رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

العرب ليبدوا رأيهم فيه ، فكتب الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي معلقا عليه : كذب هذا النصراني ولم يصدق في شيء (١). فقبلت المجلة الأسيوية هذا الحكم الصارم ، دون فحص أو تدقيق. وبعد البحث ومقابلة النصوص اتضح لي أن المنتقد ، أي فتح الله الصايغ ، والمنتقد ، أي الشيخ الحنبلي ، كلاهما على صواب ، لم يكذب الأول ولم يخطئ الثاني ، إلا أن الترجمات حرّفت عبارات الصايغ ، وابدلت بعض معانيها ، وأدخلت فيها ما لا وجود في النص العربي الأول ، فأصدر الشيخ الحنبلي حكمه ، وهو صادق ، على كلام لم يقله الصايغ ، وعلاوة على ذلك إن الشيخ الحنبلي وكان في العقد التاسع من عمره ، وقع هو أيضا في بعض الأخطاء ، كما بيناه في الملحق المدرج في نهاية هذا الكتاب.

ومما لا شك فيه أن الصائغ ارتكب أغلاطا فادحة عديدة ، فكتب مكا بدلا من مخا ، وزعم أن قبر النبي في مكة وأن سعودا نهب هذا البلد ، فخلط بين مكة والمدينة. وهنا لك أيضا مجال للشك في صحة الكتاب الذي أرسل به عبد الله بن سعودى إلى الدريعي بن شعلان. ولكن علينا ألّا ننسى أن الرسالة موجهة إلى شيخ بدوي يجهل القراءة والكتابة ، ولعلها صيغت عمدا بأسلوب يفهمه أهل البادية. ولكني أميل إلى الظن أن الصايغ سجّل في مذكراته وصول كتاب من الإمام الوهابي إلى ابن شعلان ، ولما صنّف كتابه ، صاغ الرسالة بإنشائه العامي البدوي. ولا عجب إذا أخطأ في نسب عبد الله بن سعود ، فإن خلطه بين مكة والمدينة يكفي لإظهار قلة معرفته بالأمور العربية.

أجل إن الصايغ لم يكن حريصا على الأمانة التاريخية ، لأنه أراد فقط أن يكتب قصة رحلة ، فنمّق وزاد ، واتخذ أسلوبا روائيا ، فشوّه الحقائق أحيانا. وعلى الرغم من هذه الأخطاء ، فإن في كتابه من الفوائد الجمة ، والأوصاف الدقيقة ، والمعلومات الشيقة الهامة ما يجعله مرجعا لكل من يدرس أحوال البادية أو يبحث عن الدعوة الوهابية ، لأنه تكلم عنها مرارا ، كما تكلم عن عبد الله بن سعود وأحواله. وإني أميل إلى تصديقه عند ما يتحدث عن الدرعية ، لأن الشكوك التي أثارتها هذه الرحلة تضمحل متى عرضناها على محك النقد السليم.

__________________

(١) مجلة العرب ، ج ٣ ، ٤ ، س ١٩ ، ص ١٥٤.

٢١

أهمية مذكرات الصايغ

ولكي يكون عرضنا نزيها وشاملا ، علينا الآن أن نظهر محاسن هذا الكتاب. بعد أن نوهنا بمطاعنه. وأول ما يسترعي النظر هو وصفه الدقيق السريع لكثير من الأمكنة ، مما يدل على أنه رآها حقا. ومن ذلك كلامه عن حمّام طبيعي قرب قرية صدد ، قال : «كان مسيرنا أربع ساعات لطرف الشرق منحرف لجهة الشمال ، فوصلنا ووجدنا عمارات قديمة وكثيرا من الخراب. ثم وجدنا مخدعا بقدر غرفة كبيرة لم تزل قائمة ، عمارته على الطريقة القديمة بحجار كبيرة جدا ، تهدّم منها فقط قسم من الحائط من جهة الباب ، فسدّ نصفه. فدخلنا الغرفة ، ووجدنا طاقة من جهة الشرق طولها نحو ذراع وعرضها كذلك ، بناؤها قديم جدا ، ويخرج من تلك الطاقة بخار عظيم بكثرة».

بوسعنا أن نعطي أمثلة كثيرة من هذا النوع كوصفه صدد ، والقريتين ، وآثار تدمر ، ومغارة كبيرة قرب هذه البلدة الأثرية ، وكلامه عن الدرعية وريح السموم. ومن أهم ما جاء في هذا الكتاب هو حديثه عن البادية وتقاليدها وقبائلها ، فهو حديث الشاهد الأمين الذي يتكلم عما رآه وسمعه وعرفه بالخبرة والمشاهدة. وقد تعرض الصايغ لنواح عديدة من حياة البادية ، مثل الرحيل في وقت السلم ، والنساء في الهوادج ، وأمامهن الفرسان الخبيرون بالضرب والطعن ، والرحيل السريع في حالة الطوارئ ، فتجدّ القبيلة بالسير المداوم ، من غير نزول ولا راحة ، بل الأكل على ظهور الجمال والنوم كذلك ، والنساء تعجن وتخبز على ظهور الجمال أيضا. ويتكلم عن مكانة المرأة في المجتمع البدوي وتكريم أهل البادية لها ، وعن الطب البدوي ، والخوة والنخوة والعطفة ، بل إنه يفرد فصلا بتمامه لعادات أهل الوبر ، ويحدثنا مطولا عن مراسيم الزواج. ونعتقد أن الصفحات التي جاء فيها وصف حفلة زواج ابن الأمير برجس من أحسن ما كتبه الصايغ في مذكراته ، ويماثلها بالدقة كلامه عن العادات المتبعة عند البدو حين طلب النجدة. ويصف أيضا الحرب على ظهور الجمال ، ويتحدث عن المعارك مع الوهابيين وعن سلاح البدو يومئذ ، ونعلم أن السيف والرمح كانا من الأسلحة التي

٢٢

يكثر استعمالها في البادية ، وإن منهم من كان يلبس الخوذة وقميص الزرد ، أما الأسلحة النارية فإن الدراج عندهم البارودة ذات الفتيل.

ومن أغرب ما جاء في مذكرات الصايغ عن أعراف البادية عادة «دفن الحصى» ، ولا يكون ذلك إلا بعد الصلح التام وصفاء القلوب بين خصمين عنيدين وعدوين لدودين طال الخلاف بينهما ، وجرى عليهما من جراء ذلك الأمور العظام. وعندئذ ينسى كل منهما ما مضى ، ولا يطالب بثأر أو مال. ويعلمنا الصايغ كيف تتم عملية دفن الحصى وما هو مغزاها ، إذ شاهد ذلك عيانا بعد أن رضي الدريعي بالصلح مع مهنا الفاضل ، فوصفها ثم قال : فتعجبنا أنا والشيخ إبراهيم (لاسكاريس) من ذلك ، لأننا ما كنا رأينا هذه النكتة ولا سمعنا بها. ويظهر أن هذه العادة طاعنة بالقدم ، إذ تكلم عنها ، كما قلت أعلاه ، شهاب الدين العمري في كتابه : «التعريف بالمصطلح الشريف» (١) ، ووصفها أيضا ابن ناظر الجيش في تثقيف التعريف (٢) ، والقلقشندي في «صبح الأعشى» (٣). ولا نعلم أن أحدا من المختصين بالبادية وأحوالها أتى على ذكرها ، مما يثبت صدق رواية الصايغ. واعتقادنا أنها زالت اليوم ، غير أن ذكرها بقي محفوظا عند بدو الأردن ، فهم يقولون حفر ودفن ، و «حفار ودفان عليهما أدامة إلى يوم القيامة».

ولا يسعنا هنا أن نعدد جميع محاسن كتاب فتح الله الصايغ (٤) ، وفي قراءته أكبر برهان ، لأنه على الرغم من أخطائه التاريخية وميل مؤلفه إلى الغلو ، وثيقة حية عن بلاد الشام وباديته. وهذا الاطراء لا يعني أن صاحبه صدق في كل شيء. فقد يكون زاد في قصة لاسكاريس ونمقها ، ولكنها ليست من مبتدعاته ،

__________________

(١) شهاب الدين العمري ، التعريف بالمصطلح الشريف ، ص ١٦٥ وما بعدها ، القاهرة ، ١٣١٢.

(٢) ابن ناظر الجيش ، تثقيف التعريف ، مخطوطة الاسكوريال ، ورقة ٩٧ و٩٨. انظر أيضا مقالنا بالفرنسية : «دفن الذنوب عند العرب» مجلة تاريخ الديانات ، نيسان ـ حزيران ١٩٥٩ ، ص ٢١٥ وما بعدها ، وأيضا الموسوعة الإسلامية ، مادة «دفن».

(٣) القلقشندي ، صبح الأعشى في صناعة الانشا ، ج ١٣ ، ص ٣٥٢ وما بعدها ، دار الكتب السلطانية ، القاهرة ، ١٩١٨.

(٤) أتينا على ذكر بعض هذه المحاسن في مجلة العرب ، ج ١١ ، ١٢ ، س ٢٠ ، ١٤٠٦ / ١٩٨٦ ، ص ٧٧٥ ـ ٧٩٨.

٢٣

ونراه يتحدث عن البدو وأحوالهم بدقة ومعرفة وسعة اطلاع لا تتأتى إلا لرجل عاش معهم ردحا من الزمن.

المخطوطة

قد خلط الذين ترجموا للصائغ بين مذكراته التي نقوم بنشرها اليوم ومؤلفه الآخر الموسوم «بكتاب المقترب في حوادث الحضر والعرب». ويوجد من هذا الكتاب عدة نسخ ، الواحدة منها في باريس ، تحت رقم ١٦٨٥ عربي ، ولعلها بخط المؤلف. أما قصة رحلته فلا يوجد منها إلا نسخة واحدة في العالم ، وهي التي اشتراها لامرتين ومحفوظة أيضا في المكتبة الوطنية بباريس ، قسم المخطوطات العربية ، تحت رقم ٢٢٩٨.

وتحوي هذه المخطوطة على مئة وتسع وعشرين ورقة أي على مئتين وست وخمسين صفحة ، بقياس ١٥* ٥ ر ٢١ ، في كل منها نحو ثلاثة وعشرين سطرا. إلا أن الورقة ٢ / ١١٤ ونصف الورقة ٢ / ١١٦ والورقة ١١٧ و١١٨ و٢ / ١١٩ بقيت بيضاء. والخط غير جميل ولكنه سهل القراءة نسبيا. غير أنه شديد الرصّ ، إلا في الورقات الأخيرة من الكتاب ، واعتبارا من الورقة رقم ١١٩. وبسبب هذا الرص الشديد لم يبق في الصفحة إلا هامش ضيق جدا. ولذا عند تجليد المخطوطة ، دخل عدد من الكلمات في جلد الكتاب وكذلك بعض العبارات المضافة في الهوامش ، فصعبت بسبب ذلك قراءة المذكرات.

لغة المؤلف

إلا أن الصعوبة الكبرى متأتية من لغة المؤلف لأنه يكتب بلغة هي أقرب إلى اللهجة الحلبية منها إلى العربية الفصحى ، ومع ذلك إننا نجد في مذكراته عددا من التعابير الإسلامية والآيات القرآنية لحن فيها الصايغ ، ونراه يحاول أن يفصح ولكنه لا يراعي مبادئ الإعراب فيقع في أغلاط نحوية ولغوية لا حصر لها. وعلاوة على ذلك أنه كثيرا ما يبدل حروفا بحروف ويخلط بين المضخمة واللينة فتصبح

٢٤

الصاد سينا (عسر بدلا من عصر) والقاف كافا والزين ذالا والضاد دالا والظاء ذالا والعكس بالعكس فيكتب أستغيظ بدلا من استغيث وحضر بدلا من حذر ، وركاد بدلا من رقاد ... وكذلك يخلط بين التاء المفتوحة والتاء المربوطة ويكثر من استعمال التعابير والألفاظ التي يصعب فهمها على غير الحلبيين العريقين ، وهناك أيضا عدد من الكلمات البدوية والتركية والعجمية والفرنسية التي تحتاج أيضا إلى شرح وتعليق ، خاصة أن طبع هذا الكتاب ، مع الأمانة التامة لنص المؤلف ، وفقا لأصول النشر المرعية عادة ، يؤدي إلى نتائج غير مرضية بسبب كثرة الهوامش لا يضاح المعنى والمبنى ، فيرمي القارئ الكتاب من يده من الملل ، مع أن الموضوع شيّق جذاب.

ولذا رأينا أن من العبث الحرص على الأمانة الحرفية في عمل لا يمتاز بصبغة أدبية أو فلسفية وأن من الأولى تنقيح نص المؤلف وإعادة صياغته أحيانا ، مع مراعاة الأصل والاحتفاظ بما يمكن حفظه من التعابير وأسلوب الإنشاء ، ولكن إتماما للفائدة ، ذكرنا في الهوامش ، بين هلالين مزدوجين ، الكلمات الخاصة باللهجة الحلبية. ونحن بعملنا هذا لم نأت ببدعة جديدة ، إنما اتبعنا العادة المرعية في نشر اليوميات أو الحوليات المكتوبة باللهجات القديمة ، ونجد أمثالا على ذلك أيضا في أشهر كتب الأدب ، مثل كتاب الأغاني ، بل في كتب الحديث نفسها فكم من مرة نقرأ بعد الحديث المنقول العبارة التالية : «أو كما قال» ، ومعنى ذلك أن المحدث حفظ المعنى ولم يذكر النص بحذافيره. ومما لا شك فيه أن أهمية كتب الرحلات في موادها وليس في إنشائها. فابن بطّوطة لم يكتب رحلته ، ولكن أملاها على ابن جزيّ ولا نعلم إذا كان أملاها باللغة العامية أو الفصحى ، فهل ينقص ذلك من فضل مؤلفها. وكذلك الأمر برحلة ماركو بولو فهو أملاها أيضا ، والأقرب إلى الظن أن الحديث جرى بلهجة سكان البندقية ، إلا أن كاتب الرحلة سبكها بإحدى اللهجات الفرنسية القديمة ولو طبعت اليوم بهذه اللهجة لما تمكن من قراءتها إلا عدد قليل من الناس. ومن البديهي أن مذكرات الصايغ ليست ذخرا أدبيا أو نصا فلسفيا لنحرص عليها حرصنا على المعلقات وإن هي إلا وثيقة تاريخية وجغرافية وعمرانية هامة ، أما اللغة التي كتبت بها فثانوية بالنسبة إلى المعلومات الأساسية التي ذكرها صاحب الرحلة.

٢٥

ونحن نعلم أننا من جراء هذا التصرف بنص الكتاب قد نتعرض لنقد الذين يحرصون على الأمانة اللفظية ، مع أن تصرفنا بقي محصورا في نطاق اللغة والنحو وبذلنا ما في وسعنا لنحافظ على ألفاظ المؤلف وتعابيره بعد ردها إلى الفصحى. وجوابنا أن لو لا هذا التصرف لصعب جدا نشر هذه المخطوطة. ونحن لم نقم بهذا العمل الشاق الدقيق إلا ليصبح كتاب الصايغ سهل القراءة ، على متناول يد كل ناطق بالضاد ، ولو بقي على علاته لاستفاد منه خاصة الحلبيون وعلماء اللهجات وقد راعينا حقوق هذه الفئة من الناس ، إذ ذكرنا في الهوامش كل ما له صلة باللهجة العامية ، كما افردنا فهرسا للكلمات الفنية والأجنبية مع شرحها ، وفهارس للأعلام والأماكن والقبائل.

وعلى ذكر أسماء الأعلام لا يسعنا إلا أن نردد ما كتبناه في مقدمة «بغية المستفيد» من صعوبة ضبطها ، إذ ليس لها من قاعدة ، وقد أهمل المؤلفون المعاصرون هذه الناحية ، فنكاد لا نجد أسما مضبوطا في «معجم القبائل القديمة والحديثة» لعمر كحّالة ، أو في «عشائر الشام» لوصفي زكريّا. ولكن دقة اللغات الأوروبية لا تسمح للمؤلف أو المحقق أن يختار من الأمرين ما هو أسهل عليه ، ولا بدّ من ضبط صحيح ، إذ عليه أن يكتب جميع الحروف الصوتية والصامتة (١).

***

يقول المثل الحلبي : «أعرج حلب وصل إلى الهند». وقد حقق فتح الله الصايغ هذا القول السائر أو يكاد لأنه كان صحيح القدمين. ولكنه زاد عليه إذ ابتدأ برحلته وهو في العشرين من عمره ، ووصل إلى الهند عبر الصحراء ، بعد أن قطع بادية الشام واجتاز مفاوز العراق وإيران ، تم ذهب إلى الدرعية عاصمة الوهّابيين ، ووصف بدقة كل ما شاهده ، وأبقى لنا مذكراته التي تعد بحق من التراث القومي السوري العربي.

__________________

(٢٢) أما معجم القبائل المملكة العربية السعودية للشيخ حمد الجاسر ، فإنه مضبوط ومشكل طبق المرام ، انظر هامش رقم ١.

٢٦

وإني سعيد بتقديم هذا العمل إلى أبناء وطني الأول وإلى كل ناطق بالضاد ، وفخور بفتح الله الصايغ ابن مسقط رأسي حلب ، وشاكر للشاعر الخالد لامرتين ، الذي اشترى هذه المذكرات وحفظها وعمل على ترجمتها ، ولفرنسا التي كرمت مؤلف هذه الرحلة ، فعينته عاملا قنصليا في حلب.

وأشكر أيضا كل من أعانني على إخراج هذا الكتاب إلى حيّز الوجود ، وأخص بالذكر الشيخ حمد الجاسر صاحب مجلة العرب الغرّاء ، لأنه كان أول من استرعى انتباهي إلى هذه الرحلة ونشر ملاحظاتي على تعليق الشيخ الحنبلي ، ولا تفوتني الإشارة إلى المساعدة القيمة التي قدمها لي شيخ أدباء الأردن الأستاذ روكس بن زائد العزيزي إذ أفادني في ضبط عدد من أسماء الأعلام والقبائل. وأراني عاجزا عن شكر ابن أختي الأب الياس ناقوز إذ كان صلة وصل بيني وبين دور النشر السورية إلى أن تكللت مساعيه بالنجاح إذ وافقت دار طلاس الغنية عن التعريف ، المشهورة بجودة الطبع ودقة الاخراج ، على تولي هذا العمل فله ، ولها ، ولمديرها العام سيادة اللواء اكليل الأتاسي (١) كل أمتناني والسلام.

د. يوسف شلحد

مدير أبحاث فخري في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي

مدرس الانتروبولوجيا الثقافية في جامعة

السوربون الجديدة سابقا

__________________

(١) تم كتابة هذه السطور من قبل الدكتور يوسف شلحد قبل وفاة مدير دار طلاس اللواء إكليل الأتاسي.

تغمده الله برحمته.

٢٧

٢٨

٢٩

٣٠

نمره ١

[صفقة تجارية خاسرة](١)

ورقة ٢ / ٢ أقول ، أنا الفقير إلى الله ، فتح الله ولد أنطوان الصايغ اللاتيني ، من سكان (٢) حلب الشهباء المحروسة. فحين بلغت من العمر ثماني عشرة سنة ، أردت أن أتعاطى البيع والشراء سعيا وراء أرباح التجارة. فأخذت جانب رزق من حلب ، وتوجهت إلى جزيرة قبرص ، وابتدأت أبيع وأشتري مع تجارها ، وذلك من ابتداء سنة ١٨٠٨ إلى ابتداء سنة ١٨٠٩. فرأيت أنه من المستحسن أن أبعث إرسالية إلى ترييسته من بضائع قبرص. فهممت بذلك واستأجرت مركب القبطان تومازو جفاليتيونه. والشحنة من نبيذ كمنداري وقطن وحرير واسفنج وحنظل. وسافر المركب المذكور في ٢٨ آذار سنة ١٨٠٩ قاصدا مدينة ترييسته. فبعد سفره بقليل من الأيام ، التقى بمركب إنكليز. وبما أن الحرب كانت عندئذ على أشدها ، فإنه أخذه غنيمة وقاده إلى مالطه.

__________________

(١) جميع العناوين من المحقق ، وكذلك تقسيم الكتاب وتبوييه ، وعلى العموم كل كلمة أو عبارة وردت بين معكوفين [] هي من المحقق.

(٢) «قطّان»

إن لغة فتح الله الصايغ أقرب إلى اللهجة الحلبية العامية منها إلى العربية الفصحى ، فلكي يسهل فهم هذا الكتاب على كل قارئ عربي ، لم نحتفظ بجميع الكلمات والتعابير العامية التي استعملها المؤلف ، إذ قد يصعب إدراكها على غير الحلبيين العريقين. ولكن إتماما للفائدة ذكرنا أهمها في الهوامش. فكل كلمة أو تعبير جاء بين هلالين مزدوجين «» هو من لغة الصايغ الحلبية ، وكل ما جاء بين قوسين () ، في نص الكتاب ، هو أيضا من المؤلف.

٣١

فحين بلغني ذلك اشتد علي القهر. ثم قوّمت حساباتي فوجدت أحوالي متأخرة جدا. فاضطررت أن أغادر جزيرة قبرص ، فتوجهت إلى بلدي حلب.

وبعد دخولي إلى بلدي بقليل من الأيام ، دعيت عند بعض الأحباب الإفرنج إلى العشاء ، وكان هناك عدد من المدعوين غيري ، ومن جملتهم واحد يعتبرونه جدا مع أنه زري الهيئة. فبعد العشاء صار بسط وانشراح ، وحديث لأجل تمضية السهرة. وكان هذا الرجل الغريب الزي دائما جالسا إلى جانبي ، ويحبّ أن يسمع حديثي. فسألت بعض الحاضرين من هو هذا الرجل فأجابوني أنه من أكابر بلاد الإفرنج ، يقال له الخواجة تيودور لاسكاريس دي فنتيميل ، من عظماء أشراف مالطة سابقا (١). فبعد أن سمعت ذلك ازداد إعتباري له جدا ، وأثناء الحديث ، أعلمته أني أحب الموسيقى وأضرب على آلات الطرب. فثاني يوم للقائنا حضر إلى بيتي ومعه كمنجة قدمها لي هدية وقال لي : يا حبيبي ، إنك عزيز علي ، وأود أن أعاملك مثل ولدي. وبما أنك تحب الموسيقى جئت بهذه الكمنجة ، وأرجو أن ١ / ٣ تقبلها مني. / فقبلتها منه وصار عندي عزيزا جدا لأنه وهبني شيئا يسرني.

وثاني يوم أتى إلى عندي ، واستمر على هذه الحالة عدة أيام ، وكان دائما حديثه معي بحكايات وأمور غريبة ، حتى فهم عقلي وأطباعي جيدا. ثم بعد ذلك قال لي يا ولدي أريد منك أن تعلمني اللسان العربي (٢) ، قراءة وكتابة وحديثا ، وأنا أعطيك كل شهر مئة غرش ، تعلمني ساعة فقط ، فأخذني العجب من ذلك ، وقلت في نفسي أنا لا أستحق هذه الأجرة ، ولا جرت العادة ، في بلادنا أن تعطى مثل هذه الإجرة للمعلم. فابتدأت أعلمه ساعة كل يوم ، على حسب الشرط الذي صار بيننا ، وأقمنا على هذه الحالة ستة أشهر.

ثم بعد هذه المدة كان تعلم نوعا ما ، وصار يتكلم ويقرأ ويكتب قليلا ، فقال لي : يا ولدي الحبيب أنت دائما عينك بالمتجر ، وتحب البيع والشراء وأرباح التجارة ، فقم بنا نتسوق بعض البضائع التي تنفق في نواحي بلاد حماة وحمص وضيعهما. ولكن يا حبيبي ، أريد منك أن تعاهدني بالله أنك تمشي معي بموجب ما أقول لك ، ولا تخالفني.

فكان جوابي : الذي تريده أنا أعمل به. فقال : أريد منك عدم البحث والتفتيش عن جميع

__________________

(١) في السطور الأخيرة من هذه الصفحة من المخطوطة بياض ، سقطت بسببه عدة كلمات. إنما المعنى واضح.

(٢) «لسان العرابي».

٣٢

ما أقول وأفعل ، أريد منك أيضا طاعة عمياء ، مهما قلت لك تفعله من غير مراجعة ولا سؤال عن سبب فعل ذلك ، ولو ظهر لك أن ذلك خلاف لما يجب أو يقتضي عمله ، عليك أن تفعله وتبقى ساكنا وسوف ترى ثمرة قولي. فكنت تارة أضحك في قلبي ، وتارة أراجع حالي وأقول في نفسي لا بد من أمر كبير للغاية.

ثم ابتدأنا نتسوق. فقلت له يا سيدي ما ذا تريد أن نشتري من البضائع. فقال : كندكي (١) أحمر ، أعني خام مصبوغ أحمر يؤتى به لحلب من تفليس (٢) ، أحد بلاد الكرج ، وكذلك مسابح كهربا ، ماسات مربوطات ، ومرجان ، وخرز ملون الأشكال ، وأساور زجاج (٣) ، ومناديل خمريات يسمونها في حلب كساجور ، وإبر ، ودبابيس ، ومرايا صغيرة ، وبخور البان ، وميعة (٤) ورق ، وشملات سود قزّ وحرير ، وقمصان قز حمر مطبوعات ٢ / ٣ بأسود ، وأمشاط خشب ، ولجم خيل ، وفلفل وقرنفل ، / وسكر نبات ، ومسابح عرق لؤلؤ ، وكمّون. فبلغ ثمن جميع ذلك أحد عشر ألف غرش. فوضعنا في الصناديق ما يمكن وضعه ، وما يمكن ربطه حزمناه حزما (٥) ودبرنا كل أمورنا وأنهينا جميع أشغالنا من حلب. وكان كل من يرى ذلك يضحك مننا ويقول : عمرنا لم نر مثل هؤلاء التجار ، وا أسفاه (٦) على هذه الغروش التي صرفتوها. وخصوصا أن الخواجه لاسكاريس ، لأجل تدبير مآربه وتمشية أشغاله ووصوله إلى مرامه ، كان يظهر حاله نوعا ما خفيف العقل ، وكان دائما بهيئة (٧) زرية ، يرخي لحيته ، ويلبس مشلحا أسود ، وبرجله صرماية (٨) حمراء ، وبرأسه لفة وسخة ، إذا تكلم معه أحد يعمل كأنه لم يسمع ، يأكل بالسوق ويقوم بحركات تحوج الناس أن تقول عنه أنه مجنون ويضحكون منه. وأما أنا فما كنت قط أضحك منه ، لأنه كان حين يدخل الغرفة ويغلق بابها وأنا معه ، ينتقل إلى درجة فيلسوف عظيم ، ويبدأ يضحك من الناس الذين ضحكوا منه واستهزؤا به ، ويقول لي : ما ذا يقولون عني يا ولدي؟ فأقول : يقولون عنك أنك

__________________

(١) كلمة من الفارسية.

(٢) تفليس ، بفتح التاء وتكسر (ياقوت ، معجم البلدان).

(٣) «قذاذ».

(٤) بخّور.

(٥) «عملنا فردات».

(٦) «يا حيف».

(٧) «كسم».

(٨) حذاء يلبسه خاصة البدو والفلاحون.

٣٣

مجنون عديم العقل كليا. فيقول : وأنت ما ذا تقول عني يا حبيبي؟ فأقول له : إنك معلم جليل وأعظم الفلاسفة الموجودين بعصرنا هذا. فيضحك ويقول إنك لم تر بعد شيئا مني ، ولكن سوف ترى أفعال أبيك الروحي لاسكاريس. ولكن لا تسألني عن شيء أبدا إنما انظر بعينيك ما سيقع مني شيئا فشيئا.

ثم بعد ذلك جميعه شددنا الأحمال ودبرنا كل أمورنا لأجل السفر. وقبل سفرنا بيومين جاء بزئبق ووضع معه أجزاوات هو يعرفها ، وجعل الزئبق مثل الدهن ، وملأ منه علبة. فقلت له يا سيدي ووالدي : لما ذا يصلح هذا؟ قال : ألم أقل لك مهما رأيت لا تسأل عنه. قلت : نعم ، ولكني أظن أن هذا السؤال لا يضرك الجواب عليه. قال : إنه لأجل القمل كي لا يقرب منا ، تدهن خيطا منه وتضعه في رقبتك فلا يجيء القمل نحوك. فقلت له : يا سيدي ١ / ٤ هل تظن أن قمل أهالي حماة وحمص يسعى على الأرض؟ فضحك وقال : إن الشرط الأول / الذي شرطه عليك ألّا تبحث عما أفعل بل تنظر بعينيك فقط.

ثم ثاني يوم من بعد هذا الحديث قال لي : يا ولدي كنت مزمعا على السفر عاجلا ، ولكني رأيت من المستحسن أن أبقى في حلب ثلاثين نهارا ، من غير عمل شيء كليا ، بل إن هذه الأيام الثلاثين جعلتها لك ، تمضيها بالبسط (١) والغناء واللعب والسهرات ، والانشراح مع النساء ، وجميع أنواع اللهو (٢) ، واصرف مهما أردت ، فإن هذا الصندوق المملؤ دراهم كله لك ، لا تتوقف عن شيء كليا. فأخذت أقول في نفسي : يا صبي ، الله والعالم ، هذا كلام من يريد أن تودع الدنيا ، وكأن منتهى حياتي سيكون على يده ، وعند ذلك رميت كل هم وغم وكرب عن بالي ، وابتدأت بالبسط والسهرات والبساتين والمآكل اللذيذة والفرح ، وعملت كل ما يلذني ويسر خاطري. وأقمت ثلاثين نهارا على هذا الحال ، وهو كل يوم يحضر إلى عندي ويقول لي : كن مسرورا ولا تتوقف من شيء. فما زلت على هذا الحال حتى مضت الأيام الموعودة. فقال لي : يا عزيزي قد انتهت الثلاثون يوما ، فهلمّ بنا نسافر ونربح المكاسب.

فقلت في بالي : ليس عليك علامات الذين مرادهم أن يكسبوا ، ولكني سأكون طويل البال وإن شاء الله سوف أعرف مرادك.

__________________

(١) «بالكيفيات».

(٢) «المكيفيات».

٣٤

ثم بعد ذلك وجدنا قافلة متجهة إلى حماة ، فأكترينا منها وأعطيناها الأحمال وودعنا الأهل والمحبين والإخوان وسافرنا على بركة الرحمن.

٣٥

[الابتداء بالرحيل]

وكان خروجنا من حلب في ١٨ شباط سنة ١٨١٠ ، نهار الخميس صباحا. وكان مسيرنا اثنتي عشرة ساعة إلى قصبة (١) يقال لها سرمين ، فدخلنا إلى القصبة المذكورة وقضينا الليل فيها. وثاني يوم سافرنا باكرا إلى بلد يقال لها معرّة النّعمان ، في الطريق ما بين حلب وحماة. وهذه البلدة تبعث على الإنشراح ، جيدة الماء ، طيبة الهواء. فقال لي الخواجه لاسكاريس : أجد لنا مكانا ننزل به ، لإن القافلة ستبقى يومين في المعرة. فرحت إلى خان ٢ / ٤ وأخذت غرفة (٢) ليومين. ففي هذه البلد يقوم سوق (٣) كل يوم أحد / ويأتي أناس من كل القرى والضيع للبيع والشراء ويكون ذلك النهار فرجة [للحاضرين]. فقمنا يوم الأحد الذي هو ثاني يوم وصولنا ، وذهبنا إلى السوق لنتفرج. وبينما نحن دائرون التفت فما وجدت الخواجه لاسكاريس ، فصرت أدور عليه بين الناس ، وبعد حصة وجدته جالسا عند حائط وإلى جانبه بدوي قذر ، زري المنظر ، وهو يتحدث معه. فقلت له : ما ذا تتكلم مع هذا البدوي الوسخ ، وأنت تكاد أن تعرف لسانه ، وكيف تفهم منه ، وما ذا يلذك من حديث رجل مثله. فقال : إن هذا النهار سعيد عندي إذ صار لي أن أتكلم مع واحد من البدو. فقلت في بالي صدق من قال عنك أنك سخيف العقل.

__________________

(١) القصبة : البلدة الكبيرة.

(٢) «أوضه».

(٣) «بازار».

٣٦

ثم قام الخواجه لاسكاريس ، واشترى خبزا وجبنا وأعطاهما للبدوي ، وسأله عن اسمه ، فقال البدوي اسمي هلال ، ثم انصرف. ومضى ذلك النهار ، وثاني يوم. سافرنا من المعرة إلى خان شيخون ، وكان مسيرنا مدة ست ساعات فقط. ثم في اليوم التالي سافرنا من شيخون إلى حماة ، ولكن كان برد وهواء عاصف ورعد وأحوال كئيبة جدا ، فوصلنا إلى حماة وقت المغرب ، وكان مسيرنا تسع ساعات. فدخلنا البلد ونحن لا نعرف أحدا ولا أحد يعرفنا ، فنمنا تلك الليلة في حي (١) يقال له الحاضر. ثم ثاني يوم قال لي : قم وابحث لنا عن غرفة (٢) ننزل بها ونضع فيها رزقنا. فذهبت وأخذت غرفة في قيصرية يقال قيصرية أسعد باشا ، ونقلت الرزق من عند المكاري وأعطيته الكراء ، وجهزت الغرفة بكل اللوازم ، وظننت أني ثاني يوم سأفتح الرزق وآخذ بالبيع والشراء ، على حسب عوايد الناس. وفي تلك الليلة قلت له : يا سيدي ، غدا إن شاء الله سنفتح هذا الرزق ونبتدئ بالبيع. فضحك وقال : يا ابني ، كل ما في رأسك هو التجارة ، ولو كنت تعرف غيرها من المهن لعلمت أن منها التي تفوقها بالأرباح. ولكن لا عتب عليك لأنك لم تر في حياتك إلا المتجر. وأنا عندي أرذل كل ١ / ٥ الصناعات التجارة. فقلت في عقلي : ولكن ما ذا سنصنع بهذا الرزق / الذي معنا؟ هل سنرميه (٣)؟

ثم أقمنا في حماة نحو عشرين يوما. ولا حاجة للشرح عنها ، لأنها بلد مشهورة ومعروفة من كل الناس. وإنما نتكلم عما حصل لنا فيها. فبعد دخولنا بأربعة أيام توجه الخواجه لاسكاريس وحده ، من غير أن يعطيني خبرا أو يقول لي أني ذاهب أتنزه بالبلد. فوصل إلى القلعة ، لأن لها قلعة قديمة متهدمة ، ما بها شيء عمار كليا غير جبلها فقط ، فصعد إلى القلعة ليراها. وبينما هو يدور بها وجد بعض الأوباش (٤) الذين يصعدون إلى القلعة ليلعبوا بالقمار ، في مخادعها المتخربة ، كي لا يراهم أحد ويخبر الحاكم ، لأن هذا شيء ممنوع من الحاكم. فالخواجه المذكور حين طلع ، ابتدأ يقيس بخطواته القلعة عرضا وطولا. وكان فيها بعض الأوباش يلعبون بالقمار ، فرأوا أنه غريب الزي ، وأنه يقيس القلعة. فهجموا عليه وأمسكوا به وقالو له : أنت رجل غريب تقيس القلعة ، وتريد أن تخرج منها كنزا ، فإن أرضيتنا تركنا

__________________

(١) «صايح».

(٢) «أوضه».

(٣) «بدنا نكبّ هل الرزق».

(٤) «أناس معترين».

٣٧

سبيلك ، وإلا أعلمنا بك الحاكم. فبعد جدال طويل هرب منهم ، وعاد إلى غرفتنا ، وأخبرني بما جرى.

وبعد قليل من الوقت إذ حضر أربعة تفنكجيّة (١) من طرف المتسلم ، فدخلوا القيصرية ، ووقف اثنان منهم على بابها ، وأخذ الاثنان الآخران بتفتيش غرفها الواحدة بعد الأخرى ، ومعهما الذي راح واشتكى ، إلى أن دخلا غرفتنا. فقال المشتكي : هذا هو الرجل فأمسكوه. فقبضا عليه وعليّ أيضا ، وقفلا باب الغرفة ، وأخذا مفتاحها وذهبا بنا عند الحاكم. وكان حاكم حماة في تلك الأيام رديئا ظالما يقال له سليم بك من بيت العظم. فحين دخولنا واجهنا سعادته ووقفنا أمامه. فقال : من أين أنتم يا جماعة؟ فقلت يا سيدي أنا من حلب ، وهذا الرجل من جزيرة قبرص. فقال ما هو سبب مجيئكم إلى هذه البلد؟ فقلت يا سيدي نحن جماعة تجار ، ومعنا رزق ونقصد باب الله. فقال كذبت يا ولد ، أنتم جواسيس (٢) ، ٢ / ٥ واليوم كان رفيقك بالقلعة يقيسها ويريد إما إخراج كنز وإما أن يأتي بالكفار / ليملكوا البلد ، خذوهم وأودعوهم في السجن (٣). فحالا أخذونا ووضعونا بالسجن المظلم ، ووضعوا الزنجير (٤) بأرجلنا ، وأغلقوا علينا الباب وذهبوا. فابتدأ الخواجه لاسكاريس يضحك ويقول هل أنت مغتاظ (٥) يا ولدي مما حصل لنا؟ فقلت لا ، ما في أحسن من ذلك ، ولكن يا حبيبي لو كنت قلت لي أنك تريد أن تزور القلعة ، كنت ذهبت معك ودبرت المادة وما تركتها تصل إلى هذا الحد. فقال : وكذلك سيصير لها تدبير إن شاء الله.

فبتنا تلك الليلة بالحبس. وعند المساء ، صحت (٦) على السجان وأعطيته خمسة غروش ، وطلبت منه أن يحضر لنا شيئا نأكله ، ويشعل لنا ضوءا. فجاء العشاء وعلق لنا قنديلا. فقضينا تلك الليلة من غير نوم وأكل جسدنا البراغيث (٧) والقمل ، إلى أن أصبح الصباح وأتى الحاكم وكل أهل السرايا. فدعوت السجان وقلت له : يا محبنا ألا يوجد بين

__________________

(١) تفنكجي (من التركية) : رجل سلاحه التفنكة أي البندقية.

(٢) «دواسيس».

(٣) «حبس».

(٤) «الجنزير».

(٥) «محصور».

(٦) «عيطت».

(٧) «البراغيد».

٣٨

الكتّاب النصارى من يقدر أن يسعى في خلاصنا؟ قال نعم ، هنا شخص يدعى سليم اليازجي ، غيّور ، خدوم ، يحب عمل الخير ، وكنت سمعت به سابقا. فذهب ودعاه فأتى إلى باب الحبس. فسلمنا عليه وحكينا له القضية. فقال كونوا مطمئنين ، لا يحدث إلا الخير. وحالا دخل عند البك وحكى معه. فمن بعد تعب شديد أنهى القضية وصفا خاطر الحاكم. فرجع عندنا وأفهمنا أن المسألة تحتاج إلى برطيل (١) إلى جناب البك. فأعطاه الخواجه لاسكاريس ساعة تقدر بنحو مئتي غرش ، وخاتما من الياقوت الأحمر قيمته نحو مئة غرش ، وخمسين غرشا إلى التفنكجي والسجان (٢). وفي الحال أمر البك بإطلاقنا من السجن. فخرجنا وذهبنا عنده ، وأخذنا الإذن منه وتوجهنا إلى غرفتنا.

وأقمنا بعد ذلك في حماة نحو عشرين يوما ، كل يوم كنا نتنزه وندور في أرجائها ، وحقا إنها بلدة النزه ، تشرح النفس ، كثيرة المياه ، فيها بساتين ونواعير ، والعاصي يمر في وسطها ، أهلها فصحاء ، مهرة (٣) ، شعراء (٤) ، وأرباب فن وأصحاب ذوق ، بلد من بلاد برّ الشام المشهورة بالجمال.

ثم بعد ذلك كنا تعرفنا ببعض الناس / ولا سيما بالخواجه سليم اليازجي الذي كان خلصنا من يد الحاكم. فطلبنا من بعض الأحباب كتاب توصية لأحد سكان حمص يكون فقير الحال ولا يخطر على بال أحد ، فأعطونا مكتوبا إلى رجل مسكين يصنع المشالح السود. وكان المكتوب بهذه اللفظات : حضرة أخينا ، إن حاملين هذه الأحرف المعلم إبراهيم القبرصي (٥) والمعلم فتح الله الحلبي من الحضّارين (يعنى الذي معه بضاعة تصلح للفلاحين وأهل الوبر) ، ومرادهما أن يطلعا ببضاعتهما [إلى البادية](٦) لبيعها. فنرجو أن يكون نظركم عليهما في جميع ما تستطيعون عليه من المساعدة ، وإنهما لا يضيعان اتعابكم والسلام. والغاية من هذا الكتاب أن نكون على صلة بشخص نستطيع أن نستشيره ونرجع إليه في أمورنا.

__________________

(١) «بخشيش».

(٢) «الحبّاس».

(٣) «بهّار».

(٤) «شعّار».

(٥) «القبرصلي».

(٦) زيادة من المحقق.

٣٩

ثم سافرنا من حماة مع قافلة حمص ، والطريق من حماة إلى حمص اثنتا عشرة ساعة.

فبعد خروجنا من حماة بست ساعات وصلنا إلى نصف الدرب ، إلى بلد قديمة يقال لها الرّستن (١) ، وهي الآن خراب ولم يبق منها إلا شيء قليل ، ولكن بها عمارات قديمة ظاهرة إلى الآن ، وهي مثل قلعة على عاصي حماة ، وأمامها جسر. وفي السابق على ما جاء في التاريخ ، كانت بلدا عظيمة منيعة حتى في زمن الفتح الإسلامي. ويخبر سلفنا الأب (٢) مارينس الذي أرّخ في مجلدين ما جرى أيام الفتح ، في خلافة عمر الخليفة الثاني بعد محمد ، مع الروم على زمن الملك أورليانوس الذي كان يومئذ بالقسطنطينية ، إن جيش (٣) الإسلام عجز عن أخذ الرّستن ، فعمل خالد بن الوليد ، قائد الجيش الإسلامي يومئذ وصاحب القبر المشهور بحمص ، حيلة ليضع يده على البلد. وذلك أنه أتى بأربعين صندوقا كبيرا وأدخل في كل واحد منها رجلا مسلحا وأغلق (٤) الصناديق ، ولكن بنوع أنه يمكن لمن بداخلها أن يفتحها. ثم تقدم بكل جيشه إلى الرستن ، وبعث رسولا إلى حاكم البلد يقول له : يا محبنا ، لا حاجة لي بالرستن ولا أريد أخذها ، وأنت صاحبي وصديقي ، ومهما تطلب مني فعلى الرأس ثم العين. والآن أنا متوجه إلى حلب لحصارها وإني سافتحها بعون الله ، إنما معي أحمال وعفش وصناديق كثيرة ٢ / ٦ تتعبني جدا / فأرجو منك ، يا محب ، أن تضع لي عندك بعض الصناديق التي لا أحتاج إليها الآن ، ومتى رجعت من حلب أستردها وأشكر فضلك. ففرح الحاكم من ذلك وقال في نفسه [إنه من المستحسن تلبية هذا الطلب] أولا لأني أكسب صداقة هذا القائد ، وثانيا أصرفه عني. أما الأمير خالد فإنه أمر رجاله الذين داخل الصناديق أن يفتحوها حالا متى سمعوا دق النواقيس ، إذ تكون جموع النصارى وقتئذ في الكنيسة ، ويهجموا على باب البلد ويفتحوه ، ويكون هو مع عساكره واقفا أمام الباب ، فيدخل ويملك البلد ، إن شاء الله. فأدخل الحاكم الصناديق ، وفي اليوم الثاني ، بينما كانت الناس بالصلاة ، خرج الأربعون رجلا وركضوا وفتحوا الباب ، ودخل عسكر الإسلام ، وملك خالد البلد ، وقتل الحاكم وجملة من الناس ، ورتب

__________________

(١) الرّستن : «بليدة قديمة كانت على نهر الميماس ، وهذا النهر هو اليوم المعروف بالعاصي ... والرستن بين حماة وحمص في نصف الطريق ، بها آثار باقية إلى الآن تدل على جلالتها وهي خراب ... وهي في علو يشرف على العاصي». (ياقوت ، معجم البلدان).

(٢) «لابي» أي Iabbe.

(٣) «أرضي» ، ويكرر الصائغ هذه الكلمة في أماكن عديدة من مذكراته ، ويريد بها الجيش.

(٤) «سكّر».

٤٠