بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

التأويل والتقليد والتسليم والرضا بقول الآباء والاسلاف فقد أشرك» (١) ومفاد هذه الأخبار لا ينفك عن العنوان المنتزع منها ، وهو الخروج عن الدّين الذي هو سبب للكفر ، بل هو الكفر حقيقة ، من غير فرق في عدم التدين بين ما كان من أصول الدّين أو من فروعه بعد العلم ـ أو ما بحكمه ـ بأنه من الدّين.

وهذان الوجهان (٢) يشتركان في التكفير بإنكار ضروري المذهب من أهل المذهب ، بل كل ما قطع من دليله بأنه حكم النبي فحكم بخلافه وان لم يكن ضروريا. وكذا إذا اعترف بالقطع به بل الأخيران أولى لحصول العلم الفعلي له فيهما وفي الأول علمه بالضرورية من حيث وجوب التدين به لبطلان الشبهة في مقابل الضرورة بحكم العلم بالمخالفة لعدم اتصافه في الحقيقة بالعلم الذي هو من الصفات النفسانية.

ويفترقان في من أنكر الضروري مع علمه بأنه ضروري لشبهة أوجبت له إنكار كونه مما أخبر به النبي ، فلا يحكم بكفره على الأول لعدم تكذيبه للنبي ، ويحكم به على الثاني لخروجه به عن الدين بعد أن لم يكن مسرح للشبهة في مقابل الضرورة ، وبعبارة أخرى : العلم بضروريته من الدّين بحكم علمه بكونه منه في وجوب التديّن به والخروج عن الدّين

__________________

(١) الوسائل : كتاب الطهارة ، باب ٢ من أبواب مقدمة العبادات حديث (١٥).

(٢) اللذان وجه المصنف بهما القول المخالف للمشهور في تقييد عنوان المنكر للضروري باستلزام عدم تصديق النبوة وتكذيب النبي ، وقد أشار إلى الأول منهما بقوله : (قلت ولعل الذي) والى الثاني بقوله : (وهنا وجه آخر ..) وملاك الوجه الأول : الإنكار والتكذيب ، وملاك الثاني : الخروج عن الدين مطلقا.

٢٠١

بمخالفته ، ولذا قيدنا إنكار الضروري بكون ضروريته معلومة للمنكر.

والأخبار ـ وان كان مفادها أعم من المدعى لشمولها مطلق المخالف لما هو من الدّين ـ ضروريا كان أو نظريا ، عالما بضروريته أو جاهلا ، قاصراً كان الجاهل أو مقصرا ، لعموم العنوان المستفاد منها من الخروج عن الدّين ـ إلا أن ذلك لا ينافي خروج ما خرج بالدليل من المخالفة في النظريات لجواز الاجتهاد فيها وتنزيل مؤداه منزلة الواقع لان هذا التنزيل أيضا مما جاء به النبي ، فيبقى الباقي تحت العموم.

ويفترقان عن القول بالسببية المستقلة تعبدا المنسوب إلى الأكثر في إنكار ضروري المذهب ممن كان من أهله ، فيحكم بكفره عليهما ، ولا يحكم به على الأول لانحصار السبب حينئذ بما ذا كان المنكر ضروري الإسلام لوقوع الاقتصار في معقد إجماعهم على ذلك ، فلا يتسرى الى غيره من ضروري المذهب.

وإن كان لا يبعد تنزيل إطلاق كلامهم أيضا على صورة الاطلاع على كونه ضروري الإسلام ، فيرجع مستندهم حينئذ إلى الوجه الذي ذكرناه : من استلزامه الخروج عن الدين. وان افترقا في اختصاص الضروري بضرورى الإسلام أو تعميمه لضروري كل مذهب بالنسبة إلى أهله (١) لا يقال : المنكر لشبهة غير المطّلع على ضرورية المنكر ـ بالفتح ـ على ما ذكرنا من الوجه محكوم بكفره لصدق عنوان (الخروج عن الدّين) عليه ، وحينئذ فالتقييد بالاطلاع : إما لغو أو يوجب عدم الخروج.

لأنا نقول : إن مرجع التقييد إلى تقييد سببية إنكار الضروري الذي هو محل الكلام بالاطلاع ، لا حصر وجه الخروج عن الدّين به ، فلا ينافي كفره بسبب آخر.

ولعل وجهه هو إمكان اجتهاده بغير تقصير في الفحص عن طلب الحق.

__________________

(١) فالأول بناء على القول المشهور ، والثاني بناء على الوجه المذكور.

٢٠٢

هذا وقد ناقش شيخنا المرتضى ـ قدس سره ـ في شمول الأخبار المتقدمة للقاصر المنكر للحكم الفرعي الضروري حيث قال : «إلا أن الإنصاف أن في شمول الأخبار المطلقة المتقدمة الدالة على حصول الكفر بالاستحلال للقاصر نظرا ظاهرا ، ومنع وجود القاصر في الكفار كلام آخر ـ الى أن قال ـ ولو سلم ما ذكر من الإطلاق ، فإنما هو في العقائد الضرورية المطلوب من المكلفين التديّن بالاعتقاد بها دون الأحكام العملية الضرورية التي لا يطلب فيها العمل ، فالأقوى التفصيل بين القاصر وغيره في الأحكام العملية الضرورية دون العقائد ، تمسكا في عدم كفر منكر الحكم العملي الضروري بعدم الدليل على سببية للكفر مع فرض عدم التكليف بالتدّين بذلك الحكم ولا بالعمل بمقتضاه ، لأنه المفروض ، ويبعد أن لا يحرم على الشخص شرب الخمر ويكفر بترك التديّن بحرمته» (١) وأنت خبير بأنه لا إشكال في وجوب التديّن ـ ولو بنحو الإجمال ـ بجميع ما جاء به النبي من غير فرق بين أصول العقائد والأحكام الفرعية إذ مرجعها أيضا الى تصديق النبي (ص) والانقياد اليه من حيث كونه مبلغا وحاملا للدّين ، فالانقياد له انقياد لرب العالمين (وكون) الغرض الأصلي في العمليات هو العمل من حيث الفعل والترك (لا ينافي) وجوب التدين والانقياد اليه لذلك ، فهو بتدينه بالرسالة متدين بأحكام الرسول (ص) ومكلّف بها في ضمن التكليف باعتقاد الرسالة ـ ولو بنحو الإجمال ـ الذي يكفي في صدق دخوله في الإسلام ، وان كان القاصر الغافل غير

__________________

(١) وهذا تعقيب لعبارته المفصلة التي أولها : «والحاصل أن المنكر للضروري الذي لا يرجع إنكاره إلى إنكار النبي (ص) إما أن يكون قاصراً وإما أن يكون مقصرا ..» راجع ذلك في كتاب الطهارة ، النظر السادس في النجاسات ، الثامن ـ الكافر بأقسامه.

٢٠٣

منجز في حقه التكليف كالنائم ، لا أنه غير مكلف به أصلا كالصغير والمجنون ، فحرمة شرب الخمر ـ مثلا ـ مكلف بالتدّين بها القاصر ، وان لم يكن ـ لقصوره ـ منجزا عليه ، وهو متدين به أيضا بالنحو الإجمالي بتصديقه النبي (ص) فاذا استحل شربه ودان به خرج عما تدين به أولا بالإجمال وبه يحكم بكفره ، وان لم يشربه. نعم لو شرب مع ذلك عوقب من حيث الكفر بالاستحلال ، ومن حيث العمل أيضا ، ولو لم يشرب عوقب من حيث الكفر دون العمل ، لعدم الشرب. لكن القاصر إن فرض تحققه لا يؤاخذ بشي‌ء من ذلك ، وان حكم بكفره لصدق الخروج عن الدّين عليه ، والكفر ملازم لمخالفة أصل التكليف دون تنجزه.

فظهر بما ذكرنا مواقع التأمل في كلامه ـ قدس سره ـ اللهم الا أن يفرّق في القاصر بين المستحل المتدين به ، وغير المتدين المنبعث بناؤه عن مجرد عدم المعرفة بدعوى خروج الثاني عن مفاد الأخبار ، بقريب : أن القاصر ـ كما ذكرنا ـ متدين بالحكم الفرعي الواقعي إجمالا ، وان لم يعرفه تفصيلا ، ولذا كان مسلما بمحض التصديق الإجمالي الشامل لجميع الأحكام التي منها ما استحله ، غير أن الاستحلال (مرة) يكون لعدم المعرفة بكونه حراما لعدم تطرّق الحرمة في ذهنه والبناء على الإباحة العقلية (وأخرى) بأن يتديّن بالاستحلال ويتخذه دينا له ، لا مجرد الجواز الذي يبنى عليه ما لم يعلم دليل الحرم ، والذي يوجب الخروج إنما هو الثاني لزوال ما تديّن به أولا ـ ولو إجمالا ـ بعروض التدين بالثاني. ولا كذلك الأول لبقاء التديّن الإجمالي معه ، وإن بنى على الجواز لعدم المعرفة بأنه من مصاديق ما تديّن به إجمالا ، فالخطأ ـ هنا ـ إنما هو في الصغرى ، والا فهو باق على تديّنه به في ضمن تديّنه بأحكام النبي (ص) ، ولذا وقع التقييد بما إذا دان به في جملة من الاخبار المتقدمة المحمول عليها الباقي

٢٠٤

منها ، والظاهر منه كون القيد احترازيا ، لا توضيحيا.

ويؤيد ما ذكرنا ـ بل يدلّ عليه ـ ما ورد عن أمير المؤمنين (ع): أنه دفع الحدّ عن شارب الخمر معتذرا بأني لم أعرف حرمته (١)

وحينئذ ، فالأظهر التفصيل في القاصر المستحلّ : بين المتديّن به ، وغيره. هذا ، والمسألة بعد محتاجة إلى التأمل.

(ومنها الخوارج) وهم الذين حاربوا عليا (ع) (٢) بل منهم

__________________

(١) في الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات ، باب (١٠) من أبواب حد المسكر ، حديث (١) «محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن فضال عن ابن بكير عن أبي عبد الله (ع) قال : شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع الى أبي بكر ، فقال له : أشربت خمرا؟ قال : نعم. قال : ولم ـ وهي محرّمة ـ قال فقال الرجل : إني أسلمت وحسن إسلامي ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلون ، ولو علمت أنها حرام اجتنبتها. فالتفت أبو بكر الى عمر فقال : ما تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر : معضلة وليس لها إلا أبو الحسن. فقال أبو بكر أدع لنا عليا ، فقال عمر : يؤتى الحكم في بيته. فقام والرجل معهما ومن حضرهما من الناس ، حتى أتوا أمير المؤمنين (ع) فأخبراه بقصة الرجل ، وقص الرجل قصته ، فقال (ع) : ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار من كان تلا عليه إرث التحريم فليشهد عليه. ففعلوا ذلك به ، فلم يشهد عليه أحد بأنه قرأ عليه آية التحريم ، فخلّى سبيله ، فقال له : إن شربت بعدها أقمنا عليك الحد».

(٢) وهم فرق كثيرة كالأباضية ـ اتباع عبد الله بن أباض ـ والأزارقة ـ أتباع نافع بن الأزرق ـ والأصفرية ـ أتباع زياد بن الأصفر ـ والبهيسية ـ أتباع بهيس بن الهيصم بن جابر ـ والعجاردة ـ أتباع ـ

٢٠٥

من حارب شبليه : الحسن والحسين (ع) (١) ، وان صار هذا اللفظ علما بالغلبة لخصوص الأول فلا خلاف في كفرهم ، بل الإجماع عليه مستفيض النقل (٢).

ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك ، والى كونهم منكرين لعدة من ضروريات الإسلام كتكفيرهم أمير المؤمنين (ع) وسبهم له وقتالهم إيّاه

__________________

ـ عبد الرحمن بن عجرد ـ والنجدات ـ اتباع نجدة بن عامر النخعي ـ والمحكمة وهم الذين خرجوا على علي (ع) وكفروه عند التحكيم ، وهم زهاء اثني عشر ألفا ، وكانوا من أهل العبادة ، ولكل من هذه الفرق فروع وأتباع وعقائد فصلتها كتب الفرق والمقالات ـ وقاسمهم المشترك تكفيرهم لعلي (ع) وبغضهم إياه ، ولعل منطلق الفرق كلها هم : الناكثون أصحاب النهروان والقاسطون أصحاب صفين معاوية وحزبه

(١) وذلك بعموم الملاك ووحدة المناط ـ فان الخروج على أمير المؤمنين عليه السلام إنما يوجب الكفر من حيث التمرد على الإمامة الكبرى التي هي من ضروريات الدين ، وذلك المعنى شامل للخروج على كل إمام مفترض الطاعة. قال ابن أبي الحديد ـ في شرح النهج ج ١ ص ٩ طبع دار إحياء الكتب العربية ـ : «ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهة أو بغير شبهه فاسق ، وليس هذا مما يخصون به عليها عليه السلام فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول ، لكان حكمهم حكم من خرج على علي صلوات الله عليه».

(٢) قال ابن أبي الحديد في المصدر الآنف : «أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة وطلحة والزبير فإنهم تابوا ولو لا التوبة لحكم لهم بالنار لاصرارهم على البغي وأما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا ، لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار ، لاصرارهم

٢٠٦

الأخبار المستفيضة الصريحة والظاهرة في كفرهم (١) بل تشملهم أخبار كفر النواصب ، لاندراجهم فيهم حقيقة.

(ومنها النواصب) وكفرهم ـ مع كونه منصوصا عليه مستفيضا (٢) ـ مما لا خلاف فيه ، بل الإجماع مستفيض عليه (٣).

__________________

على البغي وموتهم عليه : رؤساؤهم والاتباع جميعا ، وأما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه ، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار».

(١) كما في سفينة البحار وغيره من كتب الأخبار : من النبوي المرسل عنه (ص) في وصفه للخوارج بأنهم : «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» ومن قول الامام الباقر (ع) للفضل ـ وقد دخل عليه رجل محصور عظيم البطن فجلس معه على سريره فحياه ورحب به ، فلما قام قال : هذا من الخوارج كما هو ، قال قلت : مشرك؟ فقال : مشرك ، والله مشرك» ، ونحوهما من الأخبار كثير.

وراجع أيضا : الوسائل : باب ١٠ من أبواب حد المرتد.

(٢) من ذلك : رواية الفضيل بن يسار ، قال : «سألت أبا جعفر (ع) عن المرأة العارفة : هل أزوجها الناصب؟ قال : لا ، لأن الناصب كافر» ـ كما في الوسائل : كتاب النكاح ، باب ١٠ من أبواب ما يحرم بالكفر ، حديث (١٥).

(٣) قال الشيخ البحراني في (حدائقه ج ٥ ص ١٧٥) طبع النجف : «المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم بإسلام المخالفين وطهارتهم ، وخصوا الكفر والنجاسة بالنواصب ، وهو عندهم : من أظهر عداوة أهل البيت (ع) والمشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم ، وهو المؤيد بالروايات الإمامية».

٢٠٧

وان اختلفوا في معنى النصب : فبين قائل : إنه البغض لعلي (ع) على وجه التديّن ، وهو موافق لما عن (القاموس) : «النواصب والناصبية وأهل النصب : المستدينون ببغضة علي (ع) ، لأنهم نصبوا له ، أي عادوه» وقائل : إنه التظاهر بالبغض لأهل البيت ، وقائل : إنه مطلق بغضهم (ع) ، وقائل : إنه البغض لشيعتهم من حيث كونهم شيعتهم (١) والمتيقن منها في الحكم بالكفر : هو التديّن ببغضهم (ع) أعلن أو لم يعلن ـ بل هو مندرج في عنوان منكر ضروري الدين ، فيكون مدلولا عليه أيضا بما دل على كفر منكره : من الإجماعات والنصوص.

ولعل إطلاق الكفر في بعض الاخبار على مطلق البغض مع عدم العلم بضروريته به ، كناية عن الخبث الذاتي والكفر الباطني ، دون ما هو موضوع للأحكام الخاصة (٢) إلا أن يدعى ـ وهو غير بعيد ـ أن بغضهم (ع) من حيث هو سبب مستقل للكفر ، فتكون مودة (ذوي القربى) على حد الرسالة ، إلا أن الأقرب أن كفرهم لإنكار الضرورة ، فإن حرمة معاداة أهل البيت (ع) من ضروريات الإسلام المعلوم عند الخواص والعوام

(ومنها الغلاة) (٣) وهم الذين ادّعوا ربوبية علي (ع) ، وعن

__________________

(١) كل هذه الأقوال مستقاة من ظواهر روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، لا يسع المجال لاستعراضها ، وقد حفل بها كتاب أصول الكافي للكليني وغيره من كتب الأخبار الموسعة ، فراجع : خصوصا باب الايمان والكفر.

(٢) من النجاسة وهدر الدم والمال وانفصال المناكحات والمبايعات ، ونحو ذلك من الأحكام المترتبة على الكافر غير الملتزم بمراسيم الإسلام.

(٣) وأصل الغلو ـ كما في الكتاب والسنة وكتب اللغة ـ : الارتفاع والتجاوز عن الحد ، والإفراط في الشي‌ء. وبهذا المعنى ورد المصطلح الشرعي

٢٠٨

بعض العبارات : ربوبية أحد الأئمة (ع) ، وعن بعض قد يطلق على من قال بآلهية أحد من الناس (١).

وعلى كل حال : كفر من يدعى شيئا من ذلك إجماعي ، بل ضروري ولو بنحو الحلول فيه ، ولذا يحكم بكفر بعض المتصوفة المدّعي : أن ليس في جبته إلا الله ـ كما يحكى عنه ـ (٢) أعاذنا الله من هذه الخرافات ، ومن

__________________

ـ للغلاة ـ مهما اختلفت موارد غلوهم وإفراطهم بالمستوى البشري إلى أوج الألوهية أو الرسالة.

(١) كالسلمانية من فرق المغالين ، وهم القائلون بآلهية سلمان الفارسي.

(٢) وقد نسبت هذه الكلمة الكافرة إلى الحسين بن منصور الحلاج المقتول سنة ٣٠٩ ه‍ ـ ومثل ذلك في قول الكفر كلمة أبى يزيد البسطامي المتوفى سنة ٢٦١ ه‍ ـ «سبحاني ما أعظم شأني». ونحو ذلك من الكلمات الكافرة المنسوبة إلى الصوفية المتطرفة القائلين بوحدة الوجود بمعنى الوحدة الحقيقية بين كل الموجودات ، فلا تعدد في الوجود كما لا تعدد في الموجود ، على أساس أن كل واحد من مظاهر الممكنات بالنظر الى وجوده تعالى هي هو بلا فرق بين مراتب الوجود من حيث الكمال والنقصان. وهذا المعنى من تفسير وحدة الوجود لا شك بكونه مما ينكره العقل والنقل ، ومعتقده كافر بالصانع.

وأما لو فسرت (وحدة الوجود) بمعنى الوحدة بين مراتب الوجودات مع الاعتراف بأنها ذات مراتب عالية لا محدودة ودانية محدودة : الأولى تتمحض بوجوده تعالى ، والثانية وجود الممكنات فالقول بوحدة السنخية بهذا المعنى ليس فيه أي منافاة للشرع وإنما الإشكال في ملائمة البراهين العقلية لهذا التفسير من السنخية وعدمها ، وهذا بحث آخر.

وبالجملة ، فالقول بوحدة الوجود إن ادى الى الالتزام بوحدة ـ

٢٠٩

ادعى شيئا من ذلك فكفره ، ان لم نقل بكونه ذاتيا ـ كما لعله الأظهر وعليه كاشف الغطاء ، فلا أقل من كونه منكرا لما علم من الدين ضرورة.

(ومنها المجبّرة) وهم : المنكرون لاختيار العبد في أفعاله ، بل هو مجبور عليها.

(والمفوّضة) وهم : القائلون بتفويض الخلق والرزق الى حجج الله (١) فهم وان وقع الخلاف في كفرهم ، إلا أن الأظهر ذلك لدخولهم في منكر الضروري (٢) مع ورود النص بكفرهم كخبر يزيد بن عمر الشامي

__________________

ـ الموجود ـ كما عليه بعض المتصوفين ـ فذلك هو الكفر ، وإلا فلا كفر فيه ، والله العاصم.

(١) والقائلون أيضا في التفويض واستقلال العباد في أفعالهم ، في مقابل المجبرة القائلين بجبرهم عليها ، وإنما قال هؤلاء بالتفويض مبالغة في تنزيه الله تعالى ـ بزعمهم ـ عن نسبة الظلم اليه باستناد جميع الأفعال الخيرة والشريرة إليه ، فإن العقاب على غير المقدور ظلم قبيح ، ولكنهم وقعوا في أشد مما فروا منه من القبح ، وهو جعل الشريك لله والوهن في سلطانه ولذلك ورد عن الامام الصادق ـ عليه السلام ـ شجب القولين المتطرفين في خطي الإفراط والتفريط ، وإثبات حد وسط بينهما ، فقال (ع) : «ولا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» ـ كما حفلت بذلك كتب الاخبار ـ وذلك لأن الأفعال العباد نسبتين حقيقيتين الى الله تعالى من حيث الإفاضة والأقدار والى العبد نفسه من حيث الصدور والإيجاد ، فاتضح معنى قوله (ع) أمر بين أمرين.

(٢) إن التزموا ـ ملتفتين ـ باللوازم المترتبة على قولهم بالجبر من حيث إنكار ترتب الثواب والعقاب الموجب للتكذيب ، أو قولهم بالتفويض من حيث الشرك لله تعالى ، وبعكس ذلك فلا يمكن القول بكفرهم ـ أو نجاستهم ـ

٢١٠

عن الرضا (ع) في حديث : «من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله فوّض أمر الخلق والرزق الى حججه فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك» (١) وقول الصادق (ع) : «الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الله أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ، ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر» (٢) وما عن الرضا (ع) : «إن كل من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك» (٣).

وهذه النصوص ـ سيما مع مطابقتها لمقتضى القواعد العدلية ـ وكونها وافية الدلالة ـ كافية في الخروج عن مقتضى الأصل ، ونحلة الإسلام.

(ومنها المجسّمة) وقد وقع الخلاف في كفرهم على أقوال :

__________________

ـ بعد اعترافهم بأسس الإسلام من الإقرار بالشهادتين وما يتفرع عليهما من الضروريات الدينية.

وأما اللوازم العقلية المترتبة على ذلك فلا توجب الكفر ، فان الطرفين إنما ذهبوا الى ما ذهبوا اليه لشبهات بدوية حصلت لهم من عدة آيات وروايات ، وغفلوا عن تأويلها على ضوء المذهب الحق من الحد الوسط ـ كما عرفت ـ والله العالم.

(١) الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات ، باب ١٠ من حدود الارتداد حديث (٤).

(٢) وهي رواية حريز بن عبد الله ، راجع المصدر الآنف من الوسائل حديث (١٠).

(٣) وهي رواية الحسين بن خالد ، راجع المصدر الآنف من الوسائل حديث (٥).

٢١١

(ثالثها) التفصيل بين المجسّمة بالحقيقة أو بالتسمية بدعوى أنه جسم لا كالأجسام (١) فيحكم بالكفر في الأول ، لاستلزامه الحدوث والافتقار والتحديد لزوما بيّنا بحيث لا ينفك تصور الملزوم عن لازمه ، فهو مندرج في منكر الضروري. ولا يحكم به في الثاني ، لعدم اعتقاد النقص بما تنزه عنه ساحة الربوبيّة ، وإن أخطأ في التسمية إذ ليس هو إلا خطأ في اللغة ، ولا أقل من الشك في خروجه به عن الإسلام. ولعل هذا هو الأظهر.

ويلحق بهم (المشبهة) وهم : القائلون بأنه تعالى في جهة الفوق ، بل هم من المجسمة ، إن أرادوا اختصاصه تعالى بجهة الفوق ، كما هو ظاهر كلامهم ، وأما التوجه إلى جهة الفوق عند الدعاء والمسألة منه تعالى فهو كالتوجه إلى الكعبة عند الصلاة ، ليس من التشبيه في شي‌ء ، وإنما المراد منه شرف الجهة ، وإلا (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) وجوهكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ضرورة أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان.

ويدل على كفر المشبّهة ـ مضافا الى ما عرفت ـ قول الرضا (ع) «كل من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك» (٢).

وبالجملة ، فالمدار في الكفر على ما دار عليه العنوان الجامع : من إنكار ضروري الدين. ولذا اقتصر عليه بعض كالمحقق في (الشرائع) حيث قال : «وضابطه من خرج عن الإسلام أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج والغلاة» انتهى ، فيعم الضابط : ما كان من

__________________

(١) كما ورد عن أئمة أهل البيت (ع) : أنه شي‌ء لا كالأشياء ـ كما في أصول الكافي.

(٢) الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات ، باب ١٠ من أبواب حد المرتد ، حديث (٥).

٢١٢

أصول الدين أو فروعه.

(المطلب الثالث) في كفر أطفال الكفار. فنقول : ولد الكافر يتبع أبويه في الكفر والنجاسة ، إجماعا مصرحا به في كلام جماعة ، وهو الحجة ، مضافا الى صحيح ابن سنان : «عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟ قال : كفار والله أعلم بما كانوا عاملين ، يدخلون مدخل آبائهم» (١) وخبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمد (ع) : «عن أبيه قال قال علي (ع) : أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة» (٢) وفي حديث : «فأما أطفال المؤمنين فإنهم يلحقون بآبائهم ، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم وهو قول الله عز وجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٣) كما أن أولاد المسلمين مضافا الى الفطرة يتبعون آبائهم في الإسلام.

وتنقيح المسألة بنحو الإجمال : هو أن الأبوين : إما أن يكونا مسلمين أو كافرين ، أو مختلفين ، وعلى التقادير : إما أن يكون التولد عن نكاح محلل من الطرفين ، أو محرّم منهما ، أو مختلفا فيهما بأن يكون عن زنا من أحد الجانبين.

أما المتولد من المسلمين فمسلم بصورة الثلاثة ، وان كان عن زنا من

__________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٠٠. والحنث ـ بالكسر ـ : الإثم والذم ، والمقصود من قوله (ع) : «قبل أن يبلغوا الحنث» أى دور المعصية والطاعة ووضع القلم.

(٢) المصدر الآنف الذكر من الوافي.

(٣) المصدر الآنف من الوافي وهي مرسلة الكافي. والآية ٢١ من سورة الطور.

٢١٣

الطرفين ، للفطرة وعلوّ الإسلام ، مع صدق الولد لغة وعرفا (١) وان لم يلحق بهما شرعا في النسب.

وأما المتولد من الكافرين فكذلك كافر بصورة الثلاثة حتى المتولد عن الزنا منهما ، وان لم يلحق بهما في النسب لكفاية صدق التولد منهما لغة وعرفا أيضا مع احتمال إسلامه ، للفطرة وعدم التبعية لعدم النسب شرعا ، والأصل عدمها.

وأما المتولد من المختلفين ، فيتبع أشرف الأبوين إن كان الحل منهما أو من طرف المسلم ، ولو كان عن زنا منه وحلّ من الكافر ، ففي تبعيته للكافر للحوقه به في النسب ، وعدمه في المسلم ، أو للمسلم للفطرة وعلو الإسلام وصدق الولد حقيقة مع الشك في جريان التبعية هنا ـ ولو للشك في شمول الإجماع له ـ مع أن الأصل عدم التبعية؟ وجهان : لعل الأقرب هو الأخير ومنه يظهر بالأولوية لحوقه بأشرف الأبوين لو كان الزنا من الطرفين.

ولو بلغ ولد الكافر مجنونا لم يرتفع حكم التبعية ، ولو بلغ عاقلا في فسحة النظر ، فهو مستصحب الحكم الى أن يظهر الإسلام ، والقصور إنما يرفع المؤاخذة ، ولو كان لولد الكافر جد مسلم ، ففي لحوقه بالأب لأن التبعية بالقرابة ، وهو أقرب ، أو بالجد مطلقا لاشتراكهما في القرابة وشرفية

__________________

(١) بل وشرعا أيضا ، أما العرف واللغة ، فلأن المراد من الولدية ـ فيهما ـ هو التكون والخلقة من ماء الرجل وفي رحم المرأة وهذا المعنى متوفر هنا ، وأما الشرع ، فلعدم ورود ما ينفي الولدية واقعا من الأدلة وأن معنى الحديث المستفيض النقل : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» هو بيان الحكم الظاهري لا الواقعي. فعدم الإلحاق في النسب ـ كما في المتن ـ لعله يقصد عدم ترتب الآثار الشرعية من التوارث ، لا نفي الصلة الواقعية.

٢١٤

الإسلام أقوى ، ولولايته على الأب فعلى ولده بالأولوية ، أو بالجدّ مع فقد الأب لبقاء ولايته؟ أقوال أوجهها الثاني. والجدّ والجدّة من طرف الأم كالأم في اللحوق بهم في الإسلام ، أو أن لم تكن لهم ولاية لشرفية الإسلام وعلوه.

(المسألة الثانية) في المرتد. وهو من عدل عن الإسلام ـ وان كان تبعيا ـ الى الكفر. وهو : إما فطري أو ملّي.

(والأول) هو المتكون من مسلمين أو من أحدهما فالحمل محكوم بإسلامه. وعليه ينزل تعريف من عبّر بالمتولد منهما أو من أحدهما أي صار له ولدا لان مبدء نشوء الإنسان انعقاد نطفته. ولذا تدفن الذمية الحامل من المسلم في مقابر المسلمين ، مستدبرا بها القبلة رعاية لاستقبال حملها.

ولو لا الحكم بإسلام الحمل لم يكن وجه لدفنها بين المسلمين ولو للاستدبار بها لاستقباله ، وهو كاف للاستدلال به على الحكم بإسلامه ، وان لم يرد نص ـ كما قيل ـ على إسلام الحمل بخصوصه إلا أن ذلك مع حكاية الإجماع عليه في (المبسوط) (مرة) ونفى الخلاف عنه (أخرى) كاف في ذلك. ولو ولد كذلك ، بل ولو عدل أبواه أو المسلم منهما الى الكفر بعد الانعقاد وقبل الولادة أو بعدها وقبل البلوغ ، بقي على الإسلام التبعي حتى يبلغ فان عدل عند البلوغ كان مرتدا فطريا. ولو كان انعقاده في حال كفر الأبوين ثم أسلم ولو أحدهما ، تبعه الولد في الإسلام ، ولم يرتفع عنه حكمه. وان عدل المتبوع : فان بلغ وعدل عن الإسلام ، فهو مرتدّ ملّي لانعقاده حال كفر أبويه ، فالمدار فيه على الانعقاد مطلقا ، خلافا لكاشف اللثام ، فاعتبر فيه ـ مع ذلك ـ وصفه الإسلام بعد البلوغ ، ولم يكتف بمجرّد الإسلام التبعي في صدق الفطري عليه ما لم ينضم إليه الإسلام الحقيقي الاستقلالي بعد تنزيل عبارته في المبدء بالمتولد على ما يعم الحمل ، وإلا

٢١٥

فهو مخالف في المبدأ والمنتهى حيث قال في الحدود : «والمراد به من لم يحكم بكفره ـ قط ـ لإسلام أبويه أو أحدهما حين ولد ، ووصفه الإسلام حين بلغ» (١) إلا أن عبارته في المواريث صريحة في مخالفته في المبدأ أيضا لاكتفائه فيها بإسلام أحد أبويه ، وهو طفل حيث قال هنا : «أما المرتد فان كان عن فطرة الإسلام بأن انعقد حال إسلام أحد أبويه أو أسلم أحد أبويه ، وهو طفل ، ثم بلغ ووصف الإسلام كاملا ، ثم ارتد» (٢).

وهو منه غريب ، وان علله بقوله : «وانما فسرنا المرتد عن فطرة بمن ذكرناه لنصهم على أن من ولد على الفطرة فبلغ فأبى الإسلام استتيب كما مرّ» (٣) انتهى.

واستدل عليه في صدر المسألة بقول علي (ع) : «إذا أسلم الأب جرّ الولد إلى الإسلام فمن أدرك من ولده دعي إلى الإسلام ، فان أبي قتل» (٤) وقول الصادق (ع) في مرسل أبان بن عثمان في الصبي إذا شب فاختار النصرانية وأحد أبويه نصراني أو مسلمان قال : «فلا يترك ولكن يضرب على الإسلام» (٥) وخبر عبيدة بن زرارة في الصبي يختار

__________________

(١) كشف اللثام للفاضل الهندي ج ٢ كتاب الحدود ، الفصل الثاني في أحكام المرتد ، في شرح قول المصنف (ولو تاب لم تقبل توبته).

(٢) راجع ذلك منه في كتاب المواريث ، الفصل الثاني في موانع الإرث المطلب الأول الكفر.

(٣) ذكر ذلك في نفس المصدر والموضع ، بعد تلك الجملة الآنفة الذكر.

(٤) في الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات ، باب ٣ من أبواب حد المرتد ، حديث (٧).

(٥) الكافي للكليني كتاب الحدود ، باب حد المرتد ، حديث (٧).

٢١٦

الشرك وهو بين أبويه قال : «لا يترك وذلك إذا كان أحد أبويه نصرانيا» (١).

وتقريب الاستدلال : لعل هو أن الدعوة الى الإسلام وقهره عليه ليس إلا لكونه مليا ، لعدم العدول الا عن الإسلام الحكمي فقط ولو كان كفره فطريا لوجب قتله دون الاستتابة التي هي فرع قبول التوبة.

قلت : أما نسبة ما ذكره إليهم ، فإن تم إجماع ، وإلا فالحكم به ممنوع كيف ، والمحكي عن صريح (التذكرة) خلافه حيث قال : «من كان حين العلوق أحد أبويه مسلما فاذا بلغ ووصف الكفر فهو مرتد عن فطرة يقتل ولا يستتاب» وفي (حدود المسالك) في شرح قول مصنفه في استتابة ولد المرتد قال : «وان أظهر الكفر فقد أطلق المصنف وغيره استتابته ، فان تاب وإلا قتل ، وهذا لا يوافق القواعد المتقدمة : من أن المنعقد حال إسلام أحد أبويه يكون ارتداده عن فطرة ، ولا تقبل توبته ، وما وقفت على ما أوجب العدول عن ذلك هنا. ولو قيل بأنه يلحقه حينئذ المرتد عن فطرة كان وجها ، وهو الظاهر من الدروس ، لأنه أطلق كون الولد السابق على الارتداد مسلما ، ولازمه ذلك» انتهى (٢) وفي الاستظهار منه تأمل وأما الأخبار ، فان لم تكن ظاهرة في إسلام الأبوين أو أحدهما بعد تولد الصبي ، فلا ظهور فيها على انعقاده بعد الإسلام ، ولو سلم تناول الإطلاق للإسلام قبل الانعقاد ، فمعارضتها لما دل على عدم الاستتابة ووجوب القتل ـ نحو صحيحة الحسين بن سعيد : «رجل ولد على الإسلام

__________________

(١) المصدر الآنف الذكر من الكافي حديث (٤) عن أبي عبد الله عليه السلام.

(٢) راجع كتاب الحدود القسم الثاني : من أسلم عن كفر ثم ارتد ، في شرح قول المحقق : «وولده بحكم المسلم ..»

٢١٧

ثم كفر وأشرك لا يستتاب» (١) ومرفوعة عثمان بن عيسى : وتوقيع علي عليه السلام لعامله : «أما من كان من المسلمين ولد على الفطرة ثم تزندق فاضرب عنقه ولا تستتبه» (٢) وغيرها من الأخبار المستفيضة ـ من تعارض العامين من وجه ، والترجيح للمستفيضة من وجوه عديدة.

وأغرب من ذلك تعريفه للفطري في الحدود بمن لم يحكم بكفره قط مع أنه في المواريث حكم بدخول من أسلم أحد أبويه ـ وهو طفل ـ في المرتد الفطري ، مع أنه محكوم بكفره تبعا لكفر أحد أبويه قبل إسلامه وهل ذلك إلا تناف بين دعوييه؟

(الثاني) الملي وهو من عدل عن الإسلام المتجدد الحقيقي كمن أسلم عن كفر حقيقي ، ثم عدل عنه الى الكفر : (والتبعي) كمن أسلم أحد أبويه بعد ولادته المحكوم بإسلامه تبعا ، ثم بلغ مظهرا للكفر ، فإنه ملّي أيضا ـ على الأصح كما عرفت.

هذا ولبسط الكلام في هذه المسألة محل آخر. وانما المقصود بالبيان هنا هو : ان المرتد بقسميه ـ الملي والفطري ـ لا يرث من المسلم ولا يرث منه الكافر ، بل ميراثه للوارث المسلم ، ان كان ، وإلا فللإمام عليه السلام اتفاقا في الأول ، وعلى المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل لعله كذلك في الثاني أيضا ، لتحرمه بالإسلام ولذا لا يسترق ، ولا يصح نكاحه لمسلمة ولا كافرة ـ كما قيل ـ وان نسب الخلاف فيه الى ظاهر الصدوق ، لرواية تضمنت : أن ميراثه لولده النصارى ، إلا أنها مرمية هي

__________________

(١) في الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات : باب ١ من أبواب حد المرتد حديث (٦).

(٢) المصدر الآنف من الوسائل باب ٢٥ حديث (٥).

٢١٨

والقول بمضمونها بالشذوذ ، فهي مع ضعف سندها ـ كما في المصابيح ـ (١) متروكة الظاهر ، لشمول إطلاقها ما لو كان معهم مسلم ، ولم يقل به أحد ـ محمولة على التقية لموافقتها مذهب العامة كما قيل.

ثم ان الفطري منهما : إن كان رجلا يقتل بمجرد ارتداده ، ولا يستتاب وتقسم أمواله بين ورثته في حياته ، وتبين زوجته منه كذلك وتعتد عدة الوفاة وان لم يقتل ، تنزيلا له منزلة المعدوم ، لوجوب قتله ، للإجماع ـ بقسميه ـ والمستفيضة الدالة عليه (٢) وفي قبول توبته فيما بينه وبين الله عن غير الأحكام المذكورة؟ خلاف ، والأظهر القبول (٣) وتفصيله موكول الى محل آخر.

__________________

(١) راجع تحقيق المسألة وتفنيد الرواية في أول كتاب الإرث من (المصابيح) للسيد بحر العلوم ـ قدس سره ـ تحت عنوان (مصباح :

الكفر يمنع الإرث) والرواية التي أشار إليها سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ هي ما رواها الصدوق في (الفقيه) : باب ١٧١ ميراث أهل الملل ، حديث (١٤) هكذا : «وروى ابن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد قال قلت لأبي عبد الله (ع) نصراني أسلم ثم رجع الى النصرانية ثم مات؟ قال :

ميراثه لولده النصارى ، ومسلم تنصر ثم مات؟ قال : ميراثه لولده المسلمين».

(٢) إشارة إلى صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (ع) عن المرتد؟ فقال : من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل الله على محمد (ص) بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته ، ويقسم ما ترك على ولده» ونحوها غيرها.

راجع : كتاب الحدود ، حد المرتد من كتب الأخبار كالكافي وغيره.

(٣) كما عليه صحاح الروايات عن أهل البيت (ع) وقد عقد ـ

٢١٩

وان كانت امرأة استتيبت؟ فان لم تتب حبست مخلدة وضربت أوقات الصلوات ، لقول الصادق (ع) في مرسل الحسن ب :

«والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت ، فان تابت ورجعت ، وإلا خلّدت السجن وضيق عليها في حبسها» (١) وقول الباقر في خبر غياث بن إبراهيم : «لا تقتل وتستخدم خدمة شديدة وتمنع الطعام والشراب إلا ما يمسك نفسها ، وتلبس خشن الثياب وتضرب على الصلوات» (٢) الخبر ولا تقسم تركتها حتى تموت لاحتمال توبتها.

وأما الملي ، فيستتاب وان وقع الخلاف في مدة الاستتابة فإن تاب وإلا قتل نصا وإجماعا ، ولا يقسم ماله حتى يموت ، وان التحق بدار الحرب استصحابا لبقاء ملكه والأصل عدم انتقال مال الحي في حياته الا بدليل كالمرتد الفطري ، خلافا لمحكي (النهاية والمهذب) فيورث ان كان حيا لصيرورته بوجوب القتل كالفطري ، وهو ضعيف. وقد رجع عنه الشيخ كما حكيت حكايته عن الحلي ، وتعتد زوجته عدة الطّلاق من حين اختلاف دينهما ، فان عاد قبل خروجها من العدّة فهو أحق بها بل هي زوجته ، وان خرجت من العدة ولم يعد فلا سبيل له عليها. و (في كشف اللثام) في شرح قول مصنفه (ولا تقسم تركته) إلخ قال : «قطع الأصحاب بالحكمين فكأنهم اتفقوا عليه» انتهى.

قلت : وهو كذلك ، ويدل عليه ـ مع ذلك ـ قول الصادق (ع)

__________________

ـ لها ـ في كتاب الحدود من كتب الأخبار ـ باب مستقل بعنوان : (من أتى حدا فلم يقم عليه الحد حتى تاب).

(١) كتاب الحدود من الكافي للكليني باب حد المرتد ، حديث (٣).

(٢) هذا النص ذكر في كتاب الحدود من الوسائل ، باب أن المرأة المرتدة لا تقتل حديث (١) بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله (ع) فلاحظ.

٢٢٠