رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

١
٢

٣
٤

٥

٦

مقدمة المحقق

رحلة فتح الله الصايغ إلى البادية

إن المؤلفات عن البادية وقبائلها وأحوالها وتقاليدها وعاداتها تكاد لا تحصى. وقد اهتم بهذا الموضوع الشيق الكثير من الباحثين العرب قديما وحديثا (١) ، وقام عدد من المستشرقين بدراسات ميدانية من اشهرهم بوركهارت وموسّيل وجوسّان. ولكننا إذا رجعنا إلى فهارس الكتب التي جاء فيها وصف لحياة البادية نكاد لا نجد ذكرا لرحلة قام بها شاب سوري يدعى فتح الله الصايغ (٢) ، ولد بحلب ، على ما يظهر سنة ١٧٩٠ ، وطالت سياحته عدة سنوات ، من الثامن عشر من شهر شباط سنة ١٨١٠ إلى صيف سنة ١٨١٤ ، تجول خلالها في بادية الشام وصحارى العراق والعجم وتجاوزها ، على ما يذكر ، إلى حدود إيران الشرقية حيث قابل الأمير سعد البخاري رئيس قبائل عرب الهند ، ثم قطع الحماد وزار الدّرعيّة ، عاصمة الوهابين يومئذ.

__________________

(١) من الكتبة المعاصرين نذكر : روكس بن زائد العزيزي ، قاموس العادات واللهجات والأوابد الأردنية ، ٣ أجزاء ، عمان سنة ١٩٧٣ وما بعدها ؛ معلمة التراث الأردني ٥ أجزاء ، عمان ، سنة ١٩٨١ وما بعدها ؛ حمد الجاسر ، معجم القبائل المملكة العربية السعودية ، جزءان ، الرياض ، ١٩٨١ ؛ أحمد وصفي زكريّا ، عشائر الشام ، جزءان ، دمشق ، ١٩٤٧. عمر كحّالة ، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ، خمسة أجزاء. الغزّاوي ، عشائر العراق.

(٢) نكتب الصايغ ، كما جاء في مذكرات المؤلف.

٧

وتحدث الصايغ في مذكراته عن العادات والأعراف البدوية ، وعن القبائل التي اتصل بها ، وذكر اسماء شيوخها وعدد مقاتليها ، وتكلم عن الوهابيين وحروبهم وغزواتهم على عرب الشام ووقائعهم مع الدّريعي بن شعلان ، شيخ عرب الرّولة ، ووصف الدّرعيّة ، كما وصف عددا من البلدان والقرى السورية ، مثل معرّة النّعمان وحماة وحمص والقريتين وصدد ، وأتى على ذكر بعض الأماكن الأثرية ، مثل رستن وتدمر وقصر الحير الغربي.

كان فتح الله الصايغ شابا لم يتجاوز العقد الثاني من عمرة حينما اتصل به رجل من الافرنج ، في متوسط العمر ، يدعى تيودور لاسكاريس ، وطلب منه أن يعلمه اللغة العربية. وكان ذلك بمدينة حلب سنة ١٨٠٩ ، وهي وقتئذ مركز تجاري هام ، ومحط قوافل الهند والأناضول. ومع أن فتح الله المذكور كان يميل إلى التجارة ، ويجهل مهنة التعليم ، فإنه قبل هذه المهمة ، لأنه كان صفر اليدين ، على أثر صفقة تجارية خاسرة في جزيرة قبرص ، فرضي بالشروط السخية التي عرضها عليه لاسكاريس ، لا سيما بعد أن عرف أن المذكور من كبار الافرنج وأشرافهم ، من أسرة بيزنطية عريقة أشتهر منها عدد من الملوك والعلماء. ولكنه على الرغم من كرم أرومته ، كان يلبس الألبسة الشرقية الشعبية الزريّة ، ويأكل في الأسواق.

وبعد مضيّ ستة أشهر تعلم خلالها لاسكاريس قليلا من العربية قراءة وكتابة ، عرض على فتح الله أن يقوما برحلة في أنحاء البلاد السورية ، سعيا وراء أرباح التجارة ، وأعطاه الأموال لشراء البضائع التي تصلح لأهل البادية ، وشرط عليه أن يطيعه طاعة عمياء ، ولا يخالفه في شيء. فقبل الصايغ هذه الشروط وأخذ يعد أهبته للسفر.

غادر لاسكاريس وترجمانه حلب إلى سرمين ، يوم الخميس الواقع في ١٨ شباط سنة ١٨١٠ ، على طريق القوافل ، ثم قصدا معرّة النّعمان ، ومنها إلى خان شيخون ، ثم إلى حماة حيث أمر الحاكم ، سليم العظم ، بسجنهما بتهمة التجسس. ولكن البرطيل انقذهما سريعا من الزنزانة ، فتابعا سفرهما إلى رستن فحمص. وطابت لهما الإقامة في هذه المدينة فبقيا فيها إلى نهاية الشتاء.

وكان الصايغ على جهل بغايات معلمه السياسية ، ويتساءل ما هو مصير

٨

البضائع التي معهما ، لأن لاسكاريس كان يمنعه من عرضها في الأسواق. ثم اتضح له شيئا فشيئا أن معلمه يرمي إلى هدف سياسي لا علاقة له بالتجارة ، وهو التعرف بالبدو والاطلاع على أحوالهم. ولذا طلب لاسكاريس من رفيقه أن يسجّل يوميا ، على ورقة ، جميع ما وقع ويقع لهما من حوادث ، منذ مغادرتهما حلب ، وهو بدوره يدوّن ملاحظاته في دفتر باللغة الفرنسية ، مستعينا بمذكرات الصائغ. ويعلمنا فتح الله أنه ظل يكتب يومياته مدة ست سنوات ، إلى ما بعد وفاة لاسكاريس في القاهرة.

وتابعا رحلتهما فذهبا إلى صدد ، قرية جميع سكانها من السّريان النصارى ، وعرضا بضاعتهما على الناس ليظنوا أن غايتهما من هذه الزيارة البيع والشراء ، ثم توجها إلى القريتين ، ومنها إلى تدمر ، بصحبة رفيق من البدو ، تعهد بإيصالهما بالسلامة. ثم ساعدتهما الظروف فتعرفا بالأمير ناصر ، ابن الأمير مهنا الفاضل المعروف بالملحم ، شيخ الحسنة ، فحلّا ضيوفا على هذه القبيلة.

وبعد أن أقاما مدة عند عرب الملحم تبين للاسكاريس ، أو الشيخ إبراهيم كما تسمى عند البدو ، أن الأمير مهنا وبالأولى ابنه ناصرا يتبع سياسة خرقاء ترمي إلى فرض سيطرته على القبائل بواسطة العثمانيين ، مما تأباه الفردية البدوية ولا يتماشى مع الأهداف التي يتوخاها عامل نابوليون. واتضح له ، بعد أن درس أحوال البادية ، أن الشيخ الذي يتمكن بواسطته من تحقيق مآربه هو الدّريعي بن شعلان ، أمير عرب الرولة. فطلب عندئذ من رفيقه ـ الذي تسمى عبد الله الخطيب ـ أن يبذل جهده للوصول إليه ، على الرغم من المشقات وبعد المسافة ، لأنه كان ضاربا خيامه في الجزيرة ، قرب مدينة دير الزور.

وكان لا بدّ للشيخ إبراهيم من اطلاع ترجمانه على الغرض الحقيقي من هذه الرحلة : فأعلمه عندئذ أن الغاية منها الكشف عن أحوال البدو ، والتعرف بكبار أمرائهم ، وكسب صداقتهم ، والسعي في جمع كلمتهم وأبعادهم عن العثمانيين ، والعمل على معرفة الصحارى ومسالكها ومياهها ، وأن الهدف السياسي هو توحيد صفوف البدو ليكونوا عونا لجيش كبير سيمر بالشرق ويقطع الصحراء قاصدا

٩

الهند ، وأن الدريعي بن شعلان هو الشيخ الكبير الذي يمكن الاعتماد عليه لتحقيق هذه المآرب.

وتمكنت الصحبة بين لاسكاريس والدريعي بن شعلان ، الواحد يدبّر الأمور ، والآخر يعمل على اتحاد القبائل. وأما الصايغ أو عبد الله الخطيب فكان يكتب الرسائل ويكسب القلوب بطيب لسانه. وتمكن بدهائه من ربط بعض كبار الشيوخ برباط عظيم ، على أن يكونوا يدا واحدة مع ابن شعلان في كل الأمور ، وعونا له في خلافه مع العثمانيين والوهابيين. وتم التوقيع على وثيقة الاتحاد في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني سنة ١٨١١ م / ١٢٢٦ ه‍.

ويطول بنا الكلام إذا أردنا أن نتحدث عن جميع تحركات الصايغ مع عرب الرولة ، وسعيه الحثيث للحصول على موافقة أكبر عدد من القبائل على هذا الحلف ، فنراه يقطع الفرات بصحبة الدريعي ويجتمع رئيس الحلف مع شيخ عرب البصرة ، ثم ينزل على عين الوساد ، قرب نهر الخابور ، ثم يرحل إلى جبل سنجار ، وبعد إقامة قصيرة في تلك الربوع يعود إلى الجزيرة ، ومنها إلى غوطة الشام ويصطدم بغزو وهابي ما بين القريتين وتدمر.

ويتحدث الصايغ أيضا عن لقاء لاسكاريس بسائح بريطاني يدعى أيضا الشيخ إبراهيم ـ وهو الرحالة السويسري الإنجليزي بوركهارت الذي اكتشف خرائب بترا ـ ، وعن اجتماعه مع اللادي آستانوب ، بنت أخت رئيس وزراء إنكلترا ، ويظن أنها موفدة لتعطيل أعمال جاسوس نابوليون. ويتابع وصفه لتحركات الدريعي فنجده قرب حماة يحارب مع الأروام ، أي العثمانيين ، جيشا وهابيا كبيرا ، يقوده عبد الله الهدّال ، كيخيا ابن سعود ، أي المشير الأول ، وأبو نقطة. ويستمر القتال أكثر من عشرين يوما ، وينتهي بانتصار الدريعي واندحار القوات الوهابية.

ويصف الصايغ هذه المعارك وصفا شيّقا ، ويتكلم عن عادات البدو عندما يطلبون النجدة من القبائل ، وعن النخوة والعطفة والقتال على ظهور الجمال ، وغير ذلك من أمور الحياة القبيلة التي لا يجدها القارئ إلا عند الخبراء بأحوال البادية ، وما أقل العارفين منهم! ولا نعلم متى كانت معركة حماة ، لأن

١٠

صاحبنا يكتفي بسرد الحوادث دون أن يذكر تاريخها. ولكن يظهر من سياق الحديث أن الغزو الوهابي كان خلال صيف سنة ١٨١٣ م.

وبعد أن ربح الدريعي معركة حماة قطع الفرات ، واجتاز الجزيرة ، ودخل حدود العجم ، ثم تابع رحيله مع لاسكاريس والصايغ وبعض أمراء البادية إلى بلاد كرمان ، ووصل إلى نهر خراسان وأرض الهندوان ، وذلك بعد مسير اثنتين وأربعين مرحلة كبيرة ، وحل أخيرا على الأمير سعد البخاري ، وتمّ الاتفاق معه. ودخل أيضا بالحلف الأمير الرّديني ، شيخ عرب العجم ، وهو رجل من الرافضة لا يأكل مع أهل السنة.

وهكذا توصل الدريعي إلى تحقيق مآرب لاسكاريس ، فتم على يده اتحاد معظم القبائل العربية من بر الشام إلى حدود الهند ، وتحالفت معه ضد الأروام أي الأتراك ، واتفقت على مساعدة الجيش الذي سيمر بالشرق عبر الصحارى ، وينوي السيطرة على طريق الهند.

ويذكر الصايغ أسماء القبائل التي دخلت في هذا الحلف ، وأسماء شيوخها وعدد المقاتلين ، ونجد جدولا لها في آخر المذكرات ، فكان المجموع خمسا وأربعين قبيلة تعد نحو ألف ألف نفس.

وعاد الدريعي إلى الجزيرة بعد أن تحالف مع عرب العجم ، ثم سار مع أصحابه قاصدا برّ الشام ، إذ أتته رسالة من عبد الله بن مسعود يطلب حضوره إلى الدرعية. فتشاور القوم فيما بينهم وتم قرارهم على تلبية دعوة الإمام الوهابي ، وعلى إرسال وفد يضمّ الدريعي وبعض ذوي قرابته والصايغ وعددا من العبيد. أما لاسكاريس فإنه رأى من الأنسب أن يبقى مع سائر أفراد القبيلة.

ويتابع الصايغ وصف رحلته فيتحدث عن وصول الوفد إلى الدرعية ونزوله في ضيافة ابن سعود الذي كان حاقدا على الدريعي ، فاستقبله استقبالا سيئا ، ثم أمر بالحوطة عليه وعلى أعضاء الوفد. وبعد أخذ ورد تم الصلح بين الطرفين ، على أن يكون الدريعي «سلطان الشمال» وابن سعود «سلطان القبلة» ، وعلى أن «يكونا روحين في جسد واحد» ، كما جاء في مذكرات الصايغ. فتمكن عندئذ

١١

صاحب الرحلة من التنزه في الدرعية ، فوصفها ووصف أسواقها ونساءها ، وأتى أيضا على وصف العاهل الوهابي ومجلسه وأحواله ، ويعد كلامه من أقدم ما قيل عن عاصمة الوهابيين. وقد ذكرت مجلة العرب (١) تفاصيل رحلة الصايغ إلى الدرعية ، بناء على الترجمة التي قام بها المستشرق فرينل ، من الفرنسية إلى العربية ، وهي مشبعة بالأخطاء ، كما بيناه في مقال نشرته أيضا مجلة العرب (٢) ، وأوضحناه أيضا في الملحق المثبت في نهاية هذا الكتاب.

وقبل أن يغادر الوفد الدرعية وصل العلم إلى ابن سعود أن قوات محمد على خرجت من ينبع وتوجهت إلى المدينة المنورة لاحتلالها ، فلم يأبه لهذا الخبر.

أما لاسكاريس ، فقد سرّ جدا بنتائج رحلة الصايغ إلى الدرعية ، إذ أصبح طريق الهند ممهدا أمام جيوش نابوليون ، ورأى أن التوفيق كان حليفه ، وأن بوسعه أن يعود إلى فرنسا لاطلاع الإمبراطور على نجاح مهمته. فذهب مع فتح الله من حلب إلى اسلامبول (أي استنبول) ، وهناك علم بانكسار القوات الفرنسية في روسيا. ثم تتابعت الأخبار المشؤومة وهوى عرش نابوليون ، فسافر لاسكاريس إلى أزمير لمقابلة الجنرالين سافاري ولالمان ، وبناء على شورهما طلب الحماية البريطانية ليأمن على حياته من شر العثمانيين ، وذهب بمفرده إلى القاهرة حيث وافاه أجله. فوضع القنصل البريطاني سالط يده على مخلفات العامل الفرنسي ، بما فيها مذكراته وأوراقه.

وعلم الصايغ بوفاة أبيه الروحي أثناء إقامته مع والدته باللاذقية. ثم أتته رسالة من دروفيتي ، قنصل فرنسا في الاسكندرية ، يطلب حضوره ، فلبّى الطلب. وحاول عبثا أن يحصل على أوراق معلمه ، فلم ينل من القنصل البريطاني إلا الإهانة والطرد.

مذكرات الصايغ

وهكذا انتهت رحلة الصايغ التي طالت ، على زعمه ، سبع سنوات. وقد

__________________

(٣) مجلة العرب ، ج ٣ ، ٤ ، س ١٩ ، ١٤٠٤ / ١٩٨٤ ، ص ١٥٢ ـ ١٦٨.

(٤) مجلة العرب ، ج ٩ ، ١٠ ، س ١٩ ، ١٤٠٥ / ٨٥ ـ ١٩٨٤ ، ص ٦٩٧ ـ ٧٠٦.

١٢

عرضناها عرضا سريعا لا يعطي إلا فكرة خاطفة وغير كاملة عن محتوياتها ، ولو أردنا أن نذكر جميع ما جاء فيها من حوادث وأخبار ، وخاصة عن الوهابيين وعادات العرب لطال بنا المقام. وهي في الوقت نفسه وثيقة هامة عن أحوال بادية الشام وعن بعض القرى والبلدان السورية في أوائل القرن التاسع عشر.

ومن الجدير بالذكر أن مذكرات الصايغ التي تنشر اليوم لأول مرة باللغة العربية ، عرفها الغرب منذ أكثر من مئة وخمسين سنة ، وأشاد بها عدد من كبار أصحاب الرحلات (منهم اللادي بلانت) والمستشرقين ، إذ ترجمت إلى الفرنسية على يد الشاعر الرومانتيكي لامرتين ، وصدرت في الجزء الرابع من كتابه «رحلة إلى الشرق» (الطبعة الأولى ، سنة ١٨٣٥). أما القارئ العربي فما زال يجهلها ، بل يجهلها أيضا أصحاب كتب التراجم ، منهم الزركلي في أعلامه إذ يقول عن فتح الله الصايغ : كان ترجمانا للقنصلية الفرنسية ، ورحل من حلب في أواخر سنة ١٢٢٥ (١٨١٠) إلى بادية الشام مع المسمى تيودور لاسكاريس ، فصنف بعد الرحلة «كتاب المقترب في حوادث الحضر والعرب» (انتهى). والحقيقة أن الصايغ كتب أولا مذكراته التي اشتراها لا مرتين سنة ١٨٣٢ ، وصنف بعد عشر سنوات الكتاب الذي ذكره الزركلي ، وهو ضعيف المادة ، قليل الفائدة ، بخلاف المذكرات التي نالت إعجاب لا مرتين ، حتى أنه حرص على أن تكافئ الحكومة الفرنسية مؤلفها «لأجل الخدمات التي قدمها لعلم الجغرافيا وأخلاق الأمم» ، فعينته وكيلا في قنصليتها بحلب سنة ١٨٤٧. ونجهل أيضا تاريخ وفاته ، ويعلمنا عمر كحّالة ، في معجم المؤلفين ، أن الصايغ كان حيا سنة ١٢٢٥ أي سنة ١٨١٠ م. وكان عمره يومئذ عشرين سنة!.

ولا يغفل لا مرتين عن ذكر الأسباب التي جعلته يهتم بمذكرات السائح السوري ، ويخبرنا أيضا كيف تم له الحصول عليها فيقول : كنت نازلا في وسط الصحراء التي تمتد من طبريا إلى الناصرة ، وكنا نتحدث عن القبائل التي التقينا بها خلال ذلك اليوم. فأعربت لدليلي عن رغبتي في التعرف بالبعض منها والعيش معها ردحا من الزمن ، وتتبع خطواتها من دمشق إلى شواطئ الفرات لكشف اللثام عن حضارة الصحراء ، ولكن لم يبق لدينا الوقت الكافي لمثل هذه المغامرة

١٣

التي لم يجرؤ أحد من المسافرين على القيام بها ، إلا رجل واحد يدعى لاسكاريس ، ولكنه مات وضاعت معه المعلومات التي جمعها عن أهل البادية خلال عشر سنوات.

ثم تحدث لا مرتين عن لاسكاريس ، وكيف التقى بالجنرال بونابارت في جزيرة مالطة ، عند حملته على مصر سنة ١٧٩٨ ، وكيف تبعه إلى القاهرة إلى أن عاد إلى فرنسا مع بقايا الجيش الفرنسي. وبعد أن خرقت انجلترا معاهدة أميان ، سنة ١٨٠٣ ، رأي نابوليون أنه لا يستطيع أن يضرب عدوه في قعر جزيرته ، بسبب تفوق الأسطول البريطاني ، فحاول أن يقضي على اقتصادياته ، واعتقد أنه يصيبه في الصميم إذا تمكن من أن يقطع عليه طريق الهند ، كما بيّناه مفصلا في المقدمة الفرنسية (١). ولأجل الوصول إلى هذا الهدف ، لا بدّ له أوّلا من توطيد العلاقات مع أمراء البادية ومشايخها ، فأرسل لاسكاريس لهذه المهمة. ونجحت مساعي جاسوس نابوليون ، ولكن حين أراد العودة إلى فرنسا ، علم بسقوط الامبراطور الفرنسي ، فذهب إلى القاهرة مغموما يائسا ، حيث وافاه أجله. فوضع القنصل البريطاني يده على مخلفاته ، وخاصة على مذكراته وأوراقه ، ولا يعلم أحد ما كان مصيرها. وختم لا مرتين حديثه معربا عن أسفه على ضياع هذه الوثائق الهامة. فقال له دليله : لعلها لم تفقد تماما ، لأنه على معرفة جيدة بالشاب الذي كان يرافق لاسكاريس ، ولطالما سمعه يتحدث عن هذه الرحلة إلى البادية ، وعن اليوميات التي كان يكتبها ، بناء على طلب معلمه. وهكذا مكّنت الظروف لا مرتين من شراء مذكرات الصايغ ، وتمت ترجمتها إلى الفرنسية على يده أيضا.

ولم ينل كتاب لا مرتين «رحلة إلى الشرق» نجاحا كبيرا لضعف مادته ، فسرعان ما نسيه الناس ، ودخلت معه مذكرات الصايغ في خبايا الزوايا.

وكان من المنتظر أن يقبل المستشرقون على رحلة الصايغ ، لما فيها من أخبار طريفة عن أحوال البادية وقبائلها ، ووصف لبعض القرى والبلدان السورية. إلا أن رئيس الجمعية الأسيوية شك في صحتها ، فسكتت عنها مجلة هذه

__________________

(١) (مكرر) قام المحقق بترجمة هذه الرحلة إلى الفرنسية مع مقدمة إضافية ، وقد تولت نشرها دار غاليمار الباريسية تحت عنوان : Le desert et la gloire.

١٤

الجمعية ، وكانت يومئذ لسان حال المستشرقين ، ولم تتناولها بالنقد ، بل أنها لم تذكرها بخير أو شر إلا بعد وفاة الشاعر لا مرتين. ويتضح من رسالة طويلة وجهها المستشرق فولجنس فرينل إلى رئيس الجمعية سنة ١٨٣٨ ، ولكن المجلة الأسيوية لم تنشرها إلا سنة ١٨٧١ ، إنه كان من المسلّمين بصحة هذه الرحلة ، ثم بدّل رأيه بعد أن عرض على ذوي الخبرة من العرب الصفحات التي جاء فيها وصف الدرعية وذكر الإمام الوهابي عبد الله بن سعود. وأصدرت المجلة الأسيوية حكمها الصارم في تقريرها السنوي لعام ١٨٧٢ (ج ٢٠ ، ص ٣٦) جاء فيه : إن هذه الرحلة وليدة الخيال ، كتبها رجل عارف بأحوال البادية.

ولم يتساءل صاحب هذا الكلام كيف تم لبائع من صغار التجار ، يكاد يجهل اللغة العربية الفصحى ، مثل فتح الله الصايغ ، يخشى البادية كما يخشاها كل حضري من سكان المدن ، لا سيما أنه كان نصرانيا ، أن يكون مطلعا أتم الاطلاع على أحوال البدو ، حتى أنه تكلم عن عادة دفن الحصى أو دفن الذنوب ، يكاد يجهلها حتى المختصون بدراسة البادية ، ولكن ذكرها قبله شهاب الدين العمري المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍ / ١٣٤٨ م ، في كتابه : «التعريف بالمصطلح الشريف» (١) ، فأنّى له هذه المعرفة الدقيقة بقبائلها وتقاليدها ، إن لم يكن عاش معها ردحا من الزمن. أما الأخطاء التي نددت بها المجلة الأسيوية ، مما حملها على الشك في رحلة الصايغ إلى الدرعية ، فإن صاحبنا بريء منها كبراءة الذئب من دم يوسف ، لأن المسؤول الأول عنها هو سوء الترجمة ، كما سنبينه بعد حين.

رحلة الصايغ : ما بين الحقيقة والخيال

لقد شك بعض المستشرقين في صحة رحلة الصايغ ونسبوها إلى الخيال ، لأنهم اطلعوا عليها من خلال ترجمة خاطئة. ونحن نميل إلى تصديق الصايغ ، وننظر إلى مذكراته نظرنا إلى جزء من التراث السوري العربي ، على الرغم من أخطائه التاريخية ومبالغاته الكثيرة ، لأن في وصفه دقة شاهد العيان ولأن ما كتبه يتماشى مع الواقع التاريخي.

__________________

(١) انظر الهامش رقم ١٨.

١٥

كانت فرنسا تطمع بالاستيلاء على مصر من قبل قيام ثورة ١٧٨٩ ، فزارها عدد من سياحها ووصفوها ، من أشهرهم فولنه الذي تجول في الشرق من سنة ١٧٨٣ إلى سنة ١٧٨٥ وكتب كتابا قيما عن وضعه الجغرافي والسياسي والعمراني ، وقال عن مدينة الاسكندرية أن تحصناتها الحربية عديمة الوجود (١). وعندما أبحرت القوات العسكرية الفرنسية متوجهة إلى مصر ، فقد هذا الكتاب من الأسواق. وبعد أن استولى بونابارت على الحكم ، أراد من جديد أن يقطع على انكلترا طريق الهند ، كما أثبتناه مفصلا في المقدمة الفرنسية ، فأرسلت السلطات الكولونيل سبستياني (٢) ، سنة ١٨٠٢ ، وفانسان بوتان (٣) ، سنة ١٨١٠ ، للكشف عن الوضع العسكري في الشرق. ولعل القرار على مهمة لاسكاريس صدر عن نفس الدوائر الفرنسية العالية.

وهنا يقف المؤرخ وقفة الحائر المتردد ، إذ لا يجد أي وثيقة تؤكد صحة ما ادعاه لاسكاريس ، بناء على ما ذكره الصايغ ، من أنه موفد إلى الشرق ليكسب صداقة أمراء البادية. ولم أجد في المخابرات القنصلية الفرنسية الخاصة بمدينة حلب ذكرا للاسكاريس ، مع أنه أقام في هذه البلد أكثر من سنة ، وكانت تأتيه الأموال منها ، على ما يقول الصايغ. ولكن ليس من عادة الدوائر الجاسوسية أن تعطي تعليماتها بالطرق الرسمية. ولا يمكن أن تكون هذه القصة من ابتداع السائح السوري. فأنّي لشاب لا يحسن غير البيع والشراء أن يكون عارفا بالسياسة العالمية وعلى علم بأسماء عدد من كبار الشخصيات الفرنسية المقيمة في الشرق ، من قناصل وسفراء حتى أنه تحدث عن وصول الجنرالين سافاري ولالمان إلى أزمير بعد سقوط نابوليون؟ ولا شك عندي في أن رحلة الصايغ ليست وليدة الخيال ، وإن كان الخيال لعب بها ، ولا يمكن لأي ناقد قرأ هذه المذكرات ، واطلع على دقة الوصف فيها لبعض القرى السورية والأماكن الأثرية والحياة البدوية إلا أن يسلّم بحكمنا هذا. ولعلّ لاسكاريس أوهمه أنه كان موفدا من قبل نابوليون ، أو لعل

__________________

(١) فولنه ، رحلة إلى مصر وسورية ، ص ٢٨ (بالفرنسية) ، تحقيق جان غولميه ، باريس ١٩٥٩.

(٢) الأب لامنس ، تاريخ سورية ، ج ٢ ، ص ١٢٨ (بالفرنسية) ، بيروت ، ١٩٢١.

(٣) ج. م. كرّيه ، الرحّالون والكتبة الفرنسيون في مصر (بالفرنسية) ، ج ٤ ، باريس ، ١٩٦١ وقد اغتال العلويون بوتان سنة ١٨١٥.

١٦

بعض الشخصيات السياسية الفرنسية طلبت من لاسكاريس أن يقوم بالتمهيدات الأولية لكسب صداقة أمراء البادية ، إذ بقي في مصر عدد من الفرنسيين بعد اخفاق الحملة ، اعتنقوا الإسلام وخدموا أصحاب البلاد ، منهم الكولونيل ساف المشهور بسليمان باشا ، وهو الذي أعاد تنظيم جيش محمد علي (١). والحقيقة أن قصة لاسكاريس من الألغاز التاريخية التي لم تجد حلا إلى يومنا هذا. وتفيدنا رسالة وجهها قنصل فرنسا بالاسكندرية إلى وزارة الخارجية بباريس ، بتاريخ ٢٣ نيسان ١٨١٧ ، أن السائح بوركهارت ، الذي اكتشف خرائب بترا ، كتب ترجمة لاسكاريس بعد وفاته بالقاهرة (٢). ومن المؤسف أني لم أجد أثرا لها ، ولعلها لم تطبع ، إلا أنها تدل على أن الرحالة السويسري البريطاني كان على اتصال بجاسوس نابوليون وينظر إليه نظرة الند للند. ونعلم من مذكرات الصايغ أن لاسكاريس التقى فعلا بالشيخ إبراهيم صاحب «الرحلة إلى الجزيرة العربية».

ومتى سلمنا بهذه الأمور الأساسية وهي أن قصة لاسكاريس ليست وليدة الخيال وأنه رحل فعلا مع ترجمانه فتح الله الصايغ إلى البادية واتصلا بعدد من شيوخ القبائل ، اتسع علينا مجال النقد لنتبين الصحيح من الخطأ في المذكرات التي نقوم اليوم بنشرها ، لأن صاحب الرحلة شوّه الحقيقة أحيانا ، وتحدث بأمور هي من نسج خياله ، إلا أنه صدق أيضا في أمور كثيرة ، فأفاد إفادة جمة.

وأول ما يجب الإشارة إليه هي الأخطاء التاريخية العديدة في هذه المذكرات. فالصايغ يقول أنه بعد رحلته الأولى إلى تدمر وبر الشام ذهب إلى دمشق ، وكان ذلك بتاريخ ٢٣ كانون الأول سنة ١٨١٠. ثم اتصل بالدريعي بن شعلان ، وتمكن من احضار معلمه الشيخ إبراهيم إلى مخيم الدريعي في صيف أو خريف سنة ١٨١١. وأثناء ذلك قامت بعض القوات الوهابية بغزوة على عرب الشام ، فتبعها الدريعي وربح المعركة ضد القائد الوهابي الشهير بأبي نقطة. إلا أن أبا نقطة ، حاكم عسير تهامة ، توفي قبل هذا الغزو بسنتين ، قتله الشريف علي حمود ،

__________________

(١) فيليب حتّى ، ادوار جرجي ، جبرائيل جبّور ، تاريخ العرب (مطول) ج ٢ ، ص ٨٥٢. دار الكشاف ، بيروت ، ١٩٦١.

(٢) المخابرات القنصلية رقم ١٩ ، سنة ١٨١٧ ، ورقة ٢٠٠ ، باريس ، وزارة الخارجية (بالفرنسية).

١٧

قائد عرب اليمن ، عندما اندلعت نيران الحرب بين الوهابيين واليمنيين (١). ويذكر الصايغ من جديد أبا نقطة ويزعم أنه قاد حملة على بر الشام ، وكان معه يومئذ عبد الله الهدّال ، كيخيا ابن سعود ، وذلك خلال ربيع أو صيف سنة ١٨١٣. وكان النصر أيضا حليف الدريعي. ويتحدث من جديد عن أبي نقطة عند زيارته الدرعية ، ويزعم أنه تناول معه طعام العشاء ، ولكنه لا يذكر تاريخ هذه الزيارة. وإذا تتبعنا سياق الحديث يتضح لنا أن ذهابه إلى عاصمة الوهابيين كان خلال ربيع أو صيف سنة ١٨١٤ ، بعد سفره إلى أطراف الهند واتحاد الشيخ الرّديني مع الدريعي. وفي الوقت نفسه يعلمنا أن خبر زحف القوات المصرية على المدينة بلغ ابن سعود عند نهاية هذه الزيارة. ومن المعلوم أن الجيش المصري احتل المدينة المنورة في شهر تشرين الثاني سنة ١٨١٢.

وبعد أن نجحت مساعي لاسكاريس ذهب إلى استنبول قاصدا فرنسا. ويستدل من سياق القصة أنه سافر في نهاية سنة ١٨١٤. ولكن الصايغ يخبرنا أنه علم هناك باندحار القوات الفرنسية في روسيا ، ثم تتابعت الأخبار المشؤومة وبلغه تراجع نابوليون وعودته مكسورا إلى باريس. ومن المعروف المشهور أن هذه الحوادث جرت في شتاء سنة ١٨١٣.

فيتضح من هذا النقد السريع أن الصايغ خبط بالتاريخ خبط عشواء ، وإذا أضفنا إلى ما تقدم مغامراته العديدة المزعومة ، والأخطار التي مرّ بها وكاد يذهب ضحيتها ، وحديثه عن أثواب الحيّات ، وهو أشبه بقصص ألف ليلة وليلة ، أصبح من اليقين لدينا أنه تساهل تساهلا شديدا بالأمور التاريخية ، وأن الناقد على حق إذا شك في صحة أقواله ، ونسب عددا منها إلى الخيال.

ولكن «لعل له عذرا وأنت تلوم». والواقع أن الصايغ كان يكتب يومياته على «ورقة طيارة» ، على حسب تعبيره ، وأن هي إلا مذكرة للشيخ إبراهيم تسهل عليه تسجيل الوقائع. وما أظن أن صاحبنا كان يفكر يوما بوضع كتاب عن رحلته ، لأنه كان لا يحسن اللغة العربية ، ولكنه احتفظ بمذكراته ، وعندما عرض

__________________

(١) عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ، الدولة السعودية الأولى ، ص ١٦٨ ، القاهرة ، ١٩٦٩ ؛ عبد الله فيلبي ، تاريخ نجد ، ص ١٢٤ ، المكتبة الأهلية ، بيروت (دون تاريخ).

١٨

عليه لا مرتين شراءها قام عندئذ بتحريرها باللهجة الحلبية وأسبغ عليها طابع المغامرات ، متتبعا سير الحوادث. والدليل على ذلك أنه كثيرا ما يضع علامة على بعض صفحات المخطوطة تشير إلى أن الحادث الذي ذكره يجب أن يقدم أو يؤخر. ولا عجب إذا أخطأ بالتواريخ لأنه أراد بادئ بدء سرد قصة أبيه الروحي لاسكاريس ، فكتب ما علق بذاكرته ، دون اهتمام كبير بالأمانة التاريخية ، لا سيما وأنه وضع كتابه بعد مضي نحو خمس عشرة سنة على رحلته ، فذكر القائد أبا نقطة لأن حاكم عسير تهامة كان مشهورا بقوته وجسارته ، وأخطأ بأسماء الأعلام والأنساب ، بل أنه سرد حوادث من الصعب تصديقها لو لا ورودها أيضا في مصادر موثوق بها.

وهناك نقطتان أساسيتان أثارتا بنوع خاص شكوك المؤرخين ، فلا بدّ لنا من الكلام عنهما : الأولى معركة حماة ، والثانية زيارة الدرعية.

وصف الصايغ معركة حماة وصفا رائعا ، وذكر عدد المقاتلين ، فزعم أن الجيش الوهابي كان يضم نحو مئة وخمسين ألف مقاتل ، أما عرب الشام ، فإن جميع القبائل التي أنجدت الدريعي لا تزيد على ثمانين ألف محارب ، يضاف إليها جنود الجيش العثماني الذي تصدى أيضا للغزو الوهابي.

ولكن هل وقعت هذه المعركة حقا؟ يعتقد الدكتور منير العجلاني أن الإمام سعود قام فعلا بغارة على أطراف الشام سنة ١٢٢٥ ه‍ / ١٨١٠ م (١). إلا أنه يظن «أن أعداد المقاتلين أعداد مبالغ فيها كثيرا ، وأما المعركة ، فيترجح [عنده] ، بغلبة الظن ، أنها وقعت. يقول ابن بشر في أخبار سنة ١٢٢٥ أن الإمام سعود سار في شهر ربيع الثاني إلى الشام» (٢). أن هذه الغارة التي تحدث عنها ابن بشر قام بها الإمام الوهابي نفسه سنة ١٨١٠ ، أما معركة حماة فلم تكن

__________________

(١) منير العجلاني ، تاريخ بلاد العربية السعودية ، ج ٣ ، ص ٦٥ ، دار الكاتب العربي ، بغداد (دون تاريخ).

(٢) منير العجلاني ، المصدر نفسه ، ص ٢٣ ؛ فيلبي ، تاريخ نجد ، ص ١٢٧. وأخطأ ميخائيل مشاقه في تاريخ هذه الغارة ، فزعم أنها كانت سنة ١٨١٧ ، وأن الجند الحجازي الذي أمّ الشام أرسله محمد بن عبد الوهاب ، (انظر : بلاد الشام في القرن التاسع عشر ، دراسة وتحقيق سهيل زكار ، ص ١٠٠ ، دار حسان ، دمشق ١٤٠٢ / ١٩٨٢).

١٩

بقيادته ، وحدثت ، على ما يقول الصايغ ، بعد هذه الغارة بثلاث سنين. وعندما علق الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي على هذه الغزوة كتب بقلمه : «هذا غير معقول ، ما كسرت جيوش الوهابي عند حماة ، إذا كان العرب بعضها مع بعض ، اللهم ...» (١). وهذا الكلام يشير إلى إمكانية وقوع مثل هذا الغزو ، ولكنه لم يكن بقيادة الإمام سعود.

ولدينا شاهد على وقوع هذه المعركة الكبيرة في كتيب لمؤلف فرنسي كان من عملاء نابوليون في الشرق ، يدعى أوغست دي نرسيا ، طبع سنة ١٨١٨ ، يقول فيه : «لما وقعت الحرب بين قبائل عنزة والفدعان غطت خيام الفئتين المتقاتلتين جميع المساحة بين سلمية وتدمر ... وإننا نؤكد أن عدد المتحاربين في معركة السلمية [قرب حماة] التي وقعت سنة ١٨١٢ ، زاد على أربعين ألف فارس يحملون الرماح. غير أن العدد الذي ذكرناه أقل بكثير مما ذهب إليه بعض الأناس المعروفين بصدقهم وبعد نظرهم ، وذلك لأننا نخشى أن تنسب إلينا المغالاة في الامور». ومن البديهي أن ما يقوله الكاتب الفرنسي لا يعني إن القتال كان بين الوهابيين وعرب الشام لأن الفدعان فرع من قبائل عنزة. ولكن عنوان الكتاب يدل على أن حديث المؤلف له علاقة بالغزو الوهابي ، وهو : «نبذة عن البدو وعن الملة الوهابية» (ص ١٨).

أما رحلة الصايغ إلى الدرعية ، فهي التي أثارت شكوك المستشرقين بنوع خاص ، وسار على خطاهم بعض المؤرخين العرب (٢) ، دون الرجوع إلى المصدر الأول أي مذكرات فتح الله الصايغ. وقد سبق واثبتنا ، في مقال نشرته مجلة العرب (٣) أن المسؤول عن الريبة التي تحوط بهذه الرحلة هو سوء الترجمة بل الترجمات العديدة أولا من العربية إلى الافرنجية ، لهجة هي خليط من الفرنسيه والأسبنيولية والإيطالية والعربية والتركية ، وكان يتكلم بها سابقا بعض أهل المشرق ، ومنها إلى الفرنسية ، ثم قام لامرتين بتنقيح هذه الترجمة ، وعنها أخذ المستشرق فرينل ليردّ النص إلى العربية ، ثم عرض هذا النص العربي الجديد على أرباب الخبرة من

__________________

(١) مجلة العرب ، ج ٣ ، ٤ ، س ١٩ ، ١٤٠٤ / ١٩٨٤ ، ص ١٦٢.

(٢) عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم ، المصدر نفسه ، ص ٢٧٤.

(٣) انظر الهامش رقم ٤.

٢٠