بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

محذور الدور انما يمنع عن إرثه لحق القبول لا عن الإرث مطلقا ، فحرمانه عن إرثه بخصوص هذا الحق من التركة كحرمان غير الولد الأكبر من أعيان الحبوة واختصاصها به.

وبالجملة : وجود المانع عن إرث حق القبول لا يوجب عدم الإرث من سائر التركة بعد فرض عدم المانع عنه ووجود المقتضي له من البنوة وعدم الرقية.

ثم إن ثاني الشهيدين في (المسالك) علل إرث الولد المنعتق على أبيه من أمه بعدم القسمة بالنسبة إليها حيث قال : «والثاني ما يرث منه ، فنقول :

ان كان الوارث متحدا لم يرث هذا الولد مطلقا لاختصاص الوارث بالتركة قبل عتقه ، وان كان متعددا فلا يخلو : إما أن يكون موت أبيه الموصى له قبل موت الموصي أو بعده ، ففي الأول لا يرث أمه مطلقا ـ الى أن قال ـ : وفي الثاني يبنى على الكشف بالقبول ، أو الانتقال ، فعلى الثاني لا يرث من أمه شيئا أيضا لأنها لم تدخل في ملك أبيه ، وعلى الكشف يرث منها لأنها صارت من جملة التركة ، والحال أنها لم تقسم حين الحكم بحريته لأن ذلك حين القبول ، وان كانت بقية التركة قد قسمت ..» (١) انتهى وأنت خبير بما فيه : من عدم وقوع التعليل في محله بناء على انكشاف تملك أبيه الموصى له من حين موت الموصي بالفرض لانعتاقه من حينه ، وان تبين وانكشف ذلك من حين القبول. وعليه فقد انكشف دخوله في الإرث من حين الانعتاق مطلقا. نعم يأتي الفرق بين تحقق القسمة وعدمها حيث كان الولد منعتقا على الوارث دون أبيه ، وعليه فليست الجارية من التركة حتى يعلل الإرث منها بعدم قسمتها.

ثم إن عدم الإرث من المورث مع اتحاد الوارث أو تعدده بعد القسمة

__________________

(١) يراجع ذلك في المصدر الآنف الذكر بعد الجملة المذكورة آنفا.

٤١

إنما يتم على النقل أو الكشف من حين موته دون موت الموصي أو كونه منعتقا على الوارث دون المورث.

(المسألة الرابعة) لا تبطل الوصية بعروض الإغماء أو الجنون للموصي إجماعا ـ كما حكاه جدنا في (المصابيح) (١) وان بطلت بأحدهما سائر العقود الجائزة كالوكالة ونحوها ، لوضوح الفرق بينهما بشهادة بطلانها بالموت ، وهو في الوصية شرط في نفوذها ، فعدم البطلان بأحد العارضين أولى ، مضافا الى عدم انفكاك المرض غالبا عن أحدهما ـ سيّما الأول منهما ـ فيلزم بطلان وصايا المريض الا نادرا ، واشتراط العقل عند الوصية لاعتبار الشعور في الكشف عن المقصود لا يدل على اشتراط دوامه في الصحة ، فلتكن مستصحبة ما لم يرجع عنها.

(المسألة الخامسة) لا تصح الوصية بالمحرم ، للأصل ، ولأنه لو صحت لزم إما خروج المحرّم بالوصية عن كونه محرما ، أو وجوب ارتكاب المعصية على الوصي والأول خروج عن الفرض ، والثاني ضروري البطلان ، وللنص المفسّر للآية الشريفة «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً» (٢).

ولو أوصى بما هو محلل عنده اجتهادا أو تقليدا ، ومحرم عند الوصي كذلك كالوصية بنقله المؤدي إلى الفساد الى أحد المشاهد المشرفة ، فلا إشكال في عدم جواز تنفيذه على الوصي ، فضلا عن وجوبه. وفي وجوب

__________________

(١) راجع منه آخر كتاب الوصية (مصباح) : «لا تبطل الوصية بالجنون والإغماء ، سواء استمر العارض الى الموت أو انقطع قبله إجماعا» والفرق بين الجنون والإغماء واضح ، فإن الأول زوال العقل أو فساده ، والثاني عطل الحواس أو إيقافها مع تغطية للعقل.

(٢) سورة البقرة ـ ١٨٢. وتمام الآية «فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» والجنف ـ بالتحريك ـ : مصدر جنف ـ بالكسر من باب تعب ـ معناه : الميل والعدول عن الحق.

٤٢

بتنفيذه على الحاكم المجوّز له بأن يأمر من يقوم مقامه في ذلك كما لو عرض العجز على الوصي ، لعموم أدلة الوصية ، وعدمه؟ وجهان : مبنيان على وحدة المطلوب ، وتعدده (١).

ولو انعكس الأمر (٢) ففي وجوب تنفيذها على الوصي لمشروعيتها عنده ، فيشمله عموم «فَمَنْ بَدَّلَهُ» وان أثم بالإيصاء عنده ، أو بطلانها رأسا ، لأنها عنده (٣) وصية بالمعصية؟ وجهان : ولعل الأول هو الأقوى.

ولو أوصى لغير الولي بمباشرة تجهيزه ـ كلا أو بعضا ـ كالصلاة عليه مثلا ـ ففي تقديمه على الولي ، أو تقديم الولي عليه؟ قولان : نسب الأول منهما الى ابن الجنيد ، وعن الكركي احتماله ، وعن المدارك نفي البأس عنه :

تقديما لأدلة الوصية على ما دل على أولوية الوارث ، وأن حقه مقيد بعدم الوصية بها. والثاني هو المشهور ، كما في المسالك وغيره ، بل في (المختلف) عدم اعتبار علمائنا ما عليه ابن الجنيد مؤذنا بالاتفاق ، وهو الأقوى ، لأن معارضة عمومات الوصية لعمومات أولوية الولي ـ بعد تسليمها ـ من تعارض العامين من وجه ، والثانية مرجحة بما عرفت (٤) فتكون الوصية حينئذ وصية في حق الغير ، وتقع لاغية. مع احتمال أن يقال : إن تجهيز الميت من فروض الأحياء كفاية وان تعلق به ، وليس مما تركه الميت ، حتى يكون له الإيصاء به ، فتكون أدلة أولوية الولي سليمة عن المعارض. ويحتمل الفرق بين الدفن

__________________

(١) سقوط الوصية وعدم الوجوب بناء على الوحدة بين الوصية والوصي ، والوجوب بناء على التعدد والتفكيك بين الوصية والوصي.

(٢) بأن أوصى الميت بما هو محرّم عنده محلل عند الوصي.

(٣) الضمير في كلمة (عنده) الأولى مرجعه الوصي والضمير المستتر في كلمة (أثم) والضمير في كلمتي (عنده) الأخيرتين مرجعه الميت.

(٤) من الاتفاق والشهرة على الأخذ بعمومات أولوية الولي في ذلك.

٤٣

وغيره ، فيتعين المدفن بتعيينه ، لكونه منه بمنزلة دار السكنى من الحي ، بل لعل الكفن كاللباس مثله دون التكفين والمواراة. مع إمكان أن يقال : ان حق الميت بمضجعه انما يتحقق بعد وضعه فيه لا قبله ، وان عينه.

وفي المسالك : «لا ولاية للموصى إليه بها على المشهور مع وجود الوارث نعم لو فقد كان أولى من الحاكم» انتهى. ولعل وجه تقديمه على الحاكم : هو أن الحاكم ولي من لا ولي له ، وهذا له ولي بالإيصاء.

وفيه ان ذلك انما يتم لو قلنا بأن ولاية الحاكم هنا من حيث أنه ولي من لا ولي له ، وهذا له ولي. وأما لو قلنا بها من حيث كونه نائبا عن الولي الوارث وهو الامام (ع) عند فقد من هو قبله من الطبقات الراجع في الحقيقة إلى تقديم الولي الوارث على الموصى إليه ، فلا يتم الوجه المذكور.

اللهم الا أن يدفع : أن حق تقديم الامام من حيث الوارثية ليس من الحقوق التي يستوفيها الحاكم بالنيابة عنه كالأموال ، بل هو من الحقوق الراجعة إليه (ع) من حيث فعله بالمباشرة أو الاذن ، فافهم.

بقي فروع مبتنية على بطلان الوصية بالمحرّم.

(الأول) إذا أوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرم كالعود المشترك بين عود اللهو وعود البخور ، والنبل والقسي والعصا ونحو ذلك ، والطبل المشترك بين طبل للهو وطبل الحرب التي تضرب للتهويل وطبل الحجيج والقوافل التي تضرب لإعلام النزول والرحيل ، والأواني المصوغة من الذهب والفضة والمتخذة من النحاس وغيره ، سواء كان مشتركا لفظا أو معنى ، انصرف الى المحلل ، فردا أو مصداقا ، حتى أنه لو لم يكن المحلل في التركة وجب شراؤه ودفعه الى الموصى له ، ولا يصلح اختصاص المحرم بالوجود في التركة قرينة على تعيينه كي يلزم البطلان ، حملا للفعل على الصحيح ، وصونا لكلامه عن اللغو ، ولظهور حاله عند الوصية المقصود منها تنفيذها لتدارك

٤٤

ما فاته من الحسنات في مستقبل الأوقات بعد الممات بنيل الخيرات بصرف ماله في وجوه المبرات والمثوبات ، بل هو كذلك وان كان المحرم هو المنصرف اليه اللفظ عند الإطلاق بالأظهرية فيه ، لوجوب صرف الظهور اليه بقرائن الحال ، لا بأصل الصحة تعبدا ، لأن الأصل المزبور لا يصلح أن يكون قرينة لصرف ظواهر الألفاظ التي هي من الأدلة الاجتهادية.

(الثاني) إذا أوصى بمعين له منفعة محرمة ومنفعة محللة غير نادرة ، صحت الوصية ، لصحة الانتفاع به بالوجه المحلل.

(الثالث) إذا أوصى بالفرد المحرّم من ذلك كعود اللهو ـ مثلا :

فان كان بحيث يوجب زوال الصفة المحرمة ، ولو بتغيير الهيأة انتفاء مالية المادة ، فلا إشكال حينئذ في بطلان الوصية به.

وإن لم يكن كذلك بل أمكن زوال الصفة مع بقاء مالية المادة ، ففي البطلان مطلقا ، الصحة مع أمر الوصي بإزالتها ودفع المادة اليه ، أو التفصيل بين ما يمكن زوالها مع بقاء الاسم وعدمه : بالصحة في الأول والبطلان في الثاني ، أو بين ما كانت له مادة نفيسة كالذهب والفضة ـ مثلا ـ فالصحة وما لم يكن كذلك ولو كانت متقومة ، فالبطلان؟ احتمالات ، بل أقوال :

ولعل الأول هو الأقوى ، لان الموصى به هو العين المركبة من المادة والهيأة في قوله : أعطوا عود اللهو لزيد بعد الموت ، أو أعطوا الآنية المصوغة من الذهب له بعده ، وهي بهذه الصفة غير قابلة لتعلق الوصية بها ، وخصوص المادة بعد تغيير الهيئة غير الموصى به ولو مع بقاء الاسم ، وإرادة المسمى منه تجوّز لا يحمل عليه الا بالقرينة ، وإزالة الصفة تصحيحا للوصية لا تصلح قرينة لصحة الاستعمال ، كما لا تصلح نفاسة المادة قرينة لذلك ، كما توهم : من أن الوصية بما كانت مادته نفيسة في الحقيقة متعلقة برضا منه لأنه خروج عن العمل بمداليل الألفاظ ، ولا يجدي إلزام الوصي بزوال

٤٥

الصفة بعد الوصية في الصحة ، ولو مراعاة لعدم القابلية حين تعلقها.

نعم لو علم تعلق الوصية بخصوص المادة المجردة عن الصفة ، فلا بأس بها ، كما لا بأس بإزالة الصفة من العين ثم الوصية بها.

فظهر بما ذكرناه ضعف مستند الأقوال الباقية.

ولو كان الموصى به واحدا تعين تعلق الوصية به ولو كان متعددا تخير الوصي والوارث في المتواطي (١) في دفع أي فرد منه ، سواء أوصى بفرد مردد أو بالماهية الصادقة على جميع الأفراد بعد تحققها في ضمن كل فرد منها ، فيتخير الوصي أو الوارث ، لأنه المأمور بتنفيذ الوصية مع حصول الامتثال بدفع ما شاء منه ولو كان مشتركا لفظا كالقوس المشترك بين قوس النشاب وقوس الجلاهق الذي يرمى به البندق ـ كما قيل ـ (٢)

__________________

(١) الكلي : هو المفهوم الذي لا يمتنع صدقه على الأكثر من واحد ـ كالإنسان والبياض ـ والجزئي بعكسه ، فهو فرد من إفراد الكلي كزيد. ثم إن الكلي ينقسم ـ من حيث تساوي مصاديقه بالنسبة إلى مفهومه ـ واختلافها إلى : متواطى‌ء أي متساوي الأفراد ، كالإنسان والحيوان ، فان جميع أفراده متساوية من حيث الإنسانية أو الحيوانية ، وإلى مشكك ، أي مختلف الصدق على أفراده من حيث القوة والضعف كالنور والنار بالنسبة إلى مصاديقها ، أو من حيث الكثرة والقلة ، كالعدد بالنسبة الى أفراده ، أو من حيث العلية والمعلولية كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن ، أو من حيث التقدم والتأخر ، وغير ذلك من موارد الاختلاف (عن كتب المنطق).

(٢) الجلاهق ـ بضم أوله ـ : جمع جلهق ـ بالفتح أو الكسر : ـ معرب ـ البندق الذي يرمى ، والقوس : ومنه قول المتنبي :

كأنما الجلد لعري الناهق :

منحدر عن سبتي جلاهق

والسبتين : هما ما عطف من طرفي القوس (عن كتب اللغة)

٤٦

وقوس الندف : فان علم ـ ولو بقرائن الحال ـ إرادة قوس خاص من الأقواس تعين ، ولا اعتراض عليه للموصى له بدفع المراد بإرادة غيره ، لأنه ليس الا بقول ما يدفعه المأمور بتنفيذ الوصية ، إلا إذا ادعى عليه علمه بإرادة غير المدفوع ، فعليه يمين نفى العلم. وان علم إرادة المسمى كان مخيرا كالمتواطي في دفعه لما شاء من الأقسام لكون الموصى به حينئذ كليا منطبقا على كل قسم منها وان علم إرادة قسم منها واشتبه عليه الأمر لعارض النسيان أو غيره ـ عينه بالقرعة التي هي لكل أمر مشكل لم يندرج تحت قاعدة من القواعد الشرعية ، ولا تخيير هنا لعدم الدليل عليه ولا أصل يقتضيه حتى يكون واردا على دليل القرعة ورافعا لموضوعها. وان شك في انه أراد قسما منها أو المسمى به مع عدم قرينة معينة ولا صارفة الموجب لدوران الأمر بين الإجمال والتجوز ، تعين الثاني ، لأن الحمل على المجاز ـ وان كان على خلاف قانون الاستعمال ـ أولى من الإجمال الموجب للغوية الكلام وسقوطه عن إفادة المرام ، وعلى هذه الصورة ينزل كلام الأكثر بالتخيير في المشترك اللفظي ، تقديما لاحتمال التجوز على الاحتمال الموجب للإجمال (ودعوى) إيجاب اللغوية بالإجمال إنما هو عند تأخير البيان عن وقت الحاجة دون وقت الخطاب وهو هنا عند الموت لا عند الوصية ، فصحة الاستعمال بالحمل على الحقيقة تعين ارادة الفرد منه مع سعة الوقت لتأخير البيان وأنه ترك لعارض النسيان ونحوه ، فتعيّن القرعة في هذه الصورة أيضا (فيها) من التكلف ما لا يخفى.

(المسألة السادسة) عقد الوصية جائز من الطرفين : من طرف الموصي مطلقا ما دام حيا ، من غير فرق بين متعلق الوصية بالمال أو بالولاية (١) ومن طرف الموصى له ما لم يقبل بعد الموت ، وان قبل في الحياة. وفي

__________________

(١) فيما إذا كانت عهدية كأن يجعل شخصا وليا أو قيما على صغاره أو يوصي لشأن من شئون تجهيزه بعد الموت.

٤٧

إطلاق الجواز عليه قبل القبول بالمعنى المصطلح نوع مسامحة ، إذ لا عقد بالفرض بعد حتى يتصف بالجواز. ولازم لو قبل بعده ، فليس له الرد بعد القبول إلا على القول بكون القبض شرطا للزوم ، فجائز قبله ولو بعد القبول وإنما يلزم بعده. وبالجملة ـ فهو جائز من طرف الموصي مطلقا ، ومن طرف الموصى له في الجملة.

ويدل على الأول : النصوص المستفيضة (١) والإجماع ـ بقسميه ـ ومحكيّه فوق حدّ الاستفاضة ، فله الرجوع عن الكل أو البعض ، وتغيير الوصي أو الموصى له ، وإبدال الموصى به بغيره أو العين بالمنفعة أو العكس ولو شك في الرجوع ـ ولو للشك في دلالة لفظ أو فعل عليه ـ فالأصل عدمه الحاكم على أصالة عدم الانتقال الى الموصى له ، مع كونها معارضة بمثلها بالنسبة إلى ورثة الموصي ، فيبقى الأول سليما عن المعارض ، لو لم نقل بالحكومة في أمثال ذلك من مجاري الأصول وقلنا بالتعارض بين الأصل في السبب والأصل في المسبب (٢).

ويتحقق الرجوع بأمرين : بالقول ، وبالفعل. أما الأول فيتحقق بكل لفظ دال عليه بإحدى الدلالات (٣) نحو رجعت عن وصيتي ، أو أبطلتها

__________________

(١) التي منها ـ رواية ابن مسكان : «عن أبي عبد الله (ع) قال قضى أمير المؤمنين (ع) أن المدبّر من الثلث وأن للرجل أن ينقض وصيته فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت» كما في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ١٨ من أبواب أحكام الوصايا. وغيرها في هذا الباب كثير.

(٢) ولكن الحق أن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ومذهب لموضوعه ، وأن الأصل المسببي في طول الأصل السببي لا في عرضه فكيف يتعارضان؟ والتفصيل في علم الأصول.

(٣) أي الثلاثة : المطابقة والتضمن والالتزام ، كما هي مفصلة في علم المنطق

٤٨

أو عدلت عنها ، أو نقضتها أو فسختها ، أو غيّرتها أو بدّلتها. ونحو ذلك مما يكون صريحا أو كالصريح في الدلالة عليه ولو قال : «هو تركتي» لم يكن رجوعا ، لأن الموصى به من التركة ، إذ ليس معنى التركة إلا كونها مالا ، مات عنه المالك ، لا خصوص ما يرثه الوارث.

وأما الثاني فيتحقق بالتصرف فيه بما يكون مفاده به مضادا لمفاد الوصية ، وهو يتحقق بأمور :

(الأول) : إتلاف الموصى به كما لو أوصى بطعام فأكله ، فإنه كالتلف السماوي في انتفاء الموضوع.

(الثاني) : إزالة الملك عنه ، منجزا كالعتق أو معلقا كالتدبير سواء قلنا بكونه عتقا معلقا على الموت أو وصية بالعتق. وبحكمه المكاتبة ـ مطلقة كانت أو مشروطة ـ ، وليس الإعراض عن الموصى به كالتحرير في المنافاة للوصية ، وإن قلنا بصيرورته مباحا بالإعراض ، لامتناع تعلق الملك بالمعتق بعد حريته ، وليس كذلك المباح لإمكان تعلّقه به بالحيازة ونحوها ، فلا موجب لبطلان الوصية ، إذ ليس إزالة الملك بنفسها رجوعا إلا بدعوى اشتراط صحة الوصية ببقاء ملك الموصي إلى الموت ، وهي ممنوعة ، بل هو كذلك ، وان حازه غير الموصى له في حياة الموصي ، لسقوط الحيازة عن التأثير حينئذ بتعلق حق الموصى له به ولو بنحو ملك أن يملك فهو قبل الموت من المباح المتعلّق به حق ، وإن لم يكن مملوكا بعد كحق التحجير في المباح قبل الأحياء ، بل ليس للموصي إبطال الوصية بعد الإعراض لأن جواز الابطال من شئون ملكيته ، والمفروض زوال الملك بالإعراض وان لم يملكه الموصى له قبل موته وان حازه ، لانتفاء شرط الملك وهو الموت ، مع احتمال تملكه بها قبله وان انضم اليه بعد الموت سبب آخر للتملك وهو الوصية ، كما لعلّه الأظهر ، ويحتمل بطلانها بسبب التملك

٤٩

بالحيازة نظير بطلان زوجية الأمة بملك اليمين. ثم على هذا القول : لو رجع المعرض عن إعراضه لا يعود ملكه بنية الرجوع ، لأنه كالأجنبي. ولا كذلك لو قلنا بكون المعرض عنه بحكم المباح ـ كما اخترناه في محله ـ وان سبقه غيره باليد عليه ، لسقوط اليد عن التأثير ، لتعلّق حق الموصى له به وكفاية نية الرجوع في انتفاء حكم المباح لبقائه على الملكية بالفرض. وأولى بذلك ما لو قيل ـ بما عليه المشهور ـ من بقاء الملكية وإباحة التصرف ولو بعد الحيازة.

(الثالث) : إيجاد ما يمنع عن نفوذ الوصية كإيلاد الأمة الموصى بها لأنها تنعتق على ولدها ، إلا إذا مات ولدها في حياة الموصي لزوال المانع حينئذ عن صحة الوصية ، والوطء غير مانع كتزويجها ، لان ذلك من شئون الملكية في الحياة وغير مضاد بنفسه حتى يكون دالا على الرجوع ولا يتوهم أن إرث الولد أمه فتنعتق عليه في مرتبة ملك الموصى له لها بالوصية مع اتحاد زمان السببين وهو موت الموصي ، فمانعيّته ليست بأولى من مانعية العكس ، لان تشبث الإيلاد أقوى وأشد تأثيرا من تشبث الموصى له بالملك بسبب الوصية ، وان قلنا بكونه ملك أن يملك ، ولذا لا يجوز بيع أم الولد إلا في موارد مخصوصة ، ويجوز نقل ما اوصى به وسائر تصرفاته المنافية للوصية ، وان ملك بها أن يملك.

(الرابع) : نقله إلى غيره بعقد لازم أو جائز كالبيع والصلح والهبة مع الإقباض ، وغير ذلك مما كان مفاده مضادا لمفاد الوصية وإن عاد اليه بفسخ أو إقالة أو رجوع ، من غير فرق بين صحة العقد وبطلانه مطلقا : علم بفساده أو جهله ، إذ الدلالة في الثاني على الرجوع إنما هي من حيث التسليط لا حصول التسلط وعدم ترتب الأثر الذي هو معنى فساد

٥٠

العقد ، إنما هو من حيث عدم التسلط لا عدم التسليط الذي به يتحقق الرجوع.

نعم لو كان نقله مع الغفلة عن الوصية بحيث لو كان ملتفتا الى سبق الوصية لم يقع منه ذلك : فان كان صحيحا نفذ وبطلت الوصية ، وان كان باطلا ، فعن المشهور هنا وفي نظائره إبطال الوصية به أيضا لكونه رجوعا عرفا بل عقلا ، لأن إرادته مستلزمة لإرادة عدم الوصية التي هي ضده ، فإن الشي‌ء لما توقف وجوده على عدم ضده كانت إرادته مستلزمة لإرادة مقدمته ، وهي عدم الضدّ ، فكأنه صرح بإرادة عدم الوصية ، وليس الفرق إلا الإجمال والتفصيل في الإرادة.

ونوقش فيه بأن ذلك مسلم فيما إذا لم يكن مسبوقا بفعل ضدّه المنافية صحته لصحته بحيث لو كان ملتفتا إليه لما فعله ، بخلاف ما لو كان مسبوقا به لإمكان الفرق ـ بين سبق الإرادة إلى شي‌ء ثم إرادة ضده ، غفلة عن الإرادة السابقة ، كما فيما نحن فيه ، وبين حدوث إرادة الشي‌ء غفلة عن مصلحة ضده التي لو التفت إليها لأراد الضد ـ بأن الإرادة السابقة مركوزة في ذهنه في الأول ، وان أراد ضده غفلة ، بخلاف الثاني ، إذ لم تحصل إرادة ، ولا عبرة بالمصلحة الداعية إليها على تقدير الالتفات. ولذا صرح بعضهم بأنه لو نوى الصوم ثم اعتقد فساده فنوى الأكل لم يفسد الصوم ، وان قلنا بأن نية الإفطار مفسدة ، وكذا لو نوى قطع الصلاة لاعتقاد فسادها فان ذلك لا ينافي استمرار النية في الصوم والصلاة.

ويمكن دفعها ـ بعد الفرق بين الإرادتين ـ المسبوقة بإرادة غيرها وغير المسبوقة ـ في كون مريد الشي‌ء مريدا لترك ضده ، وصدق العدول بالثانية عن الأولى التي لولاها لكانت باقية مستدامة ، وعدم بطلان الصوم والصلاة مع اعتقاد الفساد بمجرد نية الأكل ، والقطع بفعل المنافي ما لم

٥١

يفعلهما انما هو لاعتقاد الفساد وأنه لا صوم أو لا صلاة باعتقاده ، لا أنه عدول عن الصحيح وإبطال له حتى ينافي شرط الاستدامة ، ولذا هؤلاء يقولون بالبطلان بمجرد نية الابطال ما لم يكن مسبوقا باعتقاد الفساد لانتفاء استدامة النية حينئذ.

ففي التنظير نظر ، والتعليل عليل ، فظهر بذلك قوة ما عن المشهور :

من كون ذلك رجوعا عن الوصية وإبطالا لها.

(الخامس) : فعل مقدمة أمر إن تم كان مفاده مضادا لمفاد الوصية كالتوكيل على بيع الموصى به ، وهبته قبل القبض ، فان ذلك عند العرف يعدّ رجوعا عن الوصية ، وليس مجرد العوض على البيع ـ ما لم يكن منجزا ـ من الرجوع عرفا.

(السادس) : انقلاب ماهيته الى ماهية أخرى كانقلاب الحنطة قصيلا ما لم يعلم تعلق الوصية بخصوص المادة وان تغيرت صورتها النوعية ، وان عاد الى ما كان أولا كالمصّعد من ماء الورد ـ مثلا ـ فإنه كالعود اليه بالفسخ أو الإقالة ، لأنه بالانتقال تبطل الوصية ، وعودها موقوف على وصية جديدة ، فضلا عما لو تولد منه بالانتقال غيره. وفي صدق الرجوع بالمزج الرافع للتميز بأجود منه دون غيره أو العدم مطلقا؟ قولان والثاني هو الأقوى ، وان أوجب الشركة الحكمية.

(السابع) : تسليط الغير على إتلافه ولو على تقدير كالأرهان ، ضرورة مضادة نفس الاقدام عليه كذلك لمفاد الوصية وان فكّه ، بخلاف العكس وهو الوصية بالعين المرهونة ، فإن مرجعها إلى الوصية بها بعد الفك ، فتكون وصية عهدية.

(المسألة السابعة) لا تثبت الوصية التي هي بمعنى إعطاء الولاية على التصرف في الأموال أو على المجانين والأطفال بعد الموت أو الوصية

٥٢

بالإيصاء كذلك (١) بشهادة النساء ، لا منفردات ، ولا منضمات الى العدل الواحد.

أما الأولى : فلاختصاص قبول شهادتهن كذلك بما يخفى ـ غالبا ـ على الرجال كعيوب النساء ونحوها وخصوص الوصية ـ كما يأتي.

وأما الثانية : فإنها تقبل شهادتهن مع الانضمام فيما إذا كانت الدعوى على مال أو متعلقة بالمال ، وليست الولاية بشي‌ء منهما ، بل تثبت بشهادة عدلين كغيرها من الحقوق.

نعم تثبت الوصية بالمال (٢) دون كونه وصيا بشاهد وامرأتين كغيرها من الدعاوي المالية ، بل بشاهد ويمين ، للملازمة بينهما ، فكل مورد قبل فيه أحدهما قبل فيه الآخر. نعم تختص هي ـ دون غيرها ـ في الثبوت بشهادة الذميين مع الضرورة وعدم عدول المسلمين ، إجماعا ـ بقسميه ـ بل كما قيل : لا خلاف فيه. والاخبار به مستفيضة ، بل هي متواترة معنى والأصل فيه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ : لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ

__________________

(١) وهي الوصية العهدية التي معناها : أن يعهد الموصي إلى شخص أو أكثر بعد موته بتنفيذ ما يريد تنفيذه في شئون نفسه أو في شئون ما يتعلق به من القاصرين.

(٢) أو بما يؤول اليه ـ وهي الوصية التمليكية. فمثبتاتها : منه ما هو متفق عليه بين الفقهاء كشاهدين عدلين ، وشاهد وامرأتين ، ومنه ما هو مختلف فيه كشاهد ويمين المدعي ، وشهادة أربع نساء ، وشهادة اثنتين مع يمين المدعي وشهادة الذميين والشهرة ، بتفصيل يتضمنه المتن.

٥٣

اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ، فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (١) وهو كالصريح في قبول شهادة غير المسلمين عند تعذر العدلين ـ بعد تنزيل قيد السفر فيه على الغالب من وقوع التعذر فيه دون الحصر ـ والا فيقتضي التخيير بينهما في السفر ، وهو من المقطوع عدمه.

مضافا الى ظاهر التعليل في الصحيح : «هل تجوز شهادة أهل ملة ممن غير أهل ملتهم؟ قال : نعم إذا لم يوجد من أهل ملتهم جازت شهادة غيرهم إنه لا يصلح ذهاب حق أحد» (٢) بعد تقييده بما دل على اشتراط كونهما ذميين كما يقيد به إطلاق الآية ، وبعض النصوص المطلقة نحو ما روي عن المشايخ الثلاثة ـ قدس الله أرواحهم ـ : «عن يحيى بن محمد قال : سألت أبا عبد الله «ع» عن قول الله تعالى «(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) قال : اللذان منكم : مسلمان ، واللذان من غيركم : من أهل الكتاب فان لم تجدوا من أهل الكتاب ، فمن المجوس ، لان رسول الله «ص» سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية ..» (٣) إلا انه ـ كما قيل ـ

__________________

(١) سورة المائدة : الآيات : (١٠٦ ، ١٠٧ ، ١٠٨).

(٢) الوسائل كتاب الوصايا ، باب ٢٠ من أبواب أحكام الوصايا حديث (٣) : (وعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) قال : سألته : هل تجوز ..)

(٣) المصدر الآنف من الوسائل حديث رقم (٦).

٥٤

لا عامل به ، من حيث إلحاق المجوس بأهل الكتاب. اللهم إلا أن يكون مندرجا في إطلاق أهل الكتاب وأهل الذمة في كلامهم ، لكنه خلاف المنساق من ذلك ومخالف للأصل ، بل الأصول ، فينبغي الاقتصار على المتيقن خروجه عن ذلك ، وهو الذميان خاصة.

وبالجملة : لا ريب في ثبوت الوصية بالمال بشهادتهما مع فقد العدلين ، كما لا ينبغي التأمل في تقديم الذميين على الفاسقين من المسلمين ، بل العدلين من المخالفين ، وان كانا مسلمين ، للنص والإجماع فيهما المفقودين في غيرهما ، والأولوية في الصورة الثانية ممنوعة ، ولو سلمت فهي ظنية لا تعويل عليها. وفي جواز شهادة الذميين مع وجود العدل الواحد نظر : من إمكان ثبوت الوصية بالعدل الواحد مع ضم اليمين اليه ، ومن فقد العدلين حين الوصية الصادق بفقد أحدهما وهو المسوغ لإشهادهما ، ولعل الثاني هو الأقرب وإن كان الاقتصار على المتيقن فيما خالف القواعد يقرّب الأول ، سيما مع دعوى كون الشرط فقدهما ، دون فقد أحدهما ، ولو شك في التعذر ففي رد شهادتهما ، لان الشك في الشرط شك في المشروط والأصل عدمه أو قبولها بناء على مانعية التمكن ، وان وقع التعبير عنه بشرطية العدم؟

احتمالان : مال الى الثاني منهما ـ بل قواه ـ شيخنا في (الجواهر) والأول هو الأقوى ، لعدم تحقق الاقتضاء في شهادة غير المسلمين حتى يمكن تصور مانعيّته ، لان مانعيّة الشي‌ء ونسبة الشك اليه فرع وجود المقتضي ، وليس في شهادة غير العدلين اقتضاء للقبول ، وتعتبر العدالة فيهما كالمسلمين لما ورد من اعتبارها فيهما في بعض النصوص.

هذا ويقع الإشكال في وجه التطبيق بين الآية التي مفادها إشهاد غير المسلم مع الضرورة على الوصية دون جعله وصيا ، وسبب نزولها الذي مورده الثاني دون الأول ، لما ورد في سبب نزولها بطريق : «أن تميما الداري وابن

٥٥

بندي وابن أبي مارية خرجوا الى الشام للتجارة ، وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين ، وكان مع تميم الداري (خرج) له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة أخرجهما إلى بعض أسواق العرب للبيع ، واعتل تميم الداري علة شديدة ، فلما حضره الموت دفع ما كان معه الى ابن بندي وابن أبي مارية ، وأمرهما أن يوصلاه الى ورثته ، فقدما المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة ، وأوصلا سائر ذلك الى ورثته ، فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقال لهما أهل تميم : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا : لا ما مرض إلا أياما قلائل. قالوا : فهل اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا ، قالوا : فهل سرق منه شي‌ء في سفره؟ قالا : لا ، قالوا : افتقدنا أفضل شي‌ء كان معه آنية منقوشة مكللة بالجواهر وقلادة ، فقالا : ما دفع إلينا فقد أديناه إليكم. فقدموهما الى رسول الله (ص) وأوجب رسول الله (ص) اليمين ، فحلفا فخلى عنهما ، ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما ، فجاء أولياء تميم الى رسول الله (ص) فقالوا : يا رسول الله (ص) : قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما؟ فانتظر رسول الله (ص) من الله عز وجل الحكم في ذلك ، فأنزل الله تبارك وتعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ إلخ» (١)

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوصايا باب ٢١ من أبواب أحكام الوصايا ، حديث (١) : عن محمد بن يعقوب عن علي ابن إبراهيم عن رجاله ، رفعه ، قال : خرج تميم الداري وابن بندي وابن أبي مارية في سفر ..» ومثل ذلك في تفسير القمي ـ باختلاف بسيط في بعض فقرأت الحديث .. وتتمة الحديث هكذا : فأطلق الله شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ : لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) ـ

٥٦

وفي طريق آخر : مرض فدوّن ما معه في صحيفة وطرحها الى متاعه ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ، ومات ، ففتشاه وأخذا منه إناء من فضة وزنه ثلاث مائة مثقال ، منقوش بالذهب ، فغيّباه فأصاب أهله الصحيفة ، وطالبوهما بالإناء فجحدا ، فترافعوا الى رسول الله (ص) فحلّفهما رسول الله (ص) بعد صلاة العصر عند المنبر ، وخلي سبيلهما ثم وجد الإناء في أيديهما ، فأتاهم بنوسهم في ذلك ، فقالا : قد اشترينا ، فكرهنا ان نقر به ، فرفعوهما الى رسول الله (ص) ، فنزلت (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا) إلخ ، وليس فيه ذكر القلادة.

وكيف كان فحق مفاد المنزل : إما أن يكون مطابقا للواقعة أو أعم منها حتى يكون بيانا لحكمها ، لا أجنبيا عنها.

اللهم إلا أن يقال : لما كانت الواقعة في الوصية بمعنى الإيصاء ، ولو بإيصال المال إلى الورثة ، كفى ذلك لبيان حكم الإشهاد على الوصية ولو استطرادا ، سيما والوصية لم تنفك غالبا عن اعتراف الميت الذي يتحمل الوصي شهادة عليه وان كان مدعيا في كونه وصيا.

ثم ان الآية اشتملت على أحكام مخالفة للقواعد : (منها) إحلاف

__________________

فهذه الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً) أي أنهما حلفا على كذب (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) يعني من أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما فإنهما قد كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ) فأمر رسول الله (ص) أولياء تميم الداري : أن يحلفوا بالله على ما أمرهم فحلفوا ، فأخذ رسول الله (ص) القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية ، وردهما على أولياء تميم الداري ..».

٥٧

الشاهد مع أن الشاهد لا يمين عليه ـ بالإجماع. (ومنها) إحلاف المدعي وهو ورثة الميت المستفاد من قوله (وآخران يقومان مقامهما). و (منها) سماع الدعوى بمجرد الظن والتهمة مع أنها لا تسمع الا بنحو الجزم. و (منها) سماع ، الدعوى في الآية من ورثة الميت وإحلافهم عليها ، مع أن الدعوى لا تسمع بعد اليمين لأنها تقطع الخصومة بها ، وتذهب بما فيها ـ كما ورد في بعض النصوص.

والجواب عن (الأول) مرة ـ بالتزام تخصيص ما دل ـ على عدم إحلاف الشاهد بما دلّ عليه ـ هنا ـ بالخصوص : من النص ، كتخصيص عموم ما دلّ على اعتبار الايمان في الشاهد بقبول شهادة الذميين هنا ـ وأخرى ـ بكون سبب الإحلاف هو دعوى الورثة خيانة الوصيين ، فهي دعوى جديدة بتوجه اليمين على منكرها.

و (عن الثاني) فبالتخصيص ـ أولا ـ بانقلاب المدّعي منكرا بعد دعوى الوصيين الشراء ـ ثانيا ـ ويحلفان على نفي العلم ، ويكون دليلا لصيرورة ذي اليد مدعيا بعد اعترافه بالملكية السابقة للمدّعى لتضمنه دعوى الانتقال منه اليه ، فتلغو اليد عن كونها أمارة. (وعن الثالث) بأنها ربما حفت بقرائن إفادة المدعى جزما بالدعوى ، ولم يكن ما يدل بظاهره على خلافه ، وان التعبير لم يكن بنحو الجزم. (وعن الرابع) بما عرفت من انقلاب المدّعي منكرا بعد ظهور الخيانة بدعوى الشراء.

وبالجملة : بعد أن كان الحكم مخالفا للقواعد ، فاللازم الاقتصار على المتيقن خروجه عنها ، وهو قبول شهادة الذميين المرضيين في دينهما عند تعذر العدلين ، وما يقوم مقامهما : من شهادة النساء مطلقا وإحلافهما مع الريبة وتغليظ اليمين من حيث الوقت والمكان ـ كما فعله رسول الله (ص) ـ

وكذا ثبتت الوصية بشهادة النساء ، ولو منفردات لكن يثبت

٥٨

تمام الوصية بشهادة أربع نساء ، وثلاثة أرباعها بشهادة ثلاث منهن ، والنصف بشهادة امرأتين ، والربع بواحدة ، المستفاد ذلك من ثبوت الربع بشهادة امرأة واحدة من النصوص التي : (منها) ما رواه (في التهذيب) في الصحيح «عن ربعي عن أبي عبد الله (ع) في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصي ليس معها رجل؟ فقال : يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها (١) ورواه (في الفقيه) في الصحيح : «عن حماد بن عيسى عن ربعي» مثله بأدنى تفاوت (٢) و (منها) ما عن محمد بن قيس في الصحيح «عن أبي جعفر (ع) قال قضى أمير المؤمنين (ع) في وصية لم يشهد لها إلا امرأة فقضى أن تجاز شهادة امرأة في ربع الوصية» ورواه بسند آخر : عن محمد بن قيس أيضا مثله ، إلا أنه زاد : إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها (٣) و (منها) ما عن أبان عن أبي عبد الله (ع): «انه قال في وصية لم يشهدها الا امرأة فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصية بحساب شهادتها» (٤) والمراد من قوله : بحساب شهادتها ، أي الربع

__________________

(١) راجع : كتاب الوصايا منه باب (٧) الاشهاد على الوصية ، حديث (٥) : «الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن ربعي عن أبي عبد الله (ع) ..»

(٢) من لا يحضره الفقيه للصدوق : ج ٤ طبع النجف ص ١٤٢ باب ٨٧ الاشهاد على الوصية هكذا : «.. عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (ع) في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصي ليس معها رجل؟

فقال : تجاز في ربع الوصية».

(٣) راجع ذلك بصورتيه في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٢٢ من أبواب أحكام الوصايا حديث (٣ ، ٤).

(٤) المصدر الآنف من الوسائل حديث رقم (٢).

٥٩

بحساب ما شهدت به ، فاذا ثبت الربع بشهادة الواحدة ثبت كل ربع بشهادة كل واحدة فيثبت النصف بامرأتين وهكذا. ولا يجوز للامرأة أن تزيد في شهادتها ليثبت بقبولها في الربع تمام الحق لتضمنّها الكذب الممنوع منه ، وان استباح المشهود له تناوله مطلقا ، ولو مع العلم بزيادة المشهود به عن حقه ، لعدم نفوذها إلا فيما يساوي حقه في الواقع.

ولو نقص عددهن عن الأربعة ، ففي قبول شهادة الذميين ، لثبوت الكل لتحقق الضرورة بالنسبة إلى ثبوت الوصية المنساق منها تمامها ، أو بالنسبة إلى خصوص الزائد لاختصاص التعذر به ، أو عدم القبول مطلقا ، لعدم التعذر المطلق؟ وجوه : أقواها : الأخير.

ولا يثبت شي‌ء منها بشهادة الخنثى الواحد لاحتمال كونه ذكرا بناء على عدم ثبوت شي‌ء بشهادته ، لعدم النص ، مع منع الأولوية القطعية من المرأة بالنسبة إلى الربع. ولو زاد عددها عن الواحدة ثبت الأقل مما دار الأمر بينه وبين الأكثر ، لأنه المتيقن فيثبت الربع بشهادة الخنثيين لدوران الأمر بينه لاحتمال كون أحدهما مرأة ، وبين النصف لاحتمال كونهما مرأتين ، والكل لاحتمال كونهما رجلين ، وثلاثة أرباع لو كنّ ثلاثة ، لدوران الأمر بينه وبين الكل ، والجميع لو كنّ أربعا ، لأنه المتيقن على كل تقدير.

(المسألة الثامنة) لو أشهد رجل عبدين له على أن حمل جاريته منه ، ثم مات وأعتق العبدان ، ثم شهد ببّنوة المولود ، نفذت شهادتهما وعادا رقيّن (١)

__________________

(١) وذلك لانكشاف أن معتقهما ـ وهو أخ الميت ـ لا يملك عتقهما ، وإنما الذي يملك ذلك ـ بحكم صحة الشهادة المذكورة ـ هو الولد المشهود ـ

٦٠