بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

إن كان مع الإيصاء بلا خلاف ـ كما قيل ـ (١) بل عن (المسالك) : «ان عليه أصحابنا» (٢) أو مطلقا على الأشهر الأظهر ، للصحيح : «في رجل مات وترك جارية ومملوكين ، فورثهما أخ له ، فأعتق العبدين ، وولدت الجارية غلاما ، فشهدا بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما : أنه يقع على الجارية وأن الحمل منه؟ قال : تجوز شهادتهما ويردان عبدين كما كانا» (٣) والموثق : «عن رجل كان في سفر ومعه جارية وله غلامان مملوكان ، فقال لهما : أنتما حرّان لوجه الله ، واشهدا أن ما في بطن جاريتي هذه مني ، فولدت غلاما ، فلما قدموا على الورثة أنكروا ذلك واسترقوهما. ثم إن الغلامين أعتقا بعد ذلك ، فشهدا بعد ما أعتقا : أن مولاهما الأول أشهدهما على أن ما في بطن جاريته منه؟ قال : تجوز شهادتهما للغلام ، ولا يسترقهما الغلام الذي شهدا له ، لأنهما أثبتا نسبه» (٤).

وهما بإطلاقهما ـ بل العموم الناشي من ترك الاستفصال ـ يعمّان : صورة تحقق الإيصاء وعدمه ، فقصر الحكم على الأول منهما تخصيص لهما من غير دليل يقتضيه ، إلا ما يتوهم من توسعة أمر ثبوت الوصية ، ولذا

__________________

له ببنوة الميت ، فكان عتقهما باطلا ، إذ لا عتق إلا في ملك ـ كما هو لسان الحديث الشريف.

(١) والفائل هو الشيخ الطوسي ـ قدس سره ـ فقد خص الحكم لصحة الشهادة في صورة الوصية لأنها من الحقوق التي يتساهل في مثبتاتها.

(٢) ذكر ذلك في كتاب الوصايا في شرح قول المحقق : «ولو أشهد إنسان عبدين ..»

(٣) وهو صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في رجل مات ..

(الوسائل : كتاب الوصايا) باب ١٧ من أبواب أحكام الوصايا حديث (٢)

(٤) المصدر الآنف من الوسائل حديث «١».

٦١

تثبت بشهادة الذميين ، وهو كما ترى.

ثم لا تنافي بين الروايتين من حيث رقية العبدين بعد الشهادة ، إذ المراد من قوله في الموثقة (ولا يسترقهما الغلام) النهي عن إبقائهما رقيّن.

وهل يحرم ذلك لظاهر النهي أو يحمل على الكراهة لمناسبة التعليل الظاهر في كونه خلاف الإنصاف لأنهما صارا سببا لحرية الغلام فلا ينبغي أن يكون سببا لرقيتهما؟ الأظهر الأشهر : هو الثاني.

ثم الوجه في اتفاقهم على قبول شهادة العبدين هنا ـ ولو في الجملة ـ مع اختلافهم في قبول شهادة العبد في باب الشهادات على أقوال ـ ليس عندي إلا التعبد بالنص هنا ، وان قلنا بعدم القبول ـ ثمة ـ لا ما ذكره شيخنا في (الجواهر) : من الوجوه التي لم أقف لها على محصل غير التعبد بالنص منها حيث قال : «وعلى كل حال اتفاقهم ظاهرا على الحكم هنا وخلافهم في قبول شهادة العبد على أقوال متعددة : إما أن يكون للخبرين المزبورين المعتضدين بما عرفت ، أو لأنها حران في ظاهر الشرع وفي حق الورثة الذين شهدوا عليهم وان استلزم ذلك رقيتهما لغيرهم أخذا بإقرارهما أو لعدم بيّنة على دعواهما العتق من سيدهما الأصلي ولا تنافي بين الأمرين بعد أن كانا من الأحكام الظاهرية التي يمكن العمل بكل منهما نحو الصيد الواقع في الماء ، فإنه يحكم بميتته وطهارة الماء عملا بكلا الأصلين ، ليس ما نحن فيه مما يستلزم من وجوده عدمه لان ذلك انما هو في الأحكام الواقعية دون الظاهرية» (١) انتهى.

قلت : وان كان التفكيك بين الأحكام في مجاري الأصول غير عزيز ، إلا أن المقام ليس منه ، والتنظير بالصيد الواقع في الماء القليل

__________________

(١) راجع ذلك منه في كتاب الوصايا في شرح قول المحقق : «ولو أشهد إنسان عبدين له على حمل أمته ..».

٦٢

المشكوك في كونه مذكى أو ميتة غير سديد لان الشك في نجاسة الماء وطهارته مسبب عن الشك في كونه مذكى أو ميتة : فإن كان الميتة بمعنى غير المذكى وأنه أمر عدمي موافق للأصل ، كان الأصل في السبب مقدما على الأصل في المسبب لحكومته عليه ، وان كان أمرا وجوديا مخالفا للأصل ، لم يثبت به كونه ميتة حتى يقدم على أصل الطهارة واستصحابها ، وان حرم أكله ، لفقدان شرط حليته : من التذكية المستفاد من قوله تعالى (إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ) فالأصل في المسبب : إما محكوم للأصل في السبب أو غير معارض به ، فلا معنى للعمل بكلا الأصلين فيه.

وأما رقيتهما بعد الشهادة أخذا بإقرارهما ، ففيه أن الحكم بالرقية ليس من جهة إقرارهما ، مع كونه ممنوعا أصله ، بل لقبول شهادتهما لانكشاف كون معتقهما لم يكن مالكا ، والمالك لم يعتق ، ولذا تسترد التركة التي منها العبدان إلى المولود لانكشاف كونه وارثا ، والا فاقرارهما لا ينفذ على المعتق الوارث بالنسبة إلى سائر التركة ، وإنكار كونه مما يستلزم من وجوده عدمه مكابرة ، ضرورة أنه يلزم من قبول شهادتهما المثبت لعبديتهما سقوط شهادتهما بناء على عدم قبول شهادة العبد ، فلا مناص حينئذ عن القول بتخصيص عموم المنع عن قبول شهادة العبد بما إذا شهد في زمان محكوم بحريته ظاهرا ، وان كان عبدا في الواقع ، للنص ، فهو نوع تخصيص في شهادة العبد.

ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ، ولا فيما يؤول إلى جر النفع لنفسه ـ ولو بالولاية على مالكه ـ كما إذا شهد بمال للصغير الذي له الولاية عليه ، لاستلزامه ثبوت السلطنة له على التصرف فيه ، والضابط أن لا يجرّ بشهادته نفعا لنفسه ، فإنها للتهمة غير مقبولة منه ولو كان عدلا ، خلافا لما عن الإسكافي حيث قال : «شهادة الوصي جائزة لليتيم في حجره وان

٦٣

كان هو المخاصم للطفل ولم يكن بينه وبين المشهود عليه ما يرد شهادته عليه» ونسب الى المقداد الميل اليه ، ونفى عنه البأس في (المسالك) وان عيّن بعده العمل بالمشهور (١) واستجوده جدنا في (الرياض) (٢).

ولعل نظرهم ـ بعد نفي التهمة عن العدل حيث أنه ليس بمالك ، وربما لم يكن له أجرة على عمله في كثير من الموارد ـ إلى مكاتبة الصفار ، وفيها : «كتب اليه : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت : صغيرا أو كبيرا بحق له على الميت أو على غيره وهو القابض للوارث الصغير وليس الكبير بقابض؟ فوقع عليه السلام : نعم ، ينبغي للوصي أن يشهد بالحق ولا يكتم شهادته ..» (٣)

وفيه ـ مع عدم وجدان القول به صريحا إلا ما حكي عن الإسكافي ـ أنه

__________________

(١) قال في كتاب الوصايا في شرح قول المحقق «ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ..» : «والمنع من قبول شهادة الوصي كذلك هو المشهور بين الأصحاب ، لا نعلم فيه مخالفا الا ابن الجنيد فإنه قال :

شهادة الوصي جائزة لليتيم في حجره وان كان هو الخاصم للطفل ولم يكن بينه وبين المشهود عليه ما يردّ شهادته عليه ، ومال اليه المقداد في شرحه ، ولا بأس بهذا القول ، لبعد هذه التهمة من العدل حيث أنه ليس بمالك وربما لم تكن له أجرة على عمله في كثير من الموارد ، إلا أن العمل بالمشهور متعين».

(٢) ففي هذا الباب والكتاب المذكورين ـ بعد أن ينقل رأي المشهور عن الشهيد ـ يقول : «وهو حسن إن بلغت الشهرة الإجماع ، كما هو الظاهر منه ، وإلا فمختار الإسكافي لعله أجود».

(٣) فروع الكافي للكليني ، كتاب الشهادات ، باب شهادة الشريك والأجير والوصي ، حديث (٣).

٦٤

لا مقاومة للمكاتبة المزبورة ، سيما مع إعراض الأصحاب عنها ، لما دل على خلافها من المنع من قبول شهادة من يجر نفعا (١) الشامل لذلك ، ولو من حيث دخوله تحت سلطنته ، ودعوى عدم انصراف النفع لمثله ممنوعة هذا ، مع ما في المكاتبة المزبورة : من أنه «هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين على رجل آخر مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (ع) : إذا شهد معه آخر عدل ، فعلى المدّعى يمين» (٢) الظاهر في عدم قبول شهادة الوصي وإنما اليمين لإثبات الحق بضمّها مع العدل الواحد ، وإلا لم يكن لليمين حاجة. وهو بإطلاقه يشمل المقام ، فلتحمل الفقرة الأولى منها على شهادته على ما لا حق فيه من مال الكبير.

نعم تقبل شهادته فيما لا يندرج تحت ولايته ، كما لو شهد بما لا يكون وصيا فيه كالدين على الميت ، أو كان وليا على الطفل في ماله الخاص فشهد له بغيره ، فإنها تقبل بلا خلاف ، لعدم المانع ، بل يدل عليه ما في المكاتبة المزبورة : «من أنه كتب إليه أيضا أو تقبل شهادة الوصي على الميت بدين مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (ع) : نعم من بعد يمين» (٣) فإن اليمين هنا للاستظهار بعد قيام البيّنة من شهادة الوصي والعدل الآخر.

(المبحث الثاني في الموصي)

ويعتبر فيه : أن لا يكون محجرا عليه لصغر أو جنون ، ونحوه السكران والمغمى عليه ممن لا قصد له ولا شعور ، إجماعا ـ بقسميه. ولعله المراد

__________________

(١) وهي أحاديث وروايات كثيرة ، مختلفة الألفاظ والمضامين ، عقد لها في الوسائل أكثر من باب واحد ، في كتاب الشهادات.

(٢) ذكرت هذه الجملة في صدر التوقيع الآنف الذكر بنفس المصدر.

(٣) وهذه الجملة وردت في ذيل المكاتبة الآنفة الذكر والمصدر.

٦٥

ممن اعتبر فيه كمال العقل أي العقل الكامل الجاري مجرى غالب العقلاء ، وهو بهذا المعنى مما لا خلاف فيه.

فلا تصح من المجنون مطلقا ولو كان أدوارا إذا كانت في حالة الجنون ، وتصح منه في حالة الإفاقة. ولا تبطل بعروض الجنون ـ كما تقدم ـ لعدم اشتراط دوام العقل الى الموت ، كيف وإطباقهم على صحتها منه حال الإفاقة أقوى دليل على عدم البطلان بعروض الجنون بعدها.

ولا من الصبي لدون العشر مطلقا وإن بلغ سنه ثمان سنين. وأمّا من بلغ سنّه العشر : فعن المشهور نفوذها إذا كانت في البر والمعروف كبناء المساجد والقناطر ووجوه الخيرات والمبرات ، بل ربما يستشعر من (الدروس) كما قيل : الإجماع عليه. بل عن (الغنية) التصريح به.

ويدل عليه ـ مضافا الى ذلك ـ الأخبار المستفيضة : (منها) ما عن الصدوق في (الفقيه) : «عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن عن أبي عبد الله قال قال أبو عبد الله (ع) : إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته» (١) و (منها) الموثق في (التهذيب) «عن منصور ابن حازم عن أبي عبد الله (ع) قال : «إذا بلغ الصبي خمسة أشبار أكلت ذبيحته وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته» (٢) و (منها) ما رواه الشيخ

__________________

(١) «من لا يحضره الفقيه للصدوق» في الوصايا باب ٢٩ الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ، حديث (١).

(٢) الرواية بهذا النص في التهذيب ـ باب ٨ وصية الصبي والمحجور عليه حديث (١) ـ هي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله. وأما التي عن منصور بن حازم فنصها ـ كما في التهذيب بنفس المصدر والباب حديث (٥) هكذا : «قال : سألته عن وصية الغلام هل تجوز؟ قال : إذا كان ابن عشر سنين جازت وصيته».

٦٦

في (التهذيب) في الموثق عن محمد بن مسلم عن أحدهما (ع) قال : «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته ، وإن لم يحتلم» (١) بعد تقييدها بما دل على العشر. و (منها) ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : «إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدق وأوصى على حد معروف وحق فهو جائز» (٢). و (منها) ما عن أبي بصير وأبي أيوب في الموثق عن أبي عبد الله (ع) : «في الغلام ابن عشر سنين يوصي؟ قال : إذا أصاب موضع الوصية جازت» (٣).

وهذه الأخبار ـ بعد اعتضادها بما عرفت ـ تنهض لتخصيص ما دل على الحجر على الصبي ما لم يبلغ ، سيما في الوصية التي قد عرفت توسعة الأمر فيها.

خلافا لابن إدريس ، فمنع عن جوازها مطلقا (٤) للأصل ، وحديث

__________________

وهكذا في الوسائل : كتاب الوصايا باب ٤٤ من أبواب أحكام الوصايا ، فراجع.

(١) التهذيب ، الباب الآنف الذكر ، من كتاب الوصايا ، حديث (٩) تسلسل (٧٣٤).

(٢) ذكره الصدوق في «الفقيه : باب ٩٢» ألحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته حديث (٢) ، والكليني في (الكافي كتاب الوصايا باب وصية الغلام) حديث (١) ، والشيخ في (التهذيب باب ٨ وصية الصبي والمحجور عليه) حديث (٤).

(٣) في المصدر والباب الآنفي الذكر من التهذيب حديث (٢).

(٤) فإنه قال في كتاب الوصايا من السرائر في باب شرائط الوصية : «الذي يقتضيه أصول مذهبنا أن وصية غير المكلف البالغ غير صحيحة

٦٧

رفع القلم ، وعمومات الحجر على الصبي ، مع عدم العمل بهذه الأخبار التي هي من الآحاد.

وهو حسن على أصله ، إلا أنه ضعيف ـ عندنا ـ وحيث كان الحكم خلاف الأصل ، فليقتصر على المتيقن من بلوغ العشر دون الثمان وإن وردت به رواية لم يعمل بها إلا شاذ (١) فلا تنهض لمقاومة مفاهيم الأخبار المتقدمة ، وتخصيص عمومات الحجر بها ، وكون الوصية بالمعروف لا مطلقا كما عن بعض ، للتقييد بها في الأخبار.

وأما الحجر عليه لسفه فعن المشهور أيضا : عدم النفوذ الا فيما كان في معروف ، كما عن المفيد وسلار والحلي وابن زهرة وغيرهم ، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه ، خلافا لما عن الحلي وابن حمزة ، فمنعاه وهو أحد قولي العلامة ، نظرا الى عمومات أدلة الحجر عليه ، وقوله الآخر الجواز مطلقا ، وتبعه عليه جدنا في «الرياض» ، ولعله الأقوى ، لعمومات أدلة الوصية ، مع منع شمول أدلة الحجر لذلك ، إذ المنساق منها المنع

__________________

ـ ولا ممضاة سواء كانت في وجوه البر أو غير وجوه البر ..» الى آخر عبارته التي يقول فيها : «وإنما هذه اخبار آحاد يوردها في كتاب النهاية إيرادا وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ..».

(١) يشير ـ قدس سره ـ إلى رواية الحسن بن راشد عن أبي الحسن العسكري (ع) قال : «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائز أمره في ماله وقد وجب عليه الفرائض والحدود ، وإذا تم للجارية سبع سنين فكذلك» ـ كما في الوسائل : كتاب الوقوف والصدقات باب ١٥ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات ـ واقتصر العمل بها ـ على ما نعلم ـ على ابن الجنيد الذي طالما يخالف الإمامية في كثير من فتاواه ـ بالرغم من كونه من أعاظمهم ـ

٦٨

عن التصرف في المال عند الحياة لا بعد الموت ، مؤيدا بما دل على «أن الميت له من ماله الثلث» ، فتبقى هي سليمة عن المعارض ، وان سلم التعارض ، فالنسبة بينهما عموم من وجه ، والترجيح لعمومات الوصية ، لما عرفت من الشهرة ، إلا أنها تنتج قوة القول الأول.

ولا تبطل بعروض السفه ، لفحوى ما دل على عدم البطلان بعروض الجنون.

وأما المفلّس فتقبل الوصية منه قطعا كما في «المفاتيح» ، وبلا خلاف كما في «الدلائل» وهو كذلك ، وإن لم تكن الوصية بالأعيان المتعلق بها حق الغرماء ، ولأن مخرجها الثلث ، وهو بعد الدّين ، وان كانت متعلقة بها فلا تقبل مع عدم إجازة الغرماء ، ومع إجازتهم ، ففي قبولها وجهان؟

من عدم المانع من مزاحمة الحق ، ومن احتمال ظهور غريم ، وان كان الأصل عدمه.

وكذا أن لا يكون مملوكا ، فلا تقبل وصية العبد (١) وهو ـ على المختار : من عدم تملكه ـ واضح ، لعدم نفوذ التصرف في مال الغير ،

__________________

(١) لإطلاق أدلة الحجر الواردة بعنوان العبودية كقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ) وكالروايات الواردة في عدم جواز أو نفوذ نكاح العبد أو طلاقه بنحو الاستقلال باختلاف المضامين وكالروايات الواردة في منعه عن التصرفات المالية ـ بما فيها الوصية ـ كصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (ع) : «أنه قال في المملوك : ما دام عبدا ، فإنه وماله لأهله ، لا يجوز له تحرير ، ولا كثير عطاء ولا وصية إلا أن يشاء سيده» ورواية عبد الرحمن ابن الحجاج عن أحدهما (ع) : انه قال : «لا وصية لمملوك ..» وغيرها كثير مما ورد في باب الطلاق والوصايا من كتب الاخبار.

٦٩

كما لو قال : «مال زيد لعمرو بعد وفاتي» بل هو كذلك حتى لو أجاز مولاه ، ولا يقاس بالفضولي ، وان قلنا بصحته ، لأنه من الفضولي لنفسه دون المالك. وعلى القول بأنه يملك ، فللحجر عليه ، مع عدم إجازة السيد ومعها فالأقوى : الجواز ، لزوال السبب ، من غير فرق بين القن والمدبر وأم الولد والمكاتب الذي لم يتحرر منه شي‌ء ، ولو تحرر بعضه نفذت بقدر نصيبه من الحرية.

ولو أوصى حال كونه مملوكا ثم أعتق وملك نفذت وصيته لارتفاع المانع من الرقية ، وقياسه بوصية الصبي ، وان بلغ بعدها ، قياس مع الفارق لأن الصبي مسلوب العبارة ، بخلاف المملوك البالغ الرشيد.

ولا يعتبر الإسلام في الوصية فتصح من الكافر ، ولو كان حربيا فيما كان سائغا ، لعموم ما دل على صحة تمليكاته المنجزة ، ولأنها لو لم تصح لما صحت منه وصاياه في إخراج ديونه ورد أماناته.

هذا ولو جرح الإنسان نفسه لهلاكها ثم أوصى في ثلثه ، لم تقبل وصيته على المشهور شهرة عظيمة (١) لأصالة الفساد. ولما في صحيح أبي ولاد المروي في (الكتب الثلاثة) عن الصادق (ع) : «من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها ، قلت أرأيت ان كان أوصى بوصية ثم قتل نفسه من ساعته : تنفذ وصيته؟ فقال : ان كان أوصى قبل أن يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو فعل لعلّه يموت أجيزت وصيته في الثلث ،

__________________

(١) وخالف في ذلك ابن إدريس صريحا ، فقال في (سرائره) : الذي تقتضيه أصولنا ، وتشهد بصحته أدلتنا : أن وصيته ماضية صحيحة إذا كان عقله ثابتا عليه» ثم استحسن رأيه العلامة في المختلف والقواعد والشهيد الثاني في الروضة والمسالك ، مما يستشعر منهما الميل إلى الأخذ به ، فراجع.

٧٠

وان كان أوصى بوصيته بعد ما أحدث في نفسه من جراحة أو فعل لعلّه يموت ، لم تجز وصيته» (١).

وهي ـ بعد فتوى المشهور بمضمونها ـ مخصصة لعمومات الوصية ، وهو الوجه في عدم القبول ، لا ما قيل : من كشف عمله عن سفهه وأن السفيه لا تقبل وصيته ، لمنع الصغرى ـ أولا ـ ومنع كلّية الكبرى ـ ثانيا ـ كما تقدم ولا ما قيل : من أنه قاتل لنفسه فاستحق عقوبة حرمانه من ماله كحرمان القائل الإرث من المقتول ، لأنه قياس مع الفارق ، إذ الحكمة الموجبة للحرمان ـ ثمة ـ من تعجيل الإرث مفقودة ـ هنا. ولا ما قيل :

من أنه غير مستقر الحياة وأنه بحكم الميت ، ومن ـ ثم ـ لا يذكى الحيوان إذا أزال جرحه استقرار حياته ، لإمكان فرض استقرار الحياة بعد الجرح إلى مدة طويلة ، ولان استقرار الحياة ليس شرطا لصحة الوصية ، للاستصحاب وعمومات الوصية المعتضدة بظاهر فتوى المعظم ، وخلو الاخبار عن اشتراط ذلك في نفوذها مع عموم البلوى به ، مع غلبة وقوع الوصايا في حال اليأس من الحياة قطعا أو ظنا. والقياس بالحيوان ـ لو سلم الحكم في المقيس عليه ـ قياس لا نقول به (٢) ، ولنفوذ منجزاته فلتنفذ في معلقاته بالأولوية ، من

__________________

(١) أي حفص بن سالم قال : «سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : من قتل نفسه ..» ذكرها الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» في باب ٩٨ وصية من قتل نفسه متعمدا حديث (١). وذكرها الكليني في (الكافي) كتاب الوصايا باب من لا تجوز وصيته من البالغين ، حديث (١). وذكرها الشيخ في (التهذيب) بعد كتاب الوقوف والصدقات. باب ١٥ وصية من قتل نفسه أو قتله غيره حديث (١).

(٢) لأنه ليس من الأقيسة الممضية عندنا كقياس منصوص العلة ، وقياس الأولوية ، وقياس تنقيح المناط ، ونحوها ، وانما هو من القياس

٧١

غير فرق في الموجب للهلاك بين الجرح وغيره من فعل ما يوجب ذلك في نفسه بحيث يستند القتل إليه بالمباشرة كشرب السم وإلقاء نفسه من شاهق ، للنص المتقدم ، بل ولو سبّب بما يكون السبب فيه أقوى من المباشرة كالمبيت في المسبعة والتمكين من المهلكات كالحية ونحوها من نفسه ، ضرورة استناد القتل في أمثال ذلك الى السبب دون المباشر لكونه أقوى منه ، بخلاف ما لو سلك طريقا مخوفا من تسليط العدو على قتله وان ظن بل ولو قطع بأنه يقتل ، وكذا الهجوم على العدو بما لا قبل له به ، لاستناد القتل في نحو ذلك الى المباشر ، وان أثم بالتسبيب. ومنه يعلم عدم الحاجة الى تقييد السبب بالمحرّم ليخرج الجهاد ونحوه ، لعدم الفرق بين السائغ وغيره بعد استناد القتل الى خصوص المباشر ، إلا في الإثم وعدمه وحيث كان الحكم مخالفا للقواعد ، وجب الاقتصار على المتيقن خروجه منها وهو ما إذا وقع ذلك منه عن عمد مع العلم أو الظن بالموت ، فان كان عن خطأ أو كان عمده بحكم الخطاء كالصبي ، نفذت وصيته. وكذا مع ظن السلامة فاتفق موته به. ولو برء بعد الوصية فالأقرب عدم النفوذ ، لبطلانها إلا مع التذكر وبقاء الرضا الذي هو بحكم تجديد إنشائها ، وليس إنشاؤه حين الوصية كإنشاء الصبي غير المميز الذي في الحقيقة لا إنشاء له ، وهو واضح.

ولا تبطل الوصية السابقة على إحداث الحدث في نفسه ، لتصريح الصحيحة به ، فهو كعروض الجنون بعد الوصية.

نعم بناء على أن الوجه في عدم النفوذ هو حرمانه ـ عقوبة ـ من ماله ، يتجه البطلان مطلقا ، إلا أنه اجتهاد في مقابل النص.

ولا تصح الوصية بالولاية على الأطفال إلا من الأب والجدّ له ، وان علا ، لأن سلطنة الإنسان على التصرف في مال غيره خلاف الأصل ، خرج

__________________

التمثيلي الممنوع الحجية عندنا.

٧٢

منه ما قام الدليل عليه : من النص والإجماع ، وهو الوصي عنهما بذلك بعد ثبوت الولاية لهما معا ، من دون تقييد بحياتهما ، فلهما الإيصاء بها وان سقطت بالموت مع عدمه كالثلث الذي له الإيصاء به ولم يكن له مع عدمه شي‌ء منه ، فلا ولاية للحاكم عليهم مع وجود الوصي على ذلك من أحدهما لكونه في مرتبة ولاية الأب والجدّ له المقدّمة على مرتبة ولاية الحاكم.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين ولايتهما وولاية الحاكم المقيّدة بحياته ، لكونه شبه الوكيل عن الامام (ع) الموجود في كل زمان ، فتنقطع وكالته بموته ، لوجود إمام الأصل. ولذا ينعزل بموته وكيله على مباشرة الفعل المعلوم عدم وجوبها عليه. ويقوم ـ مع فقد الحاكم ـ غيره من عدول المؤمنين حسبة مقامه ، لوجود الأصل.

ولا يتولى الولاية غيرهما مع وجود أحدهما ، ولو بالوصية من المفقود منهما ، لانعزاله عن الولاية بموته بوجود الآخر في مرتبته ، اقتصارا فيما خالف الأصل ـ بالنسبة إليهما أيضا ـ على المتيقن خروجه منه ، وهو ما لو انحصرت الولاية به لفقد من هو في مرتبته في الولاية فيجوز له حينئذ الإيصاء بها لغيره.

وبذلك ظهر أيضا : أنه ليس للوصي المزبور أن يوصى بذلك غيره بعد موته ، لتقييد ولايته عليهم بحياته ، على الأصح ، إلا إذا كان مأذونا من الموصي بالإيصاء كالثلث الذي ليس له الوصية به الا مع الاذن ـ كما ستعرف.

ولا ولاية للأم على أطفالها بعد الأب وان كانت رشيدة ، لعدم الدليل على خروجها من الأصل المتقدم ، مضافا الى دعوى غير واحد عدم الخلاف فيه إلا من الإسكافي ، وهو شاذ ـ كما قيل ـ فلو أوصت لهم بمال من ثلثها ، وجعلت ولاية التصرف فيه لوصيها المجعول له ولاية التصرف في غيره من باقي الثلث ، صحت وصيتها في التمليك لهم كسائر

٧٣

وصاياها ، وبطلت الولاية عليهم بالنسبة الى الموصى به ، لما عرفت من عدم الولاية لها على ذلك ، كيف وفاقد الشي‌ء لا يكون معطيا له. (واحتمال) صحة الوصية ـ هنا ـ في ثلث المال لأن لها إخراجه عنهم رأسا فيجوز إثبات الولاية عليه للغير بالأولوية (مدفوع) بمنع الملازمة والأولوية ، لأن إزالة الملك توجب عدم تعلق حق به للوارث ، فلا يكون له حتى تثبت فيه ولاية التصرف لوليه ، ودخوله في ملك الوارث يصيّره من جملة أمواله في كون الولاية عليه لوليّه الشرعي.

وأما لو أوصت بثلثها لأطفالها على أن يبقى بيد الوصي ، ثم يملكه لهم بعد البلوغ ، فلا إشكال في عدم تسلط الولي عليه ، ولو كان إجباريا لعدم دخوله فعلا في ملك المولى عليه حتى يكون لوليه ولاية التصرف ، وان تشبث به الطفل في الحقّية بنحو ملك أن يملك ، لبقاء المال الى البلوغ بحكم مال الميت الذي لا يقاومه تشبث الوارث بهذا النحو من التشبث.

وأوضح من ذلك في عدم الاشكال : ما إذا أوصت به على أن يصرف عليهم بحيث يكون مصرفا للمال ، لكونها في هذه الصورة فعلا ومالا من الوصية العهدية التي تكون الولاية فيها للوصي.

ولو نمت العين الموصى بها في الصورة الثانية ، وهي الوصية بالتمليك بعد البلوغ : فإن كان متصلا بها عند الأجل كالصوف والشعر دخل في الملك تبعا بل هو جزء منه ، وان انفصل عنه في العادة ، وان كان منفصلا كالنتاج لم يدخل ، وبقي على حكم مال الميت لعدم تعلق الوصية به ، فيصرف فيما أوصى به مما يقبل الكثرة مع عدم التقدير فيه كالإطعام وقراءة القران والزيارات ونحو ذلك من وجوه الخيرات ، أو قدّر بما يزيد على الثلث مع عدم اجازة الوارث ، ومع التقدير فيه بأن أوصى باعمال خاصة لا تزيد على أصل الثلث ، فالأقرب إرجاعه إلى الورثة ، لأنه مما لم يوص به ، فأشبه

٧٤

بالوصية بما دون الثلث ، إذ الأصل انتقال التركة إلى الوارث إلا إذا أوصى بالثلث فما دون منها.

(المبحث الثالث)

في متعلق الوصية وهو الموصى به. وفيه مطالب :

(المطلب الأول) : تصح الوصية في كل مقصود يقبل النقل ، فيعم :

ملك العين والمنفعة ، شخصيتين كانتا أو كلّيتين موجودتين أو متوقعتين.

وكذا كل حق مالي ، أو متعلق بالمال ، ولو بالقوة ، كحق التحجير ، قابل للنقل بحيث لم يتعلق غرض الشارع بانتقاله الى شخص مخصوص ـ سواء كان مما لا ينقل أصلا كحق الوقف والولاية عليه والقذف والتعزير والسبق في الأوقاف العامة كالمساجد والمدارس والخانات ، بناء على كونه من الحقوق. بل وكذا المكاتب. وأما أم الولد : فان قيد الوصية بها بموت ولدها في حياته ، صحت وان أطلق الوصية بها فمات الولد في حياته احتمل الصحة للعموم ، والبطلان ، لوقوعها منه حين ما كان المانع موجودا ـ أو كان مما ينقل ، ولكن لخصوص الوارث كحق القصاص للتشفي ، لعموم أدلة الوصية.

ويعتبر في كل من الأولين (١) أمور : (الأول) قابلية دخوله في ملك الموصي والموصى له معا ، فلا تصح الوصية بالخنزير ـ مثلا ـ من المسلم لمستحلّه ، ولا من مستحله للمسلم ، وإن صحت من المستحل لمثله على الأظهر ، بناء على إلزامهم بما التزموا به وتقريرهم عليه ، خلافا لشيخنا في (الجواهر) فيه فمنع عنه ، وإن اعترف بلزوم تقريرهم عليه

__________________

(١) يقصد بهما : ملك العين والمنفعة لذكرهما قبل الحق المالي والمتعلق به.

٧٥

لأنهم كغيرهم مكّلفون بالفروع أيضا ، لقصور العلّة عن إثبات المدعى بعد الدليل على تقريرهم فيما بينهم ، فلا تصح فيما لا مالية له وان كان ملكا كحبة الحنطة ، فضلا عما لا يقبل الملك كالحشرات وفضلات الإنسان ، وان كانت ظاهرة.

(الثاني) كونه ذا منفعة معتدّ بها غالبا وان لم يصح تملكه بل يكفي مجرد الاختصاص به باليد عليه ، كالفيل وبعض المسوخ ، بناء على عدم جواز بيعه ، لعموم أدلة الوصية والتوسعة فيها ، فلا تصح فيما لا منفعة فيه أصلا ، أو كانت ، ولكنها نادرة أو منحصرة في المحرمة كالصنم وآلات اللهو المتخذة مما لا مالية لمادته كالطين ونحوه.

ولو أوصى بملك غيره لغيره كأن قال : مال زيد لعمرو بعد وفاته ، ثم أجاز المالك ، وهو زيد ، صحت الوصية ، بناء على صحة الفضولي لاستناد الوصية حينئذ إلى المالك بالإجازة ، ولو علّق ذلك على وفاة نفسه بطلت الوصية ، وان أجازها المالك ، لخروجها عن معنى الوصية الذي هو التعليق على موت الموصي ، وليس هو من الفضولي في شي‌ء ، لأن عقد الفضولي بالإجازة يستند الى المالك المجيز ، وهنا المجيز غير موص ـ ولو بعد الإجازة ـ لعدم التعليق على موته ، والموصي غير مالك ، وبإجازة المالك لا يملك حتى ينفذ تمليكه المعلق على موته.

نعم لو قيد الوصية بتملكه قبل موته بأن قال : (أعطوا دار زيد ـ ان ملكتها في حياتي ـ لعمرو بعد وفاتي) ثم ملكها ، فالأقرب الصحة بناء على صحة مثل ذلك في الفضولي فيما لو باع ثم ملك ، ما لم يظهر منه ما يستلزم العدول عنها. وان احتمل البطلان ، لما تقدّم من وجهه في أم الولد لو أطلق الوصية بها.

ولو أوصى بكلي ثم ملك فردا صحت الوصية وأعطى الموجود أو

٧٦

مثله للموصى له ، ولم يتعين الأول ، لعدم انحصار الانطباق عليه.

هذا وحيث كان مخرج الوصية هو الثلث ـ كما ستعرف ـ ظهر لك وجه اختصاصها في اللحوق بما إذا كان متعلّقا بالمال مما ينقل ، لا كل ما له نقله في حياته ولو مع أخذ العوض عنه بالصلح الذي مفاده حينئذ هو الاسقاط والإبراء ، فليس له الإيصاء به ، لعدم الدليل على أن للميت في حقوقه الثلث ، وانما الوارد : أن له في ماله ذلك. وأما انتقال ما ينقل منه بالإرث إلى الوارث ، فلورود الدليل عليه من قوله : «ما ترك الميت من حق فلوارثه» فلا تنفذ وصيته بالخيار المجرّد عن نقل متعلقة مع فرض عدم سقوطه به ، وان كان مما يورث لعدم تقديره بالمال ، حتى يخرج من ثلثه أو يشارك الورثة في نفس السلطنة لما عرفته من عدم الدليل والاستصحاب غير جار في المقام ، وان كان الحق له في الحياة ، لأن الولاية على الإيصاء عنوان مستقل غير السلطنة في حال الحياة ، سيما بناء على أن الميت لا يملك إلا فيما قام الدليل على انه بحكم ماله.

(المطلب الثاني)

تنفذ الوصية في ثلث ماله فما دون مطلقا ، مع رضاء الوارث وعدمه مشاعا كان الموصى به أو متعينا بتعيينه أو بتفويض التعيين الى وصيته مع قصد ذلك وعدمه ، ولو أوصى بما زاد عليه توقف في الزائد على إجازة الوارث إجماعا ـ بقسميه في ذلك ـ معتضدا منقوله بدعوى غير واحد عدم وجدان الخلاف فيه ، إلا ما يحكى عن علي بن بابويه : من النفوذ في جميع ما أوصى به ، وان كان في الكل ، حيث قال : «فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعل ، ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما أوصى» (١)

__________________

(١) الملاحظ أن هذه العبارة مطابقة تماما لعبارة الفقه الرضوي ، لو لا تقديم وتأخير بين الجملتين.

٧٧

وهو ـ مع عدم كونه صريحا في المخالفة لقوة احتمال إرادة وجوب العمل بالوصية مطلقا وان زاد على الثلث ما لم يعلم الإجحاف بالورثة ، حملا للوصية التي هي فعله على الصحيح : من كون الموصى به مما يخرج من الأصل ، لا من حق الورثة كما يستفاد من قوله «فهو أعلم بما فعل» وهو غير ما نحن فيه من الوصية بما يرجع الى حق الورثة في غير الثلث الذي هو غاية ماله ان يوصى به في ماله كما هو صريح صدر عبارته ، وان كنا لا نوافقه في تلك المسألة أيضا ، لعدم نفوذها فيما زاد على الثلث إلا فيما علم خروجه من الأصل لا نفوذها ما لم يعلم الإجحاف بالورثة.

(مرمي) بالشذوذ مخالف لصريح النصوص المستفيضة الدالة على رد الوصية بما زاد على الثلث اليه ، فلا يتمسك له بإطلاقات الوصية ، وبالرضوي (١) وما روي : «الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ان أوصى به كله فهو جائز» (٢) وبخبر آخر : «رجل أوصى بتركته : متاع وغير ذلك لأبي محمد (ع) فكتبت اليه : جعلت فداك : رجل أوصى اليّ بجميع ما خلّف لك ، وخلّف ابنتي أخت له ، فرأيك في ذلك؟ فكتب إلي : بع ما خلّف وابعث به ، فبعت وبعثت به اليه ، فكتب إلي قد وصل» (٣). ولو سلم التعارض بينهما ، فهو من تعارض العموم من وجه ،

__________________

(١) ذكرت في الفقه الرضوي ، نفس العبارة الآنفة الذكر بتقديم وتأخير بين الجملتين ، راجع ذلك منه في باب (الوصية للميت) المذكور بعد باب الصيد والذبائح في الكتاب.

(٢) وهي موثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) ـ كما في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب (١١) من أبواب أحكام الوصايا ، حديث (١٩).

(٣) وهي موثقة محمد بن عبدوس ـ كما في المصدر الآنف من الوسائل حديث (١٦).

٧٨

والترجيح لما دل على الرد الى الثلث من وجوه عديدة (١).

وكيف كان فلو أوصى بما زاد على الثلث توقف نفوذها في الزائد على إجازة الوارث. فلو أجاز بعد الموت نفذت الوصية فيه بلا خلاف ، بل الإجماع ـ بقسميه ـ عليه ، سواء ردها قبل الموت أم لا ، لعدم تأثير الرد في الحياة.

ولو أجازها قبل الموت ، ففي نفوذها ، وان ردها بعد الموت كما عليه الأكثر ، وعدمه كما عن المفيد وسلار وابن حمزة والحلي؟ قولان :

للأول ما رواه الشيخ : «عن ابن رباط عن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أوصى بوصية أكثر من الثلث وورثته شهود فأجازوا ذلك له؟ قال : جائز» (١) وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح : «عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) في رجل أوصى بوصية وورثته شهود فأجازوا ذلك ، فلما مات الرجل نقضوا الوصية : هل لهم أن يردّوا ما أقروا به؟ قال : ليس لهم ذلك الوصية جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته» (٢) ورواه المشايخ الثلاثة ـ عطر الله مراقدهم ـ في الصحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (ع) مثله (٣).

__________________

(١) لعله يشير إلى أصحية السنة وأوضحية الدلالة ، وأكثرية العدد وموافقة فتاوى الأصحاب ، وإمكان الجمع بين الفريقين بحمل الثانية على ما بعد موافقة الورثة ، ونحو ذلك من التأويلات التي ذكرها الفقهاء.

(٢) راجع من (التهذيب) : باب ١١ الوصية بالثلث ، حديث (١٠).

(٣) راجع من (الفقيه للصدوق) في الوصايا : باب ٩٥ في من أوصى بأكثر من الثلث ، حديث (١) ومن (الكافي للكليني) كتاب الوصايا باب بعد باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته ، حديث (١) وما بعده ، ومن (التهذيب للشيخ) كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث حديث ٧

(٤) راجع من (الفقيه للصدوق) في الوصايا : باب ٩٥ في من أوصى بأكثر من الثلث ، حديث (٢) ومن (الكافي للكليني) كتاب الوصايا باب بعد باب ما للإنسان أن يوصى به بعد موته ، حديث (١) وما بعده ، ومن (التهذيب للشيخ) كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث حديث ٧ و ٨

٧٩

وحجة المانعين : أن الوارث لم يكن ذا حق قبل موت المورث حتى يكون مفاد إجازته إسقاطه ، فهو من إسقاط ما لم يجب ، كإسقاط الصداق قبل النكاح ، وحق الشفعة قبل بيع الشريك.

وهو ـ مع أنه اجتهاد في مقابل النصوص المقبولة عند الأصحاب ـ يمكن تطبيقه على القاعدة ، لا لما قيل : من الوجوه التي يرجع محصلها الى ثبوت حق للوارث ، وان لم يملك قبل الموت ، وأن عدم الملك لا يستلزم عدم الحق لأنه مصادرة مختصة ، سيما بناء على تعميم الحكم ، لوقوعها في حالتي الصحة والمرض ـ كما ستعرف ـ بل لأن أسباب التمليك الواقعة من الملك موجبة لترتب المسببات عليها بنحو الدوام من دون تقييد بزمان حياته ، لاقتضاء الملك الطلق ذلك ، ولذا لو آجر داره مدة تزيد على حياته صحت الإجازة في تمام تلك المدة ، وانتقلت العين مسلوبة المنفعة في بقية المدة إلى الوارث ، بخلاف الوقف لو آجره كذلك ، فإنه تنفسخ الإجارة بموته ، لان ملكه له مقيّد بزمان حياته ، فالموت في الوقف منتهى زمن التملك ، وفي غيره قاطع للملك. والوصية أيضا إنشاء تمليك من المالك ، لكن لما كان مشروطا بالموت صادف زمان تحقق الشرط وجود المانع ، وهو حق الوارث ، بالإرث ، فعدم ترتب الأثر انما هو لوجود المانع دون عدم المقتضى ، ولذا كانت الإجازة من الوارث تنفيذا للوصية لا تمليكا منه للموصى له ، فالموصى له يتلقى الموصى به من الموصي لا من الوارث ، فإذا أجاز الوارث في حياة الموصي نفذت الوصية عند موته بالإجازة التي اقتضاء دوامها عدم المانع عند تحقق شرط التمليك بعد وجود المقتضى له من الوصية فالموجب لعدم المانع في وقته في الحقيقة دوام الإجازة لا حدوثها.

لا يقال : ان الإجازة كالرد ، فكما لا تأثير لرد الوارث قبل الموت ، فكذا الإجازة.

٨٠