بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

عند التزاحم ، فلو لم يعلم الترتيب أصلا وعلم أهمية أحدها قدم الأهم وكان النقص على غيره بلا اشكال. وأن لم تعلم الأهمية أيضا كان النقص على الجميع ، وان علم بهما قدم الأهم ، وان تأخر في الذكر ـ على الأظهر ـ وان كان إطلاق الاخبار وكلمات الأصحاب يعطى مراعاة الترتيب مطلقا ، وان علم بأهمية المتأخر ـ سيما مع تعليل بعضهم نفوذ المقدم مما وسعه الثلث بمصادفة الوصية به محلها ـ فيبطل ما زاد عليه مع عدم الإجازة لعدم المحلّ له.

وأنت خبير بما فيه ، لان ذلك انما يتم بناء على أن التقدّم معتبر من باب الموضوعية تعبدا بالنص ، لا من باب الطريقية وكونه أمارة على الأهمية اعتبرها الشارع عند عدم إحرازها بغيره من القرائن لتكون الأهمية هي الموجبة للتقدّم في الذكر غالبا ، ضرورة كونه ـ البتة ـ مسببا عما يوجبه ، والا لزم الترجيح بلا مرجّح ، وليس هو إلا الأهمية. وعليه فتكون الإطلاقات كلّها ناظرة إلى الغالب : من انكشاف الأهمية بالتقدم في الذكر. ولم نجد من صرح بتقديم المقدّم حتى مع إحراز أهمية المتأخر الذي به تظهر الثمرة بين الوجهين ، بل صرح غير واحد بتقديم الواجب البدني على التبرعي ، وان تأخر عنه ، حتى من قال بعدم خروجه من المال مع عدم الوصية به ، وليس ذلك إلا لكون الواجب أهم.

ويدل عليه مصححة معاوية بن عمار ـ الى أن قال : ـ «فدخلت على أبي عبد الله (ع) : فقلت له : ان امرأة من أهلي ماتت وأوصت إليّ بثلث مالها وأمرت أن يعتق عنها ويحجّ ويتصدق ، فنظرت فيه فلم يبلغ فقال ابدأ بالحج ، فإنه فريضة من فرائض الله سبحانه ، واجعل ما بقي طائفة في العتق وطائفة في الصّدقة» (١) الصريحة في تقسيط النقص على العتق

__________________

(١) يراجع ذلك من الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٦٥ من ـ

١٠١

والصدقة ، مع أن الأول مقدّم في الذكر ، المنزلة على التساوي في الأهمية. و (حملها) على عدم معلومية الترتيب في الوصية ـ وان وقع في لفظ الراوي ـ فمع لغوية هذا النحو من الاحتمال وإلا لانسدّ باب الاستدلال (يدفعه) ترك الاستفصال في الجواب.

وبالجملة ، فقصور الثلث عن الوصايا المتعددة التي يجب العمل بها أجمع مع سعة الثلث لها أو الإجازة نظير ضيق الوقت عن الواجبات المتزاحمة الذي لا إشكال في تقديم الأهم منها فيه ، وان تقدّم سبب غير الأهم منها (ودعوى) نفوذ الأول فلا يبقى محل للثاني في هذه الصورة أيضا (ممنوعة) بل هي مصادرة ، ضرورة استلزام ما ذكرناه كون النفوذ مشروطا بسعة الثلث أو اجازة الورثة ، فيكون مراعى بأحد الأمرين ، بل لا ينفك المورد حينئذ عن العدول التقديري المتأخر في المرتبة عن إرادة الجميع ، لاختصاصه بصورة قصور الثلث وعدم الإجازة. وهذا عندي بمكان من الوضوح.

ولو علم الترتيب واشتبه المقدّم استخرج بالقرعة ، لأنها لكل أمر مشتبه.

ولو كان أحدهما على الفور دون الآخر ابتدئ به في العمل على الفور ولو تساويا في الفورية تخيّر في تقديم ما شاء منهما ما لم يفوت تقديمه الآخر

__________________

أوصى بمال للحج والعتق والصدقة ، حديث (١) وأول الحديث هكذا : «محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن محمد بن أبي عمير عن معاوية ابن عمار قال : أوصت إلي امرأة من أهل بيتي بمالها ، وأمرت أن يعتق عنها ويحج ويتصدق ، فلم يبلغ ذلك ، فسألت أبا حنيفة ، فقال : يجعل ذلك أثلاثا : ثلث في الحج وثلثا في العتق وثلثا في الصدقة ، فدخلت على أبي عبد الله (ع) فقلت له ..».

١٠٢

وإلا قدّم ما لا يستلزم ذلك.

(المطلب السابع)

لو أوصى بوصايا متعددة : فإما أن يكون بينها تضاد عقلا أو عرفا أو لا تضاد بينها.

أما الأول ، كما لو أوصى بمعين شخصي لواحد ، ثم أوصى به لآخر ، فبحكم العقل تكون الثانية عدولا عن الأولى ، لاستحالة العمل بهما عنده.

وأما الثاني كما لو قال : (أعطوا ثلثي لزيد بعد موتي) ثم قال : (أعطوا ثلثي لعمرو كذلك) بإضافة الثلث فيهما الى نفسه ، فإن أهل العرف يفهمون العدول عن الأولى بالثانية ، لأنه لا يملك من ماله بعد الموت الا الثلث. وإن احتمل كون الإضافة باعتبار كون المال كله له في الحياة عند الوصية ، إلا أن المتبادر عندهم هو الأول.

ولو أوصى بمعين لشخص ثم أوصى بجزء مشاع ـ كالعشر مثلا ـ من المال أو التركة لآخر ، ففي كونه عدولا عن المعين بقدر ما يخصّه من من الجزء عرفا ، أو تختص الوصية بالجزء مما عداه من المال أو التركة وجهان : ولعلّ الأول هو الأقرب ، لعدم خروج المعين بالوصية عن ماله قبل الموت ، فيكون الجزء منه داخلا في الجزء المضاف الى المال بالوصية الثانية ، لعدم حمل المطلق في أمثال ذلك على المقيد ، فيقع التضاد فيه عرفا بين الوصيين. ومقتضاه العدول عن الاولى بقدره.

وأما الثالث كما لو أوصى بثلث لزيد ، ثم بثلث لعمرو أو أضافهما إلى المال أو التركة ، فلا تضاد بين الوصيتين ـ لا عقلا ولا عرفا ـ حتى يحكم بالعدول ، لإمكان العمل بهما ، وان توقف في الزائد على الإجازة شرعا ،

١٠٣

ومع عدمها فالمانع شرعي ، وهو لا يكشف عن العدول ، إذ لعل الوصية بالزائد لحسن ظنه بالوارث في تنفيذ وصاياه ، فتصح الأولى وتنفذ لعدم المانع أصلا وتبطل الثانية لاختصاص المنع الشرعي حينئذ بما زاد على ثلث التركة.

وبما ذكرنا ظهر لك ما لو أوصى لشخص بثلث ولآخر بربع ولآخر بسدس : من صحة الأولى ، وبطلان الأخيرتين ، مع عدم الإجازة ، لعدم التضاد الموجب للحكم بالعدول فلا يبقى محل لهما بعد نفوذ الأولى ، لعموم أدلة الوصية.

(ودعوى) أن الوصية ظاهرة فيما كانت نافذة ، ولا تكون كذلك إلا فيما كان يملك نفوذها فيه ـ وهو الثلث ـ دون المتوقفة فيه على الإجازة فهي بمعونة الظهور المذكور تضاد الأولى ، والتضاد كاشف عن الرجوع فتبطل به الاولى ، ولا يجرى استصحاب الصحة فيها بعد ظهور الثانية في النفوذ ، لأنه منه بمنزلة الأصل من الدليل ، بل يجرى ذلك في كل عقد يدور أمره بين النفوذ الفعلي والتوقف على الإجازة كما لو باع أحد الشريكين نصف الدار المشتركة بينهما بالمناصفة ، فإنه ينزل على النصف المملوك له دون المركب من ومن شريكه حتى يتوقف على أجازته ، وليس ذلك إلا لما ذكرنا من الظهور.

(يدفعها) أن إطلاق العقد يقتضي إرادة معنى ما تعلق به ، فان صادف محله خليا عن المانع مطلقا نفذ في متعلقة لوجود سبب النفوذ : من وجود المقتضى وعدم المانع ، وإلا توقف نفوذه على عدم المانع مع رجاء زواله أو وجود شرط متوقع ، كالإجازة في الفضولي والقبض في الهبة ولا ينافي التوقف اتصاف العقد بالصحة التأهلية. وحيث كان متعلق العقد في بيع أحد الشريكين هو النصف من غير تعرض لكونه المستحق له

١٠٤

أو المشاع بينه وبين شريكه اقتضى نقل النصف في نفسه الذي أحد مصاديقه ما يملكه ، فيجب عليه التسليم من غير توقف على شي‌ء ، لأنه هو المخاطب بالوفاء بعد إيجاده السبب التام ، وحينئذ فيما نحن فيه نفذت الأولى لمصادفة الوصية محلها ، فلا محلّ للثانية حتى تنفذ فيه بلا توقف لوجود المانع من مزاحمة الوارث ، فإن أجاز ، وإلا بطلت.

وان أبيت ذلك فيمكن أن نمنع الظهور مع سبق الوصية الصالحة لأن تكون قرينة على صرفه ، كيف وظاهر الوصايا المتعددة إرادة جميعها ، ولذا لو أجاز الوارث نفذ الجميع ، ولو كان ذلك رجوعا لم تؤثر الإجازة صحة الأولى بعد فرض بطلانها به.

ثم ليعلم ان التعدد في الوصايا والترتيب بينها انما يتحقق بعد تمام الوصية ، سواء كانت الأخرى معطوفة عليها بثم أو بغيرها ، فلو قال (أعطوا زيدا وعمرا مائة درهم) كانت وصية واحدة واشتركا في الموصى به بالسوية ما لم يعلم التفاضل ، ولو قال (أعطوا زيدا مائة وعمرا مأة) كان ذلك ترتيبا بين الوصيتين ، وان العطف بالواو لكفاية الترتيب الذكرى في إفادة الترتيب في الوصية.

(المطلب الثامن)

المعروف عند الأصحاب ـ حتى قيل بعدم وجدان الخلاف صريحا فيه ـ هو أنه لو أوصى بجزء مشاع من المال يزيد على الثلث كالنصف مثلا وأجاز الوارث ، ثم ادعى ظن قلة المال بأن قال : ظننت المال ألف درهم ـ مثلا ـ فبان ألف دينار ، قبل قوله مع يمينه وقضى عليه بما ظنه. ولو أوصى بمعين كالعبد أو الدار يزيد على الثلث فأجاز الوارث ثم ادعى ظن زيادته عليه بيسير لم يقبل قوله وقضى عليه بما أجازه.

١٠٥

وعللوا الفرق بينهما بما يرجع محصلة : الى أن الوارث في المشاع ربما بنى في العلة على أصالة عدم الزائد على ما ظنه ، وإلى أن دعواه يمكن أن تكون صادقة ، ولا يمكن الاطلاع على ظنه إلا من قبله ، لان الظن من الأمور النفسانية ، فلو لم يكتف فيه باليمين لزم الضرر ، لتعذر إقامة البينة على دعواه ، وفي المعين بأن اجازة الوارث وقعت على معلوم له وهو العين المخصوصة كيف كانت من التركة ، فكانت ماضية عليه ، بخلاف الوصية بالمشاع ، فان العلم بقدرها موقوف على العلم بمجموع التركة

وأنت خبير بان ما ذكروه في المشاع من الوجهين يجري في المعين أيضا لاختلاف قدر استحقاقه منه في القلة والكثرة ، والأصل عدم زيادته على ما ظنه من القدر وأيضا لا يعلم إلا من قبله مع تعذر إقامة البينة عليه. ولا يجدي ما ذكروه في المعين : من كون المجاز معلوما للوارث بعد جهالة مقدار حقه منه المسبب عن جهالة قدر المال كجهالة النصف في المشاع المسبب عن جهالة قدر المال فيتحد الحكم فيهما لاتحاد المناط ، ولعله لذا استوجه القبول في المعين كالمشاع في الدروس والتحرير والمسالك والروضة واحتمله في القواعد واستمتنه في (مفتاح الكرامة) بعد أن قواه ، بل جعله في جامع المقاصد : هو الأصح وتردد في المشاع صريحا في الشرائع والكفاية. وحكى الثاني منهما في المعين قولين ، ولم يرجح ، وظاهره التردد فيه أيضا ، كظاهر (الحواشي) المنسوبة للشهيد في التردد.

وبالجملة : فإن تم إجماع على الفرق بينهما ، وإلا فوحدة المناط تقتضي المساواة في الحكم.

قلت : مع ذلك ، فالأقوى ما عليه المشهور «أولا» ، لأن المعيّن المجاز لمعلوميته يعلم الوارث أن ما يستحقه منه لا يزيد على مقدار الثلثين ،

١٠٦

وان جهل قدر حقه منه وتردد بين أفراد أكثرها الثلثان ، ويتدرج التردد في القلة الى ما لا يكون له فيه حق ، كأن تكون الدار ثلث المال أو أقل فطرف الأكثر من قدر حقه فيه معلوم ، فقدر المجاز من المعيّن معلوم من جهة ومجهول من جهة أخرى ، بخلاف المجاز مشاعا ، فإنه مجهول بالكلية ولعل هذا القدر من التفاوت هو الفارق عرفا الموجب لقرب الدعوى الى الصدق في المشاع ، وبعدها عنه في المعيّن. كما فرق في الإقرار بين ما يكون لرسم القبالة وغيره. (وثانيا) لفساد دعوى جريان أصالة عدم الزيادة على ما ظنه في المعين كما يجري في المشاع ، لوضوح الفرق بين الأصلين فيهما لأن الأصل المذكور في المشاع ، يعضده أصالة عدم زيادة المال ، ضرورة عدم انفكاك زيادة المال عن زيادة النصف وقلّته عن قلّته ، فيتعاضد فيه الأصلان السببي والمسببي ، ويتعاكسان في المعين ، لأن زيادة التركة تستلزم نقصان حق الوارث من المعيّن ، ونقصانها يستلزم زيادته فأصالة عدم زيادة قدر حقه ـ على ما ظنّه ـ محكوم بأصالة عدم زيادة المال والتركة ، بعد أن كان الشك في الأول مسببا عن الشك في الثاني ، ولا مجرى للأصل في المسبب بعد جريان الأصل في السبب.

هذا وليعلم إن أصالة عدم الزيادة أو عدم العلم بها لا يثبت الظن بالقلة الذي هو موضوع الحكم ولذا كان مدّعيه ـ لكونه مخالفا للأصل ـ أيضا مدّعيا ، وكان عليه البينة ، إلا أنه حيث لم يعلم إلا من قبله قبل قوله مع يمينه ، وبما ذكرنا ظهر لك ضعف ما أورد على سماع دعواه في المشاع بأن الإجازة مطلقة ، فالرجوع الى قول الوارث رجوع عن لفظ متيقن الدلالة على معنى يعم الجميع الى دعوى ظن يجوز كذبه ، ضرورة أن الدعوى بعد أن كانت مسموعة للأصل ، وكان منضما إليها ميزان القضاء ثبت به

١٠٧

ما يوجب رفع اليد عن الظهور. فإذا الأقوى ما عرفت.

(المطلب التاسع)

لو أوصى بثلث ماله فما دونه من الكسور لواحد شارك الموصى له الوارث بقدر الكسر بالإشاعة ، لاقتضاء الكسر ذلك في جميع المال ـ عينا كان أو منفعة أو دينا معجلا كان أو مؤجلا ـ حتى ما يكون له بعد الموت كالدية ، لتقدم سبب الاستحقاق في الحياة ، ولا يشمل ما يكون له بسبب متأخر عن الموت كالجناية عليه بالمثلة بعد موته.

ولو زاد الموصى به عن الثلث كالنصف والثلثين ، كان كذلك مع إجازة الوارث التي هي تنفيذ للوصية لا ابتداء عطية. وحينئذ ، فلو تلف منه شي‌ء كان التالف منهما ، والباقي لهما ما دام مشاعا.

ولو أوصى بمعين اختص به الموصى له : ان كان قدر الثلث فما دون وليس للوارث مزاحمته فيه ، لما عرفت من أن للموصى تعيين ثلثه فيما شاء من تركته ، وللموصى له أنحاء التصرف فيه بعد تملكه له بالوصية والقبول ان كان ما يبقى عند الوارث مما عداه مقدار الثلثين ، وان كان ما زاد عليه غائبا. ولو كان غير المعين كله غائبا ، توقف التصرف في المعيّن على حصول مثليه من الغائب. ولو كان بعضه حاضرا وكان قاصراً عن مثلي ما أوصى به استقر ملكه من الموصى به في قدر ثلث المجموع ، وان كان قدر مثليه حاضرا استقر ملكه في تمام العين ، وإن تلف الباقي من الغائب ، لعدم توقف استقرار ملكه على ما يزيد على مثلي المعيّن. وبحكم قبض الوارث قبض وكيله أو وليه ، وان كان الحاكم دون قبض الملتقط وان كان اللقيط أمانة شرعية في يده. وكذا بحكم قبضه إذنه في التصرف بالموصى به ، لسقوط حقه باذنه حتى على تقدير

١٠٨

تحقق الشركة بالتلف في الواقع كسقوط حقّه بامتناعه من قبض المال الغائب مع تمكنه منه أو إبراء من كان هو في ذمّته عنه أو إتلافه قبل قبضه أو نقله كذلك إلى غيره بأحد النواقل الشرعية ، وان لم يقبضه المشتري بعد ، وكان قبله مضمونا عليه بالمسمى ، لا بنحو الهبة التي يكون القبض فيها شرطا لصحتها ، لبقاء المال فيها حينئذ على ملك الوارث. كل ذلك لأن نفوذ الوصية في المعين إنما يتحقق حيث تكون نسبة المعين الى الحاضر ثلثا ، وإلا فالوارث يزاحم الموصى له في المعين بقدر ما ينقص من الحاضر على مثلي المعين ، وهو واضح.

(بقي شي‌ء) وهو أن مقتضى القواعد الأولية المستفادة من أدلتها : هو انفراز التركة من حين الموت باختصاص المعيّن للموصى له ، إن كان قدر الثلث فما دون ، وما عداه للوارث مع عدم الوصية ، إن كان المعيّن دون الثلث ، وأن التالف من أيهما كان كان تالفا من صاحبه. لكن لمّا قام الدليل على أن ما قابل ضعف المعيّن من غيره إن لم يكن حاضرا أو كان الحاضر منه قاصراً عن الضعف ، وتلف الغائب أو بعضه شارك الوارث الموصى له في المعيّن بقدر ما ينقص من ضعفه من حين التلف ، فلا جرم توقف استقرار ملك الموصى له ـ فيما زاد على ثلث المعيّن ـ على قبض الوارث لما يقابل ضعف المعيّن من التركة لأن التلف سبب لحدوث الشركة بينهما في المعيّن. وحينئذ فلا موجب لتوقف الموصى له عن التصرف في ثلث المعيّن المعلوم كونه له باليقين بما لا يزاحم الإشاعة على تقدير انكشافها ـ كما توهم ـ ومع التشاح قبل الانكشاف يتولى قبضه الحاكم أو من يتراضيان عليه. وحينئذ فإن تبين التلف انكشف كون الوارث شريكا من حين التلف لا من حين الموت ، فيكون نماء المعيّن الحاصل من حين الموت الى التلف للموصى له خاصة لأنه نماء ملكه والمتجدد بعد التلف مشتركا بينهما لحدوث الشركة بالتلف. بل لو لا دعوى الإجماع على الإيقاف لكان المتجه جواز

١٠٩

تصرف الموصى له مطلقا في تمام المعيّن استنادا إلى أصالة سلامة الغائب وعدم حدوث سبب الشركة ، وان عورض بأصالة عدم القبض ، لأن الشك في تحقق الحضور مسبب عن الشك في التلف ، بناء على أن أصل العدم أصل عقلائي. وأما بناء على كونه بمعنى استصحاب العدم ، فيكون من الأصول المثبتة. وحينئذ فغايته بعد انكشاف التلف رجوع الوارث عليه بحقه في المعين. وإذ قد عرفت ان الحكم بحدوث الشركة على خلاف القاعدة وجب الاقتصار في الخروج عنها على المتيقن ، فلا يشمل تنجيز المعين ، وان قلنا بخروج المنجزات من الثلث وكان باقي المال غائبا ، ولا فيما إذا كانت العين الموصى بها غائبة وباقي المال حاضرا ، فإنه يتصرف الوارث في الحاضر كيف شاء ، ولا في الزائد على ثلث التركة من العين الموصى بها إن أجاز الوارث الوصية ، فان الموصى له يتسلط على مقدار ما حصل له بالإجازة من دون إيقاف بالنسبة الى ذلك المقدار نظرا إلى إجازة الوارث فيه لعدم الدليل على اعتبار حضور ما يقابل الزائد المجاز من المال الغائب ، فيجوز له التصرف فيه بمجرد التملك بحصول الإجازة ولا يحصل بتلف الغائب شركة للوارث في هذا المقدار ، ولا إذا أتلف المال الغائب أجنبي ورجع الوارث عليه بمثله أو قيمته. نعم لو لم يتمكن الوارث من قبض العوض منه شارك الموصى له. ولو تصرف الموصى له في العين ببيع ونحوه من النواقل قبل قبض الوارث المال الغائب : فإن انكشف تلفه قبل البيع كان النقل بالنسبة إلى حق الوارث منه فضوليا يتوقف على إجازته ، وان انكشف كونه بعد البيع ، ففي رجوع الوارث عليه ببدل حقه فيه من المثل أو القيمة ، لأنه بحكم الإتلاف لحقه ، أو يبطل العقد في سهمه؟ وجهان : والأول هو الأقرب. ولا يجري في هذه الصورة حكم الفضولي ، لأنه كان مالكا حين التصرف ، وان حدثت الشركة

١١٠

بعده ، فيضمن بسببها ببدله ، وإن حصل الغائب ولو بقدر مثلي المعيّن صح بيعه ونفذ ، وان كان منهيا عنه قبل الانكشاف ، لأن النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد.

ثم ليعلم ان الموصى به يتعيّن بتعيين الموصي أو من يجعل أمر التعيين إليه كالوصي أو الموصى له ، فيتعين بتعيينه ـ كما تقدم ـ لان ذلك من شئون ملكيته ، كما أنه لا فرق في حضور المال بين حضوره عند الوارث أو من يقوم مقامه ممن له الولاية عليه أو التولية منه ، فيكون قبض الوكيل وولي الصغير والحاكم قبض الموكل والصغير والغائب في استقرار ملك الموصى له في تمام المعين.

هذا ولو أوصى بعبده لشخص فظهر ثلثاه مستحقا للغير نفذت الوصية في ثلثه ، لاندراجه في الوصية بالكل مع خلوة عن المانع : من تعلّق حق الغبر به. ومثله في الحكم لو أوصى في المثال بثلث العبد. ولا يتعيّن تنزيلها على الإشاعة حتى تنفذ في ثلث الثلث خاصة ، لما ذكر ، كما توهمه بعض العامة ، قياسا على الإقرار ، وبيع الفضولي على أحد القولين فيه.

أما الإقرار فلأنه ليس معناه إلا كونه مال الغير ، وإلا فملكه بوصف كونه ملكه لا يكون لغيره ، فالاقرار بثلث العبد المملوك له ولغيره لا يتحقق معناه إلا في ثلث الثلث وهو معنى الإشاعة.

وأما بيع الفضولي كبيع ثلث العبد في الفرض بناء على بطلان الفضولي ، فإنه حينئذ ينزّل على ثلث الثلث لا غير لإضافة الثّلث الى العبد المفروض كونه مشتركا بينه وبين غيره بالإشاعة ، مع فرض بطلان البيع بالنسبة الى ما تعلّق به حقّ الغير. ومثلهما الوصية بناء على عدم جريان الفضولي فيهما ، لأن الوصية انما تكون في ملكه دون ملك الغير.

وأما الوصية بما زاد على الثلث من التركة فلأن المال كله له حين

١١١

الوصية وليست الإجازة من الوارث إلا بمعنى الرضاء بعدم الإرث. ولذا كانت تنفيذا للوصية لا ابتداء عطية وليست من الفضولي في شي‌ء ـ كما تقرر في محله ـ فالوصية بالثلث من العبد المعتقد كونه بتمامه ملكه مع عدم جريان الفضولي فيها مستلزمة للتنزيل على الإشاعة والنفوذ في ثلث الثلث خاصة.

هذا غاية ما يمكن من توجيه قياس الوصية على الإقرار وبيع الفضولي على أحد القولين ، إلا أن الحق نفوذها في تمام الثلث مطلقا ، وان قلنا ببطلان الفضولي ، لأنه يملك من العبد مصداق ما أوصى به ، وهو الثلث كما تقدم.

وأما بناء على صحة الفضولي وجريانه في الوصية أيضا ـ كما استظهرناه في محله (١) ففي الفرض بعد تبين الشركة : إن أجاز الشريك نفذ في تمام الثلث بالإشاعة ، وإلا : فإن وسع المال ثلث العبد نفذ في تمام الثلث المختص به ، قضاء للعمل بالوصية مهما أمكن ، والتبعيض تبديل لها ، وان لم يسع توقف فيما زاد على ثلث الثلث على إجازة الوارث ، فإن أجاز ، وإلا نفذ في ثلث الثلث خاصة. اللهم إلا أن يمنع جريان الفضولي في الوصية بدعوى الفرق بينها وبين سائر العقود التي يعتبر في جريان الفضولي فيها صحة استناد العقد الى المالك المجيز مع عدم إمكان استناد الوصية إلى المالك بالإجازة بحيث يكون بها موصيا ، فالموصي ليس بمجيز ، والمجيز ليس بموص.

وأما بطلان القياس بالإقرار فلأن الإقرار إنما يؤخذ به حيث يعلم كونه عليه ، وأما المحتمل فيه ذلك وكونه على غيره فليس بإقرار حتى يؤخذ به ، فالأخبار بأن الثلث المشاع في المثال لزيد إنما يكون إقرارا بالنسبة إلى ثلث الثلث خاصة ، وأما بالنسبة إلى الثلثين فليس بإقرار. وهذا

__________________

(١) يراجع ذلك ضمن رسالة عقد الفضولي المدرجة في الجز الثاني من (البلغة).

١١٢

بخلاف الوصية التي هي من العقود الناقلة فإنها تنفذ فيما يملك مصداقه وان كان غيره لغيره.

وبعبارة أخرى : الوصية من الأسباب الناقلة المشمولة لوجوب الوفاء بالعقود ، وليس الإقرار منها حتى يشمله ذلك ، بل هو من الأمارات ، فاتضح بطلان القياس بهما حتى على القول ببطلان الفضولي.

(المطلب العاشر)

في الوصايا المبهمة كالجزء والسهم والشي‌ء ، لو أوصى بجزء من المال : فان علم إرادة قدر مخصوص منه اتبع ، وإلا ، ففي تقديره شرعا روايتان : أشهرهما رواية العشر ، وفتوى ـ كما قيل ـ السبع.

والذي يدل من الأخبار على الأول : ما رواه في (الكافي): «عن عبد الله بن سنان عن عبد الرحمن بن سيابة قال : إن امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي تقضي به ديني وجزء منه لفلانة ، فسألت عن ذلك ابن أبي ليلى؟ فقال : ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء؟ فسألت عنه أبا عبد الله (ع) بعد ذلك ، وخبرته كيف قالت المرأة ، وما قال ابن أبي ليلى؟ فقال : كذب ابن ابي ليلى ، لها عشر الثلث ، لأن الله تعالى أمر إبراهيم ، فقال «اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» (١) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، والجزء هو العشر من الشي‌ء» (٢) وفي (الاستبصار) روايته

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٦٠ وتمام الآية هكذا «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

(٢) في الكافي للكليني ، كتاب الوصايا (باب من أوصى بجزء من ـ

١١٣

بإسقاط عبد الرحمن (١) وعليه تكون الرواية من الصحيح ـ كما في المختلف (٢)

وما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق أو الحسن ـ الذي لا يقصر عن الصحيح كما قيل ـ : «عن معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ قال : جزء من عشرة قال الله تعالى «(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وكانت الجبال عشرة» (٣) وما رواه في (الكافي والتهذيب) في الصحيح أو الحسن ـ على ما قيل ـ «عن أبان بن تغلب قال قال أبو جعفر (ع) : الجزء واحد من عشرة ، لأن الجبال كانت عشرة والطير أربعة» (٤) وما رواه في

__________________

ـ ماله) حديث (١) بسنده هكذا : (علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان ..».

(١) فقال ـ في كتاب الوصايا منه (باب ٧٩ من أوصى بجزء من ماله) حديث (١) هكذا : أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن عبد الله ابن سنان قال : ان امرأة ..».

(٢) فلقد عبر العلامة في المختلف ، الفصل الخامس في الوصايا من كتاب الهبات والعطايا ، مسألة : لو أوصى بجزء من ماله .. هكذا : «وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان ..»

(٣) ذكرها الصدوق في (الفقيه) باب (١٠٠) الوصية بالشي‌ء من المال والسهم والجزء والكثير ، حديث تسلسل (٥٢٨). وذكرها الكليني في الكافي كتاب الوصايا : باب من أوصى بجزء من ماله حديث (٢) وذكرها الشيخ في (التهذيب) كتاب الوصايا ، باب ١٦ الوصية المبهمة ، حديث تسلسل (٨٢٥).

(٤) الكافي بنفس المصدر الآنف ، حديث (٣) والتهذيب بنفس المصدر الآنف حديث تسلسل (٨٢٦).

١١٤

(التهذيب) عن أبي بصير «عن أبي عبد الله (ع) في رجل أوصى بجزء من ماله ، قال : جزء من عشرة ، وقال : كانت الجبال عشرة» (١) وعن العياشي في (تفسيره) مثله (٢) وزاد : «وكان الطير الطاوس والحمامة والديك والهدهد ، فأمره أن يقطعهن ، إلخ. وما عن (معاني الاخبار) «عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر (ع) في الرجل يوصي بجزء من ماله؟ قال : الجزء واحد من عشرة ، لأن الله تعالى يقول «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال عشرة ، والطير أربعة ، فجعل على كلّ جبل منهنّ جزء. قال : وروى : أن الجزء واحد من سبعة لقوله تعالى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (٣) ومنها ما عن (الكتاب المذكور) في الصحيح ـ على ما قيل ـ «عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن امرأة أوصت بثلثها يقضى به دين ابن أخيها وجزء منه لفلانة وفلانة ، فلم أعرف ذلك؟ فقدماني الى ابن أبي ليلى ، قال : فما قال لك؟ قلت : قال : ليس لها شي‌ء ، فقال : كذب ـ والله ـ لهما العشر من الثلث. (٤) وما عن العياشي أيضا في تفسيره : «عن عبد الصمد بن بشير في خبر يتضمن : أن أبا جعفر

__________________

(١) راجع منه : المصدر الآنف الذكر حديث تسلسل (٨٢٧).

(٢) يشير إلى ذلك الحر العاملي في الوسائل : كتاب الوصايا باب ٥٤ من أحكامها : حكم من أوصى بجزء من ماله : حديث ٨.

(٣) في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٥٤ حكم من أوصى بجزء من ماله ، حديث (٤) هكذا : «محمد بن علي بن الحسين في (معاني الأخبار) عن محمد بن الحسن عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد بن يحيى عن علي ابن السندي عن محمد بن عمرو بن سعيد عن جميل عن أبان بن تغلب ..»

(٤) المصدر الآنف الذكر من الوسائل ، حديث (٦).

١١٥

المنصور جمع القضاة ، فقال لهم : رجل أوصى بجزء من ماله ، فكم الجزء؟ فلم يعلموا فأبرد بريدا الى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمد (ع) فسأله؟ فقال : أبو عبد الله (ع) : هذا في كتاب الله بين؟ إن الله يقول لما قال إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ـ الى أن قال ـ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فكانت الطير أربعة ، والجبال عشرة يخرج الرجل من كل عشرة أجزاء جزء واحدا» (١) وما عنه فيه أيضا : «عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن عبد الله قال : جائني أبو جعفر بن سليمان الخراساني ، وقال : نزل بي رجل من أهل خراسان من الحجاج ، فتذاكرنا الحديث ، فقال : مات لنا أخ بمرو وأوصى إليّ بمأة ألف درهم وأمرني أن أعطي أبا حنيفة منها جزء ، ولم أعرف الجزء كم هو مما ترك؟ فلما قدمت الكوفة أتيت أبا حنيفة فسألته عن الجزء؟ فقال : لي الربع فأبى قلبي ذلك ، فقلت : لا أفعل حتى أحج وأستبصر المسألة ، فلما رأيت أهل الكوفة قد أجمعوا على الربع ، قلت لأبي حنيفة ـ : إلى قال ـ فقال أبو حنيفة : وأنا أريد الحج ، فلما أتينا مكة ، وكنا في الطواف ، فاذا نحن برجل شيخ قاعد قد فرغ من طوافه ، وهو يدعو ويسبح ، إذ التفت أبو حنيفة فلما رآه قال : إن أردت أن تسأل غاية الناس فأسأل هذا ، فلا أحد بعده ، قلت : ومن هذا؟ قال : جعفر بن محمد (ع) فلما قعدت واستمكنت إذا استدار أبو حنيفة خلف ظهر جعفر بن محمد (ع) فقعد قريبا مني فسلم عليه وعظمه ، وجاء غير واحد مزدلفين مسلّمين عليه ، وقعدوا ، فلما رأيت ذلك من تعظيمهم له اشتد ظهري ، فغمزني

__________________

(١) المصدر الآنف من الوسائل ، حديث (٨) وفي هامش الحديث من الطبعة الجديدة للوسائل ج ١٣ ص ٤٤٤ ذكر للحديث بطوله عن تفسير العياشي : (ج ١ ص ١٤٣) فراجع.

١١٦

أبو حنيفة أن تكلّم ، فقلت : جعلت فداك إني رجل من أهل خراسان ، وإن رجلا مات وأوصى إليّ بمأة ألف درهم ، وأمرني أن أعطي منها جزء ، وسمى لي الرجل ، فكم الجزء جعلت فداك؟ فقال جعفر بن محمد : يا أبا حنيفة ، قل فيها ، فقال : الربع ، قال لابن أبي ليلى : قل فيها ، فقال : الربع ، فقال : جعفر بن محمد : ومن أين قلتم الربع؟ قالوا : لقول الله عز وجل (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فقال لهم أبو عبد الله (ع) : وأنا أسمع من هذا قد علمت الطير أربعة» فكم كانت الجبال ، إنما الأجزاء للجبال ، ليس للطير ، فقالوا : ظنّنا أنها أربعة ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : ولكن الجبال عشرة» (١) وما عن (الفقه الرضوي) : «وإذا أوصى رجل لرجل بجزء من ماله ، فهو واحد من عشرة لقول الله تعالى (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وكانت الجبال عشرة ، وروي جزء من سبعة لقول الله تعالى (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٢) انتهى

والذي يدل منها على الثاني : ما عن الشيخ في الصحيح ـ كما قيل ـ «عن البزنطي قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال : واحد من سبعة ، إن الله تعالى يقول (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). قلت : رجل أوصى بسهم من ماله؟ فقال :

__________________

(١) المصدر الآنف من الوسائل حديث (٩) وبهامش ص ٤٤٥ من الجزء ١٣ الطبع الجديد نقل الحديث بتفصيله عن تفسير العياشي ج ١ ص ١٤٤ مطابقا لما في المتن.

(٢) راجع من (الفقه الرضوي) المنسوب الى الامام الرضا (ع) باب الوصية للميت طبع إيران حجري بلا ترقيم.

١١٧

السهم واحد من ثمانية ثم قرأ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) .. الى آخر الآية (١) وعن إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا (ع) : في الرجل يوصي بجزء من ماله؟ فقال : الجزء من سبعة ، لقوله تعالى (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) .. (٢) إلخ. وما عن (الفقيه والتهذيب) : «عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن (ع) «قال سألته عن رجل أوصى بجزء من ماله؟ قال : سبع ثلثه» (٣) وما عن الشيخ المفيد في (كتاب الإرشاد) «عن أمير المؤمنين (ع) في رجل أوصى بجزء من ماله ولم يعينه ، فاختلف الوارث بعده في ذلك ، فقضى عليهم بإخراج السبع من ماله ، وتلا قوله تعالى (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) (٤) وما في ذيل عبارة (فقه الرضا) التي مرّ ذكرها (٥). وما عن العياشي في (تفسيره) : «عن البزنطي عن

__________________

(١) الموجود في (التهذيب باب ١٦ الوصية المبهمة حديث تسلسل ٨٢٨) ومثله في (الاستبصار باب ٧٩ من أوصى بجزء من ماله) الرواية عن أبي الحسن (ع) هكذا : «محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن (ع) عن رجل ..»

(٢) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٥٤ من أحكامه : حكم من اوصى بجزء من ماله ، حديث (١٣) هكذا : «.. عن أبي همام إسماعيل ابن همام ..»

(٣) الفقيه للصدوق باب ١٠٠ من الوصايا : الوصية بالشي‌ء من المال والسهم والجزء ، حديث تسلسل (٥٢٩). والتهذيب باب ١٦ الوصية المبهمة حديث تسلسل (٨٣١).

(٤) راجع : الوسائل : كتاب الوصايا باب ٥٤ حكم من أوصى بجزء من ماله حديث (٧) وفي الهامش ينقله عن الإرشاد.

(٥) وهي جملة «وروي جزء من سبعة ـ كما سبق آنفا.

١١٨

الرضا (ع) قال : جزء الشي‌ء من سبعة إن الله تعالى يقول : لها (سَبْعَةُ أَبْوابٍ) (١) إلخ. وما عنه أيضا : «عن إسماعيل بن همام الكوفي عن الرضا (ع) : «في رجل أوصى لرجل بجزء من ماله؟ فقال : جزء من سبعة ، إن الله تعالى يقول : في كتابه «لِكُلِّ بابٍ إلخ» (٢).

وحيث اختلفت الاخبار في تحديد الجزء بالعشر ، والسبع ، اختلف الفقهاء على قولين :

قول بالأول : وهو المحكي في (مفتاح الكرامة) عن الصدوقين ، والشيخ في التهذيبين ، والمحقق في النافع ، والإيضاح ، والشهيدين في الدروس واللمعة والروضة والمحقق الثاني في جامع المقاصد ، وصاحب إيضاح النافع. ونفى عنه البعد في (الكفاية) وهو ظاهر (الشرائع) حيث جعله أشهر الروايتين ، واقتصر عليه ، وصريح (المختلف) حيث جعله هو المعتمد ، وهو خيرة (الجواهر) و (الشوارع) لبعض المعاصرين وقول بالثاني ، وهو السبع ، وهو المحكي فيه أيضا عن المقنعة والمراسم والنهاية والوسيلة والجامع والتذكرة والتحرير والإرشاد والقواعد والتلخيص والتبصرة والروض والتنقيح والمسالك. وحكاه أيضا عن الشيخ في الخلاف وأبي المكارم في (الغنية) والمفيد في (إرشاده) والعياشي في (تفسيره) وأبي على والقاضي ، وكذا (كاشف الرموز) ، وان استحسن جمع الشيخ بل حكى فيه عن السرائر : أنه الأظهر في الأقوال والاخبار. وعن المسالك : أنه مذهب الأكثر ، وعن المفاتيح : أنه أشهر ، بل فيه عن الخلاف والغنية الإجماع عليه وفي الرياض : نسبته إلى الأكثر ، واختاره هو فيه وفي شرحه الصغير.

قلت : ولعل مستند كل من القولين الى ما يدل عليه من الاخبار

__________________

(١) يراجع من الوسائل الباب الآنف حديث (١٢)

(٢) يراجع من الوسائل الباب الآنف حديث (١٣)

١١٩

المستفيضة بعد ترجيحها ـ على ما يعارضها ـ بمرجحات ، كترجيح الاولى بالأكثرية عددا ، وبالموافقة للأصل ، وبسلامة متنها عن الاضطراب ، وترجيح الثانية بموافقتها للشهرة المستفيضة فتوى ، والإجماع المنقول في الغنية بل قيل : هو بنفسه حجة سيما بعد اعتضاده بالشهرة التي قد عرفت استفاضتها

وأنت خبير بأن صناعة الترجيح ، وان اقتضت قوة القول الأول لان اخبار السبع ، وان ترجحت بموافقتها كشهرة الفتوى بمضمونها ـ إلا أن كونها من المرجحات محل كلام ، مع معارضتها بشهرة الأولى رواية التي هي من المرجحات المنصوصة ، وكون الشي‌ء مرجحا ككونه دليلا يحتاج الى دليل يدل عليه. ورواية (الإرشاد) المتضمنة لقضاء علي (ع) حكاية فعل لا عموم فيه ، ولعله لقرينة دلت عليه. ورواية الحسين بن خالد ـ مع تضعيفه في (المسالك) بجهالته ـ تضمنت السبع من الثلث مع إضافة الجزء في السؤال إلى المال ـ شاذة نادرة لا عامل بمضمونها ـ كما قيل ـ وحملها على إرادة ماله بعد الموت أومأ له الوصية به في السؤال لتوافق أخبار السبع تأويل. وباقي الاخبار لا تكافؤ أخبار العشر المرجحة بأشهريتها وبموافقتها للأصل لأن العشر هو المتيقن ، وبما ظاهرهم التسالم عليه : من إعطاء من أوصى له بمثل نصيب أحد الورثة نصيب أقلّهم عملا بالمتيقن. وأما الإجماع المنقول عن الغنية على السبع ، فموهون بدعوى الشيخ في (الخلاف) الإجماع على القولين في قبال العامة ، وبنسبة القولين في المبسوط إلى الأصحاب من دون ترجيح. ومثله في ذلك عن (التهذيب) والمقتصر والمفاتيح.

فاذا يقوى القول الأول ، إلا أن مع ذلك كله رفع اليد عن أخبار السبع مع استفاضتها واستفاضة شهرة العمل بها لا يخلو من جرأة. ولذا جعل صاحب (الحدائق) وجدنا في (الرياض) بعد ذكر دليل القولين :

١٢٠