رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

كان مضى فصل الصيف (١) واقشعرّ وجه البرية. فكتبت ذلك النهار مكتوبا إلى والدتي ، وحدثتها بكل ما استطعته من أنواع التسلية والأخذ بالخاطر والاطمئنان علي ، ووعدتها أني عما قريب سأحضر عندها إن شاء الله.

__________________

(١) صيف سنة ١٨١٢ ، على ما يظهر من سياق الحديث.

٢٠١

[عبد الله بين الحياة والموت]

ثم حزمنا رزقنا وأخذنا حوائجنا وودعنا الأحباب وركبنا من حماة ، إلا أني خلافا لعادتي ، كنت مغلق القلب ومغموما كأني ذاهب إلى الموت. وكان الدريعي بعيدا عنا نحن عشرين ساعة. فبعد أن مشينا النهار كله قال العرب أنه من الأنسب أن نسري ليلا كي نصل غدا صباحا عندهم ، خوفا من أن يرحلوا ويبعدوا عنا. فبقينا جادين بالسير إلى قرب نصف الليل. وكان أمامنا دائما اثنان من خيالتنا يسبقاننا قليلا ، احتراسا من أحد الأعداء لأن الدنيا مظلمة ، والمثل عند العرب يقول : «الليل ما له صاحب». وأثناء تلك الغضون رجع الخيالة الذين هم أمامنا وقالوا افتحوا عيونكم جيدا لأن أمامنا واديا ملعونا يقال له وادي ٢ / ٨٤ الهيل مقدار مسيره ربع ساعة ، / طريق ضيق ، فوقك جبل وتحتك واد لم ينزله أحد ولا يمكن لأحد أن يعرف قراره ، والطريق عرضه نصف ذراع (١) فقط ، فكونوا يقظين لأنه إذا وقع أحد فليس له خلاص. فصرنا ننبه بعضا وابتدأت أفرك عيوني من النوم لأني كنت نعسان جدا. ثم دخلنا طريق الوادي والليل شديد الظلام ليس فيه ضوء قمر. وبينما نحن في نصف الطريق المعلوم إذ عثرت (٢) بي فرسي ، فأخذت رأسها باللجام نترا قويا من شدة خوفي ، فرفعت يديها

__________________

(١) لا يمكن لدابة أن تمر في طريق عرضه نصف ذراع ، لا سيما وأن الجمال موقرة بالبضائع والسلع. ولا شك عندنا أن الصائغ يحب المبالغة فيجمح به الخيال ، ونراه عرضة لشتى الأهوال. أما الشيخ إبراهيم فوقع مرة واحدة من على ظهر الجمل.

(٢) «تعست».

٢٠٢

الاثنتين وأنزلتهما فوقعتا على الخلاء ، فما علمت إلا أني رأيت نفسي أهوي بالوادي أنا والفرس ثم ما عدت أدرك ما ذا جرى (١). وقد أخبرني الشيخ إبراهيم أني لم أزل أهوي وأنا أسقط ، تارة أنا فوق الفرس وتارة الفرس فوقي (٢). وقامت الصيحة وابتدأ الشيخ إبراهيم يضرب على نفسه وينتف لحيته ويستغيث بالعرب أن ينزلوا ويطلعوني. فقالوا له : يا سيدي إنزع من عقلك هذا الفكر ، لأن هذا الوادي لم ينزله ولم يطلع منه أحد ، وقد أصبح الآن مئة قطعة (٣) هو والفرس ، فكيف تأمل أن يكون إنسان وقع في واد مثل هذا الوادي هو والفرس؟ فصار يبكي ويستجير بهم فقالوا له : يا شيخ إبراهيم إن عبد الله غال علينا ، ولكن نحن على ثقة أنه مات وشبع موتا ، فما هي فائدة من نزولنا نحن في هذا الليل المظلم إلى واد شنيع مثل هذا من غير نفع؟ لقد مات الرجل وأصبح مئة قطعة. قال : أنا راض أن تأتوا به مئة قطعة حتى أعود به وأقبره في حماة ولا أتركه لتأكله الوحوش في هذا الوادي العميق.

فبعد جهد كثير برطلهم بمئتي ربعية حتى يطلعوني. فنزل اثنان منهم وكان لاح الفجر فوجداني معلقا بزناري بغصن شجرة ، ورأسي إلى تحت ورجلاي فوق ، قبل أن أصل إلى قاع الوادي بشيء قليل. / وأما الفرس فوجداها في قاع الوادي مفزورة وميتة. فأخذا عدة الفرس وحملاني على أياديهما ، تارة يستريحان وتارة يحملان إلى أن وصلا إلى فوق. فرمى الشيخ إبراهيم نفسه فوقي وصار يبكي ويلطم على جسده (٤). فكان في رأسي جروح في عشر مطارح ، منها بالغة ومنها [سطحية] سلخ الجلد وبان العظم ، وكذلك جميع أضلاعي تغرست وانكسر بعضها ، زندي اليمين مجرد جميعه من اللحم ولم يبق إلا العظم ، كذلك يداي مسلختان ورقبتي مجروحة وجسدي مهبّر وباطن ساقيي مسلخ ومهبّر وفي ظهري وفي بطني وجميع جسدي جروحات لا تعد ومواضع عديدة مسلوخة (٥) ، من أخمص قدميّ إلى رأسي جسمي ملآن شوكا مثل الإبر ، النتيجة حال لا توصف لا أحتاج إلا إلى الدفن

__________________

(١) هذه المرة السادسة التي يشرف بها الصائغ على الموت خلال رحلته.

(٢) يعلمنا الصائغ قبل هذا الكلام أن الليل كان شديد الظلام فكيف رآه الشيخ إبراهيم يهوي إلى قعر الوادي؟.

(٣) «شقفة».

(٤) «يقتل حاله».

(٥) «سلوخات».

٢٠٣

بالأرض. وكان الشيخ إبراهيم على معرفة بأمور الطب (١) ومعنا كل ما نحتاج إليه فيما يتعلق بالطب والأدوية ، فحالا أخرج من صندوق الاسعاف (٢) أرواحا ووضع منها في مناخيري ، فظهر له بعض إشارات تدل على أن فيّ روحا ، غير أن حواسي الخمسة كانت معدومة وعيني جامدة في وجهي ، ومن كثرة الأدمية على جسدي لا يبان مكان الجرح من المكان السليم. فتأمل الشيخ إبراهيم وفرح وأعد العرب لي مكانا على ظهر الجمل وارتدوا إلى حماة. ولم يزلوا سائرين إلى قرب نصف النهار ، فازداد الورم فيّ وأصبح رأسي بحجم الطبل وتغيرت أحوالي إلى أسوأ. فخاف الشيخ إبراهيم أن أموت قبل الوصول إلى حماة ، فاستشار العرب فقالوا له : حماة ما زالت بعيدة ومن الأنسب أن نأخذه إلى زين العابدين وهي قرية تابعة لحماة ، تبعد عن حماة بالنسبة إلينا أربع ساعات ، فاعتمدوا على هذا الرأي ودخلوا بي القرية المذكورة إلى بيت الشيخ ، وهو شيخ جليل يقال له الشيخ درويش وكان بيننا معرفة سابقة. فحالا وضعني الشيخ على فراش في محل نظيف وأرسل رسولا إلى حماة لإحضار الشيخ خليل وهو جرّاح (٣) مشهور ، وجلس الشيخ إبراهيم جنب رأسي مع القطرات (٤) والأدوية يعالجني. ٢ / ٨٥ إلا أني إلى ذلك الوقت ما كنت أعي كليا على أمور الدنيا. فعلى قول الشيخ إبراهيم / إني أقمت تسع ساعات ميتا ، لا أعي على شيء قطعا ، وليس بي حاسية بالكلية. فمن كثرة الأرواح والقطرات فتحت عيني وصرت أنظر إلى الناس الذين أمامي ، وأنا في فراشي داخل غرفة (٥) ، ولكن كمثل منام ، ليس لي عقل يعي أين أنا موجود أو يعلم ما ذا جرى لي ، إذ كنت كالطفل الذي لا يدرك شيئا. وكان الشيخ إبراهيم يكلمني. وأما أنا فما كنت أرد عليه إذ كنت لا أسمع ولا أستطيع أن أتكلم أو أتحرك : قطعة حجر بالفراش. بل أني ما كنت أحس كليا بوجع ، مرتاحا بذاتي من غير إدراك.

فأقمت على هذه الحالة أربعا وعشرين ساعة ، إلى مثل الوقت الذي وقعت به ، فرجع إلي شيء قليل من عقلي وصرت أفكر ما الذي أتى بي إلى هذا المكان ، إذ كنت ذاهبا مع العرب فكيف أصبحت في هذا المحل ، فهل أنا في يقظة أم منام. ثم حضر الشيخ خليل الجراح وأخذ حالا بمسح الجروح ووضع المراهم. فحسست بالوجع في تلك الساعة

__________________

(١) «الحكمة».

(٢) «الحكمة».

(٣) «جرايحي».

(٤) «الاستقتاراة».

(٥) «أوضه».

٢٠٤

ووعيت على نفسي وفهمت القضية. فصار المسكين الشيخ إبراهيم يبكي ويسألني عن حالي ويقبل يدي ، فجعلته مطمئن البال عني ففرح فرحا شديدا وشكر الله وقبل الأرض ، وقال للشيخ خليل الجراح : إعمل جهدك وإذا استطعت أن تشفيه أعطيك مهما طلبت. فرغب الجراح وابتدأ يعالجني بكل مهارة (١). وأما العرب الذين كانوا معنا فإن الشيخ إبراهيم كان أذن لهم بالإنصراف كي يذهبوا عند الدريعي ويخبروه بما جرى. فحين وصلوا أخبروه بما جرى وكيف أطلعوني وبأي حال وأني الآن موجود في زين العابدين. فطار عقله من هذا الخبر الشنيع وركب حالا على خيل وحضر عندنا. فرأى الحال الذي أنا به وقطع أمله من الشفاء وأصبح على يقين أننا لا نستطيع أن نشرّق معه هذه السنة وسيحصل تعطيل في أعمالنا ، فازداد غمه علي ، فصار الجرّاح (٢) يسكن روعه فوعد الجرّاح (٣) بهدية عظيمة إذا استطاع ١ / ٨٦ أن يشفيني مما أنا به. ثم أخذنا بخاطره بخصوص الفرس التي قتلت / فضحك وحلف بالله أنه يتمنى لو قتلت عشر أفراس مثلها وأن أكون أنا معافا ، مع أن الفرس واسمها العبسية من خاص الخيل البخارية المشهورة ولو أعطي بها خمسون كيسا لا يمكن أن يبيعها. ثم سافر الدريعي في اليوم التالي وبكى حين فارقنا ، إذ لم يكن متأكدا تماما أني سأشفى من الجروح والأوجاع التي أنا بها ، إذ كان نوعا ما قاطعا أمله مني.

فأقمنا ثلاثين يوما في زين العابدين ، والشيخ خليل يعالجني على قدر معرفته فلم يحصل على نتيجة بل بالعكس فالجروح أصبحت قروحا ولعبت المواد بالقروح وانتنت ، واستحال الورم إلى ضعف عظيم. فأشار أناس أهل خبرة إلى أن الشيخ خليل لا يحسن معالجة أمر كبير مثل هذا ، ولكن يوجد في ضيعة يقال لها دير عطية ، على طريق الشام (٤) ، وقد ذكرناها سابقا ، معلم جراح مسلم جليل فهيم ، فهو قادر على أمور مثل هذه. فأرسل الشيخ إبراهيم رسولا لإحضاره فلم يأت بل قال : إن شاؤا أحضروا العليل إلى عندي. فاستحسن الشيخ إبراهيم هذا الرأي ، وحالا صرف الشيخ خليل وأرجعه إلى حماة ، وأعطاه أجرة وافرة ، وعمل صندوقا من خشب ووضعني به ، ثم حملت على بغل وتوجهنا إلى دير عطية. وحين وصولنا نزلنا في بيت البيطار صاحبنا. فأتى الجراح ، وكان اسمه الشيخ حسن

__________________

(١) «معلمية».

(٢) كذا بالمخطوطة.

(٣) «الجرايحي».

(٤) دمشق.

٢٠٥

وعاينني ، وحالا نزع اللصقات التي علي وغسل جميع الجروح بالنبيذ ووضع مراهم من عنده وابتدأ بعلاجي.

النتيجة لا أستطيع أن أصف العذاب والأوجاع التي كابدتها إذ يقصر عن وصفها اللسان ، حتى بقيت بالفراش كالخلال (١) والخيال ، وتبدلت أحوالي وتغيرت صورتي ، وقاسيت آلاما مريرة ووجعا وعذابا وشدائد من كل الأنواع. وكنت دائما أعتب على الشيخ ٢ / ٨٦ إبراهيم الذي سعى في إخراجي من الوادي ، لأنه لو تركني أموت كان ذلك أريح لي بكثير / وبالمختصر لم يبق وجع بالعالم إلا تركب على جسدي وكذلك الأدوية والوصفات التي كانت تأتينا من عند الخواجه شاباصون الطبيب الفرنسي (٢) بدمشق ، إذ كان بخدمتنا خيال من أهل الضيعة فقط لأجل إحضار الأدوية من عند الخواجه المذكور ، لأن بيننا وبين دمشق يومين. وإن سأل القارئ (٣) لأي سبب ما نزلتم إلى دمشق لكي تكونوا قريبين من الطبيب وتصبح المداراة أنسب؟ فالسبب الأول سياستنا ، إذ ليس من صالحنا القعود بالشام كثيرا ، ثانيا أن هواء دمشق رديء وثقيل فلا يمكن أن أحصل على الصحة بدمشق ، فانتقلنا بعد شهرين من دير عطية إلى قرية يقال لها النبك ، نحو ساعة ونصف بين الواحدة والثانية. والقرية المذكورة هواؤها وماؤها مشهوران بالحسن. فالغاية بعد أربعة أشهر استطعت أن أقوم على العكاكيز. وكنت أصح يومين وأعود مريضا خمسة ، حتى ذقت أنواع الموت أشكالا وأشكالا. وفي أثناء تلك الغضون انعزل سليمان باشا العكاوي عن إمارة الشام ، وحضر من اسلامبول وزير يقال له أيضا سليمان باشا سلحدار (٤) سلطان سليم ، وحكم بدمشق ، فهذا صعب علينا نوعا لأن سليمان باشا العكاوي كان يوافقنا على جميع ما نريد من الأمور. وكان انتهى فصل الشتاء وقدم الربيع (٥) وابتدأت العربان تبشر بالديرة ، وأزهرت الدنيا وأنا تماثلت للعافية وقمت من الفراش ، وكانت جملة إقامتي بالفراش طريحا خمسة أشهر. وبعد أن أصبحت قادرا على المشي نوعا ما تسلط علي حال غريب وهو أني كلما رأيت فرسا أو حصانا يصفر وجهي وأقع على الأرض مغشيا علي. وبعد ذلك ، رويدا رويدا ، قويت نفسي

__________________

(١) الألبسة البالية.

(٢) «الحكيم الفرنساوي».

(٣) «القادر» ، كذا.

(٤) سلاح دار ، أي الذي يحمل سيف السلطان ، وهو من أكابر موظفي الدولة.

(٥) ربيع سنة ١٨١٣.

٢٠٦

على رؤية الخيل إذ وضعت نصب عيني أني سأحتاج إلى رؤيتها كثيرا ، إلا أني حلفت يمينا عظيما أني ما دمت حيا يحرم علي ركب الخيل إلا بسبب أمر ضروري جدا جدا. وفيما نحن ١ / ٨٧ على ذلك إذ ورد علينا هجان من عند الدريعي يسأل عن أحوالنا / ويبشرنا أن الدريعي قطع الفرات ودخل الشامية وهو في نواحي ديرة حلب. ففرحنا بذلك وحالا أرسلناه في اليوم التالي يخبر الدريعي ويبشره بوجودي حيا ، لأن الرسول قال لي : «إن الدريعي ما كان يظن أنك شفيت مما كنت به ، وقد تكدرت عليك العربان جدا ، وجميعهم قطعوا الأمل منك» ؛ فلهذا السبب اضطررنا أن نصرفه عاجلا. وحين وصل الرسول إليه وبشره أني على قيد الحياة وشفيت من جميع ما كان بي ، طار من فرحه وأرسل رسولا آخر يعرفننا أن لا نتحرك من النبك ، بل هو يقرب مننا كي لا أتعب بالطريق لأني ما كنت ملكت عافيتي مثل السابق. فقعدنا ننتظر قدومه إلى طرفنا.

٢٠٧

[من حديث البادية : الخوّة]

ولكن قبل ذلك حين كنت بعد بالفراش ، وقعت نكتة عجيبة وهو أنه في ذات يوم حدث أن تاجر غنم كان آتيا من ديرة الأناضول وذاهبا إلى دمشق ومعه نحو عشرة آلاف رأس غنم كبار عظام. فوصل إلى الرستن الذي هو ما بين حمص وحماة. فهناك رأى ثلاثة من العرب. فقال الواحد منهم للتاجر : هل لك أن تؤاخيني؟ فضحك التاجر من عقله وقال له : أأنا خائف حتى أؤاخيك؟ معي خمسون باروديا. فقال له البدوي : اسمع مني آخيني وأنا أرضى بشيء قليل ، وتم الاتفاق على غرشين وقبضة (١) توتون. فأعطى التاجر غرشين وقبضة توتون ، وظن أن البدوي عمل حيلة لأنه محتاج حتى يأخذ بعض الدراهم. أما البدوي فإنه أخذ الغرشين والتوتون ووهب الكل إلى رفيقيه الاثنين وقال لهما : اشهد أنه صار أخي ، لأن هذه العادة عند العرب : أنهم يفرقون على العرب أول شيء يأخذونه خوة ويشهدونهم ، والسبب أنه إذا ادعى بدوي يريد تخليص شيء أنه أخذ من أخيه فيجب أن يكون عنده شهود يشهدون له أنه أخوه حقيقة وقد خاواه على يد شهود ، وأكل الشهود وقت عقد الخوة : هكذا عادتهم.

فبعد ذلك سافر البدوي ورفيقاه وسافر التاجر قاصدا دمشق. وبينما هو في الطريق في مكان يقال له عيون العلق ، بالقرب من دمشق ، إذ نفذت عليه العرب وتحارب معهم

__________________

(١) «كمشة».

٢٠٨

٢ / ٨٧ وكسروه وأخذوا جميع ما معه من الغنم ، وشلّحوه هو / (١) وجميع من معه وتركوهم عراة (٢) وذهبوا في حال سبيلهم. فنزل إلى دمشق وليس معه مصرية يأكل بها خبزا ، وصار يشحذ ويأكل. وشاع أمر هذه الغنيمة بين العربان حتى سمع بها البدوي أخو التاجر الغنّام. فسأل أي يوم أخذت الغنم وفي أي مكان ، فأخبره الناس ، فعرف وتأكد أنها غنم أخيه الذي أعطاه غرشين وقليلا من التوتون. فذهب حالا وأخذ الشهود وراح عند شيخه ، وهو كان من قبيلة العمور ، ودخل على الشيخ وحكى له المادة وشهد له الشهود. فحالا ركب وأخذ معه أكابر القبيلة وتوجه إلى قبيلة النّعيم. فهذه القبيلة مثل عشيرة العمور ، تشريقها قليل وأغلب السنين لا تشرّق بل تبقى بالديرة ، واسم شيخها فهد ابن صالح. فدخل عليه سلطان البرّاق شيخ العمور وطلب منه الغنم بموجب عهود العرب وقدم الشهود. فما استطاع فهد أن يهرب من الحق وبالحال والسرعة سلّم الغنم إلى شطي ، فهذا اسم البدوي الذي خاوى الغنّام ، سلمها بتمامها من غير أن ينقص منها شيء كليا. فقام شطي واستأجر أناسا تسوق الغنم معه ، ومشت الأغنام جميعها أمامه وتوجه إلى دمشق. فأبقى الغنم خارج البلد ودخل هو يفتش عن التاجر ، فوجده جالسا في قهوة ، عاريا جائعا. فدخل شطي عنده وسلم عليه. فأدار وجهه ولعنه وشتم كل العرب لأنه محروق القلب منهم. ولم يأت على باله أنه آخى واحدا منهم ، ولا هو يصدق ، والحكاية ذهبت من فكره وصار إذا رأى بدويا كأنه رأى عزرائيل. فقال له شطي ما لك يا أخي؟ أنا أخوك الذي تآخيت معه بالرستن. فقم معي واستلم غنمك جئتك بها كما هو واجب علي. فما كان يصدق. فمن بعد تأكيد صدّق ، وخرج معه إلى خارج البلد ، وبانت له الحقيقة ، فركع على أرجل شطي وصار يقبلها ويستكثر بخيره. ثم نزلا إلى دمشق ، وعمل التاجر جهده لكي يعطيه قسما من الغنم فما رضي أن يأخذ شيئا منه كليا ، غير أنه قبل فقط جزمة وكوفية جديدة قيمتهما نحو عشرة ١ / ٨٨ غروش لا غير ، وثاني يوم رجع / عند أهله.

__________________

(١) يبتدئ هنا الكراس رقم ١١.

(٢) «بالظلط».

٢٠٩

[الاستعداد للحرب]

ثم بعد قليل من الأيام ، قربت العربان من ديرة الشام وإذا بالدريعي حضر عندنا وبصحبته جملة من أكابر العرب أحبابنا. فرأونا ورأيناهم بخير ، وفرحنا بهم وفرحوا بنا. وكان عرب الدريعي قد اقتربوا منا. ثم حدثنا بجميع ما وقع له مع العربان أثناء تشريقه ، إذ جرت له بعض المعارك مع قبائل العرب وأخضع أربع قبائل وأدخلها في اتحادنا ووضع شيوخها أختامهم وأسماءهم. وهم ظهران ابن عواد ، شيخ عشيرة الخرصة (١) ، قبيلته تحتوي على ألفي بيت ، وأيضا نايف ابن عابد ، شيخ قبيلة المحلّق ، عشيرته تحتوي على ثلاثة آلاف بيت ، وأيضا روضان ابن سلطان ، شيخ قبيلة المريخات ، عشيرته تحتوي على ألف وخمس مئة بيت ، وأيضا مطلق ابن فيحان ، شيخ عشيرة الزكرد (٢) ، قبيلته تحتوي على ثماني مئة بيت فقط. فهذه القبائل الأربع من أعظم عشاير العرب ، وأكثر أنسابها إلى عرب جبل شمر التي هي تحت حكم الوهابي.

ثم أعلمونا أن الوهابي كثير الحركة هذه السنة ، ولا بدّ له أن يضرب جانبا من الأراضي التي يحكمها العثماني والأقرب إلى الظن هو بر الشام أو بغداد. فبعد هذا في اليوم التالي دبرنا أحوالنا وذهبنا مع الدريعي وباقي الجماعة عند العرب ، وكانوا بعيدين عنا يوما فقط. وأما أنا

__________________

(١) «الخرسا» ، فرع من الفدعان.

(٢) لا أعرف عنها شيئا.

٢١٠

فكنت راكبا حمارا ، استأجرته من الضيعة وذلك خوفا من الوقوع مرة أخرى. فبعد وصولنا بعدة أيام عند العرب ، إذ وردت أخبار من طرف الوهابي أنه أرسل جيشا (١) عظيما على بر الشام ، ومراده أن يأخذ حماة وحمص واستملاك بر الشام. فضجت الناس من هذا الخبر وحسبت حسابات كبيرة ، وصار الخبر عند الوزير ودخل عليه الوهم ، وكبرت الدعوة في بر الشام ووصلت برد (٢) وأوامر من وزير الشام بالمحافظة ليلا ونهارا واليقظة واستخدام العساكر. وما زالت أخبار الوهابيين تزداد وتشيع الأخبار وتكثر حتى تعبت قلوب الناس من ٢ / ٨٨ هيبة (٣) الوهابي ، وعزم كثير من الناس على الفرار إلى ناحية ساحل / البحر ، لأن صيت الوهابي شنيع جدا ، والمشهور عنه أنه دموي غدار بحاث عن أمور الدين ، فسكرت الناس من هذا الخبر ، حتى أن الوزير أرسل إلى الدريعي يدعوه عنده إلى دمشق لكي يدبرا هذه الأمور. إلا أن الشيخ إبراهيم لم يستحسن أن يذهب الدريعي إلى دمشق خوفا من أحوال العثماني وخيانته ، لأن الوزير جديد من اسلامبول وأطباعه غير معروفة. ولذا كتبنا جوابا للوزير من طرف الدريعي يعتذر عن الحضور لأنه لا يستطيع أن يترك الديرة ويذهب عند الوزير ، خوفا من أن يحضر الوهابي فجأة ، [وجاء فيه] : «أي نعم أن أمر سعادتكم بإرسال فرقة من العسكر معين لنا ، وأنا بحول الله كفاية لحفظ البلاد من غوائل الوهابيين» ؛ وأرسلنا الجواب. وأما الدريعي فإنه ابتدأ بتدبير مهام الحرب لدفع غوائل عرب الوهابي وأضرارهم عن البلاد وعن نفسه. وهو أنه أحضر حالا ناقة بيضاء وسودها بشحّار (٤) الدست ، وربط برقبتها شقة بيت شعر سوداء ، وأركب فتاة عليها وهي لابسة السواد ومسودة وجهها. وأرسل معها نحو عشرة رجال من العرب ، وهي تدور على القبائل وتدعوهم إلى الحضور لمعونة الدريعي. وكانت كلما وصلت إلى قبيلة تقول : «الفزاع ، الفزاع ، الفزاع ، يا أهل الخيل أصحاب المرؤة والنخوة ، يا من يبيض عرض هذه الناقة ويغسل سوادها ، هذه شقة بيت الدريعي المهدد بالخراب. (٥) ، يا أهل الحشيمة والغيرة انهجوا انهجوا (٦) ، ترى ربعكم ذبحهم الوهابي وعدمتموهم ، يا سامعين الصوت صلوا على النبي ، أولكم محمد وآخركم علي». فهذه من عاداتهم حين

__________________

(١) «أرضي».

(٢) «برادي» ، وهو يريد برد جمع بريد.

(٣) «رجت» ، كذا ، ويريد : «رجة».

(٤) «شحوار».

(٥) «المزعم يخرب».

(٦) امشوا على حسب عادات العرب.

٢١١

يكون عليهم حملة (١) كبيرة من عدو كبير أن يسودوا الناقة. ولم تزل تذهب من قبيلة إلى أخرى. ومكاتيب الدريعي أيضا متواصلة إلى القبائل. وصار الوعد والاجتماع على عاصي حماة لأجل استقاء الماء. وصارت القبائل تتوارد علينا من كل الجهات ، المتحدة معنا وغيرها حتى اجتمع عندنا نحو ثلاثين قبيلة عرب ، جميعها في نزل واحد ، ورابطة أطناب البيوت بعضها ١ / ٨٩ إلى بعض وصائرة مثل القلعة أمام العاصي ، وجاعلة العاصي والبلاد وراءها ، / ومتصدية للعدو.

ومن الطرف الثاني الوزير ، فإنه قد أرسل جيشا (٢) بكامل لوازمه من مدافع وزنبلاك (٣) وجبخانه (٤) وخيم ، ورأس عليه ابن أخته إبراهيم باشا ، باشا بتوخين (٥) صاري عسكر. ووجه بالجيش إلى حماة وكان عدده نحو ستة آلاف مقاتل : دالاتية وهوارة (٦) ومغاربة وأرناؤوط. فدخل الجيش إلى حماة وأقام بها إلى أن يحضر الاسعاف من وزير عكا سليمان باشا ، لأن والي الشام كان أرسل استنجده. فبعد قليل صارت العساكر ترد من عكا وما يليها حتى حضر علي بك الأسعد. وأرسل البرير (؟) أيضا عساكر حتى اجتمع في حماة ، الجيش مع عساكر البلد ، نحو أربعة عشر آلف عسكري.

وأما الوهابي فإن أخباره كانت تقرب حتى علمنا أنه وصل إلى تدمر ، وهرب (٧) أهالي تدمر والقريتين وسائر الضيع التي أمامه ، فأرسل إبراهيم باشا ومتسلم حماة وكامل الضباط إلى الدريعي يرجون نزوله إلى حماة لأجل المشورة بلوازم الحرب وتدبير هذه الأمور. فاضطر أن ينزل إلى حماة ونزلت أنا الفقير معه. وصار الديوان عند الباشا ودبروا كل شيء يجب تدبيره. وآخر تدبير كان رأي الباشا أن الجيش العثماني يكون مختلطا بنا ، فوافق الدريعي على ذلك واعتمد عليه. ثم حضر الدريعي من الديوان وأعلمني بجميع ما تقرر من الأمور والتدابير. فرأيت كل شيء مناسبا إلا مسألة واحدة ليست مناسبة ويحصل لنا منها

__________________

(١) «ركبة».

(٢) «أرضي».

(٣) كذا ولعله يريد زنبرك أو زنبلكات.

(٤) قنابل وصناديق بارود.

(٥) من التركية : طوخ ، أي ذنب الفرس ، وباشا بطوخين أعلى مرتبة من باشا بطوخ واحد.

(٦) هوّاري جمعها هوّارة : جنود غير نظامية.

(٧) «وهجّت».

٢١٢

ضرر ، وهي اختلاط الجيش العثماني بنا. فقال الدريعي : وما هو سبب ذلك. فقلت هؤلاء ترك غشماء لا يستطيعون أن يميزوا عربنا من عرب الوهابيين. فحين اشتداد المعارك واختلاط العساكر يمكن أن يروك أنت ويتوهموا أنك من عرب الوهابي فيقتلونك ، لأن العربان جميعهم ، سواء عربنا أو عرب الوهابي ، على نفس الزي والكلام والهيئة ، لا يستطيع أحد أن يميز بعضهم عن بعض ، إنما يعرّفون أنفسهم بالتنخّي. اعلم أيها القارئ أن لكل قبيلة نخوة خاصة تنتخي ٢ / ٨٩ بها وقت / الحرب ، وينادي البدوي باسم قبيلته. فكل واحد من الرولة مثلا يقول : خيّال العليا رويلي ، ومن قبيلة الحسنة يقول : خيال البيوضا حسيني ، ومن الضفير يقول : خيال الحمرا ضفيري ، وهلم جرا جميع القبائل. وكل واحد من المشايخ والأمراء يتنخّى باسم أخته وقت الحرب أو غيره. فالدريعي مثلا يقول أنا أخو ربدا ، إذ كان له أخت اسمها ربدا بديعة في الحسن ، ومهنا يقول أنا أخو فضة ، إذ كان له أخت اسمها فضة محسنة ، وهلما جرا كل الأمراء والمشايخ ، وهذه من جملة عاداتهم. [ثم قلت للدريعي : إن هذا الاختلاط يضر بنا] على الخصوص إذا لا سمح الله وصارت كسرة ، فإنهم يقتلون من عربنا أكثر من عرب العدو. فقال : هذا صحيح ويحصل لنا منه ضرر على أي وجه كان. فرجع إلى عند الباشا وقال له : يكون الجيش بعيدا عنا نصف ساعة. فتضايق الباشا من هذا الكلام ، ولكن ما كان يمكنه أن يغضب الدريعي واضطر أن يخضع لأمره.

ثم خرج الجيش العثماني بكل نظام وتدبير وركب الباشا ودقت النوية وضربت المدافع على حسب هرج (١) العثماني. فحضر ونزل الجيش بعيدا عنا نحو نصف ساعة ، بكل نظام وخيم معتبرة وصيوانات وعساكر مثل التراب من خيل ورجال. فامتلأت أعين الناس من هذه الرؤية ، واطمأنوا على أرواحهم من خطر الوهابي ، وأمنّوا على أحوالهم وشدوا ظهورهم. وأما الدريعي وبقية عرباننا فإنهم كانوا يضحكون منهم (٢) إذ تبين لهم أنهم ليسوا على قدر المادة.

وفي اليوم الثاني من خروج الجيش قام غبار من صدر البرية واعتم الجو من الغبار وظهرت غمامة سوداء كأنها الضّبّان (٣) تمشي على وجه الأرض. وفي قليل من الزمن إذ أقبل شيء يغطي عين الشمس ويجفف النظر. وابتدأ القادمون بنصب البيوت أمامنا ، بعيدا عنا

__________________

(١) «وهرة».

(٢) أي من الأتراك.

(٣) ضبّان ج ضبّ : دويية تشبه الورل ، «وهو أحرش الذنب ، خشنة ، مفقّره ، ولونه إلى الصّحمة ، وهي غبرة مشربة سوادا» (لسان العرب ، مادة ضبب) أو لعله يريد الذبّان أي الذباب.

٢١٣

نحو ساعة ، لأنهم أتوا بأهلهم ، وكان عدد قبائلهم نحو خمسين قبيلة ، على حسب ما استنتجنا من البيوت ، وكانوا بالحقيقة خمسة وثمانين آلف بيت. واعلم أيها القارئ أن كل ١ / ٩٠ بيت / الأصغر منها فيه عشرون جملا (١) ومن الغنم ما لا يحسب ، ومن الخيل والأولاد والنساء والرجال عدد كبير. النتيجة جاء منهم ما يدهش العقل ، مليونات ، شيء لا يعرف أوله من آخره. فارتج قلب الوزير وكامل من معه من هذه الرؤية المبهرة وأرسل الباشا يدعو الدريعي ليشرب القهوة عنده. فراح المذكور ورأى أن حال الباشا متبدلة وهو خائف. فسكن روعه وشرب القهوة ورجع حالا وأمر بجمع كامل الجمال. فجمعوها حالا وربطوها من أياديها وركبها بالحبال وبرّكوها أمام جيشنا كالمتاريس. وفعلت هكذا كل العربان من عربنا ومن عرب العدو إذ هذه عادتهم ، وحفروا ممرات (٢) بالأرض لأجل أن يختبؤا بها ويحاربوا ، مثل (٣) المتاريس. ثم بعد ذلك عملوا ناقة العطفة (٤) وزوقوها ، ووضعوا عليها هودجا مزوقا بالجوخ والقطني والحرير الأحمر والشراريب والمرايا والودع ، وأدخلوا فيه فتاة محسنة جدا يقال لها أريكة وفصيحة متكلمة ، لأن التي تقعد في العطفة يجب أن تكون أجمل جميع بنات العربان الموجودين وأفصحهن ، فالكلام وجميع الحركة منوطان بها. فهي التي تنخّي الرجال وتشجعهم على الحرب. إلا أن المسكينة تكون في خطر عظيم لأن جميع الضربات والحملات عليها. إذ متى تمكن العدو من أخذ العطفة إنكسر العسكر. ولذا يجب أن يكون الرجال دائما حولها يحمونها في وسط العسكر.

__________________

(١) لا شك أن هذه الأرقام خيالية ، إذ يبلغ عندئذ عدد الجمال وحدها نحو مليون وسبع مئة ألف جمل!.

(٢) «مرور» ، أي خنادق.

(٣) «نعت».

(٤) العطفة (بكسر العين وفتحها وضمها): «ناقة متميزة في شكلها تركبها ابنة الزعيم في أيام الحرب لكي تشجع الفرسان» (العزيزي ، قاموس العادات ، ج ٢ ، ص ٣١٢). وتطلق أيضا هذه الكلمة على الهودج الخاص الذي تركب فيه هذه الفتاة. «وهذه العطفة لا توضع إلا في بيت أشجع العشيرة وأفرسها» (وصفي زكريا ، عشائر الشام ، ج ٢ ، ص ٢٤). وقد رأيتها في الكويت ، عند آل صباح ، سنة ١٩٥٦.

٢١٤

[المعركة الكبرى]

ثم أخذت التدابير في كل الأمور ، والخصم أيضا دبّر حاله وحفر متاريس ونوّخ (١) جماعته وعمل عطفة وقسم حاله إلى قسمين : الفرقة الكبرى أمامنا لأجل محاربتنا والفرقة الصغرى أمام جيش الباشا ، وابتدأ الحرب بكل حرارة من الجميع. ومن عادات العرب أنهم يبتدئون الحرب كمثل اللعب ، بفتور عظيم ، وبعد ذلك تشتد همتهم وقوتهم ويصبحون مثل السباع. وأما العثماني فهو بضد ذلك : أول نزوله بحرارة ثم يفتر. فسرّ الباشا من هذه الرؤية وظن أنه يكسر عرب الوهابيين بعسكره فقط. وبعد ذلك اشتدت حرارة العرب ، ٢ / ٩٠ وصار نهار يقف عن وصفه اللسان / منا ومنهم إلى غروب الشمس ، فانفك الحرب بعد أن وقعت مقتلة وافرة من الفريقين. ثم في اليوم الثاني أتت نجدة من قبيلة يقال لها الحديديّة وشيخها حمود آل إبراهيم (٢). فهؤلاء العربان من سكان طبراق حلب ، لا يشرّقون مثل العرب ، بل هم دائما مقيمون في نواحي ديرة حلب وسرمين والمعرة ، وعليهم شيء مثل الراتب للوزير. وكلهم بواردية ، يركبون الحمير فقط ، ولكن بعض كبرائهم فقط يركبون الخيل. فكانوا نحو أربعة آلاف بارودي (٣).

__________________

(١) أي نخّى ، اثار النخوة في رؤوس الرجال وحثهم على الحرب.

(٢) «البراهيم».

(٣) «بواردي».

٢١٥

فعملنا حسابنا : كانت عربنا نحو ثمانين آلف مقاتل من غير جيش الباشا ، وأما الوهابيون فكانوا نحو مئة وخمسين آلف مقاتل ، ولكن بالحرب والمعارك عربنا أشد حربا وقوة. وذلك على رأي الشيخ إبراهيم ، له علاقة بالأقاليم. فهو يقول : إن الأقاليم الحارة لا يكون أهلها أشداء بالقتال ، بل إن سكان الأقاليم الباردة أشد حربا وقوة ، وبما أن الوهابيين من سكان ناحية الجنوب فنحن أشد منهم قوة. وفي اليوم الثاني صار حرب وظهر فعل كبير من الوهابيين رجت منه قلوب الناس وخصوصا أهالي حماة. وشاع الخبر أن الدريعي إنكسر والباشا أيضا ، وعزمت الناس على الهرب إلى نواحي البحر. ولم يزل الحرب والقتال معقودين (١) مدة عشرين يوما ، حتى ضجت الناس وكرهت حالها ، وعلى الخصوص أن الجوع ابتدأ ينتشر ، لأن كل لوازمنا ولوازم الباشا من حماة ، حتى افتقرت وتعرت من جميع المآكل ، وحصل الغلاء وعدم وجود الشيء بالمدينة المذكورة. فابتدأ الحكام باستيراد الحنطة من غير أماكن ، وأعطى أناس من مؤونتهم لأجل تقوية الدريعي خيفة من الوهابيين. أما نحن فلم نزل كل يوم في حرب ، ونقص عسكر الباشا إذ قتل منه كثير ، وابتدأت الناس من عرباننا تنسل وتهرب من شدة الجوع ، حتى أن الجمال التي وضعناها كالمتاريس صارت تأكل بعضها من الجوع ، إذ كان لا يمكننا أن نتركها ترعى أولا لأن نار العدو تعمل بنا ما تريد ١ / ٩١ إذ نبقى من غير وقاية ، وثانيا لأنه لم يبق في الأرض شيء لترعاه / بل ولا للأوادم.

ولم يزل الحرب متواصلا يوميا حتى أنه في بعض الأيام كان يتصل ليلا نهارا. وأما أركية التي كانت جالسة بالعطفة ، فإنها كانت تنخي الرجال وتهيجهم على الهوشة (٢) والحرب. وأكثر الذين يقتلون من طرفنا تكون هي السبب بكلامها المهيج للحرب. وكانت دائما تعد الشباب أن الذي يأتيها برأس عبد الله الهدال تتزوجه ، لأن المذكور صاري (٣) عسكر العرب الذي يقاتلوننا ، وأبو نقطة صاري عسكر العرب الذين أمام جيش الباشا. فهذان الاثنان صواري عسكر الوهابيين. وبسبب رغبة الشباب في أركية كانوا يرمون بأنفسهم إلى الموت. حتى أن من جملة من تقدم وزاحم الناس شاب عظيم وفارس عنتري ، وصل عند أركية وقال : أريني وجهك يا زين الملاح ، إذ ما كان رآها بعد. فأخرجت رأسها من وراء ستار

__________________

(١) «ولم يذل كل حرب ومقاتل».

(٢) «الهوش».

(٣) رئيس.

٢١٦

العطفة وقالت : أتعرف يا شاب ما هو نقدي (١)؟ هو رأس ابن هدال عبد الله. فهز رمحه تحت العطفة وانتخى ورمى بنفسه في وسط العدو فما عاد من نزوله لأنه قتل. فكنت ، أنا الفقير ، قريبا منها فقلت لها : يا أركية يسلم رأسك بالرجل ، فقالت : مثله كثيرون ذهبوا وما عادوا.

__________________

(١) مهري.

٢١٧

[المبارزة]

ثم وفي تلك الغضون ، إذ نزل إلى الميدان فارس من فرسان العدو مدرع ، في رأسه خوذة من البولاذ ، وأنف نازل على وجهه من البولاذ ، وعكس صفائح البولاذ ، وقميص زرد بولاذ وجزمة بولاذ ، والفرس مدرعة أيضا. فهذا اسمه مدرّع. وكان عندهم من هذا الشكل عشرون واحدا وكان عندنا أثنا عشر فقط. فنزل الفارس المدرع المذكور إلى الميدان وطلب الدريعي. وهذه عادة قديمة عندهم كان من ينزل الميدان يطلب الشخص الذي يريده. وعلى المطلوب أن ينزل وإن لم ينزل يكون ذلك عارا عظيما عليه. فحين سمع الدريعي ذلك الطلب نهض قائما حتى ينزل إلى الميدان. فما استصوبنا نزوله خوفا من خطر ما يحصل له لا سمح الله ، فيخرب شغلنا جميعه. فقمنا كلنا ضده ومنعناه عن النزول لحرب ذلك الفارس. الذي ٢ / ٩١ يطلبه ، بينما هو كان يعمل / كل جهده ليتخلص من أيدينا ويريد أن ينزل الميدان ، حتى اضطررنا أن نربطه بالحبال وندق له سككا مثل الخيل ونقعد فوق السكك خوفا من أن يقلع السكك ويذهب. ولم يزل الفارس المدرع يصيح ويصرخ (١) ويقول للدريعي : يا من عاين اليوم يومه ، أود أن أراه في هذا الميدان حتى أعدمه حياته. وكلما سمع الدريعي ذلك يهيج مثل الجمال وتحمر عيناه ويشد على السكك حتى يقلعها ويروح. ونحن نعمل كل جهدنا حتى لا ندعه ينزل إذ يحصل لنا ضرر عظيم في الحاضر والمستقبل إن حدث له أمر لا سمح الله.

__________________

(١) «يعيط».

٢١٨

وبينما نحن في اعتلاج معه نشده ويشدنا ، وإذ حضر خيال من الشرارات يقال له طعيسان راكبا على فرس شقراء ، ليس عليه إلا القميص ، وبيده رمح فقط لا غير. فرأى الحال الذي نحن به ، والفارس لم يزل بالميدان يطلب الدريعي. وكان اشترى في ذلك اليوم الفرس التي تحته ، من عرب الحديدية. وكان له امرأة اسمها شامة بنت جديد. ثم زاحمنا ودخل أمام الدريعي وقال هذا الشعر :

يومي أنا شريت جواد الحديدي

شريتها يوم صار لي بها شف

اشتريتها وأبغي عليها الحميدة

وأكف طراد الخيل من فوقها كف

وأطعن لعيون شامة جديدة

بنت الذي لا طالع الزول ما خف (١)

وفرّ من بيننا إلى حومة الميدان مقابل ذلك الخيال ، وابتدأ بينهما الحرب بكل قساوة حتى تعجبت الناس. وبقينا جميعنا ننظر إليهما وهما لم يزلا مع بعضهما بالأخذ والرد نحو ساعة من الزمان ، من غير أن يرجح أحد على الآخر. ثم أخيرا تمكن خيالنا منه فضربه برمح في حلقه (٢) ، إذ ليس في جسمه مكان خال من الدرع يتحكم به غير شيء قليل عند حلقه فقط ، فضربه بالرمح الأجرد وإذ لمع سنان الرمح من الجانب الثاني فقتل ، إلا أنه بقي على ظهر ١ / ٩٢ الفرس ، والرمح عالق في رقبته ، فعادت به الفرس إلى بيته ، وذلك من عاداتهم (٣). /

فرجع طعيسان عندنا. فقام الدريعي وكل من كان حاضرا عندنا وصافحناه وحمده الناس على شجاعته ورجولته ، وأهداه الدريعي فرسا ورمحا والشيخ إبراهيم قنبازا جديدا من الحرير.

__________________

(١) يقول : في هذا اليوم اشتريت جواد الحديدي إذ شغفت بها. وإني اشتريتها أريد بها الأعمال الحميدة وطرد الخيل من فوقها كما يعمل الخياط عندما يكف الثوب ، وأطعن إكراما لعيون شامة بنت جديد ، بنت الذي لا يخاف وقت النزال.

(٢) «زلعومه».

(٣) يريد أن العرب قد علّمت الخيل أن تعود إلى البيوت متى جرح الفارس أو قتل.

٢١٩

[إنكسار الجيش العثماني]

ثم لم تزل الحرب متصلة والجوع يكثر ، حتى ضجت الناس عندنا وعند أهالي حماة ، لأن البلدة تعرت تماما من الحبوب والمآكل ، حتى أن بيت الدريعي بقي يومين من غير أكل. وفي اليوم الثالث أتى من عند الملا اسماعيل دالي ، باش عظيم مقيم دائما في حماة ، ثلاث قفف أرز ، فأمر الدريعي بطحنها جميعا دفعة واحدة حتى يأخذ كل واحد من الناس شيئا قليلا. أما سحن ابن الدريعي فما رضي أن يأكل مع أنه كان على ظهر فرسه منذ أربع وعشرين ساعة من غير أكل ولا شرب. فبذلنا كل جهدنا حتى يأكل فلم نفز بفائدة. وأخيرا قال : اعطوني ما تريدون أن تطعموني. فأعطوه حالا من السفرة لحما وأرزا وخبزا. فخلط الجميع بعضها ببعض ووضعها في العليق وأطعم الفرس ، وهو قاعد جائع ، وقال : خير لي أن تكون فرسي شبعانة وأنا جائع.

ولم نزل على هذا الحال سبعة وثلاثين نهارا ، والحرب متواصلة يوميا ، فقتل من الفريقين شيء كثير. ثم نهار الثامن والثلاثين اشتد الحرب من كل الأطراف فانكسر جيش الباشا وتعطل بكامله ودخلته العربان وغنمت جميع ما فيه من الخيم والأسلحة والخيل. فانهزم الباشا إلى حماة ، وكل العساكر التي استطاعت الركوب ركبت ، إلا أن أكثرها ما لحقت خيلها. ودخل العسكر مكسورا إلى حماة. فارتجت المدينة وخافت الأهالي عند رؤية العسكر المكسور ، وفيه من القتلى والجرحى شيء لا يعد. وهرب كثير من أهالي حماة وحمص إلى

٢٢٠