بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

لأنا نقول : الرد في الحياة لا يبطل الوصية المستمرة ببقاء الموصى عليها الى الموت ، ولذا تنفذ بالإجازة بعده. نعم لو وقع الرد بعد الموت لم تؤثر الإجازة بعده ، لانقطاع الوصية به ، والنصوص المتقدمة إنما دلت على عدم تأثير ردّ الوارث الواقع بعد الموت لا قبله ، بل ولا المقارن له بحيث يكون زمان الموت ظرفا لتحقق الشرط والمانع معا.

وان ظهر من بعض نفوذ الإجازة في الحياة مطلقا وعدم تأثير الرد بعدها أصلا وإن كان في الحياة. ولعله نظرا إلى إطلاق خبر المنصور المتقدم ، كإطلاق الفتاوى بالنفوذ مع الإجازة في الحياة.

وفيه : ان الإطلاق مسوق لبيان تأثير الإجازة في النفوذ دفعا لتوهم عدم تأثيرها أصلا كما هو أحد القولين. نعم يتم ذلك بناء على أن الدليل هو سقوط الحق بالإجازة ، وقد عرفت ضعفه. وبالجملة لا دليل على أن الرد بعد الإجازة لا تأثير له مطلقا ، وإنما المسلّم عدم تأثيره بعد الموت لو وقعت الإجازة قبله. وعليه يتم ما ذكرناه من وجه تطبيق ذلك على القاعدة.

وحينئذ ، فلو أجاز في الحياة ورد بعدها كذلك لم تبطل الوصية وصحت الإجازة بعدهما مطلقا ، قبل موت الموصى وبعده ، لما عرفت من استمرار الوصية ، وأنها تجري مجرى تجددها آنا فآنا الى الموت.

وكيف كان فالأظهر ما عليه الأكثر : من نفوذ الوصية فيما زاد على الثلث لو أجاز الوارث في حياة المورث.

هذا وهل الحكم أي النفوذ فيما زاد على الثلث بإجازة الوارث في حياة الموصي مخصوص بما إذا كانت الإجازة في مرض الموصي أو يعم حالة الصحة أيضا قيل : بالأول ه بل نسب إلى أكثرهم ، ولعله استشعر ذلك من استدلالهم عليه بأن اجازة الوارث ـ ولو في الحياة ـ إسقاط لحقه وان لم يملك قبل الموت من نحو حق ملك أن يملك ، ومعلوم أن ذلك

٨١

انما يتم في مرض الموت بناء على ثبوت حق له فيه ، ولذا كانت منجزاته من الثلث. وفيه ـ مع ضعف المبنى من أصله وعدم استلزام خروج المنجزات من الثلث ثبوت حق للوارث في حياة المورث ، بل هو للتعبد بالأدلة الخاصة بناء على دلالتها عليه ، وان منعنا عن ذلك في محله وقلنا بخروجه من الأصل ـ يدفعه عموم النصوص المتقدمة الناشي عن ترك الاستفصال الشامل لما لو وقعت الإجازة في حال صحة الموصي أيضا.

وكيف كان : فان كان الوارث واحدا فواضح ، وان كان متعددا وأجازوا جميعا فكذلك ، وان أجاز بعضهم نفذت الوصية في حقه خاصة بقدر ما يخصه من الزائد ، كما لو كان للموصى ابن وبنت وأوصى لزيد بنصف ماله قسمت التركة ثمان عشرة حصة ، حاصلة من ضرب ثلاثة في ستة ، فللموصى له الثلث وهو ستة بلا توقف على الإجازة ، والباقي وهو اثنتا عشرة ، بحسب الأصل للورثة ، فللابن الثلثان منها وهو ثمانية ، وللبنت الثلث وهو أربعة ، فإذا كانت الوصية بالنصف وهو تسعة من ثمانية عشر فقد أوصى بما زاد على الثلث ـ وهو ستة ـ بثلاثة : للابن منها اثنان وللبنت واحد. فإن أجازا معا ، أضيفت الثلاثة ـ من سهم الذكر اثنان ومن سهم الأنثى واحد ـ الى الثلث ، فيبلغ التسعة الموصى به ، وهو النصف ، وكان بعد إجازتهما للابن ستة وللبنت ثلاثة ، وان أجاز أحدهما دون الآخر أضيف إلى الثلث ـ وهو ستة ـ ما هو له من الثلاثة.

ثم انه يعتبر في المجيز حال الإجازة : أن يكون جائز التصرف ، فلا تصح الإجازة من المجنون حال جنونه ، وبحكمه السكران والمغمى عليه ، ولا من الصبي لدون العشر ، وأما المحجر عليه لفلس : فان وقعت الإجازة في حياة الموصي نفذت ، لأنها ليست تصرفا ماليا ولا متعلقا بماله المتعلق به حق الغرماء ، وان وقعت بعد الموت : فان قلنا بكون الإجازة ناقلة

٨٢

وان الموصى له يتلقى من الوارث المجيز ـ كما عليه بعض العامة ـ فلا تنفذ لتعلق حق الغرماء به قبلها ، وان قلنا بأنها كاشفة ، فيحتمل الأمران : الصحة ونفوذ الوصية بالإجازة التي مفادها الرضا بتمليك الموصي عند الموت لمن أوصى ، ولم يكن هو حينئذ مالا له حتى يتعلق به حق الغرماء ، والعدم بناء على سببية الإرث لملك الوارث الموجب لتعلق حق الغريم به ، من غير فرق بين كون الإجازة ناقلة أو كاشفة إلا في زمان النقل من حين الإجازة أو عند الموت ، وهو لا يجدي فرقا في تعلق حق الغريم بعد الدخول في ملك الوارث المفلّس على التقديرين.

اللهم إلا أن يدعى أن ترتب ملك الموصى له على ملك الوارث على الكشف انما هو بالذات والعلية ، لا بالزمان نحو شراء الولد أحد عموديه ومثل هذا النحو من الملك لعدم استقراره لا يتعلق به حق الغريم (ودعوى) أن مناط الاستقرار وعدمه بعد أن كان بيد المجيز المفلّس لم تصح منه الإجازة حتى يخرج بها عما يتعلق به حق الغريم (مدفوعة) بأن المنع عن الإجازة فرع تعلّق الحق ، وهو أول الكلام ، ومرجعه الى أن المفلّس يمكنه صيرورة المال متعلقا به حق الغريم وغير متعلق به ، واختياره الثاني بالإجازة ليس تصرفا فيما تعلق به حق الغير حتى يكون ممنوعا عنه.

فإذا أول الأمرين المحتملين هو الأقوى ، وان قلنا بتقدم ملك الوارث له طبعا على الكشف أيضا.

بقي في المقام مسائل

(الأولى) يعتبر في المجيز أن يكون وارثا عند الموت ، لأنه وقت انتقال التركة إليه ، لا عند الوصية ، فلو أجاز من كان وارثا عند الوصية وكان الوارث غيره عند الموت : إما لموته أو لغيره من الأسباب ، لم تنفع إجازته. ولو ولد له ولد بعد الوصية اعتبرت أجازته. ولو انعكس الأمر

٨٣

بأن لم يكن المجيز عند الوصية وارثا ، سواء كان أجنبيا أو قرابة ثم صار وارثا عند الموت ، لم تعتبر إجازته السابقة ، لعدم التأثير ولو شأنا عند الإنشاء ، وعدم الإنشاء وقت التأثير. ولا يقاس ذلك بالإجازة في عقد الفضولي ، ولا فيه بمسألة (من باع ثم ملك) بناء على عدم الحاجة فيه الى لحوق الإجازة بعد الملك ، بل نظيره في الفضولي ما لو أجار ، ثم ملك الإجازة. والاكتفاء ـ ثمة ـ بالإجازة السابقة أول الكلام ، بل هو ممنوع ، وان جوزنا إجازة الإجازة لأنها في الحقيقة هي إجازة العقد وإنشاء لامضائه ولو بتوسط إجازة الغير ، وهنا نقول أيضا بكفاية إجازة الغير ، لاتحاد المناط ، وهو اجازة عقد الوصية ولو بتوسط اجازة الغير.

(الثانية) لما كانت الإجازة معناها الإمضاء والتنفيذ كانت إنشاء فلا يكفي مجرد الرضا والطيب ، كما يكفي ذلك في أكل طعام الغير ولبس لباسه ـ مثلا ـ للاكتفاء في أمثال ذلك من الابحات بإحراز الرضا بل لا يستغنى باذنه لو أذن له بالوصية بما زاد عن لحوق الإجازة بعدها في التنفيذ. نعم يكتفى بما يدل على تحققه قولا بإحدى الدلالات الثلاث ، وفعلا كما في سائر الأسباب المثبتة للحقوق والمسقطة لها.

(الثالثة) ليست الإجازة من الوارث فيما زاد على الثلث على سبيل الفور ، للأصل ، وإطلاق النص والفتوى ، كقبول الموصى له وإجازة الفضولي.

(الرابعة) لو وقع الاختلاف بين الوصي والورثة في أصل الوصية أو في الزيادة على الثلث أو في القدر الزائد عليه أو في أصل الإجازة أو في قدر المجاز ، كان المرجع ما يقتضيه ميزان التنازع (١)

__________________

(١) من أن على المدعي البينة ، وعلى المنكر اليمين ـ على تفصيل في باب الدعاوي.

٨٤

(الخامسة) للموصي تعيين ثلثه في عين مخصوصة من التركة ، وله تفويض التعيين إلى الوصي ، فيتعين بتعيينه ومع الإطلاق ـ كما لو قال :

ثلث مالي لفلان ـ كان شريكا مع الورثة بالإشاعة.

(السادسة) لو كان الموصى به منفعة عين مؤبدة أو موقتة ، وأمكن معرفة قيمتها بنفسها ، فواضح كمنفعة الدار سنة أو سنتين ـ مثلا. وإلا فطريق معرفة الموصى به هو أن تقوّم العين بمنفعتها وتقوم مسلوبة المنفعة في تلك المدة ، فما به التفاوت بين القيمتين هو الموصى به.

(السابعة) لو كان من رأي الموصي اجتهادا أو تقليدا نفوذ الوصية بما أوصى ، وان زاد على الثلث قهرا على الوارث ، ولم يكن من رأي الوصي ذلك ، لم يكن له تنفيذ الوصية فيما زاد ، لأنه مكلف بالعمل بما يراه مشروعا باعتقاده عن تقليد أو اجتهاد.

(الثامنة) لو شك الوصي في كون الموصى به قدر الثلث أو أزيد ففي وجوب التربص عن التصرف فيما زاد على المتيقن؟ وعدمه ، وجهان : ولعل الثاني هو الأقرب للأصل ، سيما مع نص الموصي المقبول قوله بعدم الزيادة وان ضمن للوارث ما أتلفه عليه لو تبين أنه له. نعم جائز له التربص حذرا من لحوق الضمان.

ولو علم بالزيادة على الثلث ، ولكن شك في كونها من التبرع الموقوف على الإجازة أو مما يخرج من الأصل أو خارجا عن ملكه ، فالأقرب وجوب التوقف حتى يعلم ذلك ، لان التركة للوارث الا ما خرج بالوصية من الثلث (ودعوى) جواز التصرف بما أوصى حتى يتبين الخلاف حملا لفعل المسلم على الصحيح (يدفعها) أن الوصية بما زاد لم تكن باطلة حتى يجب حملها على الصحيح ، والتوقف على الإجازة لا ينافي الصحة المحمول عليها فعل المسلم.

٨٥

(المطلب الثالث)

يعتبر الثلث وقت الوفاة ، لا وقت الوصية ، ولا ما بينهما على المشهور شهرة عظيمة. بل الإجماع محكي عليه ، معتضدا بدعوى غير واحد عدم وجدان الخلاف فيه ، إلا ما يحكى عن بعض الشافعية ، قياسا على نذر الصدقة بثلث ماله. وردّ بوجود الفارق بينهما ، فان النذر متعلق بالمال من حين النذر ، والوصية متعلقة بالمال بعد الموت.

والإجماع المذكور هو الحجة ، بعد الاعتضاد بما عرفت ، مضافا الى كونه وقت توزيع التركة أثلاثا وتقسيمها بين الميت والوارث وانتقال الثلثين الى الوارث ، وانتقال الموصى به المخرج من الثلث كسائر وصاياه الى الموصى له ، وإلى أنه المنصرف إليه الإطلاق عرفا لو قال : (أعطوا ثلث مالي لفلان بعد وفاتي) سواء كان الثلث حين الوفاة مساويا له حين الوصية أو أنقص منه بتلف بعض المال أو أكثر لتجدد مال بعدها.

وان أشكل في الأخير ثاني الشهيدين تبعا لثاني المحققين ، لأصالة عدم تعلق الوصية بالزيادات المتجددة بعدها ، سيما إذا لم تكن متوقعة (١) مع

__________________

(١) قال الشهيد الثاني في المسالك ـ في باب أحكام الموصى به في شرح قول المحقق (ويعتبر الثلث وقت الوفاة) : «وهو يتم على إطلاقه مع كون الموصى به قدرا معينا .. مع كونه حالة الموت أقل من زمان الوصية أو مساويا .. أما لو انعكس اعتبار وقت الوفاة للشك في قصد الزائد وربما دلت القرائن على عدم إرادته على تقدير زيادته كثيرا حيث لا تكون الزيادة متوقعة غالبا» ، وقال المحقق الكركي في جامع المقاصد ـ في نفس

٨٦

إشكاله على التقييد بالوفاة (١) بأن المال قد ينقص بعدها قبل قبض الوارث بالتلف ، وقد يزيد كقتل العمد إذا صولح عن القصاص بالدية على المشهور من كونها كدية الخطأ وشبهه من كونه يخرج منه ديونه ووصاياه ، فاللازم تقييد الثلث حينئذ بزمان قبض الوارث دون زمان الوفاة.

قلت : لا مسرح للتمسك بأصالة عدم تعلق الوصية بالمتجدد بعد ما عرفت :

من كون المنصرف اليه عرفا هو الثلث حين الوفاة ، الموجب لحمل إطلاق الثلث عليه ، والمتجدد بعد الوفاة قبل القبض لا ينافي التقييد بالوفاة المعلوم إرادة عدم الاختصاص بزمان الوصية منه كما هو أحد القولين ، مع أن المتجدد كذلك : نادر الوقوع فلا ينافي التقييد بما هو الغالب. كيف ولو اختص بالموجود حين الوصية لزم بطلانها حيث لا مال له عند الوصية ، أو كان وتلف كله ثم تجدد مال غيره ، أو بطلان بعضها لو تلف مع سعة الثلث له بالمتجدد ، ولا أظن أحدا يلتزم به.

نعم لو صرح باختصاصها بالموجود فعلا أو علم ذلك بشواهد الحال اقتصر عليه من دون تناول ما يتجدد بعدها ، من غير فرق فيما ذكرنا بين الوصية بعين شخصية كدار ـ مثلا ـ فتحسب قيمتها من الثلث ، أو بقدر

__________________

ـ الباب والشرح ـ : «هذا يستقيم فيما إذا أوصى بقدر معلوم. أما إذا اوصى بثلث تركته وكان في وقت الوصية قليلا فتجدد له مال كثير بالإرث أو بالوصية أو بالاكتساب ، ففي تعلق الوصية بثلث المتجدد مع عدم العلم بإرادة الموصي للموجود وقت الوصية والمتجدد نظر ظاهر ..»

(١) وقال الشهيد الثاني أيضا ـ في نفس المصدر الآنف بعد تلك العبارة : «وقد تنفق زيادة التركة بعد الوفاة ونقصانها بالدية على دم العمد وتلف بعض التركة قبل قبض الوارث ، فيشكل أيضا إطلاق اعتبار حالة الموت ..».

٨٧

مخصوص كمائة درهم ، أو بجزء مشاع كالثلث ـ مثلا ـ أو نصف الثلث أو ثلثه أو ربعه ، غير أنه في المشاع التالف محسوب عليهما أي على الوارث والموصى له والباقي لهما للشركة بالإشاعة.

نعم لو كانت الوصية بقدر مخصوص كمائة درهم لم ينقص منه شي‌ء بالتلف مع سعة الثلث له ، لكونه كليا وإن اختص بالثلث ، بل ان لم يبق منه إلا قدره أعطى ذلك المقدار كبيع الصاع من الصبرة ـ مثلا ـ بناء على ما هو المشهور ، وهو الأقوى : من كون التالف من البائع دون المشتري ما دام الصدق منه موجودا. نعم بناء على القول بتنزيله على الإشاعة كان التالف منهما والموجود لهما بالحساب ، ويجرى مثله ما لو تعلقت الوصية بعين شخصية مع سعة الثلث بعد التلف وعدمها ، فتخرج قيمتها تماما في الأول وينقص منها في الثاني بقدر ما يخصها من التوزيع.

فعلم مما ذكرنا عدم الفرق في الحمل على الثلث حين الوفاة بين ما لو أوصى بعين أو بمعنى كمائة درهم أو بجزء مشاع ، زاد الثلث حين الوفاة عليه حين الوصية أو نقص عنه أو ساواه ، علم الموصي بالزيادة المتجددة أو لم يعلم ، متوقعة كانت الزيادة أو لم تكن ، قصد تعلّقها بالمتجدد أو لم يقصد ما لم يقصد العدم ، ملك شيئا حين الوصية أو لم يملك ثم ملك. كل ذلك للانصراف الى ما هو المتبادر عرفا من الإطلاق.

ثم إنه يجري الكلام مثل ما ذكرنا في الثلث لو أوصى بمال الأولى الناس به : من كونه منزلا على من كان أولى الناس به حين الوفاة لا حين الوصية ولا ما بينهما. فلو كان له حين الوصية ابن وابن ابن ، ومات ابنه قبله وبقي ابن ابنه إلى الوفاة ، أعطي المال له ، ولو مات ابن الابن بعد أبيه وورث الموصي أخوه ، أعطي المال لأخيه لاتحاد المدرك : من الانصراف بينه وبين الوصية بالثلث : من كون المدار على زمن الوفاة ،

٨٨

وان كان المحرك له حين الوصية فرط الحب لابنه الصلبي ، فإنه من الدواعي لا يوجب تبدلها تغيير الحكم إلا إذا علم منه التقييد به ، وهو خروج عن محل البحث ، كما لو صرح بالاختصاص أو علم ذلك منه بشواهد الحال.

(المطلب الرابع)

تحتسب من التركة ـ المخرجة من أصلها ديونه ، ومن ثلثها وصاياه ـ دية نفسه وأرش جنايته ، وإن تأخر الملك واستحقاق الإرث عن الموت ، لتقدم سببه في الحياة ، ولذا يملك الصيد الواقع في الشبكة المنصوبة في الحياة لو وقع فيها بعد الموت ، ولكونها عوض النفس المملوكة له ، كما يملك بدل التالف في الضمان.

وهو في الخطأ وشبهه لا خلاف فيه ، إلا ما يحكى عن نادر مجهول ، بل الإجماع عليه محكي عن غير واحد. وهو الحجة ، سيما مع اعتضاده بما عرفت ، مضافا الى النصوص الدالة عليه بالعموم وبالخصوص.

فمن الأول : خبر عبد الحميد : «سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن رجل قتل وعليه دين وأخذ أهله الدية من قاتله أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم ، قلت : وهو لم يترك مالا ، قال : أما إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا الدين» (١) وخبر يحيى الأزرق ، «عن أبي الحسن (ع) في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا وأخذ أهله الدية من قاتله : أعليهم أن يقضوا دينه؟ قال : نعم ، قلت : هو لم يترك شيئا قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه» (٢)

__________________

(١) الوسائل : كتاب التجارة ، باب ٢٤ من أبواب الدين وجوب قضاء دين القتيل من ديته.

(٢) الكافي للكليني : كتاب الوصايا باب من أوصى وعليه دين

٨٩

ومن الثاني : خبر محمد بن قيس : «قلت لأبي جعفر (ع) : رجل أوصى لرجل بوصية من ماله : ثلث أو ربع ، فقتل الرجل خطأ يعني الموصي ـ؟ فقال : تجاز هذه الوصية من ميراثه» (١) وخبره الآخر أيضا : «عن أبي جعفر (ع) أنه قال : قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أوصى لرجل بوصية مقطوعة غير مسماة من ماله ثلث أو ربع أو أقل من ذلك أو أكثر ، ثم قتل خطأ الموصي فودي ، فقضى في وصيته : انها تنفذ في ماله وديته كما أوصى» (٢) والمرسل «عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل عن رجل أوصى بثلث ماله ثم قتل خطأ؟ فقال : ثلث ديته داخل في وصيته» (٣) وخبر السكوني : «عن أبي عبد الله (ع) قال قال أمير المؤمنين (ع) : من أوصى بثلثه ثم قتل خطأ ، فثلث ديته داخل في وصيته» (٤).

وضعف السند لا يضر بعد الانجبار ، كما لا يضر تخصيص بعضها بالدين مع عموم الباقي ، مضافا الى عدم القول بالفرق بين ديونه وسائر وصاياه.

وأما العمد لو صولح عن القصاص بالدية ، فالمشهور ، أيضا على أنها تحسب من التركة في نفوذ وصاياه أيضا ، وأن له منها الثلث ، لعموم

__________________

حديث (٦) ورواه الصدوق في (الفقيه) باب ١٩ قضاء الدين من الدية عن صفوان بن يحيى.

(١) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ١٤ من أحكامها ، حديث (١) باختلاف بسيط في ذيل الحديث.

(٢) الوسائل : كتاب الوصايا باب ١٤ من أحكامها ، حديث (٣)

(٣) من لا يحضره الفقيه للصدوق آخر باب ١٢٢ من أبواب الوصية

(٤) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ١٤ من أحكام الوصايا ، حديث (٢).

٩٠

الخبرين الأولين ، الناشي من ترك الاستفصال ، مع التصريح به في خبر أبي بصير : «عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) قال : قلت : فان هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية فعلى من الدّين؟ على أوليائه من الدّية أو على إمام المسلمين؟ فقال : بل يؤدّى دينه من ديته التي صالح عليها أولياؤه ، فإنه أحق بديته من غيره» (١) مع التأييد بما تقدم من أن الدية بدل النفس المضمونة على من أتلفها ، وان كانت مضمونة فيه بالمثل ، وهو النفس ، والتبديل بالدية انما هو باختيار الوارث بدلا عن النفس المضمونة أو الضامنة ، كما يشعر به التعبير عنه ببدل القصاص التي مرجعها أيضا الى بدل البدل.

فلا يلتفت مع ذلك الى ما يحكى عن (الحلي) من اختصاصها بالوارث لأنه ملكها بالصلح الذي هو ضرب من الاكتساب ، وهو حسن في نفسه الا أنه اجتهاد في مقابل النص المعمول به عند الأصحاب. سيما على القول بالتخيير بين القصاص والدية دون الترتيب بينهما ، وان أمكن القول به عليه أيضا بدعوى أن الاختيار على القول بالتخيير أيضا نوع اكتساب.

وأما الجناية على الميت بعد موته بالمثلة كقطع رأسه وشق بطنه ، فيختص هو بديتها دون الوارث فتقضي منه ديونه ووصاياه ، ويصرف له الباقي في وجوه البرّ.

__________________

(١) في الوسائل : كتاب القصاص باب ٥٩ منه ، حديث (٢) اوله هكذا : «عن علي ابن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى (ع) قال قلت له جعلت فداك : رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ وعليه دين وليس له مال ، وأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال : إن وهبوا دمه ضمنوا ديته فقلت : إن هم أرادوا قتله؟ قال : إن قتل عمدا قتل قاتله وأدى عنه الامام الدين من سهم الغارمين ، قلت : فان ..»

٩١

(المطلب الخامس)

لو أوصى الى إنسان بالمضاربة بمال ولده الصغار على حصة من الربح صحت الوصية ، ونفذت مع الإطلاق إلى البلوغ ، وبعده تتوقف على الإجازة ، ومع التقييد بمدة دون البلوغ ، فالى نهاية المدة ، من غير فرق بين كون المال لهم بالإرث أو بغيره ، ولا بين كون الوصية بجميع المال أو بعضه ، زاد على الثلث أولا ، ولا بين كون حصة العامل من الربح زائدة على أجرة عمله أولا.

كل ذلك ـ مع كونه موافقا للقواعد الشرعية ـ تدل عليه رواية خالد ابن بكير الطويل قال : «دعاني أبي حين حضرته الوفاة ، فقال : يا بني اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به وخذ نصف الربح وأعطهم النصف وليس عليك ضمان ، فقدمتني أم ولد له بعد وفاة أبي الى ابن أبي ليلى ، فقالت : ان هذا يأكل أموال ولدي ، قال : فقصصت عليه ما أمرني به أبي ، فقال ابن أبي ليلى : ان كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه. ثم أشهد عليّ ابن أبي ليلى إن أنا حركته فأنا له ضامن ، فدخلت على أبي عبد الله (ع) بعد ذلك فاقتصصت عليه قصتي ، ثم قلت له : ما ترى؟ فقال : أما قول ابن أبي ليلى فما أستطيع رده ، وأما فيما بينك وبين الله فليس عليك ضمان» (١) ورواية محمد بن مسلم في الموثق عن أبي عبد الله (ع) : «انه سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم فأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال ، ويكون الربح بينه وبينهم؟ فقال : لا بأس به من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي» (٢) والاولى صريحة في الصغار ، والثانية ظاهرة

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٩٢ من أذن لوصيه في المضاربة بمال ولده الصغار ، حديث (٢).

(٢) المصدر الآنف الذكر من الوسائل ، حديث (١).

٩٢

فيهم بمعونة الوصية بولده في صدرها المقصود منها القيمومة ، وهي بهذا المعنى باطلة في الكبار ، فلا تحمل الوصية عليها. والتعليل في ذيلها بأن أباه قد أذن له ، وضعف السند ـ لو سلم ـ لا يضر بعد الجبر.

مضافا الى اقتضاء القواعد ذلك أيضا أما بالنسبة إلى الصغار فلجواز ذلك وسائر التصرفات في أموالهم للولي الإجباري قبل موته بشرط المصلحة لهم على قول أو عدم المفسدة ـ كما هو الأقوى ـ وكذلك منصوبة القيم عليهم بعد ورود الدليل على ولايته التي هي من شئون ولاية الأب والجدّ له وان اعتبرنا مراعاة المصلحة بالنسبة اليه وكفاية عدم المفسدة بالنسبة إلى الولي الإجباري توسعة له وإرفاقا به رعاية للأبوة القائمة بخصوص ذاته ، وفي منصوبة يرجع الى ما تقتضيه القواعد في غيره من الأولياء من لزوم مراعاة المصلحة ، مع احتمال مساواته للولي الإجباري في الاكتفاء بعدم المفسدة لأن ولايته منتزعة من ولايته فتأمل (١) (ودعوى) ان المضاربة في مال الصغير تعريض لماله الى التلف بغير ضمان ، وهو غير جائز (يدفعها) أن هذا النحو من التعريض الذي عليه بناء العقلاء في اكتسابهم ليس من التعريض المضر الممنوع منه في مال اليتيم.

وأما بالنسبة إلى المكلفين فليست الوصية في أموالهم إلا الوصية في مال الغير المتوقفة على إجازته كالوصية بما زاد على الثلث : فإن أجازوا ، وإلا بطلت ، فلا تشملها عمومات الوصية حتى يقال بنفوذها إلا إذا ردّت ـ كما توهم ـ ولم يقم دليل خاص يدل عليه.

__________________

(١) لعل وجه التأمل راجع إلى التشكيك في مساواة منصوب الولي الإجباري له في الاكتفاء بمحض عدم المفسدة ، بل لا بد له من إحراز المصلحة الإيجابية للقاصرين ، وذلك للتشكيك في مبني انتزاع ولاية المنصوب من ولاية الولي الإجباري ، فلا تشمله إطلاقات الأدلة الموسعة.

٩٣

وبما ذكرنا ظهر لك ما في تحرير بعضهم المسألة بنحو الإطلاق وتصريحهم بالصحة حتى نسبه بعضهم الى المشهور ، وان كان لي في النسبة تأمل ، بل منع ، ففي (الشرائع) : «لو أوصى الى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن الربح بينه وبين الورثة نصفان ، صح ، وربما اشترط كونه قدر الثلث أو أقل ، والأول مروي» (١) وفي (الكفاية) بعد تحرير المسألة وتقييد الولد بالصغار قال : «وفي المشهور لم يعتبر كون الولد صغارا ، وفيه إشكال» (٢) انتهى. وفي (السرائر) ما لفظه : «وقد روي انه إذا أمر الموصي الوصي أن يتصرف في تركته لورثته ويتجر لهم بها ويأخذ نصف الربح ، كان ذلك حلالا وجائزا له نصف الربح ، أورد ذلك شيخنا في (نهايته) إلا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه الميت قبل موته ، والربح تجدد بعد موته فكيف تنفذ وصيته وقوله فيه؟ وفي الرواية نظر (٣) انتهى ، وتقييد (الحلي) النفوذ في الثلث وعدمه فيما زاد عليه بعد أن عنون المسألة بنحو الإطلاق كما هو أحد الاحتمالين في عبارته لا بطلانها رأسا كما استظهره بعض ـ لعل نظره الى أن الموصي إنما يملك من ماله الثلث بعد موته ، فله أنحاء التصرف فيه بالوصية به من استثنائه من الإرث ، وحرمان الوارث منه ، والإيصاء به

__________________

(١) كتاب الوصايا ، الفصل الثالث في الموصى به ، وفيه أمران : الأول في متعلق الوصية.

(٢) كفاية السبزواري : كتاب الوصية ، الطرف الثالث في الموصى به ومبدأ الجملة هكذا : «ولو أوصى الى إنسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن الربح بينه وبين أولاده الصغار ، صح ..».

(٣) يراجع من (سرائر ابن إدريس) باب الأوصياء من كتاب الوقوف والصدقات.

٩٤

لغيره ، فنفوذ الوصية فيه بالمضاربة للوارث أولى.

وأنت خبير بما فيه ـ أولا ـ أن الموصي انما كان له أنحاء التصرف في ثلثه حين يكون الثلث له ويريده بالوصية به ، ومع عدمها فالثلث كالثلثين للوارث ، لانتقال التركة بمجرد الموت الى الوارث إلا إذا استثنى منها شيئا بالوصية : قدر الثلث فما دون ، ومع عدم الإرادة فالتصرف في قدر الثلث أيضا تصرف في مال الغير ، من غير فرق بين كون الوارث صغيرا أو كبيرا ، غير أنه في الأول له التصرف فيه من باب الولاية ما دام مولى عليه ، وفي الثاني يكون من الفضولي ، فيتوقف نفوذه على الإجازة فهو من هذه الحيثية لم يفرق فيه بين الثلث وغيره ، ولا بين التركة وغيرها.

وثانيا ـ تجدد الربح بالمضاربة لا يضر بعد فرض صحتها ، ومع عدم الصحة يكون الربح كله للوارث لأنه نماء ملكه أو لا ربح أصلا لفساد البيع. ولو سلم استحقاق العامل لشي‌ء بالعمل فإنما هو أجرة المثل. ولعله لذا قيد بعض قدر حصة العامل من الربح بما لا يزيد على أجرة عمله. وفيه أيضا ان ذلك مبني على فساد المضاربة أو صحتها في خصوص الثلث المجهول حصة العامل فيه بالخصوص ، والمجعول له في المضاربة من الربح انما هو بالمضاربة في الكل لا في خصوص الثلث منه. وقد عرفت ضعف المبنى.

وأما على الاحتمال الآخر في عبارته ، وهو بطلان الوصية رأسا لأنها انما تصح في الثلث الذي يرجع أمره إليه ، لا في مال الغير الذي كان فرض المسألة فيه لعدم الوصية بالثلث وانما أوصى بالمضاربة بتركته للورثة.

ففيه انه لا داعي إلى بطلان أصل الوصية ، لما عرفت من أنهم إن كانوا صغارا نفذت الوصية لهم بالمضاربة في أموالهم من باب الولاية وإن كانوا كبارا توقفت على الإجازة كالوصية بما زاد على الثلث ، لا بطلانها رأسا.

٩٥

نعم يظهر من شيخنا في (الجواهر) صحتها ونفوذها ما لم يردها الوارث ، لا التوقف الى أن تحصل الإجازة. وتظهر الثمرة فيما لو عمل بالمضاربة قبل الرد والإجازة ، فيستحق الحصة المجعولة له بها على الأول عملا بعموم أدلة الوصية ، ولا يستحقها على الثاني لعدم الإجازة التي هي شرط الصحة والنفوذ ، ولا عموم في أدلة الوصية بحيث يشمل الوصية بمال الغير ، وهو الأقوى.

ثم انه لا بد في فرض المسألة أن يعقد الوصي عقد المضاربة مع نفسه أو غيره ، وليس إيصاؤه بها عقدا حتى يختص به ، لعدم وجود شرائطه وان أوهمه كلام بعضهم ، الا أن يكون من باب معاطاة المضاربة ، أو نقول :

إنه من باب قوله : (حج عنى بنفسك) فإنه لا يحتاج إلى إيقاع عقد إجارة مع نفسه ، وهو كما ترى ، لوضوح الفرق ، ضرورة أن المستفاد من عبارة الموصي ليس إلا الوصية بالمضاربة ، لا هي بنفسها حتى يختص بالوصي.

(المطلب السادس)

إذا أوصى بوصية ، فالموصى به : إما أن يكون واجبا أو غير واجب. والواجب : إما أن يكون ماليا أو بدنيا كالصوم والصلاة ، والواجب المالي : إما أن يكون ماليا محضا أو مشوبا بالبدن كالحج ، والمحض منه : إما أن يكون بأصل الشرع كالخمس والزكاة أو بسبب منه يقضى الى المال كالدين والمظالم والكفارات ونذر المال. وعلى التقادير : فإما أن يسع المال : ما أوصى به ، أو لا وعلى الأول : فإما أن يزيد على الثلث ، أو لا وعلى الأول : فاما أن يجيز الوارث ، أو لا ، وعلى التقادير : فإما أن يكون الموصى به واحدا أو متعددا ، وعلى الثاني : فإما أن يكون المتعدد من أصناف نوع واحد من الأنواع الثلاثة : المالي والبدني والتبرعي كالخمس والزكاة

٩٦

أو من نوعين كالمالي والبدني أو البدني والتبرعي أو المالى والتبرعي ، أو من الثلاثة. وهاهنا صور :

(الاولى) ما إذا كان الواجب ماليا محضا لا خلاف بين الأصحاب ـ كما قيل ـ أنه يجب خروجه من الأصل ، أوصى به أو لم يوص ، ما لم يوص به من الثلث ، فيخرج منه تعلّقه بالمال حال الحياة ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى قوله تعالى «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» لعدم القول بالفرق بين الدين وغيره من الواجبات المالية ، والى الموثق عن الصادق (ع) «في رجل فرط في إخراج زكاته في حياته ، فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما فرط فيه مما لزمه من الزكاة ، ثم أوصى أن يخرج ذلك ، فيدفع الى من يجب له؟ قال : فقال : جائز يخرج ذلك من جميع المال ، إنما هو بمنزلة الدين لو كان عليه ، ليس للورثة شي‌ء حتى يؤدى ما أوصى به من الزكاة ، قيل له : فان كان أوصى بحجة الإسلام؟ قال : جائز يحج عنه من جميع المال» (١) وغير ذلك من الاخبار الواردة فيها وفي الخمس

(الثانية) إذا كان ماليا مشوبا بالبدن كالحج ، فهو كالمالي المحض في إخراجه من صلب المال ، بل هو من المالي حقيقة إجماعا ـ بقسميه ـ مضافا الى ذيل الموثقة المتقدمة ، وغيرها من الاخبار المستفيضة ، بل المتواترة معنى الواردة في خصوص الحج ، فلتطلب من موضعها (٢).

__________________

(١) في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٤٠ من أحكامها ، حديث ـ ١ ـ بسنده هكذا : محمد بن الحسن بإسناده عن علي بن الحسن عن عمرو بن عثمان عن الحسن بن محبوب عن عبّاد بن صهيب عن أبي عبد الله (ع) ..»

(٢) والروايات في هذا الشأن كثيرة ، وقد عقد صاحب الوسائل لها بابا مستقلا في أول كتاب الحج باب ٢٥ إن من اوصى بحجة الإسلام وجب إخراجها من الأصل .. وباب ٢٨ أيضا ، و ٢٩ وغيرهما من أبواب الحج.

٩٧

(الثالثة) إذا كان الواجب بدنيا ، فأقصى ما يمكن أن يستدل به على خروجه من الأصل كالمالي ، هو دعوى اندراجه في الدين ، الذي يعم شغل الذمة بالمال والعمل ، ودعوى اختصاصه بالأول أو تعميمه لهما والاختصاص بشغل الذمة للمخلوق دون الخالق ممنوعة ، سيما بعد ما ورد إطلاق الدين على الصلاة في غير واحد من الاخبار كما قيل ، منضما الى ما ورد في الحج «ان دين الله أحق أن يقضى» (١).

وفيه ـ بعد تسليم صدق الدين حقيقة على شغل الذمة بالعمل ـ منع انصرافه اليه ، فلا يحمل الإطلاق على غير المنصرف اليه اللفظ ، فعدم الدليل مع اقتضاء الأصل العدم يقضي بما عليه المشهور شهرة عظيمة ، بل ادعى غير واحد ـ منهم جدنا في (الرياض) ـ عدم الخلاف فيه : من كونه يخرج من الثلث مع الوصية به ، ومع عدمها ومعلومية شغل الذمة به ، ففي خروجه منه لوجوب دفع الضرر المحتمل من العقاب وان كان أخرويا وعدمه للأصل؟ وجهان : ولعل الثاني هو الأقوى ، لإطلاق ما دل على انتقال التركة مع عدم الوصية بها الى الوارث عند الموت. نعم يجب عليه على الأقوى الوصية به وبكل ما كان عليه من الحقوق المطالب بها في الآخرة مع إمكان التخلص عنها ولو بعد الوفاة بالوصية.

هذا ونزيدك توضيحا للفرق بين الواجب المالي والبدني ، وهو : ان الواجب المالي عبارة عن ثبوت حق في ذمة إنسان متعلق بماله الخاص كالزكاة ـ مثلا ـ أو المطلق الذي كان الموجود منه مصداقا لما اشتغلت به ذمته ، وحيث أن الميت لا ذمة له تعين الوفاء من الموجود منه لانطباق الكلي الذي اشتغلت به ذمته على المصداق المنحصر فيه. ولذا تتعلق بالتركة حقوق

__________________

(١) ما أكثر مضامين الأخبار المعبّرة عن الصلاة والحج بالدين والفرض ونحوهما. يراجع في ذلك : كتاب الصلاة والحج من كتب الاخبار.

٩٨

الغرماء ، وأما الواجب البدني فلا تعلق له بالمال أصلا حتى يخرج منه بعد وفاته حيث لم يكن الحق ثابتا إلا في ذمته من حيث فعله وعمله. نعم إذا كان مما يجوز قيام الغير مقامه بعد الموت ، ولو تبرعا بحيث يوجب فعله السقوط عنه ، وجب الوصية به على أقرب الوجهين كما عرفت ، لتمكنه من التوصل الى فراغ ذمته بماله من ماله بعد الموت ، وهو الثلث ، ان لم يكن له ولي يقضي عنه ، وان كان فلا يجب عليه الوصية ، وان وجب عليه إعلامه ، وهو المصدق فيما هو عليه في الكم والكيف ، لأنه لا يعلم غالبا إلا من قبله.

وأما الحج فهو مالي من حيث كون استطاعة المال شرطا في وجوبه فالحق انما هو ثابت على المستطيع ، وبدني من حيث كونه عبارة عن نفس تلك الأعمال الخاصة ، فهو مالي مشوب بالبدن. وهذا بخلاف الواجب المتوقف وجوده على بذل المال ، فإنه بدني محض ، وان توقف إيجاده على بذل المال كالوضوء ، حيث لا يتمكن من الماء الا بالشراء ، فقياس أحدهما بالآخر كما وقع من شيخنا في (الجواهر) قياس مع الفارق.

(الرابعة) إذا لم يكن واجبا بل كان متبرعا به ، فإنه لا خلاف في كونه يخرج من الثلث ، سواء كانت الوصية تمليكية أو عهدية ، بل الإجماع بقسميه عليه ، مضافا الى أخبار حج غير الضرورة (١) وغيرها من الاخبار

__________________

(١) الصرورة ـ بالصاد المهملة المفتوحة ـ اصطلاح شرعي للحج الابتدائي الواجب بالأصل المسمى بحجة الإسلام ، وما عداه ـ وإن وجب بالعرض ـ فهو غير صرورة. والروايات في خصوص أبواب الحج الواجب بهذا الخصوص كثيرة ، وقد عقد لها في الوسائل بابا أو أكثر من كتاب الحج فمن ذلك ـ كما في باب ٢٥ منه حديث (٦) «عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال : سألت عن رجل مات أوصى ان يحج عنه ، قال :

٩٩

الواردة في تضاعيف أبواب الوصية وهي مستفيضة بل متواترة معنى (١)

(الخامسة) إذا كان الموصى به واحدا بالنوع ، وان كان متعددا بالصنف ، فقد عرفت حكمه : من أنه : ان كان ماليا محضا أو مشوبا كان من الأصل وان لم يوص به. وان كان بدنيا أو تبرعيا كان من الثلث مع الوصية به ، ان لم يزد عليه ، فان زاد توقف على إجازة الوارث ، فإن أجاز ، وإلا توزع النقص على الجميع ، إن كان واجبا وكان متعددا بالصنف ، وان كان تبرعا بدء بالأول في الذكر فالأول حتى يكمل.

(السادسة) إذا كان متعددا بالنوع فالمالي منه ـ بقسميه ـ يخرج من الأصل ما لم يوص به بإخراجه من الثلث ، وغيره من الثلث ، إن لم يزد عليه ، والا توقف الزائد على إجازة الوارث ، فإن أجاز ، وإلا ورد النقص على ما يخرج من الثلث ، فإن كان فيه الواجب اختص النقص بالتبرعي ، وان تقدم على الواجب في الذكر ـ على الأصح ـ كما يعطيه عموم التعليل من قوله : «بدء بالحج فإنه فريضة من فرائض الله» في مصححة معاوية الآتية ، من غير فرق في التعدد بين الثنائي والثلاثي ، وثم مراعاة الترتيب في الذكر حيث يعلم به انما هي لانكشاف الأهمية به

__________________

إن كان صرورة حج عنه من وسط المال ، وان كان غير صرورة فمن الثلث».

(١) وقد عقد لها في الوسائل أكثر من باب واحد ، وبالخصوص باب ٤١ من كتاب الوصايا هكذا : وجوب إخراج حجة الإسلام من الأصل والمندوبة من الثلث ان أوصى بها. ومن مجموع الروايات الكثيرة الواردة في بابي الحج والوصايا نستطيع أن نستخلص تواترا معنويا ، وان لم يكن لفظيا بهذا المضمون. والتواتر حجة بقسميه لأنه يورث القطع وهو حجة شرعية غير مجعولة.

١٠٠