على الأرض والفراش خاليا. فضحكنا جدا ، ونهض حالا الخواجه لاسكاريس وعانقني وقبلني وقال لي :

__________________

(١) «ذقن».

(٢) «التفنك».

(٣) يرحلون إلى الجهات الشرقية.

(٤) «فرشة».

٤١

هذه بشارة خير ، إذ تدل على أن نوايانا وقلوبنا متفقة. وأنت عندي مثل ولدي ، وسوف ترى مني أشياء لم يرها قط أحد من أمثالك ، بل لم يسمع بها من هم أكبر منك سنا.

ثم خرجنا نتنزه بالبلد ، وأول شيء عملناه هو السؤال عن دكان نوفل السنكري. فذهبنا عنده وقلنا له : قم ودر بنا اليوم في بلدك ونحن نعطيك ما ستكسبه من مهنتك (١). فأغلق (٢) دكانه وبدأ يدور بنا في حمص. ولا حاجة لإطالة الكلام عن هذه المدينة فهي معروفة مشهورة في الآفاق. ولكن بالمختصر (٣) ، إنها بلد طيبة الهواء جدا ، يبعد العاصي عنها نحو ساعة ، ولكن أهلها حفروا خليجا من العاصي إلى البلد ليستقي من مائه نحو ثمانية آلاف نسمة ، وهي حصينة ، يدور بها سور من الحجر الأسود ، ولها أربعة أبواب تغلق عند المغرب وتفتح وقت طلوع الشمس ، وفي وسطها قلعة على شكل (٤) قلعة حماة وحلب ، ولكنها خراب.

وبينما نحن نتجول مررنا بدكاكين تصنع فيها الفروات الغنيميّات (٥) ، وجهها جلدها (٦) ، وتصبغ عادة باللون الأحمر. فاشتريت فروتين ، كل واحدة بعشرين غرشا ، لأنها صالحة جدا للسفر ، على الطريق ، وللنوم ولو تحت الثلج ، وتدفّئ كثيرا.

٢ / ٧ ثم استأجرنا غرفة بالخان ، ونقلنا حوائجنا ورزقنا وبتنا تلك الليلة فيها ، وقلنا / لنوفل أن يحضر عندنا غدا ، لأننا كنا مسرورين جدا منه. فهو رجل حلو الطباع ، حسن السلوك ، متواضع ، طلق اللسان ، خبير بالأمور التي نريد معرفتها. فحضر في اليوم الثاني فقلنا له : يا عزيز ، نرجو منك أن تبقى معنا وفي خدمتنا طول مدة إقامتنا في حمص ، فلا تشتغل وليكن عملك معنا. ثم سألناه عن كسبه اليومي فقال ثلاثة غروش. فقلنا له نحن نعطيك أربعة. فاستكثر الرجل بخيرنا وقال مهما أردتم فأمروني به.

وكان الخواجه لاسكاريس يرغب في هذا الرجل ، لأنه بحكم عمله ، له معرفة جيدة بعشائر العرب. فهو يذهب عندهم كل سنة ، ويشتغل ستة أشهر الصيف ، إذ يكون العربان

__________________

(١) «كارك».

(٢) «سكّر».

(٣) «بالمقنصر».

(٤) «كسم».

(٥) من جلد الأغنام.

(٦) الجلد يكون إلى الخارج والصوف إلى الداخل.

٤٢

قد قربوا من الديرة (١) ، وفي الشتاء ، حين يتوغلون في البادية على حسب عوائدهم ، يعود إلى داره ويعمل في دكانه بالبلد.

ثم ابتدأ الخواجه لاسكاريس يسأله ، بكل رقة ، ورويدا رويدا ، عن العرب وأحوالهم ومزاياهم وطباعهم ومعيشتهم وسلوكهم وشؤونهم وضيافتهم ، وعن أمور كثيرة ، وهو يرد عليه بالصدق والصواب دون تردد. فسررنا منه جدا لأنه أفادنا جدا في أمور يقتضي علينا معرفتها.

وكنا نتجول كل يوم في البلد ، ونتنزه في بساتينها وذلك لتمضية الوقت ، إلى أن يمضي الشتاء ويقرب عربان هذه الديار من المعمورة ، حتى نتمكن من الوصول إليهم. لأن من عادة العربان أن يبتدؤا بالتوغل في البادية من شهر تشرين الأول ، فيذهبون إلى الجهات الشرقية (٢) بجمالهم وخيلهم ومواشيهم ، حيث يجدون الدفء والماء والمراعي. وهم دائما في حل وترحال لا يستقيمون في منزلة أكثر من يومين أو ثلاثة أيام ، ويظلون على تشريقهم إلى أن يصل البعض منهم إلى بغداد ، والبعض إلى البصرة وشط العرب حيث يلتقي الدجلة والفرات وتصب مياههما في خليج (٣) العجم. ثم من شهر شباط يبتدؤن بالاقتراب من نواحي بلاد ١ / ٨ سورية ، وفي شهر نيسان يظهرون في الديار الشامية ، وهذه حالهم دائما. /

وبعد ذلك قال لي الخواجه لاسكاريس : يا فتح الله ، أريد منك أن تشتري لنا عشر فروات مثل التي اشتريتها ، وعشرة مشالح سود وخمسين كوفية (٤). والكوفية تصير مدورة بحجم (٥) المنديل (٦) ، وهي مصنوعة من غزل وحرير مصبوغ أحمر وأصفر وأخضر. وهذه الكوفية لا بدّ منها على رأس كل بدوي ، مهما كان عمره ومقامه ، من الراعي الصغير الفقير الحال إلى الأمير الكبير ، ولا يمكن أن يستغني عنها أحد. حمص تشتغل هذه السلع ، وكذلك حماة ودمشق وحلب وبغداد والموصل وماردين والبصرة ، وكل البلاد التي تحت حكم بغداد وكركوت ، ومع ذلك فإن جميع ما يصنع في هذه الديار من الكوفيات لا يسد بحاجة العربان.

__________________

(١) الديار.

(٢) «يشرّقوا».

(٣) «بوغاظ».

(٤) «كيفية».

(٥) «قدّ».

(٦) «محرمة».

٤٣

لأن الكوفية ، مهما كانت متانتها ، لا تثبت (١) على رأس البدوي أكثر من سنة. فهو يستعملها لتقيه من الحر والبرد. وهي في الوقت نفسه منديل للمخاط ، ومنشفة للوجه والأيدي ومسح العرق. والخلاصة أنها كثيرة المنافع ، بل إن نصف كسوة البدوي كوفيته. وأهل البادية هم بذلك على صواب ، إذ لا بدّ من كوفية في البادية (٢). كما تبين لنا بعد الخبرة والمشاهدة ، لأنها ترد عن الوجه والأذنين والرقبة حر الشمس ووهجها صيفا ، وتقي من البرد والهواء والمطر شتاء. وهي نافعة جدا ، وثمنها يختلف على حسب صنفها. فالصنف العالي منها يبلغ ثمنه سبعة أو ثمانية غروش. أما الصنف الواطي فيكون ثمنه ثلاثة أو أربعة غروش. وبلغ ثمن جميع ما اشتريناه وذكرناه آنفا نحو ست مائة غرش ، فحزمناه ووضعناه مع جملة الرزق في الغرفة.

وقال لنا نوفل في بعض الأيام هل ترغبون في زيارة القلعة ورؤيتها (٣). قلنا نعم ولكننا نخاف أن يحصل لنا ما حصل بحماة. فقال أنا المسؤول عن كل ما يحدث. فتوجهنا إلى القلعة ، وصعدنا إلى أعلاها ، وزرنا كامل المخادع ، لأنها بها من العمار القديم القائم أكثر من حماة. وبينما نحن ندور فيها ، وصلنا إلى مكان مثل المغارة ، فنزلنا ووجدنا في صدر المغارة ماء جارية آتية من الغرب ورائحة نحو الشرق ، وهي تخرج من طاقة طولها ذراعان وعرضها ذراع ، وتجري الماء نحو أربعة أذرع ، ثم تدخل في شباك من حديد متجه نحو المشرق ، إلا أن هذه ٢ / ٨ المياه غزيرة قوية ، يمكن أن تدير حجر طاحون ، وهي تنحدر من المغرب / وتجري نحو الشرق ، ولا يعرف أحد من أين تأتي ولا إلى أين مجراها. فشربنا منها وهي ماء طيبة عظيمة ، ولكنها في مكان مخفي نوعا ما ، ولا يتجرأ (٤) إلا القليل من الناس على النزول إلى المغارة لرؤية هذه الماء. وأخبرنا نوفل أنه سمع من بعض الرجال الطاعنين في السن (٥) أن هذا الشباك كان سدّ في الزمن القديم فجرى الماء في خندق القلعة. ولكن بعد ستة أشهر حضر درويش من العجم وصعد إلى القلعة وفتح الشباك. وسمع به الحاكم فأمر بإحضاره وأراد قتله ، لأنه عمل شيئا ، ولم يأخذ إذن الحاكم. ففدى الدرويش نفسه بمبلغ من المال ، قدمه للحاكم ، حتى صفح عنه.

__________________

(١) «تضاين».

(٢) «الجول».

(٣) «تتفرجوا».

(٤) «له جراعا».

(٥) «اختيارية» ـ ختيارية.

٤٤

وكتب الحاكم لعنة على كل من يسد هذا الشباك مرة أخرى. ويكاد أن يكون هذا المكان مجهولا الآن ، ولا يعرفه إلا القليل من الناس ، لأنه في موضع مخفي جدا ، وقد سدّ ثلثا باب المغارة بالحجارة كي لا يدخلها (١) أحد.

ثم نزلنا من القلعة ، وقد أخذنا العجب مما شاهدناه ، وذهبنا إلى غرفتنا حيث استرحنا وأكلنا ما لدينا من الزاد. ثم قال لي الخواجه لاسكاريس : يا حبيبي هل تقيد بالورق كل ما رأينا؟ فقلت : لا ، لأنك لم تسألني ذلك. فقال : فكر بجميع ما وقع لنا من يوم خروجنا من حلب وقيده ، وأريد منك أن تسجل ، كل يوم ، جميع ما نراه وما يجري علينا ، من مليح ومن قبيح. وعند المساء تقرأ لي ما كتبته حتى أقيده عندي باللغة الفرنسية. فقلت : سمعا وطاعة. ومن ذلك اليوم ابتدأت أحرر كل ما يحدث لنا يوما بعد يوم. وعند المساء ، قبل النوم ، اقرأ له ما كتبت ، وهو بدوره يقيد عنده ، في كتاب خاص ، جميع ما حدث في ذلك النهار ، واحفظ عندي في صندوقي الورقة الطيارة. واستمريت على هذا الحال ، كل يوم أكتب ما يقع لنا وما نشاهد ونسمع ، مدة ست سنوات سياحتنا ، بل إني تابعت التدوين مدة عدة أيام بعد نياحة المرحوم لاسكاريس أبي الروحي ، الذي قضى نحبه [في نهاية رحلتنا] ، كما ١ / ٩ سنشرحه لمسامعكم الكريمة / في آخر هذه السيرة.

ثم أقمنا في حمص ثلاثين يوما. ومن جملة ما شاهدناه وعرفناه أن أهلها كرام (٢) ، أصحاء الأجسام ، أنقياء الدم. حمر الوجوه ، نساؤها جميلات وكذلك رجالها ، إلا أنهم غشماء ، خلافا لأهل حماة ، مع أن المسافة بين البلدين لا تزيد على اثنتي عشرة ساعة ، كما ذكرناه سابقا. وهذا الفرق العظيم في الطباع ناتج عن الماء مع أن البلدين يشربان من العاصي. إلا أن الماء تتغير بمرورها في الأراضي ، ولذا فإن الماء الداخلة إلى حماة زرقاء صافية. بينما مياه حمص بيضاء مثل الحليب ، فعرفنا أن الفرق بين سكان البلدين ناتج عن هذه الحركة.

وبعد ذلك قلنا لنوفل : نريد أن نتوجه إلى قرية صدد ، ونرغب من همتك أن تجد لنا أناسا يحملون بضائعنا ويذهبون بنا إلى صدد. فقال على الرأس والعين. وغاب ساعة من

__________________

(١) «يفوت».

(٢) «محسنين».

٤٥

الزمن ثم عاد وقال لنا : اصبروا إلى يوم الأربعاء إذ يحضر أناس من صدد ليبيعوا أعبية (١) في حمص ، وذلك لأن كل يوم أربعاء يقوم سوق (٢) ، ويحضر الناس من كامل إيالة (٣) ، حمص للبيع والشراء ، من أعبية ومشالح وفوط حمام للنساء وزنانير حرير ، وهذه هي البضائع التي تصنع بحمص. فحين صار يوم الوعد ، حضر أناس من أهالي صدد وباعوا أرزاقهم ، واتصل نوفل بهم ، وكلمهم ، وجاء بهم إلى غرفتنا ، وتم الكراء معهم.

وفي اليوم التالي خرجنا من حمص باكرا مع ثمانية أشخاص من أهالي صدد ، وكان نوفل بصحبتنا ، وأخذنا معنا كل رزقنا وتوجهنا نحو باب الله الكريم. وكان مسيرنا دائما إلى المشرق ، لأن صدد تقع شرقي حمص (٤) ، وهي تبعد عنها اثنتي عشرة ساعة تماما. وبعد مسيرنا بخمس ساعات ، وصلنا إلى ماء جارية عظيمة آتية من ناحية المشرق ومتجهة إلى قلعة حسا (٥) ، والقلعة المذكورة تقع قبلي حمص ، على عشر ساعات منها ، وهي مخصصة لنزول الحجاج بها في مسيرهم للشام (٦) ، وعليها آغا من قبل والي الشام يقال له أسعد آغا ابن ٢ / ٩ مسقل (٧) /. فشربنا من هذه الماء وملأنا الجود (٨) منها ، والجود هي قربة صغيرة من الجلد. فحملناها وتابعنا طريقنا ، إذ ليس أمامنا غير هذه الماء حتى صدد. أما الطريق فسهلة ، غير وعرة ، لا تقطعها جبال ووديان أو غير ذلك من العقبات. وبعد نزولنا على الماء سرنا مدة سبع ساعات ، حتى وصلنا إلى صدد ، مع غياب الشمس. فمشى نوفل أمامنا إلى بيت الشيخ ، لأن الشيخ والضيعة جميعها من النصارى السّريان القدماء ، فرحبوا بنا واستقبلونا أحسن استقبال. والشيخ رجل عظيم فهيم طاعن بالسن ، يقال له عسّاف أبو إبراهيم ، وله خمسة أولاد شباب وأربع بنات ، وقد زوجهم كلهم ، وهم يعيشون معه في بيته ، ولهم أولاد. والخلاصة أن هذه العائلة مكونة من أولاد الشيخ وبناته ، ونساء أولاده ورجال بناته وأولادهم

__________________

(١) «عبي».

(٢) «بازار».

(٣) ولاية ، إيالة ، والمعنى واحد.

(٤) الصحيح ، أن قرية صدد تقع في الجنوب الشرقي من حمص.

(٥) ما بين الكرك ومعان.

(٦) الصايغ يكتب دائما الشام ويعني بها تارة بلاد سورية وتارة مدينة دمشق.

(٧) كذا ، ولعله يريد مصقل.

(٨) الجود والجمع إجودة ، جلد جدي يدبغ ويستعمل لجلب الماء (روكس العزيزي).

٤٦

وخدامهم ورعياهم (١) ، وهي تعد نحو ستين نفرا. فحين تدخل بيته تظن أنك في عرس أو احتفال ، مع أن جميع الحاضرين يشكلون عائلة واحدة.

ثم سألنا الشيخ عن سبب حضورنا إلى هذه الديار ، وإذا كنا نرغب في الإقامة عنده أو نود الذهاب إلى مكان آخر؟ فكان جوابنا : يا سيدي ، نحن جماعة تجار ، كنا سابقا في قبرص ، وأما الآن فبسبب الحروب المتواصلة بين الإفرنج ، انقطع (٢) البحر ولم يبق لنا باب للتجارة وأصبحنا نخشى الفقر. فرأينا من المستحسن أن نذهب إلى حلب للبيع والشراء ، ولكننا وجدنا أيضا في هذه المدينة عددا من كبار التجار الأغنياء نحن لا نصلح لسمسرتهم. فتم رأينا عندئذ على جلب بضاعة حضّارين (٣) تصلح للبر والعرب ، ونسترزق من باب الله. فقال : هذا رأي صالح مناسب يا اخواني ، ولكن ما هي بضاعتكم؟ فعرفناه بجميع ما معنا فقال : بضاعتكم هذه أكثرها يروج عند العرب ، ولكنكم لستم من الذين يستطيعون الوصول إليهم والإقامة عندهم ، إلى أن يتم لكم بيع بضاعتكم ، فهذا أمر صعب جدا ١ / ١٠ ويحصل لكم منه ضرر وأذية ، ولا سمح الله قد يكون ذلك سببا لنهاية حياتكم ، ويتأتى عنه تعب شديد لأن معاشرة العرب صعبة جدا بسبب طمعهم المشهور ، فإن لم تعطوهم طلبهم عن طيبة خاطر (٤) أخذوه غصبا (٥) ، وإن أكثرتم عليهم الكلام قد يقتلونكم. فأنتم جماعة أرقاء القلوب ، سمحاء كرام (٦) ، وجهكم حيي ، لستم أهلا لهذه الأمور الصعبة. والرأي عندي ، إن سمعتم كلامي ، أن تعرضوا غدا بضاعتكم وتبيعوا منها ما يسهله الله ، وتحملوا الباقي وترجعوا به إلى حمص حيث تعملون على تصفيته ، ثم تعودون إلى بلدكم فتكسبون أرواحكم ومالكم. ودار الحديث بين الحضور وصار كل من بالمحضر (٧) يعطي نصيحته. فاصفر وجه الخواجه لاسكاريس من هذا الكلام ، والتفت نحوي ، وقال باللغة الإيطالية : ما ذا تقول بهذا الخبر الذي قطع قلبي يا ولدي؟ فقلت له : إن كل هذا الحديث لا يسوى عندي تينة يابسة ، واعلم يا سيدي أن من يذهب إلى الحرب عليه أن يقطع الأمل

__________________

(١) كذا والمعنى غير واضح ، ولعله يريد الرعيان.

(٢) «ارتبط».

(٣) الحضّار : التاجر المتجول الذي معه بضائع تصلح للفلاحين وأهل البادية.

(٤) «بالطيب».

(٥) «بالزور».

(٦) «شلابية».

(٧) المجلس.

٤٧

من رجوعه إلى الوطن ، ونحن ذاهبون إلى أماكن وعند أناس أنجس من الحرب. وعند ما أفهمتني أنك تنوي الذهاب عند العرب ، ما عدت أفكر أني سأعود إلى وطني بالسلامة ، بل أني سأقتل وتأكل جسدي وحوش الفلاة (١) ، أو قد يقوم ابن حلال بطمر جسدي (٢) في الرمل ، أمّا أن أرجع بالسلامة ، فإن الأمل ضعيف. ولذا يجب أن تكون قوي العزم. واعلم أن هذا الشيخ وإن كان طاعنا في السن وفهيما ، ولكن معرفته لا تتعدى أمور قريته وفلاحيه وبيته وأولاده. أما الأمور مثل التي نسعى نحن في تحقيقها (٣) ، فهي لا تدخل في عقله ولا سمع بها قط. وعليه كن مرتاح البال ولا تخش شيئا ، فبعون حامينا ، سلطان الخير ، لا يحصل لنا شر أبدا. ولكن لا تعد إلى مثل هذا الحديث مع شيخ القرية ، ولا تذكر اسم العرب بفمك أمامه ، ولكن طاوعه على عقله إلى أن تتسهل أمورنا وتكون طبق مرامنا.

فسرّ الخواجه لاسكاريس من هذا الكلام وقال : الآن أصبحت متأملا بك كما أني ٢ / ٢٠ متأمل بالله. ثم انصرف الناس ، وقمنا بدورنا ودخلنا إلى غرفة فرشت لنا ، ونمنا تلك الليلة. /

__________________

(١) «الجول».

(٢) «أو بصح ابن حلال بطمر جسدي».

(٣) يستدل من هذا الكلام على أن لاسكاريس كان أطلع ترجمانه على حقيقة نواياه ، أو على البعض منها ، ولكن يظهر من سياق القصة ، أن الصايغ ظل جاهلا غايات معلمه إلى حين ذهابه عند الدّريعي بن شعلان (انظر ص ٩٥).

٤٨

نمره ٢

[أول لقاء مع البدو]

وثاني يوم قمنا دوّرنا بالضيعة ، فوجدناها ضيعة عظيمة ، تحوي على مائتي بيت. جميع سكانها نصارى سريان ، من غير أحد مخالطهم مطلقا. صنعتهم شغل العبي والمشالح. فيها خمس كنائس وخمسة قسوس ، كل واحد منها له كنيسة. ماؤها يجرى من عينين ، وعندهم قليل من البساتين ، لأن جميعهم مشغولون بصنعتهم ، ويزرعون قليلا من الحنطة والشعير ويحصلون على ما يكفيهم نصف السنة فقط ، والسبب أن كل زرعهم سقي من العين لقلة الأمطار وأكثر السنين لا تسقط الأمطار قطعا ، ولذا فإن زرعهم قليل ، وهم يتقاسمون الماء بالساعة. وأما ما ينقصهم من مؤنة ولوازم ، فإنهم يستوردونها جميعها من حمص. وفي وسط القرية برج قديم العمارة كبير الارتفاع.

ويتحدث أهل صدد بتاريخ عمارة قريتهم ولما ذا سميت صددا. فلهذا الاسم تفسير ، فمعنى صدد أنهم صدّوهم ومنعوهم عن التقدم أكثر مما تقدموا. والسبب هو أن جدود سكان صدد كانوا سابقا مقيمين في طرابلس الشام. وكان هناك حاكم يقال له رومان ، من قبل ملك الروم بالقسطنطينية. وهؤلاء الروم كانوا مشهورين بجورهم وردائتهم في ذلك الزمن. أما الحاكم المذكور ، فإنه استبد بهؤلاء السريان المساكين وظلمهم ظلما لا يطاق فاضطروا إلى الجلاء بكامل أسرهم وأرزاقهم مما قدروا على حمله ، وهربوا إلى حمص ، ومنها إلى البراري ، قاصدين بغداد. فأرسل رومان عساكر خلفهم ، لنهبهم وقتلهم وإرجاع من بقي منهم. فما

٤٩

لحقهم العسكر إلا بعد أن بعدوا عن حمص اثنتي عشرة ساعة ، فصدهم الجند ، ومنعهم عن التقدم زيادة ، ووقع بينهم قتال ، ونهب العسكر أموالهم. ثم أنهم كتبوا كتابا إلى الحاكم رومان وطلبوا منه الإذن بالإقامة بتلك الأرض ، وتعمير قرية لهم ، فأذن بذلك ، ورجع العسكر عنهم. وكل واحد منهم بنى له بيتا وأقام به ، وكان عددهم يومئذ ثلاث مئة عائلة. فلهذا السبب سميت قريتهم صددا.

ثم فتحنا بضاعتنا ، كي نري للناس أننا تجار ، ونستر مقصودنا. فصرنا نبيعهم ، وأكثر ما بعناه هو الخام الأحمر ، لأن جميع نسائهم تلبس من هذا اللون. فبعنا شيئا قليلا بمقدار خمس مئة غرش. وبعد يومين أو ثلاثة وقف البيع لأن أهل صدد أخذوا كفايتهم ، فصرنا نمضي الوقت ، إلى أن يحل وقت تقرب العرب من الحاضرة (١). وأخبرنا بعض سكان ١ / ١١ صدد أنه يوجد ، بعيدا عن هذه القرية ، عمارة قديمة متهدمة / بها حمام طبيعي ، لأن الماء السخن طبيعي ، بل إنه من البخار. كما سنشرحه. فتشوقنا إلى رؤية ذلك المكان وطلبنا من الشيخ أن يأمر بعض الناس أن يصحبونا لنذهب ونرى ذلك المكان. وفي اليوم الثاني قمنا باكرا وكان يرافقنا خمسة أنفار من القرية بواردية (٢) ، وكان نوفل بصحبتنا أيضا. فكان مسيرنا أربع ساعات لطرف الشرق ، منحرفين لجهة الشمال. فوصلنا ووجدنا عمارات قديمة وخرابا كثيرا ، ثم وجدنا مخدعا بحجم غرفة كبيرة ، لم يزل واقفا ، بناؤه على الطريقة القديمة بالأحجار الكبيرة جدا ، إنما سقطت منه فقط قطعة من الحائط ، من جهة الباب ، فسدّت نحو نصفه. فدخلنا ووجدنا طاقة من جهة الشرق ، طولها نحو ذراع وعرضها كذلك ، قديمة البناء جدا ، ويخرج من تلك الطاقة بخار (٣) كثيف بكثرة. وأخبرنا الذين معنا أننا إذا رمينا شيئا في هذه الطاقة فإن البخار يصعده مرة ثانية (٤) إلى فوق. فرمينا محرمة ومسكنا الساعة ، فبعد دقيقة ونصف طلعت إلى فوق ، ثم وقعت أمامنا. فأخذنا قميصا ورمينا به ، فبعد عشر دقائق طلع مع البخار ووقع أمامنا. وأخبرنا بعضهم أن أناسا رموا مشلحا ، الذي ثقله نحو رطلين من الوزن الحلبي ، فرفعه البخار.

ثم بعد ذلك خلعنا ثيابنا ، ولم يبق علينا إلا القميص ، وجلسنا جانب الطاقة ، فأبتدأنا

__________________

(١) «الديرة».

(٢) رجال يحملون البارودة أي البندقية.

(٣) «هبّال».

(٤) «ثاني مرا» أي من جديد.

٥٠

نعرق عرقا عظيما ، حتى ساح العرق من أجسادنا على الأرض ، كأنه مجرى ماء. فقمنا وتبدلنا ولبسنا حوائجنا ، إلا أننا وجدنا نشاطا وخفة بالجسد أحسن من حمام الماء بكثير. وهذه الحمام كان يقصدها الناس للاستشفاء (١) سابقا ، وإلى يومنا هذا ما زال الذين يعرفونها ، وهم أهالي صدد وسكان تلك الديار ، يصفها بعضهم إلى بعض لأجل عدد من الأمراض ، ويتم شفاؤهم بها.

ثم رجعنا إلى صدد ، وكان المساء فنمنا تلك الليلة بكل راحة وهدوء ، وذلك كان من فعل الحمام. ومن ذلك الوقت ، إلى حين انتهاء سياحتنا ، لم نر المرض في جسدنا ، لأن جميع الصدأ والغش اللذين كانا في جسمنا ذهبا مع العرق ، والواقع أن رائحة العرق التي فاحت منا بفعل البخار كانت كريهة جدا ، فبان لنا أن جميع ما خرج هو الغش الذي يحدث القروح ٢ / ١١ والأوجاع في جسم الإنسان. / وهذا شيء معلوم ، والذين بنوا هذه الحمام كانوا عارفين نفعها وجعلوها طبا.

وبعد ذلك اقمنا بعض الأيام ، إلا أننا كنا متكدرين إذ ليس هناك من جديد نراه. فعزمنا على التوجه إلى ضيعة يقال لها القريتين ، وهي تبعد عن صدد عشر ساعات ، وتقع نصب شرقيها (٢). فاستكرينا من أهالي صدد وحزمنا أحمالنا وبتنا تلك الليلة على أهبة السفر. فقال لنا نوفل : يا جماعة ، أسماؤكم لا تناسب هذه الديرة وخصوصا عند العرب ، فيقتضي لكم أسماء دارجة تصلح عند العرب والحضر ، (فالعرب هم سكان بيوت الشعر والبادية ، والحضر هم سكان القرى والبلاد). فاعتمد رأينا على تسمية الخواجه لاسكاريس شيخ إبراهيم القبرصي (٣) ، وأتخذت لي اسم عبد الله الخطيب أعني الكاتب ، باصطلاح لغة العرب.

وثاني يوم من الصباح ودعنا الشيخ وكامل المحبين وتوجهنا على اسم الله. فبعد مسيرنا بأربع ساعات وصلنا إلى ضيعتين ، الواحدة أمام الأخرى والطريق بينهما ، الواحدة على اليمين والأخرى على اليسار ، يقال لهما مهين وحوارين ، وبينهما ماء جارية تكفي لهما. وفي كل ضيعة فقط نحو عشرين بيتا ، لأن أكثرها خراب ، والمسافة بين القريتين نحو عشر دقائق

__________________

(١) «حمام حكمة».

(٢) «وهي بعيدة عن صدد عشرة ساعات شرقيها نصب» ، وهذا غير صحيح لأن القريتين تقع شرقي جنوبي صدد.

(٣) سبقت هذه التسمية في رسالة توصية (انظر اعلاه صفحة ٣٩).

٥١

فقط. وفي وسط كل قرية برج شامخ عال ، قديم العمارة جدا ، على صفة (١) عمارة ما قبل ظهور البارود. ولباس أهلهما كلباس العرب وكذلك كلامهم. فجلسنا وأكلنا ما كان معنا من الزاد ، وأملأنا جود الماء ، إذ لم يبق أمامنا من ماء قبل القريتين ، وهو المكان الذي نقصده ، على بعد ست ساعات من الطريق التي أمامنا. فمشينا إلى ما بعد غياب الشمس ووصلنا بالسلامة ودخلنا القريتين. وكان معنا كتاب توصية من شيخ عسّاف ، شيخ صدد ، إلى خوري سرياني. فذهبنا إلى بيت الخوري وسلمناه الكتاب ، فترحب بنا وأدخلنا بيته بكل إكرام ، ونمنا تلك الليلة. وثاني يوم قمنا لنرى المحل الذي نحن به ، فوجدنا أنها ضيعة كبيرة جدا يحق لها أن تسمى القريتين أي الضيعتين. بها نصارى سريان قدم نحو عشرين عائلة فقط ، وبها إسلام نحو مايتين وخمسين عائلة. وشيخها رجل محترم (٢) يقال له الحاج سليم. الدعّاس. وهذا الشيخ عليه وظيفة كل سنة ، فهو يحمل نصف حملة الحج إلى وزير الشام. نحو مئتي حمل : شعيرا وطحينا وبقكسمات (٣) وخيما وحنطة وسمنا وجميع لوازم حملة الحج. ١ / ١٢ أما النصف الثاني فملزوم به شيخ تدمر الذي سوف نتكلم عنه بالاختصار (٤). /

فهذه الضيعة حصينة ، من دائرها حيطان ملتحمة وبيوت متلاصقة بعضها ببعض. وليس لها غير باب واحد فقط. وسبب ذلك خوفهم من العربان أن يسطوا عليهم ، لأنهم يخافون كثيرا من العرب ، حيث أنهم في البادية. ثم لها ماء كافية لهم جارية ، ونبعها بعيد عن الضيعة نحو خمس ساعات ، من محل يقال له شعب اللوز ، ولها بساتين وكروم عنب ، وزرعهم سقي على الماء يقتسمونها بالساعة الرملية بينهم. وعليهم ميري (٥) إلى وزير الشام يخصصونه على ساعات الماء ويقطعونه من أجرتهم حين يحملون لوازم الحج.

وقبل كل شيء قال الخوري : سيروا بنا نسلم على الشيخ سليم الدعّاس ، لأن هذا شيء واجب جدا. فسألنا عن سبب حضورنا إلى نواحيهم ، فكان جوابنا نحن تجار قصدنا البيع والشراء ، كما كنا ذكرنا السبب لشيخ صدد. فقبل منا ذلك وقال عن العرب كما قال الشيخ عساف بل أكثر. فقلت لها : يا سيدي كل ما تقوله صحيح ، والشيخ عساف نهانا أيضا عن

__________________

(١) «كسم».

(٢) «معتبر».

(٣) بقكسمات : نوع من الكعك.

(٤) «بالاقتصار».

(٥) ميري أي ضريبة ، من العربية أميري.

٥٢

التوجه عند العرب ، ونحن قبلنا نصحه ولم يبق لنا رغبة في الذهاب عند العرب ، إنما نشتهي فقط الوصول إلى تدمر ، عسانا نستطيع أن نبيع شيئا من أرزاقنا. فقال وهذا الأمر أيضا صعب لأن تدمر هي أشكال العربان. فإذا رأوكم طمعوا بكم ويصير لنا بسببكم وجع رأس وتعب ، وابتدأ يحكي لنا حكايات عن العربان وفعلهم الردي ، والخوري يصادق على كلامه حتى قطعا قلوبنا بحديثهما. وبعد ذلك حضر الغداء فتغدينا عنده وشربنا القهوة وذهبنا إلى بيت الخوري. فقال لي الشيخ إبراهيم القبرصي : ما هو رأيك يا ولدي؟ فقلت له : يا سيدي هذا رجل قلبه محروق جدا من العرب ، لأنه تحت حكمهم ، ودائما يثقلون عليه ، ومن يثقل على الناس لا يكون محبوبا. وأما نحن فليس بيننا وبين العربان عداوة ، وإذا مشينا معهم بكل محبة وإكرام ما أظن أنه يحصل لنا منهم تنكيد. فقال : وأنا عند ظنك.

وكنا كل يوم نذهب لزيارة الشيخ نحو ساعة من الزمن. وفي بعض الأيام قال لي : عندي نظارة معكوسة فهل تستطيع يا عبد الله أن تصلحها لي ، وأنك إن استطعت ٢ / ١٢ اصلاحها سميتك شاطرا (١). ثم احضر النظارة فأخذتها وفتحتها ، فوجدت أن / بعض الزجاجات (٢) واقعة من محلها ، فأعدتها إلى مكانها ، ثم مسحت سائر الزجاجات وأعطيته النظارة ، فأخذها ونظر فيها ، فتبين له أنها صحت كما كانت. فسرّ (٣) جدا وقال لي : الآن (٤) عرفت أنك معلم جليل ، وأنك عندي صاحب عقل. وصار يحبني جدا ويسميني الشاطر صاحب العقل.

وبعد ثلاثة أو أربعة أيام قال لنا الخوري موسى وهو الشخص الذي نحن بضيافته : يا جماعة افتحوا رزقكم وبيعوا الذي يقسمه الله لكم. فاضطررنا غصبا عنا ، كي نستر حقيقة أمرنا ، أن نعرض بضائعنا ، وأخذنا نبيع في الساحة ، أمام بيت الشيخ الواقع في وسط القرية. فصار الناس يفدون علينا ويقعدونا عندنا ويقبضون لنا الدراهم من النساء. وكان من أكثر الناس ألفة لنا شاب يقال له حسيسون الكعب. فبعد أربعة أو خمسة أيام انتهي البيع ورفعنا البضاعة وأخذنا نتنزه بالقرية ، فجاءني حسيسون وقال لي : يا سيدي هل عندك للسرّ مطرح؟ قلت : نعم ، ماذا تريد؟ قال : مادة سرية جدا ، على أن تعطيني كلاما بأنك لا تخبر

__________________

(١) أي ماهرا.

(٢) «البلوراة».

(٣) «فانحظ».

(٤) «هلق».

٥٣

أحدا بها. قلت : معاذ الله لا يمكن أن تطلع من فمي إلى مخلوق. قال في مغارة بعيدة ساعة عن القرية خابية ملآنة ذهبا ، وهذه القطعة منها. وأعطاني قطعة ذهبية قديمة من سكّة تدمر ، وقد صودرت مع حوائج الخواجه لاسكاريس بعد نياحته في مصر القاهرة. فحين أعطاني الذهب حققت ذلك (١) ، وقال لي : «إنني لست قادرا على تصريف الذهب ، ولذا أرى أن تذهب معي سرا حتى أريكه ، ثم تنقله رويدا رويدا ، وتصرفه وتعطيني عملة دارجة المبلغ الذي يسمح به خاطرك». ففرحت وقلت بنفسي أن لا أكلم الشيخ إبراهيم بهذا الأمر إلا بعد أن أرى جليلة الخبر.

وفي اليوم الثاني انسللت من الجماعة ، وطلع حسيسون خارج القرية واجتمعنا ومشينا سوية. وكان معه بندقية (٢) وسيف وعصا رأسها مكتل به مسامير من حديد يسمونها كناة. فسرنا نحو ساعة من الزمن ، وأنا ليس معي غير قصبة التوتون (٣) ، إلى أن وصلنا إلى مغارة مظلمة. فدخلنا إلى صدر المغارة إلا أني لم أجد فيها شيئا. فقلت له : أين الخابية؟ فاصفر لونه (٤) وقال : ايش (٥) رماك معي؟ أعلم أن اليوم آخر حياتك في هذه الدينا ، وكنت قتلتك قبل أن انزع عنك ثيابك ، إلا أنها تتلوث بالدماء وتصبح غير صالحة. فإذا اشلح ثيابك واعطني الكيس الذي كنت تضع فيه الدراهم ثمن البضائع التي بعتها للناس نحو ألف ١ / ١٣ غرش ، وهذه طمعتي بك ، وتأكد أنك لن ترى النور / بعد اليوم. فابتدأت آخذه بالكلام اللين وأكدت له أني سأعطيه أكثر مما هو متأمل أن يأخذ مني ، وأني لن أحكي لأحد ولن تطلع من فمي هذه الدعوى. فقال : هذا الكلام لا يفيدك ، فإذا أنا أطلقتك لا بدّ أن تحكي وتكون سبب موتي. فصرت أحلف له بالأيمان العظام والأقسام الكبار أني لن أحكي ، وأني سأعطيه شيئا كثيرا إذا سمح لي بدمي. فقال : لا يمكن ذلك وأني لم أحضرك إلى هذا المكان لتبقى حيا ، بل لأقتلك وأطفيء خبرك ، لأني إذا أبقيتك على قيد الحياة أموت أنا. فمن بعد كلام كثير وجدال طويل اسند بارودته على الحائط والكناة جنبها ، وهجم علي مثل الذئب على الخاروف ، ومراده أن يأخذ ثيابي وبعد ذلك يقتلني. ثم وصل إلي وأمسكني ، وكان أكبر

__________________

(١) كذا في الأصل ولعل الصائغ يريد أن يقول : تحققت من صحة كلامه.

(٢) «تفنكه».

(٣) التبغ.

(٤) من العجب أن يرى الصائغ في الظلمة اصفرار وجه عدوه.

(٥) أي شيء.

٥٤

مني عمرا واقتدارا ، قويا جدا ، يأكل ثلاثة مثلي ، فتضرعت إلى الله تعالى واستغثت بسيدي سلطان الخيرات الذي هو حاميني ، وتصور أمامي كامل إخواني وأهلي وأحبائي وقلت في بالي : ما اشنعها من موتات ، وعزّت علي الدنيا وخرّت الدموع من عيوني وقلت : إيه يا جبار ، يا قوي ، يا باسط الأرض ورافع السماء ، يا مخلص عبيدك من الشدائد ، أن تعينني وتخلصني من يد هذا الظالم ، ثم التفت إليه وقلت : يا صاحبي أي عداوة بيننا وأي سبب يحملك على سفك دمي في هذا المكان المنقطع ، وأي أذية وأي ضرر صدر مني في حقك؟ أما تعلم أن يوم الله قريب ويطالبك خالقي بدمي؟ فعبس وجهه وحملق فيّ بعينيه وأمسكني وجذبني إليه ، وأخذنا نتعارك ، ووجدت في نفسي قوة عظيمة من حلاوة الروح والخوف من الموت. وظللنا في صراع نحو ساعة من الزمن ، حتى خمش وجهي ورقبتي وخدش يديّ وساحت دمائي من كل أطرافي وتمزقت ثيابي وأصبحت في حالة لا توصف ، وأنا دائما غير قاطع أملي من الدنيا ومفكر في حيلة يكون بها نجاتي من يد هذا الشرير. وأثناء ذلك تمكن من القبض على عنقي وحاول أن يخنقني وضغط (١) بكل قواه ، أما أنا فما كنت كسلان ، ٢ / ١٣ وقبضت بكلتا يدي على كيسه بين فخذيه / واطبقت (٢) عليه بكل عزمي ، فزاغ بصره واصفر لونه ووقع على الأرض مغشيا عليه لا يدرك شيئا. فحالا أخذت سيفه من جانبه ثم التفت وأخذت البارودة والكناة وخرجت من باب المغارة وأنا من فرحي لا أصدق حالي ، ومشيت على الدرب طالبا الضيعة. وبعد نحو ربع ساعة نظرت إلى الخلف فرأيته راكضا. وهو يصيح ويستجير بي ويطلب مني أن أقف ، فوقفت لأني لم أبق خائفا منه فالسلاح بيدي. فحين أصبح قريبا مني أخذ يبكي ويتوسل إلي ويقول : ما أصغر عقلك ، أنا لعبت معك حتى أجرب صداقتك وأنت ظننت أني كنت على جد؟ فأخذت البارودة بيدي وقلت وحق من خلصني من يدك وهو جبار السموات والأرض. إن خطوت خطوة ثانية نحوي (٣) ملأت (٤) بطنك رصاصا. واعلم أنه لم يبق لك خلاص ، وإن شاء الله إني سأجعل قتلك شهرة حتى يتأدب كل ملعون مثلك. فحين رأى أن محاولته قد فشلت ، وهو عارف أنه مذنب جدا وأنه إن عاد إلى القرية سيقتله الشيخ سليم ، فحينئذ أرتدّ إلى الوراء وهام على وجهه في البرية.

__________________

(١) «قرّط».

(٢) «قرّطت».

(٣) «صوبي».

(٤) «عبّيت».

٥٥

وأما الشيخ إبراهيم ونوفل والخوري موسى فإنهم قاموا من النوم فما وجدوني. فصاروا في حيرة عظيمة ، وابتدأوا يبحثون عني في أماكن عديدة ، فما وجدوا لي أثرا. فصار الشيخ إبراهيم في قلق عظيم وحدثه قلبه أني واقع في ضيق ، لأنه على معرفة بعاداتي ، فقال : إنه ما ذهب قط إلى مكان من غير علمي ، ولا بد لغيابه هذا من سبب كبير. ثم خرجوا إلى ضواحي القرية وأخذوا يطوفون بالبساتين للبحث عني. وبينما هم يفتشون عني ، إذ رأوني من بعيد مقبلا عليهم ، فتساءلوا إذا كان القادم هو أنا حقيقة. فقال الشيخ إبراهيم : هذا الشخص ليس عبد الله لأن معه بارودة وسلاح وبيده سيف ، فمن أين جاء بهذه الأسلحة؟ فحين قربت منهم عرفوني فركضوا نحوي من فرحهم. وحين وصلوا رأوني بتلك الحالة التي لا توصف : وجهي مخدش ودمي سائح ويديّ مسلّخة ورقبتي مجروحة وكل وجهي وعنقي ١ / ١٤ ويديّ مدمية ، وأنا من فرحي بنجاتي ورؤيتي لهم ابتدأت أبكي وهم كذلك ، / ولم يستطيعوا أن يفهموا مني حقيقة ما جرى علي إذ طفح علي البكاء. ثم دخلوا القرية واجتمعت الناس خلفي وصاروا يتساءلون عن الذي فعل بهذا الشاب هذا الفعل. وأدخلوني إلى بيت الشيخ سليم. ولما رآني في تلك الحالة الشنيعة انتصب قائما مثل المجانين وأجلسني وأمر لي بماء ، فشربت حتى سكن روعي ثم قال أخبرني عن قصتك بالمختصر فقلت له : «حسيسون احتال علي وأراد قتلي والله نصرني عليه». فغاب عن الوجود من هذا الخبر وقال : «له سوالف سابقة مثل هذه ، ولكن لا بدّ من قتله في هذا اليوم». ثم أمر أربعة خيالة أن يركبوا حالا ويجدّوا في طلبه ، ولا يدخلوه القرية ولكن يقومون بشنقه على باب القريتين من غير مراجعة. فركب الخيالة الأربعة بكل سرعة ، وكان من بينهم عبد للشيخ سليم ، وكان لا يحب حسيسون فأخذ حبلا تحت أبطه (١) لكي يشنقه حالا ، على حسب أمر سيده.

أما أنا ، فأخذوني إلى بيت الخوري ، وسخّنوا لي ماء ومسحوا دمائي ، ودهنوا جروحاتي ببلسم وأجلسوني على الفراش.

أما الخيالة فداروا بكل اجتهاد إلى غروب الشمس ، فما وجدوا لحسيسون أثرا فرجعوا. وبعد مدة بلغنا أنه يخدم كعسكري بدمشق ، ومن ذلك اليوم ما عاد دخل القريتين.

وبعد هذه الأيام بقليل ابتدأ العربان يغرّبون ويظهرون في نواحي تدمر والقريتين ، وصارت أخبارهم متواصله في البلاد ، وابتدأ يحضر منهم أناس للقريتين ويخبرون عن بعضهم ،

__________________

(١) «في عبه».

٥٦

وظهر الربيع ، وأخضر وجه الأرض بالحشيش ، وصارت الأخبار عنهم تصلنا ، وكل يوم كانوا يقتربون أكثر إلى نواحي بلاد سورية.

ثم في أحد الأيام حضر واحد بدوي إلى القريتين يقال له سلامة النعسان ، من قبيلة اسمها العمور ، قبيلة صغيرة تحتوي على نحو خمس مئة بيت ، شيخها اسمه سلطان البرّاق ، متحضرة بالنسبة إلى غيرها ، ولها صلات متواصلة مع أهالي حماة وحمص ودمشق ، فتبيعهم ٢ / ١٤ غنما وسمنا وجمالا ، ولها أيضا شركاء في البلاد. وحين / تشرق القبائل الكبيرة في الشتاء ، فإن عرب العمور لا يبعدون كثيرا وهم لا يتجاوزون حدود الزور وشاطئ الفرات ونواحي تدمر ، ويحضرون قبل جميع العرب إلى نواحي البلاد.

فهذا البدوي سلامة الذي ذكرناه كان قتل واحدا من أهالي القريتين من قبل ثماني سنوات ، وظن أن القضية قد نسيها الناس. فدخل القرية وذهب عند الشيخ ليسلم عليه ، على حسب عوائدهم. فسمع به أهالي القتيل وحضروا عند الشيخ وأقاموا الدعوى ، فأنكر المتهم إذ ليس هناك من شهود. وطال الجدال والنقاش بينهم ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا عليه شيئا ، وما كان بإمكانهم أن يكيدوه لخوفهم منه. أو من أذية تصيبهم من العرب. وأخيرا أخذ الشيخ بيده عودة مكنسة وقال : يا سلامة امسك بهذه العودة واحلف لي بحق من خلق هذه العودة أنك لم تقتل القتيل. فأخذ العودة بيده وأطرق ببصره إلى الأرض نحو ربع ساعة ، وبعد ذلك رفع رأسه وقال : يا جماعة أنا قتلت ابنكم ، وأنا لا أحط في رقبتي قتيلا ويمينا ، فانظروا ما هي دية ابنكم حتى أعطيكم حق دمه. وهذه العادة جارية بين العرب وسكان القرى. فتواسطت الناس وتم الاتفاق على ثلاث مئة غرش. فقال سلامة : اصبروا عليّ حتى أذهب وأحضر لكم الدراهم. فقالوا له : قد لا ترجع فمن هو كفيلك. فقال : يكفلني الذي لم أحلف باسمه باطلا يعني الله فخلوا سبيله. فقام حالا وركب وراح وعاد بعد أربعة أيام ، ومعه خمسة عشر رأس غنم عظام ، كل واحد منها يساوي أكثر من عشرين غرشا. فسلمها إلى أهل القتيل فأبرأوا ذمته وتصالحوا.

فسررنا جدا مما رأينا ، وتحقق لنا أن سلامة رجل طيب حسن السيرة ، وصرنا معه في صحبة كبيرة وأكلنا خبزا معه. وبعد ذلك قلنا له : يا أخ نحن نريد أن نتوجه إلى تدمر ، والناس هنا خوفتنا من العرب فما هو رأيك؟ فقال : أنا أضمن وأكفل أني آخذكم إلى تدمر ١ / ١٥ سالمين غانمين ، وأكتب سندا / على نفسي ، أمام الشيخ سليم وجميع سكان القريتين ، أنه مهما

٥٧

حصل لكم من ضرر فأنا المسؤول عنه. فاستوثقنا من كلامه وأقر بهذا الكلام أمام الشيخ وجمع كبير من الحاضرين ، فركن قلبنا من طرفه وكثر أملنا وحالا عزمنا على الرحيل برفقته. فقال لنا الخوري موسى : يا أولادي ، الرأي عندي أن لا تأخذوا معكم كل رزقكم ، لكي لا يحصل عليكم طمع. فخذوا بعضه وأبقوا الباقي عندي ، فإن بعتوه واحتجتم إلى شيء من البضائع ، اكتبوا إلي واعلموني بالأشياء التي تريدونها ، وأنا أرسل بها إليكم. فرأينا أن هذا القول هو عين الصواب ، فأخذنا من كل صنف شيئا قليلا وحزمنا الكل ووضعناه في صندوق. وأما نوفل فإنه استأذن بالرجوع إلى بلده حمص ، فأعطيناه أجرة وافرة ووهبناه شيئا من المال (١) ، ثم استكرينا جمالا من أهالي القريتين ، وصباح اليوم الثاني ودعنا الأحباء ، وركبنا على الجمال ، وكان ذلك أول مرة نركب على جمل. وأخذنا ما يكفينا من الماء لأن الطريق من القريتين إلى تدمر لا يوجد فيها ماء. فسرنا إلى المساء مدة عشر ساعات ، وكان مسيرنا نحو الشرق. فنزلنا في أرض يقال لها الدّوة ، وكان بالقرب منها ، في وسط السهل ، برج عمارة قديمة يسميه العرب وأهالي تلك القرى قصر ابن وردان (٢). فهذا اسم كبير القوم الذين كانوا يقيمون في هذا البرج ، من طرف حكام الشام الأروام ، لكي يتنسموا أخبار العجم خوفا من أن يدخلوا بلادهم ويفسدوها. فلهذا السبب بقي اسمه قصر ابن وردان ، وهو من العمارة المتينة جدا ، على هيئة ما كان يبنى قبل ظهور البارود. فبتنا تلك الليلة وكان البرد شديدا ، واليوم الثاني قمنا ركبنا على الجمال قاصدين المسير. إلا أن الشيخ إبراهيم كان غشيما ويجهل كيف يكون الركوب على الجمل. فحين علا على ظهره قام الجمل بسرعة ، ووقع المسكين على الأرض مغشيا عليه وانخلعت رجله. فنزلت ونزل كل من كان معنا ، ورفعناه عن الأرض وربطنا رجله وأركبناه من جديد ، وسرنا على اسم الله. فبعد مسيرنا بساعتين فقط ، وإذا الغبار يتصاعد من صدر البرية آتيا نحونا. وفي قليل من الوقت كلمع البرق اقترب منا ستة رجال على الخيول مسديدين الرماح وقاصدين سلبنا. وما كان سلامة كسلان ٢ / ١٥ فرمى الفروة / من على ظهره ، وأخذ رمحه بيده وطار مثل لمح البصر نحو القادمين ، حتى اقترب منهم وصار أمامهم. فوقفوا عندئذ وأخذوا يتكلمون مع بعضهم بعضا حصة قليلة ، ثم شنوا الغارة علينا مرة ثانية ، فلحقهم سلامة وقطع عليهم الطريق ، ووقعت الحرب بينهم وبين

__________________

(١) «بخشيش».

(٢) هذا من أوهام الصايغ لأن قصر ابن وردان يقع شمالي شرقي حماة ، على نحو خمسين كيلومترا من هذا البلد.

أما البرج الذي يصفه هنا فهو قصر الخير الغربي.

٥٨

سلامة ، وكان مشهورا بمواقفه ، من الفرسان المعدودين بين العربان ، فاستقامت الحرب بينهم نصف ساعة ، وكانوا من قبيلة يقال لها الحسنة (١) ، أميرهم اسمه مهنا الفاضل ، وهو أول من صار من أحبائنا بين العرب ، وسوف نتكلم عنه وعن قبيلته. وكان هؤلاء الخيالة الستة من الفرسان العظام المجربين لهم خبرة بالحرب والقتال ، فلم يستطع سلامة أن يقف أمامهم أكثر من ذلك وأصابته طعنة رمح في فخذه فضعفت قواه. فحينئذ هجموا علينا وابتدأوا بسلبنا ، فصار سلامة يرمي بنفسه على الأرض ويقول لهم : يا جماعة ، ما هذه طريقة العربان ، هؤلاء إخواني وقد كفلتهم من كل أمر يصيبهم ، فكيف تفعلوا هذه الأفعال معهم. قالوا : كلامك صحيح يا سلامة ولكن أما تعلم أن كبير هذه الديار اليوم هو أميرنا مهنا الفاضل؟ فكيف تحضر نصارى إلى تدمر من غير أذنه؟ فقال الحق معكم ولكن على علمي أن مهنا بعيد عن الديرة ، وهؤلاء الناس مستعجلون يريدون بيع بضاعتهم ، فأخذتني المرؤة والغيرة ووضعت أملي بعادات العرب التي لا تتغير ، فهم بذمتي وقد ضمنت لهم أمام شيخ سليم الدعاس ورافقتهم. وأنا الآن مرتمي على الأرض وهم بين أياديكم فافعلوا بهم ما ترونه مناسبا. فرجعوا عنا وقالوا بما أنك تكلمت باللسان الطيب فإننا لا نأخذ منهم إلا ما يطيب خاطرهم به. فاضطررنا أن نفك الحمل ونعطيهم مشلحين وفروة ومئة غرش ، فرضوا بذلك وخلّو سبيلنا. أما سلامة فإنه من ألم جرحه لم يستطع أن يركب فرسه ، فأركبناه على جملي وركبت على فرسه ، وسرنا أربع ساعات إلى أن غابت الشمس ، لأننا أضعنا الوقت مع هؤلاء الناس الذين أعاقونا عن السفر مدة ثلاث ساعات بل أكثر. فنزلنا ونمنا تلك الليلة في أرض يقال لها وادي النهر. وبتنا تلك الليلة عطاشي ، إذ فرغ الماء من عندنا ، وكنا نظن أننا سنبيت ١ / ١٦ في تدمر ، ولكن تأخرنا منعنا عن ذلك ، / ولكننا كنا راضين وشاكرين الله الذي خلصنا من أيادي القوم ، لأنهم لو سلبوا ثيابنا كنا بلا شك متنا من البرد.

__________________

(١) الحسنة أو الأحسنة ، قبيلة عنزيّة من ضنا مسلم.

٥٩

[تدمر وضواحيها]

وفي اليوم التالي مشينا مع طلوع الشمس ، وقبل وصولنا إلى تدمر بساعة ، بلغنا ماء جارية عظيمة يقال لها ماء أبو الفوارس ، آتية من المغرب وذاهبة نحو المشرق صوب تدمر. ولا يبان من أين أصلها ولا إلى أين منتهاها ، إلا من ثلاث أو أربع قوافع (١) في الأرض ، تظهر وتختفي ، والعمق من القافعة إلى الماء نحو ذراعين ، فشربنا من ذلك الماء حتى ارتوينا ، ومشينا ساعة من الزمن فأشرفنا على مدينة تدمر العظيمة. وأول ما قابلنا ، قبل الدخول بربع ساعة ، خانق (٢) بين جبلين متقابلين ، فنتج عن ذلك ممر متواصل حتى مدخل تدمر. وعلى الجبل الذي على اليمين ، من ناحية القبلة ، سور قديم العمارة يمتد على مسافة ثلاث ساعات وينتهي بالخانق ، ومن طرف الشمال ، في آخر الجبل ، قلعة من عمارة الإسلام ، قبل ظهور البارود ، يقال لها قلعة ابن معن. والمذكور كان من حكام الشام في زمن الخلافة الأموية ، فعمّر هذه القلعة كي يمنع الأعاجم (٣) عن الدخول من ذلك الخانق إلى بر الشام.

وبعد ذلك وصلنا إلى فسحة عظيمة يقال لها وادي القبور ، فيه أكثر من عشرين

__________________

(١) قوافع مفردها قافعة : لم أجد هذه الكلمة فيما بين يديّ من كتب اللغة. وفي لسان العرب : القفعة هو شيء كالقفة يتخذ واسع الأسفل ضيق الأعلى ، جمع قفع. ولعل الصائغ يريد أن يقول حفرة ينبع منها الماء.

(٢) «بوغاظ».

(٣) «الأعجام».

٦٠