رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

فتح الله الصايغ الحلبي

رحلة فتح الله الصايغ الحلبي

المؤلف:

فتح الله الصايغ الحلبي


المحقق: الدكتور يوسف شلحد
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٧

[غارة وهابية على تدمر]

فبعد جلوسي بقليل من الأيام ، إذ وصل خبر أن غزوا كبيرا من طرف الوهابي جاء إلى الديرة الشامية ، وهو يعمل على تخريب الضيع والقرى ونهبها. فخاف أهالي القريتين جدا ونبّه الشيخ سليم إلّا يتطرف أحد خارج الضيعة ، وكل ليلة كانوا يحرسون (١) ، وكان هذا الخبر صحيحا ، لأن ثاني يوم أتى خبر أن الغزو الوهابي ضرب تدمر ولم يستطع أن يدخلها لأن من المعلوم أن لها بابا يغلقونه فتصبح في مناعة عظيمة ، فالتدامرة مقيمون في مكان مثل القلعة ، وهو هيكل الشمس القديم. فلم يتمكن الوهابيون من دخول البلد ، ولكنهم وجدوا بعض الأنفار خارجها فقتلوهم وأخذوا جانبا من جمالهم وذهبوا إلى أرك ، وهي ضيعة تبعد عن تدمر نحو خمس ساعات ، فكبسوها عند وجه الصبح وقتلوا جميع الرجال من كل جنس ذكر ، ولم يبقوا إلا على النساء فقط ، وأحرقوا البيوت وأخذوا طروشهم ، وقد فعلوا كل ذلك نكاية بالدريعي. فخاف أهالي القريتين جدا ، ولم يبق أحد له الجراءة (٢) ليخرج منها أو يدخلها ليلا أو نهارا وهم يحرسون دائر الضيعة تحت الخوف والرعب.

فأقمت عشرين يوما بالقريتين ولم يحضر الساعي. فكنت في وجل عظيم خوفا من أن يكون التقى بالغزو الوهابي حين رجوعه ، فقتلوا الساعي وأخذوا منه الدراهم. فكنت في

__________________

(١) «ينظروا بالليل».

(٢) «الجراعا».

١٨١

خوف وتفكير شديد جدا إذ وصل الساعي بالسلامة وأحضر معه المطلوب. فسألناه عن سبب تأخره فقال : كنت في صدد منذ خمسة أيام جالسا بها خوفا من الغزو إذ بلغني خبر ذلك. وقد منعني الشيخ عساف ، شيخ صدد ، عن الذهاب حتى عرف أن الطريق نظيف فأرسلني. وهو يسلم عليك. فسألته عن أهالي صدد إذا كانوا خائفين من الوهابي قال : لا لأن لهم أخا (١) من الوهابي ـ وهم يقدمون له كل سنة شيئا معلوما ـ يحميهم من ٢ / ٧٦ كل ضرر يحدث من الوهابي. / واستخبرت عن عربنا فأخبروني أنهم وصلوا إلى غوطة (٢) الشام ، ولكن الوصول إليهم صعب لأن أهالي القريتين لا يستطيعون السفر خوفا من أن يلتقي بهم الغزو الوهابي. فاضطررت أن أسافر ليلا مع اثنين من أهالي القريتين ، من النصارى ، إلى صدد فوصلت وسلمت على الشيخ عساف وكامل المحبين. فسألني الشيخ عساف وأهالي صدد عن تجارتنا (٣) مع العرب ، فقلت : لله الحمد نحن مسرورون جدا ورابحون ، وغرشنا كسب خمسة مع العرب ولو كنا نعرف أن التجارة مع العرب فيها كل هذا الربح لكنا تعاطيناها من زمان. فدخل ذلك في عقلهم لأنهم قد عرفونا على هذه الصنعة وهذا كان كلامنا معهم منذ الابتداء. فجلست عندهم يوما وفي اليوم التالي تزيّيت بزي (٤) أهالي صدد ، أي لبست مثلهم ، وأخذت معي اثنين من أهالي صدد لأنهم مضمونون (٥) لدى الوهابي ، وسافرت من عندهم قاصدا غوطة الشام. فبعد ثلاثة أيام وصلت عند عربنا ، فوجدتهم نازلين بالغوطة ، ونازلا إلى جانبهم بركز (٦) ابن اهديب بكل قبيلته ، وأصبحت المحبة بينهم عظيمة. وقد وضع بركز اسمه وختمه في ورقة الشروط. وأما الأمير مهنا الفاضل فهو نازل نواحي الزرقا والبلقا ، ومعه جملة قبائل من عرب جبال شمر ، ويريد قتال الدريعي وأخذ ثأره السابق. وبلغنا أيضا أنه عمل رباطا مع حكام حمص وحماة ضد الدريعي ومن يلوذ به ، واشتد أزره بقوة عظيمة من عرب وعثمانيين. فرأينا من المستحسن فسخ هذا الرباط وذلك بأمر والي البلاد ، وهو وزير الشام سليمان باشا ، إذ يوجد بيننا وبينه

__________________

(١) الأخ ، في العرف البدوي ، شيخ عشيرة أو قبيلة ، كبير السلطة يأخذ الخوة من عشيرة أو قرية ضعيفة ويحميها ، ويكون أحيانا من بعض أفراد البدو.

(٢) «غوضة».

(٣) «متجرنا».

(٤) «بكسم».

(٥) «مسوكرين».

(٦) برجس.

١٨٢

محبة عظيمة ، وبنوع خاص بيننا وبين مديره الأكبر المعلم حاييم اليهودي ، فأصبح من الضروري أن نركب من الغوطة وننزل إلى الشام أي الشيخ إبراهيم وأنا.

١٨٣

[ميلادي استانوب]

/ / فنزلنا في بيت المعلم حاييم ، فترحب بنا بكل إكرام. وقبل كل شيء سألناه عن بنت سلطان الإنكليز. فأخبرنا أن ابنة أحد وزراء دولة الإنكليز ، يقال لها ميلادي استانوب ، تريد الإقامة بهذه الأقاليم لأن هواء بلادها لا يناسبها ، وذهبت إلى تدمر وطلبت من الباشا بولردي إلى حكام حماة وحمص. وهي الآن مقيمة [في حماة] وربطت أواصر الصداقة المتينة مع العرب ، وصاحبة كرم زائد ولا تزال تهب وتعطي ولا أحد يعرف حقيقة نيتها. فتشوشت أفكارنا من كلام المعلم حاييم ، وبما أن المذكور على علم بسبب سياحتنا فإنه حرص على أن نكون مطمئنين البال وقال : لا تخافوا ، أريد منكم فقط إن شاء الله أن تربطوا شغلكم جيدا مع العرب وكما يجب ، وأنا معكم دائما ، وأعمل كل ما أستطيعه لصالحكم. ثم اطلعنا أيضا على أحوال مهنا الفاضل وعلى الرباط الذي أجراه مع حكام حمص وحماة // (١) ، وطلبنا منه بولردي من قبل سعادة الوزير إلى حكام حمص وحماة يفسخ رباطهم مع مهنا ، ويطلب منهم أن يكونوا مساعدين للدريعي في كل ما يلزمه من الأمور والمصالح. فأحكم المعلم حاييم العمل ١ / ٧٧ مع سعادته وأخرج لنا بولردي عظيما مشددا جدا وكان مضمونه بهذه اللفظات : /

افتخار الأماجد الكرام ، أولادنا المحترمين ، وكيل متسلمنا بمحروسة حماة سليم بك ، ووكيل متسلمنا بمحروسة حمص حسن آغا مملوك ، وسائر الضباط من دالي باشا وآغة

__________________

(١) ورد هذا المقطع صفحة ٢ / ٧٢ و١ / ٧٣.

١٨٤

هواسره (١) ، وكامل خدام بابنا ، وجميع وجوه البلاد ، نحيطكم علما أنه قد طرق إلى مسامعنا أنه حصل منكم تعاهد ورباطات باهوية أنفسكم إلى طرف مهنا الفاضل ، ضد محسوبنا وخاصتنا ، افتحار أمراء العشائر والقبائل ولدنا الدريعي ابن شعلان. فهذا شيء ضد إرادتنا وبخلاف خاطرنا ، ولا نرضى به كليا لأنه غير مناسب لسياسة حكمنا. فالمراد أن ترجعوا عن غيكم الذي أنتم معتمدون عليه ، وتكونوا محبين ومساعدين لولدنا الأمير الدريعي في كل ما يلزم ويقتضي له من الأمور والأغراض ، حيث فوضناه في ديرتنا ، فليكن ذلك معلوما كل العلم لديكم ، وتعتمدوا عليه غاية الاعتماد ، والحذر كل الحذر من حركات المخالفة لأمرنا هذا والسلام.

فوضعنا البولردي عندنا واشترينا لوازمنا من دمشق ، وأصبحنا جاهزين للسفر. فقال الشيخ إبراهيم : يجب أن نذهب ونسلم على الطبيب الفرنسي شاباصون قبل خروجنا ، فلربما يكون عنده أخبار من فرنسا قد نحتاج إليها. فتوجهنا عند المذكور وسلمنا عليه ، فوجدنا عنده الشيخ إبراهيم السائح الإنكليزي (٢) فسلمنا عليه. ولكن الشيخ إبراهيم استاء لأنه التقى بالإنكليزي المذكور ، لأن ذلك ضد مصالحنا وأوصاني أن أكون يقظا لكل كلمة أقولها أمامه. وأما المذكور فإنه عمل كل جهده واحتال حتى يكشف أخبارنا ويطلع على أمورنا ويعرف أسباب سياحتنا فما استطاع ، ونحن عدنا حالا إلى منزلنا وتوجهنا في اليوم التالي عند ٢ / ٧٧ عربنا من غير تماهل فوجدنا الدريعي في حوران نازلا عند الأمير دوخي / ابن سمير. فأعلمناه بالذي جرى وأعطيناه البولردي ففرح به. ثم أقمنا بعض الأيام في حوران ووصلنا خبر عن الوهابي أن قواته زادت جدا ويريد امتلاك ديرة عربستان وهو آخذ بتدبير ذلك. أما مهنا فهو بصحبة عربان كثيرة تلوذ بالوهابي ، ومراده قتال الدريعي. فدخل علينا الخوف والوسواس وفكرنا (٣) بعقولنا أن الإنكليز حضروا عند الوهابي عن طريق بحر الهند من بوغاظ (٤) باب المندب ، وارتبطوا مع الوهابي وأرسلوا ميلادي استانوب عن طريق بر الشام ، وارتبطت مع مهنا الفاضل الذي هو خصمنا ، ومرادهم خراب نظامنا ومنعنا عن متابعة مقاصدنا ، من بعد

__________________

(١) كذا في الأصل ولم يظهر المعنى.

(٢) هو السائح السويسري بوركهارت الذي اكتشف آثار بترا.

(٣) «وكسرنا المادة».

(٤) مضيق.

١٨٥

تعب ثلاث سنين (١) ونحن بهذا العمل. فقال الدريعي : كونوا مطمئني الفكر من طرفي ، إني أعطيت كلاما ولا يمكن أن أرجع عنه ، وأنا أضمن جميع الذي اتفقوا معي أنهم لا يخونون. وما ذا تستطيع أن تعمل هذه البنت؟ أما الوهابي فإني لا أحسب له حسابا ، لأنه في ديرته وكل ما هو قادر عليه إرسال جيش (٢) علينا ، وبعون الله لا آكل همه ، أولا لأن الحكام يجب أن تساعدنا عليه ، فهو عدو السلطان وعدو الديانة ، ثانيا أصبحنا نحن ، بعون الله ، نحو عشرين قبيلة ، متحدين على رأي واحد ، نقاتل ملوك الروم (٣) ، فكونوا أقوياء القلب ولا تفكروا بشيء أبدا. فأطمأنت قلوبنا نوعا ما.

وثاني يوم رحلنا من حوران وابتدأنا بالتقرب من حمص وحماة. وبينما نحن بالقرب من حمص إذ وصل مكتوب من الميلادي إلى الشيخ إبراهيم تدعوه عندها بحماة ، وتعلمه أنها أرسلت من يحضر حرمته مدام لاسكاريس من عكا إلى عندها بحماة ، لأن الشيخ إبراهيم متزوج كرجية وذلك حين كان في مصر مع العمارة (٤) ، وحين حضر من باريس إلى ١ / ٧٨ عربستان أتت معه وأبقاها في عكا كما تقدم الشرح سابقا (٥) ، / ضاق صدر (٦) الشيخ إبراهيم من ذلك جدا وفهمنا أن الشيخ إبراهيم الإنكليزي هو الذي حدثها عنا حين رآنا بدمشق. فاضطر أن يكتب لها جواب مكتوبها بكل رقة واحتشام ، ووعدها أن يزورها في حماة بعد عدة أيام. وكان القصد من ذلك أن يرسل علما إلى مدام لاسكاريس ليمنعها عن الحضور عند الميلادي. فأرسل ساعيا إلى ميلادي ، وكتب مكتوبا إلى امرأته بعكا يحذرها من الذهاب عند ميلادي ، وأرسله مع ساع خاص. فعاد الساعي وأخبر أنه لم ير مدام (٧) لاسكاريس في عكا ، وأخبروه أن ميلادي أرسلت وأحضرتها عندها وهي ذهبت

__________________

(١) كان التوقيع على الرباط في ١٢ تشرين الثاني سنة ١٨١١ ، أي بعد سنة وتسعة أشهر من مغادرة لاسكاريس والصائغ مدينة حلب. ثم تابعا رحلتهما خلال الشتاء والربيع. وعليه فالحوادث المذكورة هنا ، على ما يظهر من سياق الحديث ، وقعت في صيف سنة ١٨١٢.

(٢) «أرضي».

(٣) يريد العثمانيين.

(٤) الحملة الفرنسية.

(٥) انظر أعلاه ص ١١٩.

(٦) «فانحصر».

(٧) السيدة.

١٨٦

حالا بملء إرادتها ، إذ لها ثلاث سنوات من غير خبر من زوجها الخواجه لاسكاريس فتضايق جدا من هذا الخبر ونزل إلى حماة وبقيت أنا عند العرب.

وأما مهنا فإنه لم يزل يقرب إلى طرفنا مع القبائل التي معه ، حتى بقي بيننا مقدار مرحلة واحدة ، وأصبحنا جميعنا في طبراق حماة وحمص. فنزل سحن ابن الدريعي إلى حمص ومعه البولردي ، فأقام ستة أيام ثم عاد وبصحبته الشيخ إبراهيم ، وأخبرنا أنه عرض البولردي على الحاكم فأطاع للأمر ، وعمل إكراما زائدا لسحن وألبسه فروة ، وتوجه من حمص إلى حماة وهناك أيضا حصل له إكرام وهدايا من الحاكم وكامل الضباط (١) وأكابر البلد ، وكذلك ألبسه المتسلم فروة ووعدوه بكل ما يلزم من المساعدة دون أي قصور ، وامتثلوا أوامر الوزير. / / وربط سحن رباطا مع الحكام مقتضاه أنه متى نزل مهنا أو أحد أولاده يرمون القبض عليه بحجة أنه أحضر عربا وهابيين ، وهم أعداء سلطاننا وديانتنا ويريد أن يسلم البلاد للوهابي // (٢).

أما سحن فحين كان بحماة أرسلت ميلادي تدعوه عندها. وتناول عندها طعام الغداء ، وعملت له إكراما زائدا وأعطت هدايا له ولأبيه ولزوجة أبيه لأن والدته متوفية ، وهدايا أيضا لزوجته ، وألبست جميع من معه من الفداوية كل واحد عباءة وجزمة ووعدته أن تزوره.

وأما الذي جرى للشيخ إبراهيم فإنه حين نزل إلى حماة وجد مدام لاسكاريس قد وصلت ونزلت عند ميلادي. فاستاء من ذلك من غير خوف لأنه على علم أن امرأته ٢ / ٧٨ لا تعرف شيئا من أمورنا لتحدث بها ميلادي. وبعد أن سلم / على المذكورة أخذت تسأله عن أمور كثيرة وعن سبب حضوره وعن نيته ، ولكن بكل ظرافة تريد أن تسرق منه الكلام فلم تحصل بفائدة ، فاستاءت منه وأخذت تتحدث معه بقساوة وحتّمت عليه بأمر أن يقول لها ما هو مراده من هذه السياحة بين العرب. فدخل عليه الحمق من ذلك واختلف معها إختلافا شديدا وحرد عليها وأمر امرأته ، مدام لاسكاريس أن تعود حالا إلى عكا. وفي اليوم التالي تمكن من العودة عند عربنا مع سحن. وبعد قليل سافرت ميلادي إلى دمشق ورجعت مدام لاسكاريس إلى عكا.

__________________

(١) «الظبّط».

(٢) ورد هذا المقطع ص ١ / ٧٣ منفردا وأثبتناه هنا وفقا لتأشيرات التي جاءت في المخطوطة.

١٨٧

[الصلح بين الدريعي ومهنا الفاضل]

وأما مهنا الفاضل فإنه كان يريد الحرب معنا لا سيما وقد اشتد ظهره بحكام حمص وحماة ، فأرسل ابنه فارسا ليطلب منهم العساكر والمعونة علينا ، فرأى الحال متغيرا جدا ، وحالا رمى حسن آغا المملوك متسلم حمص القبض عليه وعلى جميع من معه ، نحو عشرة فداوية ، وكبلهم بالزناجير ، وأفهمه أنه يفعل ذلك على حسب أمر الوزير ، لأنكم جئتم بالعرب الوهابيين الذين هم أعداؤنا ، وتريدون أن يملك الوهابي عربستان (١). فخاف فارس ابن مهنا جدا من ذلك وأرسل يخبر أباه بالذي جرى. وأما نحن ، فحين بلغنا ذلك ، أرسلنا حالا مرسالا (٢) إلى مهنا ننذره أن أستعد غدا للحرب والقتال فإننا محركون عساكرنا عليك. وكان مرادنا أن نحوطه بالمصائب من كل الأطراف. فحين وصل مرسالنا إليه ، وأخبره أن غدا صباحا سيشن عليه الدريعي الهجوم ، وكان علم قبل ذلك بقليل أن ابنه فارسا قد ألقي القبض عليه في حمص ، ومن جهة أخرى رأى أن عربه قليلون وأن الدريعي أولا أقوى ، وثانيا أن الحكام والوزير من طرفه ، فكبر عليه الوهم ودخل عليه باب الخوف ، فتلك الليلة رحل ليلا بكامل عربه ونزل إلى صدد ، عند الشيخ عساف ، يترجاه أن يمشي بالصلح ١ / ٧٩ ويصالحه مع الدريعي / إذ رأى أن الأمور عظمت عليه ولم يبق له ملجأ ، فخاف من الأعظم

__________________

(١) «عرب بستان».

(٢) رسول أو مرسل.

١٨٨

ودخل على الشيخ أبو إبراهيم وترجاه. فركب الشيخ المذكور ومهنا وأربعة مشايخ قبائل من الذين مع مهنا ، وبصحبتهم نحو مئة خيال لا غير وحضروا عندنا ، وكنا نازلين على عاصي حماة. فأبقاهم جالسين في محل بعيد عنا نحو نصف ساعة ، وحضر وحده ليعلم مرادنا ، خوفا من أن لا يكون لنا رغبة في الصلح ، والحال أن الصلح كان جل مرادنا.

فحضر المذكور فترحبنا به وأظهرنا له (١) غاية الإكرام اللائق ، فابتدأ يتكلم بخصوص الصلح فصار الدريعي يعتذر ويمتنع فترجيناه نحن أيضا وقام ابنه سحن وقبّل يده وترجاه ، فأعطى كلاما بالصلح بشرط أن يضعوا أسماءهم وختومهم في ورقة الشروط. فأخذ الشيخ عساف على نفسه ضمان ذلك ، وركب للإتيان بهم فحضروا جميعهم ، فركضنا لملاقتهم وأنزلناهم بكل إكرام وإعزاز. فأمر الدريعي بالقهوة فقال مهنا : يا ابن شعلان لا نشرب قهوتك قبل أن نتصالح ونتصافح ونطمر الحصى (٢). وحالا قام مهنا والدريعي واشهرا سيفيهما وكل واحد قبّل سيف الآخر. ثم أنهما تصافحا مع بعضهما وصار كل من الحاضرين يقبل الآخر. وابتدأت النساء تهاهي وتزلغط. ثم أخذ مهنا سبع حصيات من الأرض وحفر مقدار نصف ذراع في الأرض ، وأمسك الحصيات بيده وقال : يا دريعي هذا حقك وحقي طمرناه إلى الأبد. ودفن الحصيات في الحفرة وردّ التراب عليها ، وداسها برجليه وتفل هو والدريعي عليها بعد الطمر ثم جلسا. وأمروا بالقهوة وما عدت تسمع كلمة واحدة مما يخص ذلك. فتعجبنا أنا والشيخ إبراهيم من ذلك لأننا ما كنا رأينا بعد هذه النكتة ولا سمعنا بها. فسألنا عن ذلك فأخبرونا أن ذلك من عاداتهم ، ومعنى السبع حصيات هي السبع فتن التي صارت ضد الإمام علي بالكوفة بعد محمد. وعلامة الطمر أن الشيء مات ولا عاد يذكر ، والتفل فوقه ٢ / ٧٩ يعني / على (٣) الشيطان خزاه الله ، لأنه هو محرك الشر بالعالم فهذا من جملة عاداتهم وتقاليدهم (٤).

__________________

(١) «وسقنا معه».

(٢) «الحصوات».

(٣) يبتدئ هنا الكرّاس رقم ١٠. أما التفل فمعناه البصاق.

(٤) «ذياتهم» (؟) ولعله يريد أزيائهم. إن عادة دفن الحصى طاعنة بالقدم وقد ذكرها شهاب الدين العمري وابن ناظر الجيش والقلقشندي ، ونظن أنها زالت اليوم أو آخذة بالزوال. (انظر مقالنا : رحلة فتح الله الصائغ إلى البادية ، مجلة العرب ص ٧٩٦ ، ج ١١ ، ١٣ ، سنة ١٤٠٦ ه‍ كانون الثاني ، شباط ١٩٨٦ ، رياض).

١٨٩

وبعد الغداء حدثت خلوة كبيرة وقرأنا عليهم ورقة الشروط فأعجبت الجميع. وحالا وضع مهنا ختمه واسمه بالورقة وكذلك رؤساء الأربع قبائل الذين كانوا معه ، وهم ذرّاك ابن فخر ، شيخ قبيلة الجملان (١) ، عشيرته تحوي على مقدار ألف ومئتي بيت ، وأيضا جرّاح ابن معجل شيخ قبيلة الجهما ، عشيرته تحوي على نحو خمس مئة بيت ، وأيضا غالب ابن رمضون ، شيخ قبيلة البلاعيس (٢) ، عشيرته تحوي على ألف وأربع مئة بيت ، وأيضا فارس ابن نجد شيخ قبيلة المصاليخ (٣) ، عشيرته تحوي على مقدار ألفي بيت. فالجميع وضعوا ختومهم وأسماءهم وقبلوا بما شرط عليهم وأعطوا كلاما ثابتا وصار صلح على أتم المراد. فارتاح بالنا جدا من ذلك إذ لم يبق قبيلة في عربستان عدوة لنا بل الجميع اتحدوا معنا. ثم نزل سحن إلى حمص وفكّ ابن مهنا من الحبس وألبسه خلعة من المتسلم وحضر عندنا. وكذلك الشيخ عساف كشف على المادة وفهمها جيدا ، وعاتبنا لأننا لم نعرفه بنيتنا منذ البداية ، لأنه كان أسعفنا ببعض الأمور. ثم المذكور ودعنا ورجع إلى صدد.

__________________

(١) من العشائر الغنّامة المستقرة اليوم (وصفي زكريا ، عشائر الشام ، ج ٢ ، ص ٣٩ و١٥٤).

(٢) البلاعيس : فرع من الأشاجعة.

(٣) المصاليخ ، من ولد علي ، من عنزة.

١٩٠

[حلفة زواج في البادية]

ثم تفرقت القبائل من حدود بلاد حوران إلى شمالي حلب ، جميعها عصبة واحدة قولا وعملا والرأس عليهم هو الدريعي ، وبقينا بانتظار خلوص فصل الصيف حتى نتوجه إلى المشرق ونكمّل المقصود. وأثناء هذه المدة اتفق أن اجتمعت جملة قبائل على منزلتين كبيرتين الواحدة إلى جانب الأخرى ، بالقرب من حلب ، يقال لهما تل السلطان والمتنج. فكان من جملة القبائل الجربا ، ولأميرها فارس ولد [شاب] فاهتم بزواجه وأراد أن يأخذ له بنت بركز [برجس] ابن اهديب. فتاة جميلة جدا اسمها صبحة. فأتى عند الدريعي وترجاه أن يذهب معه حتى يطلبها على حسب عاداتهم. / فراح الدريعي وجملة مشائخ ورؤساء قبائل وبعض الكبراء سنا (١) ، وأنا من جملتهم لأجل المشاهدة (٢) لأننا ما كنا رأينا بعد عرسا منظوما. وكان بركز بعيدا عنا نحو ساعة من الزمن.

فركبنا جميعنا وكل منا لبس أفخر ما عنده ، وجاء العريس معنا إذ لا بد للعروس أن تراه. فإن أعجبها أعطت كلاما وإن لم يعجبها ما صار شغل مثل طرائق الإفرنج. وكان اسمه جراح ، وهو شاب عظيم حلو المنظر. فحين أقبلنا عليهم كان وصلهم الخبر ، فما خرج أحد

__________________

(١) «اختيارية».

(٢) «الفرجة».

١٩١

للقائنا ولا وقف أحد على أقدامه (١) ، وهذه عادتهم حتى لا يقال عنهم أنهم فرحون بزواج ابنتهم ، بل العادة عندهم أن يظهروا أن ليس لهم رغبة (٢) ويعتذروا من الطالبين.

ثم وصلنا ونزلنا عن خيلنا وسلمنا عليهم فترحّبوا بنا وأمر بركز بالقهوة. فبعد شرب القهوة قال الدريعي : ما لك يا بركز عابس الوجه بنا؟ فإن كان ذلك بسبب الغداء ، فنحن لا نريده ، إذ أكلنا في بيوتنا وجئنا عندك لنراك فقط. فأجابته زوجة بركز بنت هدّال التي حياتي على يدها وقالت : أهلا وسهلا بالدريعي وكامل من معه ، مرحبا بكم ، وأبشروا بالغداء والذي تريدونه حاضر أمامكم. فاستكثرنا جميعنا بخيرها وابتدأ الكلام.

وكانت العروس من خلف النساء تنظر إلى العريس فأعجبها وقالت لأمها : قد أعجبني العريس. فصار لنا علم بأن العريس قد قبل. فقال الدريعي : يا بركز أطلب ببنتك على حسب عوائدنا. فقام ودخل إلى الحرم وشاور امرأته وابنته وطلع وقال : أريد بصبحة مئة ناقة وخمسة رؤوس خيل نجادي (٣) ، وخمس مئة نعجة ، وثلاثة عبيد وثلاث عبدات ، وحساوية مقصبة ، وشملة مقصبة وزبّونا (٤) شاميا يعني قطنيا شاميا ومعاضد كهربا ومرجان أي أساور ، وجزمة صفراء. فقال له الدريعي : إن كنت لا ترغب في زواج ابنتك فعرفنا بذلك كي ٢ / ٨٠ لا نتعب ونتكلم ، إذ يقول المثل : إذا كنت لا تريد أن تعطي بنتك فغلّ نقدها. / والنتيجة ، بعد كلام كثير ورجاء شديد ، انتهى الحال على خمسين ناقة ورأسي خيل ومئتي نعجة وعبد وعبدة وحساوية وشملة وزبّون ومعاضد كهربا ومرجان وجزمة صفراء ، وإلى والدها حساوية وجزمة ، وإلى أخيها كذلك ، وإلى أمها حساوية وشملة. وهذه الأشياء الأخيرة من غير طلب منهم ، لأن العادة أن يقدمها العريس. فقال الدريعي : أكتب يا خطيب الذي صار عليه الإتفاق. فكتبت جميع ذلك في ورقة ووضعنا بها اسماء شهود الحال ، وقرأنا الفاتحة على ذلك. وبعدئذ أتوا بحليب النوق وسقوا جميع من كان حاضرا. وهذا عوضا عن الشرابات التي يقدمها أهالي المدن ، وصار الوعد إلى ثلاثة أيام لإحضار النقد جميعه. ثم بعد الغداء ركب الشباب وصار ميدان لعب خيل عظيم ، والعريس من جملتهم ، والعروس تنظر إلى عريسها وتتفرج على لعبه فأعجبها جدا. فباركنا لهما وتوجهنا إلى عربنا.

__________________

(١) «فما حد لاقا لنا ولا قام على حيله».

(٢) «ما لهم خاطر».

(٣) خيل أصايل نجدية.

(٤) من التركية : نوع من الصدرية بأكمام موشاة.

١٩٢

وفي اليوم الثاني أرسلوا مرسالا (١) إلى حلب فأتى بالمطلوب وأعدّوا كل شيء. وفي اليوم الثالث الذي هو يوم الوعد ، منذ الصباح ، فرزوا خمسين ناقة بيضاء عظيمة ورأسي خيل ومئتي نعجة وجميع الذي صار القول به. ثم جمعوا حشيشا من البرية وزينوا رؤوس الناقات بالحشيش الأخضر ، وزينوا العبد والعبدة وأركبوهما على الفرسين اللذين تقدّم ذكرهما ، وركب نحو خمس مئة خيال بأيديهم (٢) الرماح ، وساقوا الجمال أمامهم ، بالغناء الحربي والتقويصات (٣). وكذلك نحو مئتي امرأة ، جميعهن مزينات وسائقات الغنم أمامهن ، والعبدة راكبة معهن ، وسائر النساء ماشيات بالغناء والتهاليل (٤) والزلاغيط. ومشى خيال أمام الجميع ناشرا على رمحه زنارا أبيض على هيئة العلم وهو ينادي هذه راية بركز ابن اهديب. ومشت امرأة أمام الغنم ، وبيدها إناء من فخار (٥) فيه نار ، تضع عليها بخور البان كل الطريق ونحن سائرون. وكان أمام الجميع حامل الراية البيضاء ، وبعده النوق ، وبعد النوق البواردية ١ / ٨١ الرجّالة (٦) ، / وبعد الرجالة الخيالة ، وبعد الخيالة المرأة التي بيدها البخور ، وبعد المرأة الغنم ، وبعد الغنم العبدة راكبة ، وبعد العبدة النساء ، وبعد النساء الأولاد ومعهم جمل يحمل الحوائج من غير حزم ، وعلى ظهره مشلح من حد رأسه إلى ذنبه ، وقد نشرت الحوائج عليه ، الحاجة بعد الحاجة ، حتى الجزمات مربوطة بخيطان ومدليات على جانبي الجمل ، وركب أحد الأولاد من أكابر القبيلة فوق الجمل على الحوائج [وهو يقول] : أخمد الله نيران الخصم ، كسر الله قوة عدونا ، نصرنا الله على من يعادينا ، والأولاد ترد عليه : آمين ، إلى أن وصلنا. فخرج للقائنا نحو ألف رجل وكامل نساء القبيلة ، بالبخور والزلاغيط وضرب البارود والغناء الحربي ولعب الخيل ، حتى طار الغبار وغطى عين الشمس من طرد الخيل وكثرة الناس. فوضعنا جميع ما جئنا به معنا في سهل أمام البيت وجلسنا. فأتوا بالقهوة وسقوا الجميع. وكانوا غلوا القهوة بالدست الكبير. ففحصنا عن ذلك فأخبرونا أنهم وضعوا في الدست راوية ماء ونحو خمسة أرطال بن. وأما الشيخ إبراهيم فإنه أملأ طاسة قهوة وشربها ، حتى يقول يوما شربت قهوة بالطاسة من الدست. وذبحوا للغداء عشرة جمال وخمسا وعشرين نعجة غنم

__________________

(١) رسول أو مرسل.

(٢) عبارة المؤلف بالأصل : «وبأيدهم رماح وركبت نحو خمس مئة خيال».

(٣) «والقويصات».

(٤) «الهلاهيل».

(٥) «شقف».

(٦) «الزلم».

١٩٣

حايل (١) ، وضعوا أرزا ولحما مسلوقا وأكثروا السمن والخبز حتى أشبعوا جميع العربان وفضل من الأكل. فبعد ذلك شربنا دستا آخر قهوة ، وسلمنا النقد إلى بركز وكتبنا الكتاب على حسب عاداتهم وقرأنا الفاتحة ، وصار الوعد بعد ثلاثة أيام نحضر لنأخذ العروس ويتم العرس. فدخلت أنا والشيخ إبراهيم عند زوجة بركز وباركنا لهم. واستكثر الشيخ إبراهيم بخيرها لما فعلت يوم الذي أنقذتني من القتل ، لأنه ما كان رآها قبل ذلك. فكان جوابها إلى الشيخ ٢ / ٨١ إبراهيم أنها تريد أن تكمل معروفها معي فتزوجني عندها وتعطيني بنت أختها. فالمذكور شكر فضلها ووعدنا إلى السنة / القابلة إن شاء الله أنه سيحضر عندها ويزوجني ، وكان ذلك وعدا بطالا (٢) حتى لا يرفض كلامها ، ثم توجهنا جميعنا إلى عربنا.

وقبل إنتهاء الأيام الثلاثة التي سيكون العرس بعدها ، إذ وصل خبر أن غزوا عظيما وصل من عند الوهابي إلى بر الشام ، بقوة عظيمة وجيش كبير. فأرسل الدريعي حالا إنذارا إلى جميع العربان وأعلمهم أن يكونوا دائما مجتمعين ، كل ثلاث أو أربع قبائل معا كي يتمكنوا من أن يدفعوا عن أنفسهم ضرر الوهابيين.

وثاني يوم بعد ذلك كانت مضت الأيام الثلاثة ، فاهتموا بإحضار العروس. فركب الدريعي وكل كبار القبائل ونحو ألف خيال وخمس مئة امرأة ومشينا ، إلا أن العريس لم يأت معنا. والسبب أنه سيحدث قتال بين أهل العروس وأهل العريس ، على حسب عاداتهم. فإذا كان العريس حاضرا فقد يقتله أحد أقرباء العروس ، إذ قد يكون لأحد من الشباب خاطر بها أو أنه يحب الفتاة ويريد أن يأخذها فيقتل العريس حتى تبقى العروس له. فمشينا وحين أقبلنا عليهم نفذت خيلهم علينا مثل الأسود. فنزل كل الكبار والمشايخ الذين معنا [عن خيولهم] ، وكذلك جاء كبار [قبيلة أهل العروس] ومشايخها وجلسنا بعيدا عن البيوت ، وابتدأ الشباب بالحرب كأنها حرب جدية مثل العادة. فدامت الحرب نحو ساعتين من الزمن حتى وقع من الطرفين نحو عشرين جريحا (٣) ، وأخيرا تفوقت خيلنا عليهم وهجموا على بيت بركز وأخذوا البنت وسلموها إلى النساء. ثم أتى الجميع واجتمعنا كلنا جملة وشربنا قهوة فقط ، وإذ مقبل علينا نحو عشرين امرأة الّاتي يقال لهن حبّابات العروس يردن أن يذهبن

__________________

(١) حائل تجمع على حول وحيال ، الحيوان الذي لا يزيد عمره على السنة.

(٢) باطل.

(٣) «مجاريح».

١٩٤

معها ، وبصحبتهن ثلاثة جمال ، الواحد عليه هودج العروس ملبس جميعه بجوخ أحمر وشرّابات أشكال وأشكال ، ومرصع بالودع الأبيض وأنواع الخرز وريش النعام والمرايا الصغار ، النتيجة منظر جميل جدا (١) ، وعلى الجمل الثاني البيت والعواميد ، وعلى الجمل الثالث أواعي البيت مثل السراجات والبسط والنحاس لأجل المطبخ : فهذا فقط ما يجب أن على ١ / ٨٢ العروس أن يكون معها. / فركبنا ومشت جميع الخيالة أماما ، والعروس راكبة في هودجها وحولها النساء ، كل واحدة في هودج مزين ، ومشى وراء العروس نحو عشرة خيالة من أقربائها ونحن جميعنا أمامها. وكل الدرب لعب خيل ومحاربة وضرب تفنك وزلاغيط وتهاليل وكلما مررنا على عرب بالبخور ذبحوا رأس غنم أمام جمل العروس. وحين وصلنا دخلنا بيت فارس أبي العريس ، والتمت العربان من صدر البرية وصارت تأتي حتى اجتمع خلق لا يحصي عددها غير الله. فكل تلك الليلة لعب ماصول (٢) ودق طبول ، ورقص وإشعال النيران من كل جانب إلى أن أصبح الصباح. فابتدأوا يذبحون الذبائح لأجل أن يصنعوا الغداء ، فذبحوا يومئذ عشرين جملا وخمسين رأس غنم ، وأتوا من حلب بخمسة قناطير أرز ، وكانت القبائل المجتمعة لأجل العرس ثماني قبائل. فأكل الجميع وشبعوا وفضل من الأكل حتى نادوا بالنزل : «العيش يا جوعان» ، إلى أن صار المساء وابتدأت الناس تعود إلى بيوتها. فذهبت امرأة فارس ومعها عدة نساء ونصبت بيتا صغيرا على عامود واحد بعيدا عن بيتها نحو مرمى الرصاص. وكان ذلك لأجل خلوة العريس مع عروسته. ثم أنهم أخذوا (٣) العروس وأدخلوها ذلك البيت. وقبّل العريس يد أبيه وأمه ويد الدريعي ودخل على عروسته ، وكل منا ذهب إلى سبيله.

وفي اليوم التالي رحنا على حسب العادة لنبارك للعريس فأخبرونا أنه ما استطاع أن يتزوج. وهذا شيء عند العرب عار عظيم (٤) ، وكذلك في الليلة الثانية والثالثة لم يتمكن ، حتى أصبح أحدوثة بين العرب ، وصار أبوه لا يكلمه ولا يدعه يقعد بين الناس ولا يأمر له ٢ / ٨٢ بقهوة بل أنه ، من جملة علامات الإحتقار ، أحضر له مغزلا مثل الذي تغزل به النساء / الصوف لأجل حياكة البسط والعدول ، ومعنى ذلك أنك امرأة. فاضطرب (٥) العريس وأمه

__________________

(١) «فرجة».

(٢) كذا؟ ولعله يريد متواصل.

(٣) كذا في المخطوطة ولا نعلم لمن يعود الضمير. ولعل الصائغ يريد النساء وكان الصواب أن يكتب : «ثم أنهن أخذن العروس وأدخلنها».

(٤) «قوي رذل».

(٥) «ضاج».

١٩٥

وكل الناس من ذلك وصار سيرة وفضيحة بين العرب. فأرسلت أمه رسولا إليّ تستدعيني ، فذهبت عندها. وحين دخولي وضعت يدها بزنّاري وقالت لي : أنا بجيرتك ، تكتب لأبني حجابا حتى يستطيع أن يتزوج واطلب الذي تريده فهو حاضر أمامك. فضحكت في نفسي ثم قلت : مرحبا بك الآن أكتب له وبحول الله سيتزوج هذه الليلة. وفي الحال أخذت ورقة وكتبت عليها كلها أحرفا مقطعة وأرقاما لا معنى لها ، إنما طلبت من الله سبحانه وتعالى ألّا يخجلني أمام الناس ، وأعطيته الحجاب وقلت له : صحيح أنك كنت مربوطا ، والآن حليتك من الرباط ، فلا تخف واذهب وتزوج بكل جراءة ، لأنك صرت الآن مطلقا ، إذ كان يظن أنه مربوط. فتأكد عنده ذلك واعتمد على كلامي أني فككته من الربط. فذهب حالا ومن فرحه لم يصبر ، بل أبقاني عند أمه وذهب وتزوج حالا. فصار الخبر عند أمه وعند جميع الناس ، فابتدأوا بالزلاغيط والأفراح ، وصرت عندهم في عز عظيم كأحد الانبياء وشاع خبر هذه الأعجوبة بين العربان وازداد إكرامي عندهم.

١٩٦

[الدريعي يردّ غزوا وهابيا]

وبعد ذلك تواردت أخبار جيوش الوهابي تفيد أنها وصلت إلى الديرة وأنها الآن تحاصر تدمر ، فرحلنا حالا بكل جد وسرعة لملاقاة العدو في نواحي تدمر. فالتقينا بالوهابيين في محل يقال له الدّوة ، ما بين القريتين وتدمر. وهناك علقت نيران الحرب بكل حرارة وشدة. وكان الوهابيون نحو عشرة آلاف ، منهم خيالة ومنهم مراديف أي كل اثنين منهم على جمل ، ومنهم مضاعف أي كل أربعة منهم على جمل بأربع بواريد فتيل ، الأربعة ظهورهم إلى بعضهم فوق الجمل ، الواحد من الأمام والثاني من الوراء والثالث على جانب والرابع على الجانب الآخر ، ١ / ٨٣ وقد عملوا لهم مقاعد من عشب / مثل الكراسي مربوطة بحبال وعندهم أكل مشترك بينهم وهو جراب طحين وجراب تمر وعكّة سمن. فاليوم الذي يصيبون فيه نهبا ينهبونه ، وشيئا للأكل فإنهم يأكلون على حسب العادة ، واليوم الذي لا يصيبون فيه شيئا ، يأكل كل واحد منهم قبضة طحين ، يجبلها بالسمن ، ويعمل منهم ثلاث كريّات (١) ، كل واحدة بحجم الجوزة ، فيأكلها ثم يأكل بعض التمرات ويشرب قليلا من الماء أو الحليب ، إذ معهم جود لأجل الماء مربوطة تحت بطن الذلول ، النتيجة كأنهم في قلعة لا يحتاجون إلى شيء قط.

فوقع الحرب واشتد القتال وطار الغبار وعجت الأعفار وكان نهار من الاعمار إلى أن دخل الليل وأعتم. فارتد كل رفيق إلى محله. وكان الراجح يومها نحن ، حيث أولا كنا أكثر

__________________

(١) «دعابيل».

١٩٧

عددا منهم ، وثانيا أن بيوتنا ونساءنا معنا ، وهذا شيء مجرب أن البدوي يقاتل زيادة إذا كان أهله معه ، ويكون له نخوة ومرؤة وشجاعة أضعاف عما إذا كان أجرد أي من غير أهله ، وهذا شيء قد لاحظناه عدة مرات ، وكان الوهابيون جردا أي من غير نسائهم. وثاني [يوم] ارتدوا علينا واشتعل الحرب واشتد القتال بصرامة لا توصف. وأمر الله بالنصر فانتصرنا عليهم ، وقتل منهم عدد وأخذنا أربعة عشر فرسا كلاعة (١) يعني كسبا ، وستين ذلولا واثنين وعشرين ممسوكا يعني أسيرا وأنكسر عسكر الوهابي وهج في البرية. فسار الخبر في البلاد ففرح الحكام ، وصار للدريعي صيت عظيم ، وأصبحت الديرة والقرى والعربان والحكام بيده مثل الخاتم يديرها كما يشاء ، وكان هذا مطلوبنا وغاية رغبتنا.

__________________

(١) كذا ، ولعله يريد قلاعة.

١٩٨

[الاستراحة في حماة]

فبعد ذلك قال الشيخ إبراهيم أن أشغالنا والحمد لله تمشي على حسب خاطرنا وكل شيء تمّ إلى الآن بموجب مرادنا. فيقتضي الآن أن ننزل إلى حماة لأجل أشغالي ، إذ علي أن أكتب مكاتيب عديدة ، وأقوم بأشغال كثيرة ، ويجب أيضا أن نهتم بأمورنا إذ قربت أيام التشريق فنأخذ ما نحتاج إليه في الطريق. ثم تواعدنا مع الدريعي أنه متى قرب وقت التشريق ٢ / ٨٣ يرسل لإحضارنا من حماة / لنتوجه إلى الشرق ونتم شغلنا. فنزلنا إلى حماة وحين دخولنا وجدنا صاحبنا نوفلا (١). فأخذ بنا وأنزلنا في بيت خالته ، بيت يعقوب السرياني. فأبدوا لنا غاية الإكرام والإعزاز. وأما الشيخ إبراهيم فإنه من حين دخولنا قال لي : يا ولدي إنك تعبت كثيرا وتحملت أثقالا ومتاعب فيلزمك قليل من الراحة مع إنشراح (٢) ، فهذه حماة بلد المنتزهات ، وأنا علي كتابة مكاتيب كثيرة ، فأنت اعمل لبسطك وانشراحك (٣) ، ودعني أتمّ أشغالي والواجب علي. فابتدأت أنا ونوفل وأولاد يعقوب الذي نحن نازلون عندهم بالترويح عن النفس ، كل يوم في البساتين والأفراح والمقاصف والمنتزهات ، مدة عشرة أيام وهو دائما يكتب. وبعد ذلك أرسل مكاتيبه بصحبة ساع خاص إلى حلب ، وعند رجوع الساعي

__________________

(١) انظر اعلاه ص ٤١. إلا أن نوفلا كان يسكن حمص ، فهل وجد مصادفة بحماة؟.

(٢) «شوية راحة بكيفية».

(٣) «فتش عن كيفيتك».

١٩٩

أحضر معه مالا وافرا لنفقتنا (١). فابتدأنا نتسوق من حماة بضائع تصلح للعرب لكي نشرّق معهم ونكمل مقاصدنا. فاشترينا جميع ما يلزم لنا من الحاجات ودبرنا كل شيء وأصبحنا مستعدين وإذ وصلني كتاب من عند والدتي (٢) تخبرني فيه بوفاة أخي وليس لي غيره من الأقرباء ، ومضمون الكتاب أولا وفاة المرحوم أخي في مدينة بيروت حيث توفي غريبا بالطاعون ، وثانيا تشكي لي حالها من ألم حزنها على أخي واحتراق قلبها علي ، لأنها بغير خبر مني ولا تعلم إذا كنت مت أو لم أزل حيا ، وتشرح لي وحدتها ووحشتها إذ لم يبق لها أي ملجأ تستأنس به ، فليس لها من طرف أهلها ولا من طرف والدي أحد على قيد الحياة (٣) ، فلم يبق من عائلتها أحد حي سواها ، كما لم يبق من عائلة أبي غيري. فمن شدة حزنها ووفاة أخي وفقدي اعتراها مرض سرساب (٤) ، كمثل الجنون ، وبقيت ساهية (٥) بالبلد. ففكر أيها ١ / ٨٤ القارئ في أي حال أصبحت حين قرأت هذا المكتوب / وأي حزن وغم أحاقا بقلبي ، فأخذت بالبكاء والنحيب بسبب هاتين المصيبتين ، فتارة أفكر بفقد أخي الوحيد ، وتارة أفكر بأحوال والدتي الحنونة. فأقمت ثلاثة أيام بالعويل (٦) والبكاء ليلا نهارا من غير أن يدخل الزاد إلى فمي كليا ، فترجيت الشيخ إبراهيم أن يسمح لي بكتابة مكتوب إلى والدتي كي أبرد قلبها نوعا ما فما سمح ، إذ خاف أن تحضر إلى حماة قبل سفرنا وتعطل أشغالنا. وأخيرا من بعد رجاء عظيم سمح لي أن أكتب لها مكتوبا في اليوم الذي سنذهب عند العرب لنشرق معهم ، إذ نكون عندئذ قد غادرنا حماة وذلك لكي لا تحضر عندنا ، فاعتمد رأينا على ذلك.

فبعد جميع هذه الأمور ورد إلينا من عند الدريعي أربعة رجال (٧) خيالة واثنان معهما جمال كي تحمل العفش (٨) ، وفرسان فريغان (٩) ، الواحد للشيخ إبراهيم والآخر لي ، إذ

__________________

(١) «خرجية».

(٢) لا يعلمنا الصائغ كيف وصل هذا الكتاب ، مع أن والدته لم تستلم منه أي خبر ، بل أنها تجهل إذا كان ابنها حيا أو ميتا ، كما يقول بعد أسطر قليلة.

(٣) «طيب».

(٤) نوع من السهو والتردد والتحير في الأفكار والأعمال.

(٥) «سابحة».

(٦) «بالجعير».

(٧) «أزلام».

(٨) اللبش.

(٩) «فرغ» ، فرس فريغ : واسع المشي ، سريع (لسان العرب).

٢٠٠