رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

[ابتداء الحرب مع الوهابيين]

وفي اليوم التالي وصل خبر أن غزوا من عند الوهابي ضرب قبيلة ولد علي ، وغنم منها شيئا كثيرا ، لأنه غزو عظيم يدور في هذه الديرة ويفتت العربان (١) حتى أنه ابتدأ يدخل القرى ويبلص (٢) أصحابها. والعربان خائفة جدا منه ، والبعض منهم قرروا على إعطاء الزكاة ، أي عشر المال ، للوهّابي حتى يخلصوا من شره ، ويبقوا محسوبين من أتباعه وموهّبين ، لأن الذي يعطي الزكاة ويطيعه يقال عنه موهب (٣). فأعلمت الشيخ إبراهيم بهذا الخبر ، فاغتم جدا وقال : هذا ضد إرادتي ، والرأي عندي أن الدريعي يجب أن يكون ضد الوهابي ، ويعمل كل ما يستطيع ليجرّ إلى طرفه زيادة من القبائل ، وأما العربان التابعون للدريعي فيجب أن يكونوا جميعهم مطيعين له ، وعلى قلب ورأي وعمل واحد. فتكلمت مع المذكور بذلك وحسنت له الأمور بقولي له : اعلم أن الوهابي إذا لم يرتدّ من هذه الديرة سوف يملك كافة العربان ، ويجعلهم تابعين له ، وتكون أنت من جملتهم وتصير عبدا من بعد أن كنت أميرا وحرا وأكبر منه. فالأنسب قطع رجله من ديرتنا وافراز عربه عن عربنا. فحسنت عنده هذا الرأي ١ / ٤٧ وحالا اعتمد أن يضرب غزو الوهابي / ويلحقه في أي مكان كان ، ويظهر العداوة بينه وبين

__________________

(١) بالأصل : يفتت على العربان ، ولعل الصائغ يريد : يشتت شمل العربان.

(٢) يبتز الأموال.

(٣) كذا ، ولا أدري كيف ضبط هذه الكلمة : موهب أو موهّب. ونلاحظ أن الصائغ كثيرا ما يستعمل كلمة وهّابي.

١٢١

الوهابي. وأمر العربان أن تجمع بعضها بعضا وأرسل طروشا (أعني سعاة) إلى قبائل حوران وبلاد الجليل يخبرهم ويطلب منهم اسعافا ، وكذلك إلى غير قبائل. وحمّل الرسل (١) كلاما ، وهو أن يقولوا من طرفه إلى القبائل أن مراده أن يضرب غزو الوهابي ويشهر العداوة معه ، فمن تبعه فليظهر حاله ، والذي يريد أن يكون من أتباع الوهابي فليرحل إلى ديرة الوهابي.

فبعد يومين ، جميع القبائل التي كانت بالقرب منا طاعت الدريعي على ذلك الرأي وحضرت إلى عندنا ، وبعد ذلك حضر الطروش (٢) ، وأخبروا أن جميع القبائل طاوعت على ذلك واعتمدته ، سوى قبيلتين وهم بني صخر والحسنة ، قبيلة مهنا ، فما أطاعوا ولا لهم إرادة أن يعادوا (٣) الوهابي. فتركهم الدريعي وقتئذ ، وركب حالا ولحق غزو الوهابي. وكان معه نحو خمسة ألاف خيال وألفي مردوف بواردية ، كل اثنين على جمل ، وطلب غزو ابن سعود. فغاب عنا عشرة أيام وانقطعت أخباره عنا ، وصرنا في وجل عظيم وخوف جسيم ، حتى ظننا أنه قتل هو وكامل عسكره ، وحزنا في قلوبنا حزنا شديدا ، وصرنا خائفين جدا على أرواحنا ، لأن إذا حصل ذلك فالعربان تقتلنا ، حيث نحن سبب ذلك الأمر.

ثم يوم الحادي عشر قبل نصف النهار إذ ورد علينا خيال جاء كالغائر ، يحمل راية (٤) وهي زنار أبيض رابطه من الطرفين وعامله مثل بنديرة (٥) بالرمح ، وهو يركض ويقول : هذه راية الدريعي ، نصرنا الله على الضشمان ، ابشروا يا عربنا. فحالا ركضنا وسلمنا عليه ، وهو بشرنا أن الدريعي انتصر وسيكون هذه الليلة عندنا. فألبسناه حالا مشلحا جديدا وكوفية وجزمة [وأعطيناه] مئة غرش بخشيشا. وكذلك نساء أكابر العربان أهدينه (٦) نظير بشارته. وقامت الأفراح والألعاب والغناء (٧) والكيفيات (٨) ، وذبحت ٢ / ٤٧ الذبائح وعدت المآكل (٩) ، وكان نهار من العمار (١٠) ، مبهج / وعظيم. وقبل غياب الشمس

__________________

(١) «المراسيل».

(٢) أي السعاة ، كما جاء في الشرح أعلاه.

(٣) «أن يضشمنوا».

(٤) «جاية غارا وساحب رايه».

(٥) أي مثل العلم.

(٦) «هادوه».

(٧) «والغنة».

(٨) «المسرات».

(٩) «الأماكيل».

(١٠) الأعمار ، أي يوم يذكره الإنسان طول عمره.

١٢٢

إذ أقبل الدريعي وكامل من معه. فركضنا نحن وركب جميع من بقي من الرجال ، واستقبلناهم بلعب خيل وإطلاق النار (١) والزلاغيط ، إلى أن وصلوا. فنزلوا وسلمنا عليهم وحكوا لنا أنهم لحقوا بهم بعد ستة أيام في أرض يقال لها حذملما ، شرقي تدمر لناحية القبلة ثلاثة أيام ، على حسب ركض العرب. وكانوا بمقدار عسكر الدريعي وعقيدهم رجل صاحب صيت (٢) عظيم وفعل جسيم يقال له أبو نقطة ، إنسان من جملة طباعه حين ينزل إلى القتال أنه يشلح عاريا (٣) ويتزنر على القميص ويشلح أكمامه فيبقى مستترا من الزنار وما تحته وأما سائر جسمه فيكون عاريا مكشوف الرأس ، حافي الرجلين ، وهو أسود غامق السواد ، جسيم بمقدار ثلاثة أفراد (٤) ، شعره منفوش لم يحلقه قط ، كبير اللحية تصل إلى بطنه ، النتيجة تفزع منه الجن ، وأكثر عربانه قريبون من هذه الصفات (٥).

ثم التحم القتال بينهم واشتد الحرب ، وطار العفار (٦) والغبار ، واستقاموا ثماني ساعات على هذا الحال. ثم انكسر أبو نقطة وتفرقت عربانه ، وانتصر الدريعي بعون الله ، وأخذ جميع ما أخذوه من الكسب من قبيلة ولد علي وأتى به معه ، وجاء أيضا بخمسة وثلاثين فرسا كحايل (٧) ، كسبها جميعا من عرب أبو نقطة. وقتل من عربنا اثنان وخمسون نفرا ، ومن عرب أبو نقطة نحو مائتي نفر. وهج المذكور مع باقي عربانه في نواحي بلاد نجد ، وشاع خبر هذا الانتصار حتى وصل إلى سليمان باشا في دمشق ، فسرّ جدا وحالا أرسل فروة وسيفا إلى الدريعي ، مع بولردي يحمده ويشكره به على فعله هذا ، لأن الباشا وأهالي ديرة الشام كانوا خائفين جدا من الوهابي ، وخصوصا من صيت أبو نقطة.

وبعد ذلك رحلنا ونزلنا بأطراف بلاد حوران ، وحصل لنا إكرام زائد من دوخي ابن اسمير ، أمير قبيلة ولد علي ، لأن الدريعي ردّ عليهم جميع ما أخذ منهم أبو نقطة. وتخاوى دوخي مع الدريعي ، وجاء مشايخ القبائل وقدموا الطاعة وارتبطوا جميعهم معنا ضد الوهابي ، ١ / ٤٨ وصار رباط عظيم في / حوران مع كامل العشائر ، إلا مع بني صخر والحسنة.

__________________

(١) «قويصات».

(٢) «سيط».

(٣) «بالظلط».

(٤) «أزلام».

(٥) ذكرنا في المقدمة أن أبا نقطة مات قبل هذا التاريخ ، قتله الشريف حمود قائد عرب اليمن سنة ١٨٠٩.

(٦) عفر وعفر ج أعفار : التراب ؛ أعفار وعفار رمال بالبادية ببلاد قيس (القاموس المحيط).

(٧) كحيلات.

١٢٣

ثم ثاني يوم نفذ علينا شيخ علم من دمشق : دنبكية (١) كبيرة خضراء في رأسه معصوبة بمنديل ، ثيابه بيضاء ، في رقبته مسابح ، عيونه مكحلة ، كبير اللحية (٢) ، في زناره محبرة (٣) وعبه ملآن من الكتب ، وهو راكب على بغلة وفي يده حربة. فدخل بيت الدريعي وسلّم على المذكور وعلى جميع الحاضرين وأخذ يتكلم بأمور الدين ، ويرشدهم ويزرع في قلوبهم الرفض والورع ، وهذا شيء يخالف طبائع العرب لأنهم لا يريدون أن يتكلموا بأمور الدين ، وعندهم جميع الملل بالسوية ولا يسألون قط أحد عن دينه ، وعندهم الجميع (٤) خلقة الله وحالهم واحد. وهذه أحسن الخصال التي وجدناها عند العرب ، لأنه إلى اليوم لم يسألنا أحد أأنتم إسلام أم نصارى ، ولكننا نحن في أثناء الحديث نقول أننا نصارى ، ولو كانوا مترفضين وعندهم توريع (٥) مثل أهالي المدن ، لما كنا استطعنا أن نعيش معهم يوما واحدا.

ثم قمت من المجلس ورحت إلى خيمتنا الصغيرة وكلمت الشيخ إبراهيم عن هذا الشيخ فتأذى منه ، وبعد ساعة من الزمن رجعت إلى المجلس ، وحسب عوائدهم نحوي نهضوا جميعا واقفين ، وقام أيضا الشيخ الغريب. وبعد جلوسنا استخبر من أحد العرب الذين كانوا قريبين منه عني ، فأخبروه أنني نصراني كاتب عند الأمير. فنهض قائما وقال : لا يجوز في دين الله أن تقوموا واقفين لنصراني كافر عدو الدين ، فأنتم جميعكم إلى نار جهنم ، ونساؤكم طوالق منكم بموجب شريعة سيدنا محمد شرّف الله ذكره. فبعد هذا الكلام نهض الدريعي بنفسه وقبض عليه من لحيته وطرحه بالأرض وسحب سيفه يريد ذبحه. فكان بأمر الصدفة أن الشيخ إبراهيم دخل المجلس. فركض وأمسك بيده ورفعه عنه. فقال : إكراما لخاطرك لا أذبحه ولكن وحق ذات الله العزيز لا بدّ من قطع لحيته وهذه الساعة يعود إلى بلده. وركض مرة ثانية وأمسك بلحيته وقطعها بالسيف وأمره بالركوب حالا. فما صدق أنه يخلص بروحه وركب ٢ / ٤٨ حالا وتوجه لبلده. /

ثم بعد ذلك بيومين ، ركب الدريعي وكامل عربانه وراح ضرب عربان بني صخر لسبب : أولا أنهم لم يطيعوه ، وثانيا نكاية بالوهابي ، لأن بني صخر ، كما ذكرنا ، يعدون من

__________________

(١) الدنباكية ، من التركية. عمامة ملفوفة مدورة تدل على بركة حاملها وطهارته.

(٢) «ذقن».

(٣) «دواية».

(٤) أي جميع الناس.

(٥) لعله يريد : الحث على الورع.

١٢٤

أتباع الوهابي (١) ويعطونه الزكاة ، أي عشر المال. فعاد منهم بخيرات جزيلة وقتل كثيرين من رجالهم. فشاع هذا الخبر بين القبائل ووقعت سطوة الدريعي في قلوب الناس ، وطاعته جميع العشائر ، إلا قبيلة مهنا ، فإنه لم يرد أن يتعرض (٢) لها ، لأنها أكلت جزاها ، وتضعضعت أحوالها ، وقتل ناصر ، ولم يبق لها اسم مثل السابق ، وخمدت سطوتها.

فبعد كل هذه الأمور كان مضى فصل الصيف ودخل الخريف وابتدأت العربان رويدا رويدا تنسحب إلى الشرق. ونحن أيضا لم نزل نرحل وننزل إلى أن صرنا أمام حماة. فقال الدريعي : أكتب يا ولدي مكتوبا إلى متسلم حماة وعرفه ، لكي يرسل إلينا بقليل من الحنطة.

فكتبت مكتوبا ظريفا وأرسلناه مع طارش خاص ، فوصل إلى المتسلم وقرأه وحالا أمر بأربعين جملا [محملة] حنطة وعشرة مشالح وفروة إلى الدريعي. فوصلنا جميع ذلك وفهمنا جيدا أن المتسلم لم يرسل هذه الهدية إلا خوفا من الدريعي ، وما هي كرم منه ، حيث نعرفه من السابق أنه رجل بخيل ورديء الأفعال.

ولم نزل ننسحب حتى صرنا بقرب حلب. فقال لي الشيخ إبراهيم : يا ولدي نحن راجعون إلى البادية (٣) ، ولم يبق عندنا ثياب نلبسها ، ولم يبق عندنا رزق حتى يكون لنا حجة ، ويلزمنا من حلب أشياء كثيرة ، فكيف ندبر ذلك. قلت : أعطني مكتوبا إلى محبك الذي ستأخذ منه الدراهم وأنا أقوم بتدبير الباقي. فكتب لي حالا مكتوبا فأخذته منه واتفقت مع الدريعي أن يرحل إلى الزور ، وأنا آتي عنده من حلب. وأخذت معي اثنين من العرب بالأجرة ونزلت إلى ضيعة يقال لها الجبول ، وهو المكان الذي يستخرج منه ملح حلب. ووجدت ساعيا ، وكتبت مكتوبا من طرفي إلى الشخص الذي سيعطينا الدراهم ، وأرسلته ١ / ٤٩ مع مكتوب الشيخ إبراهيم ، فحضر / المرسال (٤) وجاءني بالدراهم ، وكان قصدي من ذلك ألّا أواجه أحدا من أهالي حلب ولا أدع أحدا يعرفني. فنزلت إلى البلد وأنا بلباس (٥) العرب ، وبلحية ، وأتكلم مثلهم ، ولا يستطيع أحد أن يعرفني. فأخذت غرفة في خان من الخانات التي بأطراف البلدة ، وابتدأت أشتري لوازمي وأرى كثيرين من الأصحاب والمحبين وهم

__________________

(١) «بني صخر محسوبة على كيس الوهابي».

(٢) «ما راد يقارشها».

(٣) «الشول».

(٤) المرسل أو الرسول.

(٥) «كسم».

١٢٥

لا يعرفوني ، وأنا أضحك بقلبي منهم ، ومررت عدة مرات بالطريق الذي يمرّ أمام بيتنا ، وكل رغبتي أن أرى أخي وإن لم أعرّفه بحالي ، فلم أتمكن من رؤيته ، ولم أستطع أن أعرف إذا كان مات أو مسافرا ولم أثق بأحد لأظهر حالي ، وأسأله عن أخي وعن والدتي المسكينة ، وهي لم ترني منذ نحو سنتين ، ولا عندها خبر مني ، ولم تستلم مني مكتوبا من يوم خروجنا من حلب ، لأن من جملة الشروط التي شرطها الشيخ إبراهيم علي أن لا أكاتب أحدا ولا إلى والدتي ، كي لا يزيع خبرنا بين الناس وتشتهر أمورنا. وبعد ستة أيام أنهيت جميع مطلوبي وتوجهت مع رفقائي العرب إلى الزور ، فوجدنا عربنا نازلين على شاطئ الفرات ، بقرب محل يقال له دير الشّعّار ، وكنا ذكرنا سابقا أن جميع سكانه شعار (١) ، وكان بلدا في السابق وبه عمارات قديمة لم تزل إلى الآن. فسلمت على الشيخ إبراهيم وعلى الدريعي ، وحكيت لهم ما فعلت. فقال الشيخ إبراهيم : حسنا عملت ، كنت أخشى أن تذهب وتواجه والدتك ، فتتمسك بك ولا تدعك تعود إلى عندي. ومن المؤكد أن والدتي لو رأتني لما دعتني أعود قطعا. ولعلمي بذلك عملت كل جهدي لكي لا يعرفني أحد ، ولا أنا عرّفت بحالي.

ثم وجدت أناسا كثيرين عند العرب ، من أهالي حلب وحماة وحمص والمعرة وسرمين وإدلب وكلّز وعنتاب ، ومن كل ايلة حلب وغيرها ، وهم يشترون جمالا من عند عربنا ومعهم بضائع : ملبوس ومأكول ، من مشالح وجزمات وكوفيات وقمصان خام سميك وسروج خيل ، وعدد خيل وقمصان قزّ (٢) للنساء ، ودبس وزبيب وتين وتوتون ، أي جميع لوازم العرب. وقد فتحوا سوقا (٣) عظيما وهم يبيعون بضائعهم قسما منها نقدا وقسما منها بالمقايضة (٤) ، ٢ / ٤٩ ويشتروا جمالا لأجل التحميل. / وبيع أغلى جمل بماية غرش. وأما بخصوص العملة التي يتعامل بها العرب فإنهم لا يرضون إلا بالعملة الفضية (٥). وأكثر ما هو مقبول عندهم الريال الفرنجي. وإذا كانت قطعة العملة قيمتها خمسة غروش إلا ربع ، كما هي الحالة بالعملة العثمانية ، فإنهم ، لكي لا يغلطوا بالحساب ، يقبضونها بالتمام ، ولو أخذوا قطعة العملة بزيادة

__________________

(١) شعراء.

(٢) حرير.

(٣) «بازار».

(٤) «داكيش».

(٥) «عملة بياض».

١٢٦

عشر مصريّات (١) ، فإنهم لا يختلفون على ذلك إذ يهون عليهم الحساب. وكذلك لا تكون المساومة على سعر الجمل بالغروش ولكن بالريالات ، أو أنهم يختارون لهم قطعة من العملة العثمانية تكون المساومة عليها.

فاستقام ذلك السوق (٢) ثمانية أيام. وعملنا حسابا تقريبيا [تبين لنا منه] أنه شري من عند عربنا فقط ، بماية وخمسين ألف غرش جمالا. ثم توجه [الناس] إلى بلادهم. ومن صار عنده دراهم كثيرة من العرب ، مثل الدريعي أو غيره ، وضعها في عدل الطحين أو القمح ، لكي لا تقرقع وقت التحميل.

ثم بعد ذلك أمر الدريعي بالرحيل وقطع الفرات إلى الجانب الثاني. فكان نهار عظيم وضجيج واضطراب (٣) ، حتى قطعنا من جانب إلى الجانب الآخر ، من جهة الدير.

وغرق منا امرأة ومعها ولدان أثناء قطع الفرات ، لأن جملها تعثر فوقعت وأخذها مجرى الماء لشدته وأخذ أولادها بسرعة. ولم يكن إلى جنبها أحد [لينتشلها] فماتت هي وأولادها.

__________________

(١) مصرّية : قطعة صغيرة جدا من العملة تعادل البارة التركية أي ٤٠ / ١ من الغرش العثماني.

(٢) «بازار».

(٣) «وغوشات وكركبات».

١٢٧

[أول خطوة نحو الاتحاد]

فبعد أن أقمنا ثلاثة أيام ، رحلنا وتوجهنا نحو البادية شرقا. وكانت الجزيرة ملآنة من العربان ، منهم من الذين كانوا معنا بالشامية ، ومنهم غرباء أعني من عرب ديرة بغداد والبصرة والبادية (١) ، وهم أشكال وأشكال لا يمكن إحصاؤهم ، ونزلنا في أرض يقال لها عين الراج. فهناك حضر عندنا أمير يقال له فارس الجربا ، وقبيلته اسمها الجربا (٢) تضم نحو أربعة آلاف بيت يعدّون من عرب البصرة. وكانت غايته من هذه الزيارة التعرف بنا والصحبة مع الدريعي على يدنا ، لأنه كان سمع أن المذكور قد عادى (٣) الوهابي وهو عاص عليه. وصار له اسم عظيم بين القبائل ، وكل ذلك بسبب تدبيرنا وحسن مشورتنا ، لأنه كان شاع الخبر بين العرب أن ١ / ٥٠ عند الدريعي جماعة ماهرين يقومون بتدبيره على / أمور الدنيا ، وبواسطة تدبيرهم سوف يصير سلطان العرب وأكبر من ابن سعود الوهابي. فبلغ ذلك فارس الجربا ، وعمل حسابه أن المحبة والوفاق معنا أنسب ، وعلى الخصوص حين سمع أن الدريعي على خصام (٤) مع الوهابي ، لأن العرب على إطلاق لا تحب الوهابي لسببين كبيرين : الأول لأنه يأخذ منهم العشر ويستعبدهم بواسطة أمور الديانة ، [والثاني لأنه] يستجرهم إلى الحرب والموت مع القبائل العاصية ومع

__________________

(١) «الشول».

(٢) الجرباء ، بطن من شمّر ، فيهم الرئاسة (وصفي زكريا ، عشائر الشام ج ٢ ص ٢٨٤ وما بعدها).

(٣) «ضشمن».

(٤) «ضشمنة».

١٢٨

أهالي بلاد الحجاز واليمن. وهذا شيء ضد طبعهم لأنهم أولا يحبون أن يأخذوا ويكرهون أن يعطوا ، وهو يأخذ عشر المال منهم بالغصب ، وعمله هذا كأنه نوع من البلص وخصوصا أن المزكي (١) الذي يحضر من طرف الوهابي ينتقي ما يعجبه من كل عشرة رؤوس واحدا ، سواء كان ذلك من جمال أو نوق أو هجن أو خيل نجدية (٢) أو غنم أو دراهم ، وهذا يصعب جدا على العربان ويزرع العداوة في قلوبهم. وثانيا أنه يستعبدهم بالصلاة ، كل يوم خمس مرات ، والذي لا يصلي يقتل ، وهو يستجرهم دائما إلى الحروب والقتل. فهم والحالة هذه رعايا يبتزّ أموالهم وعسكر دون نفقة (٣) يقتلون بسببه. ولذا ضجت (٤) العربان منه كثيرا ولكنهم يطيعون خوفا منه لأنهم ليسوا على رأي واحد ليكونوا عصبة عليه.

ثم قال فارس الجربا للدريعي : أريد منك أن تجمعني مع عبد الله الخطيب الذي عندك ، إذ بلغني أن عندك جماعة أصحاب معرفة وتدبير. قال نعم. وبالحال أتى العبد وصاح علينا ، وكنا في خيمتنا الصغيرة مكبين على الكتابة ، فحضرت وسلمت عليه وترحبت به ، وعرّفني الدريعي به وشكره لي جدا. فقال : أريد منك ظهرة (٥) أي خلوة ، والسبب في هذه التسمية أن الحضر ، سكان المدن ، يختلون داخل [البيوت] ليتكلموا بالأمر الواقع السري ، وأما العرب فإنهم بعكس ذلك يخرجون إلى ظاهر البيوت ، ويبعدون عنها قليلا ويجلسون في أرض سهلة ، لا يكون حولهم شيء ولا يستطيع أحد أن يسمعهم. فنهض الدريعي وفارس وقمت معهما ، فقال الدريعي : ادع (٦) الشيخ إبراهيم ، لأن من الأنسب أن ٢ / ٥٠ يكون معنا ، إذ لا بد أن يحتاج الأمر إلى تدبيره الجيد. / فجلسنا للحديث ، فقال فارس للدريعي : قد بلغني جميع ما صدر منك في بر الشام ، وقد عملت حسنا وأصبت المراد ، وخصوصا بقتل ناصر ، فإنك خلصت إخوانك العرب من شره ، وكذلك خصومتك مع هذا الظالم ابن سعود. وقد تأكد عندي بعلم اليقين أن جميع ذلك نتيجة تدبير هؤلاء الأشخاص ، وأومأ بيده علينا. وإني أريد أن أكون معكم برأي وفعل وقلب واحد ، في كل

__________________

(١) «المذكي».

(٢) «نجادي».

(٣) «ببلاش».

(٤) «ضجرت».

(٥) «ظهرا».

(٦) «عيط».

١٢٩

ما يحصل من خير وشر ، أرجو أن تقبلوني أخا لكم على عهد الله ورأي محمد وعلي. فقال الدريعي : من جهتي قد قبلتك من كل قلبي ، ولكن حتى نرى رأي (١) الشيخ إبراهيم وعبد الله. فقال لي الشيخ إبراهيم بالإيطالي : يا ولدي أخاف أن يكون ذلك حيلة (٢) علينا لأجل خراب أشغالنا ، وخراب حبيبنا الدريعي. فقد يكون هذا الرجل من طرف الوهابي ، أو من طرف قبيلة مهنا ، أو من طرف إحدى القبائل التي عاديناها ، وهو يريد الدخول معنا حتى يفسد عملنا. فقال الدريعي : تكلم يا خطيب ، ما ذا يقول الشيخ إبراهيم ، لا تستح ، إذ يقتضي على الإنسان ، في مثل هذه الأمور ، أن يتكلم بما في قلبه. فكلمتهم بجميع ما قاله الشيخ إبراهيم. فضحكوا وقالوا : اعلم يا عبد الله أن هذا الأمر لا يحدث عند العرب ، ولم يمشوا قط على مثل هذه الخيانات (٣) ، ولا يمكن أن يمشوا عليها ، فهذا شيء لا يتصور عندنا ، بل عند العثماني ، ونحن كل أمورنا خلاف أمور العثماني وتدابيره ، فكونوا من هذا القبيل في برج الراحة. وقال الدريعي : أنا أعرف شمس بلادي ، يريد أنا أعرف أحوال أبناء جنسي ، والوقت الذي يحدث منه أقل حركة مضادة فالله أكبر عليه ، فقال فارس : ساعدوا على الخير ، يا جماعة أنا قلبي محروق من الوهابي ، ويد واحدة لا تصفق ، وما رغبتي في عشرتكم إلا خصامكم مع الوهابي. فأعطيناه كلاما وتعاهدنا معه على عهد الله ورجعنا إلى البيت وتغدينا وسررنا.

ثم بعد ذلك قال الشيخ إبراهيم : يا ولدي هذا التدبير لا يستقيم (٤) من غير رباط (٥) ، فيجب أن تعمل ورقة رباط عظيمة ، تربطهم بالشروط والعهود (٦) ، وكل من هو ١ / ٥١ معنا ، / وعلى رأينا وعملنا يضع اسمه وختمه ، ومن ليس عنده ختم [يضع] اسمه ، ويطبع في رأس الإصبع الطويلة من يده اليسرى بالحبر في الورقة ، كناية عن الختم. فقال الدريعي وفارس : هذا نعم الشور ، وقد رضينا فاعملوا الورقة. فدبرنا ذلك اليوم الورقة ، في طرحية ورق كبيرة سميكة ، وكانت بهذه الألفاظ :

__________________

(١) «حتى نشوف خاطر».

(٢) «ملعوب».

(٣) «على هكذا أمور خيانة».

(٤) «فالت».

(٥) وثيقة.

(٦) «إيمانات».

١٣٠

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين على القوم الخائنين ، ونحمد الله الذي نوّر أبصارنا ، وروّق أذهاننا ، ودبّر (١) أحوالنا ، ونشكره على ما أنعم به علينا من العلوم الإلهية والنفحات (٢) الربانية ، وهيأ لنا طريق الخير ، وجنبنا عن الشر ، وجعلنا في الدنيا نفوز بالحرية ، ونبتعد عن رق العبودية. ونشهد أن لا إله (٣) غيره ، ولا يعبد سواه القادر على كل شيء آمين. وبعد فنقول نحن المحررون اسماءنا بذيله ، قد اتحدنا جميعنا باختيارنا وإرادتنا من غير إكراه ولا إجبار ولا إلزام يحوجنا إلى ذلك رغما عنا ، بل بكل رضانا ومن كل قلوبنا ونوايانا وبكامل صحتنا أن نكون جميعنا بقلب ورأي وعمل وتدبير ورضى واحد ، وبذات واحدة في جميع ما يقوله الشيخ إبراهيم وعبد الله الخطيب من التدابير والأمور الراجعة إلى صالحنا ، ونافعة لرفع (٤) شأننا ، ونيل حريتنا ، واشهار رايتنا. أما الشروط التي قبلنا بها [وفرضناها] على أنفسنا (٥) فهي :

أولا : الابتعاد عن التعامل (٦) مع العثماني.

ثانيا : أن نكون ضد الوهابي حتى الموت.

ثالثا : عدم التكلم بأمور الديانة.

رابعا : أن نكون طائعين إلى أخينا الأكبر الدريعي ابن شعلان.

خامسا : كل واحد منا يكون ضابطا عربه من كل أمر يخالف هذه الشروط ، سواء كان ذلك من نوع الخيانة أو اشعار للعدو بما نفعل.

سادسا : أن نكون جميعنا ضد من لا يطيعنا من القبائل.

سابعا : نحمي من هو معنا وضارب ختمه في صك الوفق هذا ونعادي من عاداه.

ثامنا : كل من وضع ختمه في هذه الورقة وصدر منه أدنى حركة مخالفة لهذا الإرتباط ، فإن دمه وماله وعياله حلال ، ويكون جزاؤه الموت السريع.

تاسعا : لا نقبل رشوة (٧) ولا نسمع كلام الوشاة ضد الشيخ إبراهيم وعبد الله.

__________________

(١) «وبدير».

(٢) «والفنحات».

(٣) «الإله».

(٤) «قيام».

(٥) «ذواتنا».

(٦) «مقارشة».

(٧) «برطيل».

١٣١

٢ / ٥١ عاشرا / : قد قبلنا بهذه الشروط من كل قلوبنا ، وعلى هذا عهد الله وأمان الله ورأي الله ورأي محمد وعلي ، والخائن يخونه الله. وقد عزمنا على أنفسنا أن نموت ونحيى على هذه الأمانة ، ما دام فلك وسبح ملك والسلام تحريرا في اليوم الثاني عشر من شهر تشرين الثاني سنة ألف وثماني مئة وأحدى عشرة مسيحية غربية.

فقرأنا لهم هذا الرباط فسرّوا به جدا ، ووضعوا ختومهم حالا الدريعي وفارس الجربا.

ورحلنا ثاني يوم ، وتوجه فارس عند عربه حيث كانوا بعيدين عنا نحو خمسة أيام ، ونزلنا في أرض عظيمة واسعة جدا يقال لها الرامة. فتحسن عند الدريعي أن يجمع القبائل القريبة منه كي يدعوهم إلى وضع ختومهم بالشروط. فأول من حضر الشيخ عوض ابن جندل شيخ قبيلة عرب السّوالمة. فهذه القبيلة تحتوي على ألف وخمس مئة بيت : رجال مجربون بالحرب والقتال ، لهم صيت عظيم بين العربان ، مهابون جدا. وشيخهم رجل كامل معدود الخاطر. فقرأنا له ورقة الشروط والرباط ، فأعجبته وأعطى كلاما ثابتا ووضع ختمه بها حالا.

وحضر معه إطعيسان ابن سراج ، شيخ قبيلة عرب العلما (١) ، قبيلة تحتوي على ألف وأربع مئة بيت. وهو شاب ابن أربعين سنة ، وكان حكم العربان منذ كان ابن خمس عشرة سنة ، إذ توفي والده واستلم هو القبيلة بكل تدبير وسياسة أحسن من زمن والده. وهو فهيم جدا ، وعربه اسمهم العلما ، والصحيح أن هذا الاسم لائق بهم لأنهم فهيمين جدا بالنظر إلى غير قبائل ، عارفين بأمور الدنيا أكثر من غيرهم ، فصحاء اللسان ، شعراء (٢).

والسبب بهذه التسمية ، على ما قيل لنا ، أنه كان لهم جد يقال له عليوي ، وكان من عرب ديرة بغداد ، فحضر عنده إنسان بدوي وقال له : يا شيخ عليوي ، حرمتي (٣) فقدت من جنبي بالفراش (٤) ، ولي ثلاثة أولاد صغار يبكون. وصار لي الأن أربعة أيام أفتش عنها ولم أجد لها خبرا لا في الأرض ولا في السماء ، فجئت أشكي لك مصيبتي وأرجو منك أن تجد ١ / ٥٢ لي حرمتي ولك الأجر. / فقال له : اذهب إلى بيتك ولا تعرف امرأتك إلا مني ، فانصرف

__________________

(١) العلمة ، من عنزة (حمد الجاسر ، معجم القبائل ، ص ٥٧٤).

(٢) «شعّار».

(٣) زوجتي.

(٤) «بالفرشة».

١٣٢

الرجل (١). أما الشيخ عليوي فقد كان له ولد شقي رديء الأفعال يقال له الغضبان ، لم يره منذ أربعة أيام. فحالا شك في ابنه ، لأنه كان فهم من الرجل ، زوج الحرمة ، أنها جميلة ، ويعرف أن ابنه يحب النساء الحسان ، فتأكد عنده ذلك. فقام وركب ذلولا وأخذ يطوف بالبراري ، فرأى من بعيد نسورا خارجة من باب مغارة ، في كهف جبل ، ففكر أن النسور لا تجتمع إلا على الجثة. فقصد تلك المغارة ودخلها ، فوجد المرأة مذبوحة والطيور تأكل جسدها. فدار حولها فما وجد أي أثر ، إلا أنه وجد على باب المغارة بعر ذلول صحاح غير مفروطة ، وشرّابة خرج من شرابات خرج ذلول. فأخذ الشرابة وركب ورجع إلى بيته ، فوجد أن ابنه قد عاد إلى البيت أيضا. فسأله أين كنت؟ فقال له : كنت عند أقربائنا العرب الفلانية وكان زارهم من زمن غير بعيد. ورأى بعد ذلك الذلول (٢) الذي كان راكبه الغضبان ، وكان منوخا أي باركا أمام البيت ليستريح. فنظر الشيخ عليوي إلى الذلول فوجده أطوز من غير ذنب ، فتأكد عنده أن البعر الذي رأه على باب المغارة هو بعر هذا الذلول ، لأن كل ذلول ليس له ذنب يكون بعره صحاحا غير مفروطة. ووجد أيضا أن الخرج ينقصه شرّابة. فوضع الشرّابة التي معه فجاءت بمكانها ومن قماش رفيقاتها. فاشتد عندئذ غضبه على ابنه وقال له : يا رديء الأفعال أخبرني بحقيقة (٣) ما فعلت. فاصفر لون الغضبان وأقرّ بذنبه. فحالا قبض (٤) عليه وقتله. ثم أرسل خلف الرجل زوج الحرمة وحكى له القضية وزوجه ابنته ، وشاع هذا الخبر في كل العشاير والقبائل ، وصار للشيخ عليوي صيت عظيم على هذا الفعل والنظر الثاقب ، وصار الناس يقولون عنه أنه عالم ، ودرج هذا الاسم عليه حتى أصبح اسم عربه العلما ، وهذا كان السبب بهذه التسمية.

ثم قرأنا ورقة الشروط على الشيخ إطعيسان وأفهمناه [مضموناها] ، فرضي بتلك ٢ / ٥٢ الشروط ووضع ختمه وقال : أنا أول من أطاع وآخر من / عصي ، إنني معكم في كل أمر تريدونه الذي به خير العرب ، وضرب ختمه واسمه.

وكذلك حضر ثاني [يوم رجل] يقال له سطّام ابن معجل ، شيخ عرب عبد الله ، قبيلته تحتوي على ألف ومائتي بيت ، فقبل كذلك بالشروط ووضع اسمه وختم بإصبعه حيث

__________________

(١) «الراجل».

(٢) عبارة الصائغ متقلقلة وغير واضحة المعنى. فهو يقول : «وكان ما صار له زمان وصل بعده الذلول».

(٣) «اصدقني».

(٤) «قضب».

١٣٣

ما له ختم. وأيضا ذراك شيخ عرب الرفاشة (١) ، وضع اسمه وختم بإصبعه وهو الذي كنا ذكرناه سابقا.

ثم نزلنا في منزلة يقال لها عين الوساد بقرب نهر يقال له الشابور (٢). فكان قريب منا قبيلة من العرب يقال لها الولدة ، شيخها اسمه جندل المهيدي ، تحتوي على ألف وست مئة بيت ، رجال مجربة بالحرب والقتال. فأرسل الدريعي يدعوه (٣) عنده حتى يدخله بالرباط مثل غيره. ولكن جندلا المذكور كان بلغه جميع ما حصل في بلاد سورية من الأمور مع العربان والدريعي والوهابي ، وعارفا بورقة الشروط والرباط ، الغاية أنه كان على علم بجميع ما حدث حين وصل عنده رسول (٤) الدريعي يدعوه للحضور ، فقال له : ارجع إلى سيدك وقل له أن جندلا وعربه ما هم تحت يدك ، وكل هذه الأمور راجعة إلى خراب بيتك وزوالك (٥) من العالم ، إنك لست بقدر ابن سعود ولا تقدر على مثل هذه الأمور ، فحط عقلك في رأسك وضع هؤلاء المدبرين الذين يعملون على تدبير خرابك وخراب العرب.

فعاد الرسول وتكلم بما ذكرناه. فاغتاظ الدريعي ومن كان حاضرا ، حتى أن سحن ابنه نهض قائما وأرسل من ينبه العربان ليكونوا على استعداد للذهاب عند قبيلة الولدة وضربها ، وإحضار جندل أسيرا (٦). فقلت له : يا سحن ، كن طويل البال ، إذ يظهر من الكلام الذي بعثه مع الرسول أنه ليس كلام عدو ، بل كلام إنسان غير فاهم حقيقة الأمور ، والذي بلّغه الخبر هو من الوشاة ، وليس من الأصدقاء ، فخذ الأمور بالحلم (٧). ويجب أن نكتب لهذا الرجل كتابا نجلب خاطره ونعلمه نوعا ما عن رباطنا وأنه يرجع إلى خير طائفة ١ / ٥٣ العرب لأنه اتحاد وليس تفرقة ، ومن المعلوم أن الاتحاد قوة (٨) وخير / للطائفة. واعتمدنا على المكتوب. ثم في الليل قال لي الشيخ إبراهيم : ليست المهارة (٩) أن تكتب له مكتوبا ، ولكن

__________________

(١) «الرفاشا».

(٢) كذا ، ولعله يريد الخابور كما يظهر من سياق الحديث.

(٣) «يعزمه».

(٤) «مرسال».

(٥) «وذوالانك».

(٦) «يسير».

(٧) «بالرايق».

(٨) «مكن».

(٩) «الشطارة».

١٣٤

المهارة أن تذهب عنده وتحضره معك وتدخل في عقله أن يكون معنا ، وترفع من رأسه الوسواس والأمور غير الملائمة لنا ، قلت على رأسي.

ثم ثاني [يوم] قلت للدريعي أريد منك أن ترسل معي من يوصلنا عند جندل. فتعجب من ذلك وقال لأي سبب تذهب أنت عنده؟ إن جاء من تلقاء نفسه فأهلا وسهلا به ، وأن لم يأت فهذا السيف يحضره. فقلت له : يا سيدي ، الشيء الذي يمكن عمله باللسان فقط ، لأي شيء حتى نتعب حالنا ونسفك دماء رجالنا؟ فإن رضي وحضر معي انقضت المصلحة ، وإن لم يطاوع ، أرجع حالا وندبر له عندئذ طريقة أخرى.

وبالحال ركبت وأرسل معي اثنين من الخيالة وتوجهنا. وبعد ست ساعات من المسير وصلنا عنده. فسلمنا عليه وجلسنا ، فما عرف الدعوى وظن أننا ضيوف عابرو الطريق ، حتى تكلم رفقائي وسلموا على الحاضرين ففهم أنهم من عرب الرولا (١) تابعين الدريعي. فسأل رفقائي عني فأجبته : أنا محبك والساعي في خيرك عبد الله الخطيب. فعرف عندئذ من أنا وأني جئت لاحضاره. فقال : لو لا أنك وطأت (٢) المحل لكنت جعلت قتلك شهرة ، ولكن لا يمكن الآن ذلك إذ ليست العادة (٣) عندنا ، ثم قلت له : يا أمير ، الكلام لا يلصق بالإنسان ، أريد أن أتكلم مع محبتك كلمتين سرا في ظهرة (٤) ، يعني خلوة ، فإن رأيت أن الأمر يناسبك ويرضيك (٥) كان به الخير ، وإن لم يناسبك فإننا نعرف الدرب (٦) الذي جئنا منه.

فقام حالا وأخذ معه ابنه الكبير ، وقمت أنا ورفقائي واجتمعنا خارج البيت بالسهل ، على حسب عوائدهم ، كما ذكرنا سابقا. فقلت يا جندل ، أي شيء في الدنيا ترغب فيه أكثر : العبودية أم الحرية. قال : لا شك الحرية. قلت : تحب الوفاق أكثر أم الإنشقاق (٧)؟ قال : الوفاق. قلت : تحب العز أكثر أم الذل؟ قال : العز. قلت : تحب الفقر أكثر أم

__________________

(١) كذا ، أي الرولة.

(٢) «دعست».

(٣) «الطريقة».

(٤) «ظهرا».

(٥) «وقطع عقلك».

(٦) «دبر».

(٧) «التفخض» ، وهو لا شك يريد التفخذ. أي الإنقسام إلى أفخاذ.

١٣٥

الغنى؟ قال : الغنى. قلت : تحب القوة (١) أم الضعف؟ قال : القوة. قلت : تحب ٢ / ٥٣ الإنكسار (٢) أم النصر؟ قال : النصر. قلت : تحب الخير / أم الشر؟ قال : الخير. قلت : ما هي الأسباب التي تجلب ذلك؟ قال؟ الحرية والاتحاد. قلت : من حيث أنك تعرف ذلك كيف تقول عنا أننا جواسيس (٣) مفسدون نريد خراب العربان. فنحن مرادنا أن نخلصكم من أسر الوهابي ومن ظلم العثماني وخيانته ، ونجعلكم أحرارا أقوياء في ذواتكم ، وورقة الشروط التي سمعت بها هي لأجل اتحادكم مع بعضكم بعضا وتقويتكم بالأكثر على أعدائكم ، والخصام (٤) مع الوهابي كي نخلصكم من رق العبودية ونجعلكم أحرارا في أنفسكم. فبما أن هذا الأمر الذي نرغب فيه فكيف تبين لك أن مرادنا خرابكم؟ قال : صحيح ولكن يا عبد الله نحن لسنا بقوة ابن سعود حتى نعاديه ، هذا سلطان وجيوشه كثيرة. قلت : اعلم أولا أنه إنسان مثلك ، وثانيا أنه ظالم والله لا يحب الظالمين ولا يصلح عمل المفسدين ، ثالثا أنه غشيم لا يحسن تدبير ما يجب (٥) ، رابعا لا تظن أن النصر يحصل بكثرة العساكر ، ولكن الله يعطي النصر لمن يشاء ، وكم من جيوش قليلة كسرت جيوشا كثيرة. فالمسألة ليست بكثرة العساكر بل بالمحبة والوئام (٦) إذا كان موجودا. فإذن أرفض كامل الوسواس من بالك ، وتأكد أن قصدنا خيركم ونشاطكم ، وقيام عزكم وجاهكم ، ورفع مجدكم وراياتكم ، وإغماد سيفكم في رقاب أعدائكم ، فلا تكن من الأغنياء بل من المدركين ، وبالله نستعين على القوم الظالمين. وقمت حالا دون أن أعطيه الوقت ليرد علي ، وصافحته وصافحت ولده ، فسرّ من ذلك ودخل في عقله وقال : جميع ما قلته يا خطيب فهو حق وصدق ، فكن طيب الخاطر فكل شيء يكون وفق إرادتك.

ثم رجعنا إلى البيت وذبحوا رأس غنم وتغدينا وقضينا ذلك النهار عندهم. وما كان عملي (٧) ذلك النهار والليل إلا وعظهم (٨) ، حتى صاروا جميعهم بيدي مثل الخاتم. وثاني

__________________

(١) «التقواي».

(٢) «الكسر».

(٣) «دواسيس».

(٤) «ضشمنة».

(٥) «غشيم تدبير الواجب ما عنده».

(٦) «الوفق».

(٧) «كاري» أي صنعتي.

(٨) «أكرز عليهم» : أعظهم وأكرر النصح.

١٣٦

يوم ركبنا. وركب معنا جندل وتوجهنا عند الدريعي ، فدخلنا وسلمنا عليه. فتعجب المذكور والشيخ إبراهيم من ذلك. ثم أخرجنا له ورقة الشروط وقرأناها وأفهمناه رموزها ومعناها. وكذلك الدريعي أعلمه بجميع ما رأى منا من النصائح والتدابير الجيدة الراجعة إلى خير العرب. فانشرح من ذلك وقال : إن غاية مرادي هذا الأمر ولكني أخشى ألّا نكون كفوئين له فنفشل ونخرب ، ونكون نريد الخير فيحصل لنا الشر وتضحك منا الناس. فقلت يا جندل إن الله مع الضعيف كي يتعجب القوي ، إن الله مع منكسري القلوب ، الله جبّار (١) الخواطر ، ١ / ٥٤ / كن مع الله ، الله يكون معك. ثم قال : توكلنا على الله ووضع ختمه واسمه بالورقة وأعطى كلاما ثابتا ، ففرحت بذلك ، وصارت ضيافة عظيمة لي ولكبار الموجودين في عربنا.

__________________

(١) «جار».

١٣٧

[الدخول في الحلف]

وثاني يوم توجه وراح إلى عربه ، ونحن رحلنا ونزلنا في أرض يقال لها خشم الحواره.

وهناك كنا بالقرب من جبل سنجار وسكانه ، كما هو معلوم ، يعبدون الشيطان. وكنا أيضا قبله على نهر الساجور (١) بالقرب منا [قبيلة] يقال لها المفنفج (٢) أميرها اسمه حمود التامر. فهؤلاء مثل عرب فحل الخليل بني سعيد ، لا يرحلون مثل عرب عنزة ، بل إقامتهم دائما على نهر الساجور (٣) وحول جبل سنجار. وقبيلتهم كبيرة تضم نحو خمسة آلاف بيت ، جميعهم رجال حرب (٤) ، ينقلون التفنك أكثر من الرمح ، ويأخذ أميرهم الخوة (٥) من كامل قرى الجزيرة. وكل أهل بلاد العراق تخاف منه وتهابه جدا. فقال لي الشيخ إبراهيم : كيف السبيل يا ولدي حتى ندخله في جميعتنا؟ قلت : هذا حصتك ، واحد عليك وواحد علي. فقال : لا تتأمل مني ولو بواحد ، قم دبّر حالك معه. فتكلمت مع الدريعي وتم رأينا أننا قبل كل شيء نكتب له كتابا ظريفا ونرى ما يكون جوابه ، فنعلم طرفا من نواياه (٦). فكتبنا له مكتوبا وكان بهذه اللفظات :

__________________

(١ و٣) كذا ، والواقع أنه يريد الخابور.

(٢) في مكان آخر : المفنفخ؟ (بالخاء بدلا من الجيم).

(٤) «حرباجية».

(٥) «خواة».

(٦) «يصير معنا رموز لنيته».

١٣٨

بسم الله الرحمن الرحيم رب العالمين. من الدريعي ابن شعلان إلى حمود التامر ، بعد السلام عليكم ورحمة الله لديكم ، نعلمك يا محب ، أعلمك الله بالخيرات ، أنه ربما بلغك أحوال الظالم ابن سعود الذي يستعبد العربان ويبتز أموالهم (١) ويقتلهم بالحروب بجرائره ، لأجل عظمته وغاياته الفاسدة ، حتى خرب حرم الله الشريف ، وقطع الحج المنيف ، وكل مراده أن يكون سلطانا (٢) على العرب ، ويملكهم ويسودهم ويتمّ مقاصده بواسطتهم. فلم يزل يأخذ الجزية (٣) ، ويجعلنا في العبودية ، ويقتل من أهل السنة. فهذا الرجل لا بد أن يصل شرار ناره إليك ، كما وصلنا إلينا وإلى غيرنا. فحين شاهدنا هذه الأفعال ، وهي ضد الطبع البشري وضد إرداة المولى ثقتي ، توكلنا على باسط الأرض ورافع السماء ، وشمرنا عن ذيل الجد ، ٢ / ٥٤ وقصدنا أن نحقن (٤) دماء إخواننا العرب المؤمنين ، وإنقاذهم من يد / هذا الظالم الغشيم. فنحن الآن لذا مهتمون وإلى جوابك منتظرون ، ونرغب أن تكون لنا معينا ومعاذا ، والله أكبر (٥) على القوم المخالفين والسلام.

وسلمنا المكتوب إلى خيال خصوصي وذهب بالسلامة. وثاني يوم إذ ورد علينا المرسال من غير جواب ، وأخبرنا أن حمودا قرأ الكتاب وما أعطى جوابا ، بل قال : قم رح عند سيدك وقل له ما عندي لكم جواب. فاغتاظ الدريعي من ذلك وقال : يا عبد الله هذا الرجل لا يمكن أن يدخل معنا عن طيبة خاطر (٦) لأنه قوي الظهر ، أولا برجاله وثانيا بسكان جبل سنجار ، لأنهم جميعا يلبّون نداه. فما له عندي من دواء غير السيف ، ولذا فإني سأرسل له ورقة وأردّ عليه النقا. وثاني يوم كتب له ورقة بهذه اللفظات (٧) :

من الدريعي إلى حمود ، سبق أن أرسلنا إليك مكتوبا ولم ترد الجواب ، فبان لي من ذلك أنك تريد الخصام معنا ، فمن حيث أنك تريد ذلك فخذ حذرك (٨) ، مردود عليك النقا. وأرسله مع خيال ثان. وسلمه المرسال المكتوب ، فحين قرأه تغيرت ألوانه ، وحالا

__________________

(١) «يبلصهم».

(٢) «يتسلطن».

(٣) وهو يريد الزكاة.

(٤) «اكتفاف».

(٥) «وما ذا الله وأكبر».

(٦) «بالمليح».

(٧) الألفاظ.

(٨) «خوض حضرك».

١٣٩

أرسل من قبيلته رجلين كبيرين بالسن (١) ، أحدهما عمه وآخر غريب ، وحملهما كلاما وسارا مع خيالنا. ثم وصلا إلينا وطلبا خلوة. فاجتمعنا خارج البيت على حسب العوائد. فقالا : يا جماعة كلما ذكرتم لنا هو حق وصحيح ، ولكن حمود التامر ليس رجل حرب (٢) مثلكم. صحيح أنه من العرب ، ولكنه مستقر لا يتزعزع وأنتم لستم عنده دائما ، ويخاف من شر الوهابي على حاله ورجاله ورزقه. فقال الدريعي : حمود ، بفضل الله ، قوي بقوة الله ورجاله. وهو لا يحسب حسابا لغزو ابن السعود. فالوهابي لا يحضر بنفسه بل يجيء من طرفه غزو فقط. وأكثر ما يكون خمسة آلاف. وعلى ظني أن حمودا لا يأكل (٣) همها. وإن شاء الله أني سأقطع أخبار غزو الوهابي من هذه الديرة. فأنا وكامل من يلوذ بي من العرب معه على الخير والشر حتى الموت. ولكن إن خالف فأنا وجميع من اتّحد معي خصومه إلى الأبد. فليطلع عند عبادين الشيطان ويلوذ بهم (٤) ، ويستعين بكل الشياطين ، وأنا بعون الله ١ / ٥٥ انتصر عليه وسوف يندم على ذلك. /

فبعد كلام كثير ، من الدريعي بالتهديد ، ومنّا باللين ، قالوا : نحن ليس معنا تفويض بإعطاء جواب ، يجب أن نخبر حمودا بجميع ما ذكرتم ، وهو يفعل ما يستحسنه. وبالحال ركبوا ورجعوا عند حمود وكلموه بجميع ما سمعوه. فخاف من ذلك وحسب حسابا كبيرا للدريعي ، ثم أرسل ابن أخيه ، وهو شاب متكلم يقال له صقر ، وبصحبته عشرة خيالة ، كي يدعونا للذهاب عنده. فوصل المذكور واستقبلناه بكل إكرام ، فدعى الدريعي ومن يلوذ به وكل الكبار الموجودين في القبيلة إلى ضيافة عمه الأمير حمود التامر. فركب الدريعي وأولاده وكل الكبار والشيخ إبراهيم والفقير ، وركب معنا ثلاث مئة (٥) خيال وتوجهنا عند المذكور. فركب هو وكبار قبيلته ولاقونا من نحو نصف ساعة ، وصار لعب خيل وفرح.

ثم نزلنا عن الخيل فعملوا (٦) معنا كل معروف وإكرام وذبحوا ثلاثين رأس غنم وخمسة جمال وابتدأوا يعدون المآكل. وجلسنا نحن وسلمنا على حمود التامر ، وهو رجل ذو حسن

__________________

(١) «اختيارية».

(٢) «نزال».

(٣) «يهكل».

(٤) «يحاصر عند عبادين الشيطان».

(٥) بالأصل خمس مئة ثم أبدلها الصائغ بثلاث مئة.

(٦) «فساقو».

١٤٠