بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

الاحتياط في الصلح.

والذي يختلج في البال على الاستعجال : هو أن الجزء بحسب اللغة والعرف إنما هو بعض الشي‌ء ، ولم تثبت له حقيقة شرعية ، وان ثبت إطلاقه في الكتاب على العشر والسبع. ولعله من حيث كونهما مصداقا ، فاذا وقع في كلام الموصي فالظاهر منه ـ بمعونة ما عرفت ـ تفويض تعيين مقداره إلى الوصي أو الوارث ، فيكون مخيرا في دفع ما شاء ، كما هو المتعارف في غير الوصية من أمر المولى لعبده بإعطاء شي‌ء للسائل المعلوم منه تفويض قدر التعيين اليه. وحينئذ فالأخبار محمولة على الترجيح له في الاختيار ، لا على التحديد بأحدهما.

وأن أبيت إلا ذلك لظهور كل من الطائفتين في التحديد ، فيكون لهذا اللفظ المبهم من حيث المصداق تقدير شرعي ، إذ لا تعيين فيه ولا حدّ لأقلّه ، فيجب الاقتصار فيه على التقدير الشرعي. والمفروض ثبوت التقدير بهما معا ، فيكون مخيرا بينهما ، لثبوت التقدير بكل منهما ، فليقتصر في التخيير عليهما ، كما يخير الوارث ـ فيما ستعرف من الوصية ـ بالقسط والنصيب ، غير أن التخيير هناك أوسع منه هنا ، لورود التقدير هنا بخصوص السبع والعشر. وعليه فتكون الوصية حينئذ عهدية لا تمليكية ، لعدم صحة التمليك مع جهالة المملوك ، فان تمّ إجماع على خلاف ذلك ، وإلا فهو قوي متين.

هذا وينسحب الحكم المذكور : من تعيين أحدهما إلى جزء الجزء لو أوصى به ، فيدفع عشر العشر أو سبع السبع على الخلاف ، لعدم الاختلاف من حيث الجزء المضاف ، وإنما الاختلاف في المضاف اليه لفظ الجزء : من المال أو الثلث أو الجزء.

نعم لا يسري ذلك الى غير الوصية التي هي مورد النصوص ، لاختصاص

١٢١

التعبّد بها على القول به.

ولو أوصى بسهم فالأشهر بل المشهور : إنه الثمن بل في (الرياض) نسبته إلى عامّة من تأخّر ، بل عن ظاهر (إيضاح النافع) : الإجماع عليه.

ويدل عليه صحيح البزنطي : أنه سأل أبا الحسن (ع) عن رجل أوصى بسهم من ماله؟ فقال : السهم واحد من ثمانية ، ثم قرأ : إنما الصدقات للفقراء ..» (١) وكذا حسن صفوان عن الرضا (ع) (٢) وموثق السكوني عن أبي عبد الله (ع) (٣) وعن (إرشاد المفيد) نسبة ذلك الى قضاء أمير المؤمنين (ع) معللا بآية (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) (٤)

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٥٥ حكم من أوصى بسهم من ماله ، حديث (١).

(٢) في المصدر الآنف الذكر من الوسائل حديث (٢) ينقله عن التهذيب والكافي عن صفوان وبن أبي نصر ، وعن «معاني الأخبار» عن صفوان وحده. والحديث هكذا : «. عن صفوان وأحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألنا الرضا (ع) عن رجل أوصى لك بسهم من ماله ، ولا ندري السهم أي شي‌ء هو فقال (ع) : ليس عندكم فيما بلغكم عن جعفر ، ولا عن أبي جعفر فيها شي‌ء؟ فقلنا له : ما سمعنا أصحابنا يذكرون شيئا من هذا عن آبائك (ع) فقال : السهم واحد من ثمانية ـ الى أن قال ـ : قول الله عز وجل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) الى آخر الآية ..

(٣) يراجع : المصدر الآنف من الوسائل حديث (٣) ، وفيه : «أنه سئل عن رجل يوصي بسهم من ماله؟ فقال : السهم واحد من ثمانية ، لقول الله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) ..

(٤) المصدر الآنف من الوسائل حديث (٧) هكذا : «محمد بن محمد المفيد في الإرشاد قال : قضى أمير المؤمنين (ع) في رجل أوصى عند

١٢٢

فما في خبر طلحة بن يزيد : من أنه العشر (١) فقد قيل : إنه لا عامل به ، بل عن جماعة الاعتراف بعدم معرفة قائله ، وان ظهر من (مفتاح الكرامة) نسبته الىّ الصدوق ، وعن الشيخ : حمله على وهم الراوي ، سمع ذلك في تفسير الجزء فرواه في تفسير السهم (٢).

وقيل فيه : بالسدس ، وهو محكي في (مفتاح الكرامة) عن الصدوق في (المقنع) (٣) ووالده ، والشيخ في المبسوط. بل في الغنية والخلاف :

الإجماع عليه. وقيل بعدم رواية تدل عليه إلا ما رواه العامة عن ابن مسعود :

«أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال فأعطاه النبي (ص) : السدس» (٤)

__________________

الموت بسهم من ماله ولم يبيّنه ، فاختلف الورثة في معناه ، فقضى عليهم بإخراج الثمن من ماله ، وتلا عليهم «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» الآية : «وهم ثمانية أصناف لكل صنف منهم سهم من الصدقات».

(١) في «التهذيب. باب ١٦ في الوصية المبهمة» حديث تسلسل (٨٣٤) : «.. علي بن الحسن بن فضال عن عمرو بن عثمان عن عبد الله ابن المغيرة عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع) عن أبيه (ع) قال :

من أوصى بسهم من ماله فهو سهم من عشرة».

(٢) فإنه قال ـ في نفس المصدر الآنف من التهذيب بعد ذكره للحديث ـ : «فيوشك أن يكون قد وهم الراوي ، وإنما يكون سمع هذا في من أوصى بجزء من ماله ، فظن في من أوصى بسهم ، أو يكون قد اعتقد أن الجزء والسهم واحد ، فرواه على ما ظنه».

(٣) عبارة (المقنع) المطبوع ضمن (الجوامع الفقهية في إيران) أول باب الوصايا هكذا : «وإن أوصى بسهم من ماله فهو واحد من ستة»

(٤) وإليها يشير الصدوق في (من لا يحضره الفقيه) باب ١٠٠

١٢٣

وهو كما ترى ، كما لا يخفى وهن الإجماع بمخالفة جلّ الفقهاء ممن تقدم عليهما وتأخر عنهما ، وان روى ذلك في «فقه الرضا» (١).

ولو أوصى بشي‌ء كان له السدس لما عن غير واحد دعوى الإجماع عليه ، والخبر أبان : «عن علي بن الحسين (ع) : أنه سئل عن رجل أوصى بشي‌ء من ماله؟ فقال : الشي‌ء في كتاب علي (ع) من ستة» (٢).

هذا ولا يخفى ان الكلام الذي قدمناه في الجزء آت في السهم والشي‌ء.

ولو أوصى بما لا تقدير له شرعا كما لو قال : (أعطوا زيدا من مالي قسطا أو نصيبا أو حظا) ونحو ذلك من الألفاظ المجملة مصداقا المبينة دلالة ، لكونها مطلقة الصادقة على القليل والكثير ، كان الوارث مخيرا في تعيين ما شاء من مصاديقها بلا خلاف أجده ممن تعرض له ، كما صرح به في (التحرير) وغيره.

قلت : هو كذلك حيث يكون الوارث هو المخاطب به ، لا لما تخيّله بعض المعاصرين : ـ من أن تخيير الوارث في التعيين لأنه إن دفع الأقل فذاك ، وان دفع الزائد فقد سمح به من ماله فيصير كالمجيز للوصية بالزائد عن الثلث في دفعه الزائد عن أقل المسمى ـ إذ فيه : أن دفّع المعيّن بعد تعيينه إنما هو دفع لما صدق عليه المسمى الذي هو الموصى به من باب انطباق

__________________

ـ الوصية بالشي‌ء من المال والسهم والجزء. حديث تسلسل (٧ ، ٥ ـ ٣) بقوله : «وقد روي : أن السهم واحد من ستة».

(١) ففي أوائل باب الوصية للميت منه هذه الجملة : «فإن أوصى بسهم من ماله فهو سهم من ستة أسهم».

(٢) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٥٦ حكم من أوصى بشي‌ء من ماله ، حديث (١).

١٢٤

الكلي على أحد مصاديقه ، فلو كان الأكثر كان من دفع الواجب عليه بعد الاختيار من مال الموصي لا من ماله حتى يقاس بالمجيز ، وان قلنا ان الإجازة في الوصية تنفيذ لها ، لوضوح الفرق بين الوصية بالزائد على الثلث ، وبين المردد بين المصاديق المندرجة فيه وكان له تعيينه.

بل لان الوارث هو المخاطب في تنفيذ الوصية في حقه من تمكينه لإخراج الموصى به من المال الذي كله له إلا ما استثنى منه بالوصية ، فإذا كان المستثنى الصادق على القليل والكثير مضافا الى المال كان هو المخير في دفع أيهما شاء ، لحصول الامتثال به بعد انطباق الكلي عليه ، ويكون المدفوع من دفع الواجب عليه ، كتخييره في دفع ما شاء من أفراد المتواطي وليس ذلك إلا لتفويض التعيين إليه ، لأنه المخاطب بالتنفيذ والتمكين من نفسه في إرثه ، ووجوب التنفيذ حينئذ على الوصي معناه المباشرة لما أمر به بالوصية ومطالبة الوارث بما أوصى به لو تسامح عن التنفيذ.

ومرة يكون المخاطب بمثل ذلك هو الوصي حيث يضاف الموصى به الى الثلث بعد استثنائه من المال بحيث يكون مندرجا في الأمور الموصى بها للوصي بالوصية ، فهو المنفّذ لإخراج الموصى به من الثلث فيكون حينئذ هو المخيّر في دفع ما شاء من مصاديق المطلق ، لأنه المكلّف به ، فيكون التفويض اليه. وبالجملة ، فالتخيير لمن كان تفويض التعيين اليه ، وارثا كان أو وصيا أجنبيا ، ونسبة التخيير الى الوارث في كلام من تعرض لهذا الفرع ليس لخصوصية في الوارث ، بل هو من باب المثال لمن كان اليه التفويض ثم ان التخيير : هل هو ابتدائي ، فيتعين بعد الاختيار أو استمراري إلى حين الدفع فله العدول عما عيّنه قبله؟ وجهان : و (الأول) هو الأقرب لخروجه بالتعيين عن المال كالتعيين بالعزل في الزكاة وغيرها.

هذا ولو تعدد الوارث ، فاختار أحدهما : الأقل والآخر : الأكثر ، ففي

١٢٥

تعيّن الأقل حينئذ مطلقا لحصول الامتثال به ، ودفع الزائد عليه ضرر على من اختاره ، أو مع عدم سبق الآخر في تعيين الأكثر لتعينه حينئذ بتعيينه وانطباق الكلي عليه ، ولا إجحاف إلا من حيث الاختيار ، وإلا فهو عمل بالوصية وفي شمول (نفي الضرر) له تأمل ، أو يجبرهما الحاكم مع التشاح على الاتفاق كإجباره الوصيين على الاتفاق في النظر بناء على أن التخيير قائم بالمجموع؟ احتمالات.

هذا ولو تعذر الرجوع الى من إليه التفويض لغيبة ـ مثلا ـ أو لم يكن أهلا لصغر أو جنون ونحوهما ، ناب وليّه من الحاكم وغيره عنه في دفع الأقل خاصة لأنه المتيقن مع ما فيه من رعاية مصلحة من تجب رعايته. هذا وحيث يختار الأقل فيعتبر فيه أن يكون متمولا لأنه المتبادر منه عرفا.

(المطلب الحادي عشر)

لو أوصى بأمور ، فنسي الوصي بعضها صرف قسطه في وجوه البر ، كما في (مفتاح الكرامة) عن عدّة كتب تبلغ نيفا وعشرين ، بل فيه عن بعضها أنه الأشهر. وعن آخر : أنه مذهب الأكثر ، وآخر أنه المشهور ، بل في (التنقيح) : ان عليه الفتوى ، وفي الرياض : «بلا خلاف إلا من الحلي تبعا للطوسي في بعض فتاواه» (١).

ويدل عليه مكاتبة ابن الريان : «قال كتبت إلى أبي الحسن (ع) أسأله عن إنسان لو أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها ، كيف يصنع في الباقي؟ فوقع (ع) : الأبواب الباقية اجعلها في البر» (٢)

__________________

(١) راجع منه : كتاب الوصايا ، الثاني في الوصايا المبهمة ـ في شرح قول المحقق «ولو أوصى بوجوه فنسي الوصي وجها ..»

(٢) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ١٦ أن الوصي إذا نسي بعض مصاريف الوصية ، وفيه نفس هذا الحديث : عن محمد بن ريان ..

١٢٦

المنجزة أو المعتضدة بالشهرة العظيمة ، وظاهر الإجماع عن بعض مؤيدة ببعض النصوص الواردة في جزئيات الوصايا مما يستفاد من ضم بعضها الى بعض قاعدة كلية.

هذا ولكن تنقيح المسألة : هو أن يقال : ان متعلق النسيان وما بحكمه من الجهل : إما أن يكون وصية تمليكية أو عهدية. والتمليكية :

إما أن تكون شخصية أو نوعية ـ بناء على تملك النوع ـ أما الأولى (فتارة) يكون نسيان الشخص فيها بعد إحراز قبوله و (اخرى) مع إحراز عدم ملكيته لعدم قبوله بعد ، أو مع الشك فيها للشك فيه. فان جهل المالك مع العلم بالملك ودار بين أشخاص محصورين فالقرعة ، ولا توزيع عليهم ـ لما ستعرف ـ فان دار بين غير محصورين كان الموصى به بحكم مجهول المالك ، بل هو منه حقيقة ، ضرورة أنه مملوك لمالك مجهول ، فيجري فيه حكمه.

وأما مع الشك في الملكية أو العلم بعدمها ، فيرجع فيهما الى الوارث لعدم تحقق لمالك مع تعذر استكشاف الحال بناء على شرطية القبول في الملك ، فهو بحكم الردّ في ذلك. نعم على القول بمانعيّة الرد ـ فضلا عن القول بعدم مانعيته أيضا ـ تكون كالأولى لتحقق الملكية بمجرد الإيجاب بالفرض وعدم إحراز المانع من الرد أو عدم تأثيره في المنع.

وأما الثانية : فإن تردد المنسي فيها بين أنواع بينها جامع ـ كما إذا تردّد بين كونه لبني هاشم أو العلماء ـ أعطي للعلماء منهم ، فان لم يكن جامع كالمتباينين وكان دائرا في محصور ، فالقرعة أيضا. (واحتمال) التوزيع لأنه عمل بالوصية في الجملة لتعذر العمل بتمامها (يدفعه) إمكان العمل بتمام الوصية بعد فرض الانكشاف بالقرعة لعموم دليلها. وان تردّد

__________________

مصاريف الوصية ، وفيه نفس هذا الحديث : عن محمد بن ريان ..

١٢٧

في غير محصور كان من مجهول المالك أيضا ، لعدم الفرق بين كون المالك شخصا أو نوعا ، مع احتمال صرفه في وجوه البر. وإن تردّد المنسي بين شخص معلوم والنوع : فان كان الشخص مندرجا في النوع أعطي له خاصة ، مع قبوله احتياطا لأنه المتيقن. وان لم يكن مندرجا فيه فالقرعة أيضا. فإن تعيّن الشخص بها اعتبر قبوله مع الشك فيه فضلا عن العلم بعدمه. واما لو كان الشخص مجهولا أيضا ، فهو من مجهول المالك إلا إذا علم عدم القبول أو شك فيه على تقدير كونه شخصا ، فيحتمل الرجوع الى الوارث لعدم إحراز أصل المالك ، أو كونه من مجهول المالك عملا بظاهر الوصية.

وأما الثالثة ، وهي العهدية : فإن كان المنسي منها دائرا بين محصور كأن دار بين صرفه في الحج أو قضاء الصلاة ، فالقرعة بناء على شمول دليلها لذلك أيضا. وان كان دائرا بين غير محصور بأن كان منسيا ـ بالمرة ـ صرف في وجوه البر ، وعليها ينزل ما تقدّم من كلمات الفقهاء والتوقيع المتقدّم ، وهو وان كان فيه ترك الاستفصال إلا أن الظاهر انصرافه إليها. وأما لو تعلق النسيان بالموصى به : فان تردّد بين الأقل والأكثر أعطي الأقل ، لأنه المتيقن ، والزائد منفي بالأصل. وان تردد بين المتباينين كالسيف والفرس استخرج بالقرعة.

وقيل ـ كما عن الشيخ في (الحائريات) وابن إدريس في (السرائر) والآبي في (كشف الرموز) ـ يرجع ميراثا. ولعلّه لبطلان الوصية بتعذر العمل بهما بسبب النسيان أو الجهل ، والصرف في غير المنسي تبديل لها مع ضعف المكاتبة المتقدمة. وفيه : إن العود الى الوارث بعد الخروج عن الإرث بالوصية يتوقف على الدليل مع أن القربة المخصوصة إذا تعذرت الخصوصية كان مطلق القربة أقرب الى المراد. ودعوى وحدة المطلوب على عهدة

١٢٨

مدّعيها ، والمكاتبة منجبرة أو معتضدة بما عرفت.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين النسيان والجهل ابتداء ، ولا بين بعض الوجوه أو كلها ، ولا بين الوصية بوجه أو وجوه ، ولا بين الوصي بالخصوص أو بالعموم كالحاكم لمن لا وصي له ، لوحدة المناط ، لكن ذلك بعد التربص والرجوع الى ما يتذكّر به كدفتر وشبهه ، والتذكّر الى أن يحصل له اليأس العادي ، فلو صرفه بعد ذلك فيما أمر به شرعا ، ثم انكشفت الخلاف لم يضمن لاستلزام الأمر به سقوط الضمان عنه إلا فيما ورد الدليل عليه كالتصدّق بمجهول المالك ثم ظهر مالكه.

(المطلب الثاني عشر)

إذا أوصى بعتق مملوكه ولم يكن عنده سواه وعليه دين : فان استوعب قيمة العبد بطلت الوصية (١) وان كان نصف قيمته فما دون عتق ثلث الباقي بعد الدين واستسعى فيما بقي للدين أولا ، ثم لوارث ، بلا خلاف فيهما ، وان زاد على النصف بحيث يملك العبد دون سدس قيمته فالأقوى ـ كما عن غير واحد ـ بطلانها أيضا لروايات : (منها) صحيح زرارة عن أحدهما (ع) : «رجل أعتق مملوكه عند موته وعليه دين؟ قال :

إن كان قيمته مثل الذي عليه ومثله جاز عتقه ، وإلا لم يجز» (٢) وفي صحيح

__________________

(١) وذلك لتقديم الدين على الوصية إجماعا وعليه الأخبار الصحيحة التي منها ـ كما في الفقيه في الوصايا ، باب ٨٨ أول ما يبدأ به من تركة الميت ، حديث تسلسل ٤٨٩ ـ «عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) قال قال أمير المؤمنين (ع) : ان الدين قبل الوصية ، ثم الوصية على إثر الدين ، ثم الميراث بعد الوصية» وغيرها كثير. والروايات خاصة بهذا المضمون أوردها في الوسائل : باب ٣٩ من كتاب الوصايا.

(٢) الوسائل : كتاب الوصايا باب ٣٩ من أحكامها : إن من

١٢٩

آخر : «إذا ملك المملوك سدسه استسعى» (١) الدّال بمفهومه على ذلك وصحيح بعد الرحمن بن الحجاج : قال : «سألني أبو عبد الله (ع): هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة؟ فقلت : بلغني أنه مات مولى لعيسى ابن موسى وترك عليه دينا كثيرا ، وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت ، فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك؟ فقال ابن شبرمة : أرى أن يستسعيهم في قيمتهم فيدفعها الى الغرماء فإنه قد أعتقهم عند موته وقال ابن أبي ليلى : أرى أن أبيعهم وأدفع أثمانهم إلى الغرماء فإنه ليس له أن يعتقهم عند موته وعليه دين يحيط بهم ، وهذا أهل الحجاز ـ اليوم ـ يعتق الرجل عبده وعليه دين كثير فلا يجيزون عتقه إذا كان عليه دين كثير فرفع ابن شبرمة يده الى السماء فقال : سبحان الله ، يا بن أبي ليلى : متى قلت هذا القول؟ والله ما قلته إلا طلب خلافي ، فقال أبو عبد الله (ع): وعن رأي أيهما صدر؟ قال قلت : بلغني أنه أخذ برأي ابن أبي ليلى ، وكان له في ذلك هوىّ ، فباعهم وقضى دينه ، قال : فمع أيهما من قبلكم؟ قلت له : مع ابن شبرمة ، وقد رجع ابن أبي ليلى إلى رأي ابن شبرمة بعد ذلك ، فقال : أما والله إن الحق لفي الذي قال ابن أبي ليلى ، وان كان قد رجع عنه ، فقلت له : هذا ينكسر عندهم في القياس ، فقال : هات قايسني؟ فقلت له : أنا أقايسك؟ فقال : لتقولنّ بأشدّ ما يدخل فيه من القياس ، فقلت له : رجل ترك عبدا لم يترك ما لا غيره ، وقيمة العبد ستمائة درهم ودينه خمسمائة درهم ، فأعتقه عند الموت : كيف يصنع؟ قال : يباع العبد فيأخذ الغرماء خمسمائة درهم ويأخذ الورثة مأة درهم ، فقلت : أليس قد بقي من قيمة العبد مأة درهم من دينه؟ فقال : بلى ،

__________________

أعتق مملوكا لا يملك غيره في مرض الموت حديث (٦).

(١) المصدر الآنف الذكر من الوسائل حديث (١).

١٣٠

قلت : أليس للرجل ثلثه يصنع به ما شاء؟ قال : بلى ، قلت : أليس قد أوصى للعبد بالثلث من المائة حين أعتقه؟ فقال : إن العبد لا وصيّة له إنما أمواله لمواليه ، فقلت له : فان كان قيمة العبد ستمائة درهم ودينه أربعمائة؟ قال كذلك يباع العبد ، فيأخذ الغرماء أربعمائة درهم ويأخذ الورثة مأتين ، ولا يكون للعبد شي‌ء ، قلت له : فإن قيمة العبد ستمائة درهم ودينه ثلاثمائة درهم ، فضحك (ع) وقال : من هيهنا أتي أصحابك جعلوا الأشياء شيئا واحدا ، ولم يعلموا السنة : إذا استوى مال الغرماء ، ومال الورثة أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء ولم يتهم الرجل على وصيته أجيزت وصيته على وجهها ، فالآن يوقف هذا ، فيكون نصفه للغرماء ويكون ثلثه للورثة ويكون له السدس» (١).

خلافا لما عن جماعة فأجازوا عتق العبد مطلقا ، الا فيما إذا كان الدين مستوعبا لقيمته ، جريا منهم على القاعدة : من نفوذ الوصية في ثلث الفاضل بعد الدين ، ولإطلاق صحيح الحلبي : «قال : قلت لأبي عبد الله (ع) : رجل قال : إن مت فعبدي حرّ وعلى الرجل دين؟

فقال : إن توفي وعليه دين قد أحاط بثمن الغلام بيع العبد ، وان لم يكن قد أحاط بثمن العبد استسعى العبد في قضاء دين مولاه ، وهو حرّ إذا أوفى» (٢).

وأنت خبير بما فيه ، لوجوب تقييده بما تقدم من الصحاح المفصّلة الموجبة للخروج بها عن القاعدة أيضا.

وأما إذا كان له مال سواه : فان كان مساويا للدين تعيّن الوفاء به

__________________

(١) الكافي للكليني : كتاب الوصايا ، باب من أعتق وعليه دين حديث (١).

(٢) المصدر الآنف الذكر من الوسائل ، حديث (٣).

١٣١

وأعتق العبد كله إن أجاز الوارث ، وإلا فثلثه ، ولو زاد عليه انعتق من العبد ثلث ما يساوي المجموع منه ومن الزائد ، وان نقص عن الدين : فإن بقي منه ما يزيد على نصف العبد بطلت الوصية ، وان كان قدر النصف فما دون بحيث يملك العبد سدسه فما زاد ، صحت ، والبدأة بالدّين انما هي لتقديمه على الإرث ، فلا ينتظر الديّان في وفائه الى ما يحصل من السعي مع إمكان عدمه.

(المبحث الرابع)

في الموصى له ، وفيه مسائل :

(المسألة الأولى) يشترط في الموصى له : الوجود ، فلا تصح الوصية للمعدوم ، كما لو أوصى للميت أو لمن تحمله المرأة في المستقبل أو لمن يوجد من ولد فلان ، أو لمن ظنّ وجوده فبان عدمه حين الوصية ، بلا خلاف أجده في شي‌ء من ذلك ـ كما قيل ـ بل عن (التذكرة ونهج الحق): الإجماع عليه (١) وهو الحجة ، سيما بعد اعتضاده ـ بما عرفت من عدم الخلاف فيه ـ مضافا الى الأصل بعد انصراف إطلاقات الوصية إلى الموجود والى عدم قابلية المعدوم للتملك لأن التمليك الذي معناه الإدخال في ملك الغير لا بد فيه من وجود للغير حتى يدخل في ملكه ، فإن النسبة لا تتحقق

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ونهج الحق كلاهما من تأليف العلامة الحلي قدس سره. قال في (التذكرة ج ٢) كتاب الوصية ، الفصل الثالث الموصى له طبع إيران حجري : «الوصية إن كانت بجهة عامة فالشرط فيها أن لا تكون جهة معصية .. وإن كانت لمعيّن فشرطه أن نتصور فيه الملك ، وإنما يتحقق هذا الشرط لو كان الموصى له موجودا ، فلو أوصى للمعدوم لم تصح وصيته إجماعا».

١٣٢

إلا بعد وجود الطرفين ، وهو واضح.

إلا انه ربما يتوهم النقض ـ أولا ـ بملك المعدوم من الطبقات اللاحقة في الوقف ، بناء على كونه تمليكا لهم ـ وثانيا ـ بملكيّة المعدوم ، إذ المانع من كونه مالكا يمنع من كونه مملوكا لوحدة المناط مع تحقق الثاني في كثير من النواقل ، كبيع الكلي والنماء المتجدد كالثمار ونحوها ، وتمليك المنافع بالعقد مع أن وجودها باستيفائها الذي لا يكون إلا بعده ، بل هو ثابت في الوصية أيضا إجماعا ـ بقسميه ـ كما عرفت من جوازها بالعين والمنفعة.

لكن يدفع الأول منهما : أن تبعية المعدوم في الوقف للموجود في الملك ليس معناه الا كون عقد الوقف سببا لملك المعدوم بعد وجوده لا في حال عدمه ، وإلا لزم كون وجوده كاشفا عن تحقق شركته حال عدمه مع الموجود من أول الأمر ، وهو ضروري البطلان ، فيكون الوجود حينئذ جزء السبب الناقل كالقبض في الهبة ، بناء على كونه شرطا في صحتها ومثله وإن أمكن فرضه في الوصية ، إلا انه لم يثبت ذلك شرعا فيها كما ثبت في الوقف ، بل الثابت كونها كغيرها من النواقل في التمليك الذي هو فيها مغاير له في الوقف من حيث الفعلية والتعليق بالوجود ودوام الملك وتوقيته ، فإن الملكية ـ التي هي أثر العقود ـ مقتضاها الدوام ، والموت قاطع لها. وفي الوقف يكون الموت محققا لانتهاء زمان التملك وهو الحياة. وهذا النحو من الملك ـ وهو الموقت ـ لم يثبت إلا في الوقف ، ولو كان ثابتا في غيره لقلنا به أيضا فيه.

ويدفع الثاني : أن الملكية في جميع مواردها إنما تتعلق بالأعيان ، وانما تختلف مراتبها في جهات التعلق : فان كانت محيطة بجميع جهاتها أضيفت إلى العين فيقال : ملك العين ، وملك الرقبة ، لعدم الاختصاص بجهة خاصة من جهاتها. وإن كان التعلق بها من حيث جهة خاصة كالمنفعة أو الانتفاع

١٣٣

أضيفت إلى تلك الجهة لأنها هي الغاية في التعلّق بالعين دون غيرها ، وإلا فالمتعلّق ليس الا نفس العين ، وان اختصت الإضافة بالجهة. وأما ملك ما في الذمة كالكلي وعمل الأجير ونحوهما فمعناه السلطنة على النفس من حيث ماله الخاص أو المطلق ، موجودا كان أو مما يوجد بعد ، وبهذا المعنى صح صدق الملك على النفس في قوله تعالى (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون وملك البضع ، فان الزوج يملك بضع زوجته ، وليس معناه إلا أنه يملك الزوجة من حيث الانتفاع ببضعها. وتجتمع الملكية بهذا المعنى مع ملكه العين بالمعنى المتقدم ، وقد سبق تحقيق ذلك منا مكررا ، وبهذا اتضح لك أن تعلّق الملك في بيع الكلي وتمليك المنافع انما هو بالموجود نفسا أو مالا من جهة خاصة لا مطلقا ونسبة المملوكية إلى المعدومين منهما إنما هي باعتبار الجهة لا المتعلق ، والممنوع كون المعدوم متعلقا لا جهة للتعلق كما في الوصية التي معناها تمليك الموصى به للموصى له. ولذا اتفقوا على بطلان الوقف في المنقطع الأول.

وهذا هو الوجه في الفرق ، لا ما ذكره شيخنا في (الجواهر) حيث قال : ولا يرد عليه أن المعدوم لو كان غير قابل للتمليك والملك لم يكن قابلاً للتملك مع أن الإجماع ـ بقسميه ـ على صحة الوصية بالمعدوم عينا ومنفعة وعلى جواز بيع الثمار ، ونحو ذلك مما هو من ملك المعدوم ، لأنا نقول : بعد الفرق بينهما بالإجماع ونحوه : أنه يمكن منع تحقق الملك في ذلك كلّه حقيقة ، بل أقصاه التأهل للمالك والاستعداد له على حسب ملك النماء لمالك الأصل وملك المنفعة لمالك العين ، فهو من ملك أن يملك ، لا أنه ملك حقيقة (١) انتهى.

__________________

(١) راجع منه : كتاب الوصايا ، الفصل الرابع في الموصى له ، أثناء شرح قول المحقق : «ويشترط فيه الوجود ، فلو كان معدوما لم تصح الوصية ..».

١٣٤

لما فيه : (أولا) ان الإجماع لا يصيّر غير المعقول معقولا (وثانيا) قد عرفت تعلقه مع ذلك بالموجود ، وان كانت الجهة معدومة قبل الاستيفاء وهو غير المتعلق بالمعدوم المفروض امتناعه.

(المسألة ـ الثانية) تصح الوصية للوارث وغيره ، قرابة كان أو أجنبيا ، بلا خلاف أجده فيه ـ عندنا ـ والإجماع بقسميه عليه ، مضافا إلى أن له من ماله الثلث فله وضعه فيما شاء (١) وإلى إطلاقات الوصية (٢) وخصوص المعتبرة الواردة في الوصية للوارث : من الصحاح ، وغيرها (٣) واختصاص الأسئلة فيها بالوارث (٤)؟ لوقوع الخلاف فيه من أكثر المخالفين ،

__________________

(١) بهذا المضمون روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت (ع) من ذلك رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) : «في الرجل له الولد : يسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه الموت ، فان أوصى به فليس له إلا الثلث» وغيرها بمضمونها كثير أدرجها في الوسائل : كتاب الوصايا باب ١٠ من أحكامها : جواز الوصية بثلث المال للرجل والمرأة ..

(٢) من حيث أنها حق على كل مسلم ومسلمة ، وأن الميت أحق بماله ما دام فيه الروح ، كما هي مضامين أحاديث كثيرة. بالإضافة إلى آية الوصية الظاهرة الإطلاق من حيث الموصي والموصى إليه ..

(٣) وهي روايات تتجاوز العشرة ، أكثرها صحاح ، ذكرها في (الوسائل) كتاب الوصايا ، باب ١٥ من أحكامها بعنوان (جواز الوصية للوارث).

(٤) فان عامتها تركز السؤال عن الوارث بمضمون : سألته عن الوصية ، فقال : تجوز ، قلت لأبي عبد الله (ع) : تجوز للوارث وصية؟ قال : نعم ونحو ذلك.

١٣٥

فمنعوا من الوصية للوارث ، تمسكا بما رووه عنه (ص) أنه قال : «لا وصية للوارث» (١).

واختلفوا في التفصي عن آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) (٢) الدّالة بظاهرها على وجوب الوصية لهم ، فضلا عن الجواز : فذهب بعض الى نسخ الآية بجملتها بآية المواريث (٣) وبعض الى اختصاص النسخ بالوالدين مع تقييد الأقربين بغير الوارث ، للرواية (٤) وبعض الى حمل الوالدين بالخصوص على الكافرين حتى لا يكونا وارثين ، جمعا بينها وبين الحديث.

وأنت خبير بما في ذلك من التمحل من دعوى النسخ مع مخالفته للأصل ، فهي على عهدة مدّعيها ، والحمل للجمع فرع ثبوت الرواية ، فما ورد من طرقنا مما يوافقهم على المنع محمول على التقية. وأما الآية الشريفة ، فمحمولة على الاستحباب دون الوجوب.

(المسألة الثالثة) اختلفوا في صحة الوصية للكافر : فبين من منع عنها مطلقا ، وبين من جوّزها كذلك ، وبين من فصل بين الذمي والحربي فخص المنع بالثاني ، وبين من فصل بين القرابة فتصح ـ وإن كان حربيا ـ والأجنبي فتبطل ـ وان كان ذمّيا ـ وبين من فصل بينهما في خصوص

__________________

(١) وقد أشار إليه في (الوسائل الباب الآنف حديث ١٣) وذكر تأويل الشيخ الصدوق له بأنه لا وصية لوارث بأكثر من الثلث ، لا مطلقا ، فراجع.

(٢) تمام الآية هكذا (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ـ سورة البقرة آية ١٨٠ ـ

(٣) وهي قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) .. النساء ـ ١١ ـ

(٤) وهي التي أشار إليها ـ آنفا «لا وصية لوارث».

١٣٦

الذمي ، وأبطلها في الحربي مطلقا.

وربما يستدل للأول منها : بكون الوصية له نوع موادّة منهي عنها بقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) إلخ (١) بناء على أن المحادة لله لا تختص بالقائل منهم ، وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ـ الى أن قال ـ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ : إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (٢) وبالأخبار المستفيضة الواردة في النهي عن إطعام مطلق الكافر والصدقة عليه ، وبرّه حتى بسقيه الماء (٣) ونحو ذلك المشعر بالمنع من الوصية له بالأولوية.

ويستدل للثاني ـ أولا ـ بمنع الملازمة بين الوصية والموادّة ، فإنها ربما تكون لأغراض أخر ، كالمكافاة والتأليف ، ونحوهما ـ وثانيا ـ بمنع المنع عن الموادة مطلقا ، بل الممنوع منها : ما إذا كانت الموادّة من حيث كونه كافرا ومحادا على أن تكون الحيثية هي الداعية لها وهو بنفسه كفر ـ وثالثا ـ بالنقض بالهبة والعطية حال الحياة ، وليست الوصية إلا عطية بعد الموت ، ولا وجه للتفرقة بينهما بالموت والحياة ، على أن النهي هنا لا يدل على عدم صحة الوصية كالبيع وقت النداء.

ويستدل للثالث وهو التفصيل بين الذمي فتصح وغيره فتبطل : أما

__________________

(١) آخر آية سورة المجادلة.

(٢) الآية الأولى والثانية من سورة الممتحنة.

(٣) وردت روايات كثيرة بهذه المضامين في أبواب شتى في استحباب إطعام الطعام والصدقة والبر وسقي الماء ـ من كتب الأخبار ، فراجع.

١٣٧

الأول فلقوله تعالى (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ـ الى قوله ـ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (١) وأهل الذمة هم الموصوفون بذلك وأما الثاني فلقوله تعالى (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) إلخ (٢) مضافا إلى أن الحربي هو المتيقن من قوله (مَنْ حَادَّ اللهَ) وقوله (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) في الآيتين السابقتين ، على أن الحربي ـ كما قيل ـ : لا يملك لأنه هو وماله في للمسلم.

ويستدل للرابع وهو التفصيل بين القرابة والأجنبي مطلقا ـ بعموم ما ورد من الحث على صلة الأرحام ، سيما في خصوص الوالدين من قوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ ـ الى قوله ـ وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٣) وقوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» إلخ وبعد صرف ظاهرها الى الاستحباب.

ويستدل للخامس وهو تخصيص القرابة في الجواز في الذمي خاصة بما تقدّم ، مع خروج الحربي عن ذلك ، بما دل على المنع عن موادة من حادّ الله.

قلت : يضعف الأول منها ـ مع أنه لم يعرف قائله صريحا ـ بآية :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ) إلخ ، مع ما عرفت من الكلام في الموادة ، مضافا الى حكاية

__________________

(١) الآية الثامنة من سورة الممتحنة.

(٢) الآية التاسعة من سورة الممتحنة. وتتمة الآية ..

(عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ).

(٣) وتمام هذه الآية وما قبلها هكذا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ ـ الى ـ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) .. آية (١٤ ، ١٥ من سورة لقمان).

١٣٨

الإجماع على الجواز في بعض صور المسألة ، وهو كاف في الرد على القول بالمنع المطلق.

ويضعّف الأخيران بما دل على جوازها في الذمي ، وان كان أجنبيا وما دل على جوازها في الأرحام من الصلة وغيرها لا ينافي الجواز لغيرهم بعد قيام الدليل عليه.

وأما القولان المتوسطان ، فيضف الثاني منهما ـ وهو التفصيل بين الذمي والحربي مطلقا ـ بما عرفت : من أن النهي عن الموادة لمن حاد الله إنما هو من حيث المحادة لا مطلقا ، والا لمنع من العطية له في الحياة ، مع أن الوصية لا تستلزم الموادة ـ كما تقدم.

فاذا : القول بالجواز مطلقا هو الأقوى ، لما عرفت من تضعيف أدلة غيره ، مضافا الى ما ورد من مصححة الريان بن شبيب : قال : «أوصت مارية لقوم نصارى فراشين بوصية؟ قال أصحابنا : اقسم هذا في فقراء المؤمنين من أصحابك فسألت الرضا (ع) فقلت : إن أخي أوصت بوصية لقوم نصارى ، وأردت أن أصرف ذلك الى قوم من أصحابنا؟ فقال (ع):

أمض الوصية على ما أوصت به ، قال الله تعالى (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (١) وعن كتاب غياث سلطان الورى ـ نقلا من كتاب الحسين ابن سعيد بسنده الى محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أوصى بماله في سبيل الله؟ قال أعطه لمن أوصى له ، وان كان يهوديا أو نصرانيا» (٢) وعن الشيخ روايته له بطريقين صحيح وحسن بإبراهيم (٣)

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٣٥ من أحكامها ، حديث ١

(٢) المصدر الآنف الذكر من الوسائل ، حديث (٥).

(٣) فالطريق الأول ـ كما في التهذيب في الوصية ، باب ١٣ الوصية لأهل الضلال حديث (١) : «محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن

١٣٩

وعن الحسين بن سعيد في حديث آخر عن الصادق (ع) : «قال لو أن رجلا أوصى إليّ أن أضع في يهودي أو نصراني لوضعت فيهم ..» (١) ضرورة أن اليهودي والنصراني يعمّان الحربي ، والمقابل له انما هو الذمي سيما وأغلب اليهود والنصارى ـ خصوصا في السابق ـ حربيون غير داخلين في الذمة ، بل لا يبعد دعوى ظهور مثل هذا التعبير في إرادة بيان عدم فرد آخر شرّ من ذلك نحو قوله فيمن ترك الحج «ان شاء يموت يهوديّا أو نصرانيا» (٢) فهو وان أشعر بخصوص الآخر وهو الحربي ، إلا أن الحكم يعم بالأولوية.

وأما ما قيل : من أن الحربي لا يملك ، فليت شعري كيف يمكن دعوى ذلك مع أن الحربي مكلّف بالفروع المالية ـ كالخمس والزكاة والحج وغير ذلك مما يتوقف على الملك ـ وما ورد : من «أنه وماله في‌ء للمسلم» (٣) فالمقصود منه جواز مزاحمته في ماله والأخذ منه بأي وسيلة أمكنت ، ولو بالغيلة ، لسقوط احترامه في نفسه وماله.

__________________

علي بن الحكم عن العلا عن محمد بن مسلم عن أحدهما (ع) في رجل .. والطريق الثاني بنفس الباب حديث (٥) : «علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أوصى ..»

(١) المصدر الآنف الذكر من الوسائل حديث (٦).

(٢) بهذا النص وبمضمونه وردت روايات كثيرة عن النبي وأهل بيته (ع) عقد لها في الوسائل ـ في مقدمة كتاب الحج ـ بابا مستقلا أسماه. باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الحج.

(٣) بهذا النص وبمضامينه وردت أحاديث كثيرة عن النبي وأهل بيته الاطهار (ع) حفلت بها كتب الاخبار في كتابي الجهاد والخمس

١٤٠