بلغة الفقيّة - ج ٤

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد حسين بن السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤١

وأما النواهي عن إطعامهم والصدقة عليهم ، فمحمولة على ضرب من التجوز أو الكناية عن الترفع عنهم وترك مخالطتهم بما ينجر الى الموادّة لهم ، وإلا فالترحم عليهم لكونهم مخلوقين لله حسن ، كيف لا ، ولكل كبد حري أجر.

نعم ربما يشكل في الحربي بأن مقتضى جواز مزاحمته في ماله عدم وجوب التسليم اليه على الوصي ولا نعني بالبطلان الا ذلك. والجواب عنه ـ أولا ـ بأن عدم التسليم منبعثا عن جواز الأخذ غيره منبعثا عن عدم العمل بالوصية ، والتبديل انما يتحقق في الثاني دون الأول ، بل لعلّ الأخذ بذلك العنوان هو عين العمل بالوصية ـ وثانيا ـ لا يضرّنا الالتزام بوجوب التسليم له ، وان جاز الأخذ منه بعده ، تقديما لأدلة الوصية على ما دل على جواز التغلّب عليه : إما لحكومتها عليه ، أو ترجيحا لها باستدلال الرضا (ع) في صحيحة (الريّان) المتقدمة ، وغير ذلك.

(المسألة الرابعة) الأقوى عدم صحة الوصية لمملوك الغير ، وان أجاز المالك ، من غير فرق بين القن والمدبّر وأم الولد والمكاتب ، ما لم يتحرر بعضه ، فان تحرر أعطي منها بحسابه.

لا لما ذكره في (الروضة) من «ان العبد لا يملك بتمليك سيده فبتمليك غيره أولى» (١) لما فيه : من أن المانع من تمليك المولى لعبده إنما هو عدم تعقّل تمليك الإنسان مال نفسه لنفسه ، وهو مفقود في تمليك عبد الغير ، بل لعل الأولوية بالعكس ، لجواز وصية المولى لعبد نفسه ـ كما ستعرف ـ فتنفذ الوصية لعبد الغير بالأولوية.

__________________

(١) راجع ذلك في أوائل كتاب الوصايا من (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني ، في شرح قول المصنف : «ولو أوصى للعبد لم يصح».

١٤١

بل للإجماع بقسميه عليه في القن ، وان نقل في (المختلف) عن الشيخ في (المبسوط) وتبعه ابن البراج صحة الوصية لعبد الوارث ومكاتبه معللا لها بصحة الوصية للوارث فتصح لعبده ومكاتبه (١).

وأنت خبير بما في التعليل ، لأنه مشترك الورود بينه وبين عبد الأجنبي ، الا أن يكون كلامه في التعليل مسوقا لإبطال ما عليه العامة : من بطلان الوصية للوارث ، بعد أن كانت الوصية للمملوك مرجعها إلى الوصية للمالك ، فلا يصلح أن يكون هذا الوجه مانعا للوصية ، وان منعنا عنها من وجه آخر ، وهو كونه عبدا للغير ، وعلى المشهور في غيره شهرة عظيمة ، بل عن بعض دعوى الإجماع عليه ، بل لا يبعد عدم الخلاف فيه ، إلا ما حكاه في (التنقيح) عن المفيد وسلّار فجوّزاها المدبر الغير ومكاتبه ، وقوّاه هو أيضا في المكاتب ، وقال في أم الولد للغير : لا نعرف خلافا في منع الوصية لها ، وإلا ما يحكى في المكاتب عن الدروس : في باب المكاتب (والحواشي) المنسوبة إليه في الوصية ، وإيضاح النافع. وعن المسالك والروضة إنه أقوى ، وعن جامع المقاصد : إنه لا يخلو من قوة.

ويدل على ما قويناه ـ مضافا الى ما عرفت من الإجماع ، وأن العبد لا يملك مطلقا على الأقوى أو إلا ما ملكه مولاه أو فاضل الضريبة أو أرش

__________________

(١) قال العلامة في (المختلف) ضمن الفصل الخامس فيما يتعلق بالوصية : «مسألة : المشهور أنه لا تصح الوصية لعبد الغير ولا لمكاتبه المشروط وغير المؤدي. وقال الشيخ في المبسوط ، وتبعه ابن البراج : إذا أوصى لعبد نفسه أو لعبد ورثته كان ذلك صحيحا ، لأن الوصية للوارث عندنا تصح ، وكذلك إذا أوصى لمكاتبه أو لمكاتب ورثته كانت الوصية صحيحة».

١٤٢

الجناية ، وليس ما نحن فيه من ذلك ـ :

عموم قوله (ع) : «لا وصية لمملوك» (١) بناء على كون الإضافة فيه الى المفعول ، ولو بمعونة غيره من الأخبار ـ وصحيح عبد الرحمن ـ المتقدم ـ خصوصا قوله (ع) فيه : «إن العبد لا وصية له انما أمواله لمواليه» (٢) و (دعوى) عدم استلزام كون أمواله لمواليه بطلان الوصية له لإمكان كون الموصى به من أمواله التي ترجع لمواليه على ان يكون مفاد الوصية له هو التمليك لمولاه (يدفعها) منافاة ذلك لكون العقود تابعة للقصود.

وخصوص ما ورد في المكاتب ، نحو صحيح محمد بن قيس الذي رواه المشايخ الثلاثة عن أبي جعفر (ع) قال : «قضى أمير المؤمنين (ع) في مكاتب كانت تحته امرأة حرّة ، فأوصت له عند موتها بوصية ، فقال أهل الميراث : لا تجوز وصيتها له انه مكاتب لم يعتق ، فقضى : إنه يرث بحساب ما أعتق منه ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه. قال :

وقضى (ع) في مكاتب أوصي له بوصيّة وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية ، وقضى (ع) في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصي له بوصية فأجاز له ربع الوصية ، وقال في رجل حرّ أوصى لمكاتبته ـ وقد قضت سدس ما كان عليها ـ فأجاز لها بحساب ما أعتق منها» (٣)

__________________

(١) الرواية في الوسائل كتاب الوصايا ، باب ٧٩ حكم الوصية للعبد بمال ، حديث ٣ عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أحدهما (ع)

(٢) تقدم نص الحديث وتخريجه في أوائل (المطلب الثاني عشر) من هذا الكتاب.

(٣) ذكرها الصدوق في (الفقيه) ـ في كتاب الوصايا ، باب ١٠٧ الوصية للمكاتب وأم الولد ، حديث تسلسل (٥٥٨ ـ ١) وذكرها الكليني في (الكافي) كتاب الوصايا باب : الوصية للمكاتب حديث (١)

١٤٣

المعلوم من ذلك كون المانع من تنفيذ الوصية في غير ما تحرر منه إنما هو الرقية ، فيلزم منه بطلانها رأسا لو لم يتحرر منه شي‌ء (ودعوى) تشبث غير القن من أقسامه بالحرية فيملك بهذا النحو من الملكية ، وهي المعلّقة على تحقق شرطها من الحرية (فاسدة) لعدم قابلية المملوك للتملك ولو بنحو ملك أن يملك ، مع أن التمليك بالوصية إنشاء تمليك فعلي ، وان كان تحقق المنشأ موقوفا على شرط.

نعم ربما يشكل في المكاتب بأن قبول الوصية نوع اكتساب ، فيباح له على حدّ غيره من أنواعه ، وهو قوي لولا أنه اجتهاد في مقابل النص.

وأما لو أوصى لعبده صحت وصيته له مطلقا بجميع أقسامه المتقدمة مطلقا من غير فرق بين كون الوصية بجزء مشاع ، أو معين على المشهور شهرة عظيمة ، بل قيل : لا خلاف فيه إلا من العلامة في (التذكرة) و (المختلف) حيث صححها في الأول خاصة وقد سبقه في ذلك ابن الجنيد كما عنه في المختلف ، واستحسنه في التنقيح ، واستظهره في الحدائق ، واستمتنه في المهذب ، وإن جعل موافقة الأصحاب أمتن. ونسب بعض تعميم الحكم لهما الى إطلاق الأصحاب ، وبعض الى ظاهرهم وآخر إلى أكثرهم ، والمهذب إلى إطباقهم ، عدا من عرفت.

قلت : مستند التفصيل : بالبطلان في المعين هو الأصل ، وما دل على بطلان الوصية للملوك ، وبالصحة في المشاع كما لو أوصى له بثلث ماله ـ مثلا ـ فتصح الوصية في رقبته بنسبتها الى الموصى به لاندراجها فيه ، فيتحرر منه ما يملك من نفسه بالنسبة ، إذ مفاد تمليكه ليس إلا فك ملكه فهو بحكم ما لو أوصى بعتقه. وهذا هو الفارق بينه وبين المعين لعدم الاندراج

__________________

وذكرها الشيخ في تهذيبه : كتاب الوصايا ، باب ١٨ وصية الإنسان لعبده ، حديث ٢٦ تسلسل (٨٧٦).

١٤٤

في المعيّن ، فالعمل بها حينئذ لا يخلو من أحد أمرين : إما بإعطائه المعيّن وهو غير ممكن لان العبد لا يملك ، أو بصرفه الى رقبته وهو تبديل للوصية لا يقال : ان التبديل لازم في المشاع أيضا بالنسبة إلى الزائد عما يتحرر بحسابه ، إذ الوصية ليست إلا بدفع أعيان التركة ، ودفعها له ممتنع لأنه مملوك ، والتخطي إلى رقبة بالنسبة إلى الزائد تبديل أيضا.

لأنا نقول : تحرير قدر ما يملكه من نفسه هو مفاد تمليكه ودفع ما يساوي باقية من الثلث الى الوارث انما هو للسراية ، فليس من التبديل أصلا. وهذا بخلاف المسمى فإنه لم يتحرر منه شي‌ء حتى يملك المسمى فيدفعه بدلا من أجل السراية ، بل هو صرف التبديل. ودعوى أن التخطي إلى الرقبة عمل بالوصية بحسب الممكن ، فمع أنها موهونة في نفسها جدا مبنية على تعدد المطلوب وهو في حيز المنع.

وإن أبيت ذلك فلنا في وجه التفصيل تخريج آخر ، وهو أن الموصي ليس له إلا الثلث من ماله ، وله التعيين في عين خاصة ، ويكون غيرها للوارث ، سواء كان الموصى به قدر الثلث أو أقلّ ، فلو أوصى لعبده بالمسمى فقد عين ثلثه فيه ، وكان العبد وغيره للورثة والتخطي إلى رقبته بعتقه من قيمته ، مع أنه تبديل مستلزم لمزاحمة الوارث في ملكه ، وهو خارج عما له الوصية به : من ارادة الثلث وتعيينه ، فليس له ذلك : وهذا بخلاف المشاع ، فإنه يتحرر من العبد بنسبته الى الثلث بالتمليك الذي قد عرفت أن مفاده العتق ، والتخطي في الباقي الى القيمة من جهة السراية ، فلا تبديل فيه للوصية.

وأما نسبة التعميم إلى إطباق الأصحاب وظاهرهم ونحو ذلك ، فيمكن منعها ، كيف وبعض من عنون المسألة عنونها بإضافة الوصية إلى كسر الثلث ونحوه من الكسور ككثير من الأخبار ، وهو كالصريح في الإشاعة

١٤٥

وان كان متعلقة أعيان التركة ، ولذا لو أوصى كذلك كان الموصى له شريكا مع الوارث بالإشاعة. نعم من لم يعنونها بهذا النحو أمكن نسبة التعميم اليه.

فاذا : القول بالتفصيل متين ، إلا أن القول بالتعميم أمتن لبعض الأخبار الآتية ، الصريح بعضها في المعين بخصوصه ، وبعضها شامل له بعمومه الناشئ من ترك الاستفصال ، وبذلك يخرج عن الأصل وعموم «لا وصية لمملوك».

وأما دعوى التبديل في التخطي إلى الرقبة في المعين ، فمع قيام الدليل على هذا النحو منه ، يمكن إنكار كونه تبديلا بدعوى أن تمليك المعيّن له بالوصية بعد أن كان مفاده العتق ـ كما عرفت ـ كان مرجعه في الحقيقة إلى إرادة العتق بقدر ما يخصه من قيمة المعين ، ويكون الفضل له ان كان ، فتعيين المسمى كالدار ـ مثلا ـ أو البستان إنما هو لجعله ميزانا لما يعتق منه ، فكأنه أوصى بالعتق بقدر قيمة الدار وإعطائه الزائد إن كان ، فليس ذلك من التبديل في شي‌ء.

وكيف كان فلنرجع إلى أصل المسألة وهي صحة الوصية لعبد الموصي مطلقا ، فالذي يدل عليها بعد الإجماع بقسميه ـ المعتضد منقوله مستفيضا بعدم الخلاف في الصحة وأو في الجملة ـ الأخبار الواردة في عبد الموصي دون غيره (منها) الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار : «انه كتب الى أبي محمد بن الحسن بن على (ع) : رجل أوصى بثلث ماله لمواليه ومولياته الذكر والأنثى فيه سواء أو للذكر مثل حظ الأنثيين من الوصية؟ فوقع (ع):

جائز للميت ما أوصى به على ما أوصى به إن شاء الله» (١) و (منها) الصحيح عن محمد بن علي بن محبوب : «قال كتب رجل الى الفقيه (ع)

__________________

(١) الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٦٣ حكم من أوصى لمواليه حديث (١).

١٤٦

رجل أوصى لمواليه وموالي أبيه بثلث ماله فلم يبلغ ذلك؟ قال : المال لمواليه وسقط موالي أبيه (١) وعدم البلوغ ظاهر في إرادة العتق الموجب للإعواز دون الإعطاء لهم الممكن بتوزيع المال عليهم ، كيف ما بلغ ، وهو قرينة على إرادة العبد من الموالي دون غيره ، فسقط ما عن (الروض) : من المناقشة باشتراك لفظ المولى وكون الظاهر الإعطاء دون الاحتساب ، فلعل الظاهر إرادة غير العبد انتهى. ولعل سقوط موالي الأب لكونهم موالي الغير أو لتقدّم مواليه في الذكر مع الإعواز. و (منها) الصحيح بالحسن بن محبوب عن الحسن بن صالح عن أبي عبد الله (ع) : (في رجل أوصى لمملوك له بثلث ماله؟ قال فقال (ع) : يقوّم المملوك بقيمة عادلة ، قال (ع) : ثم ينظر ما ثلث الميت؟ فان كان الثلث أقلّ من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة ، وان كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ودفع اليه ما فضل من الثلث بعد القيمة» (٢) و (منها) صحيح أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي : «قال نسخت من كتاب بخط أبي الحسن (ع) : فلان مولاك توفي ابن أخ له ، فترك أم ولد له ليس لها ولد فأوصى لها بألف درهم : هل تجوز الوصية ، وهل يقع عليها عتق وما حالها؟ رأيك فدتك نفسي ، فكتب (ع): تعتق من الثلث ولها الوصية» (٣) و (منها) الصحيح بابن أبي عمير عن حسين بن خالد الصيرفي عن أبي الحسن الماضي (ع) : «قال كتبت إليه في رجل مات وله أم ولد ، وقد جعل لها شيئا في حياته ، ثم مات؟

__________________

(١) المصدر الآنف من الوسائل ، باب ٦٩ عن الأحكام ، حديث (٢)

(٢) المصدر الآنف من الوسائل ، باب ٧٩ من الأحكام ، حديث (٢).

(٣) المصدر الآنف من الوسائل ، باب ٨٢ من الأحكام ، حديث (١)

١٤٧

قال فكتب : لها ما أمر به سيدها في حياته معروف ذلك لها ، يقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخادم غير المتهمين» (١) و (منها) مرسل محمد بن يحيى عمن ذكره عن أبي الحسن الرضا (ع) : «في أم الولد إذا مات عنها مولاها ، وقد أوصى لها؟ قال : تعتق في الثلث ولها الوصية (٢) و (منها) صحيح أبي عبيدة «سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل كانت له أم ولد له منها غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفي درهم أو أكثر للورثة أن يسترقوها؟ قال فقال : لإبل تعتق من ثلث الميت ، وتعطى ما أوصى لها به» (٣) و (منها) الرضوي «فإن أوصى لمملوكه بثلث ماله قوّم المملوك قيمة عادلة فإن كانت قيمته أكثر من الثلث استسعى في الفضلة» (٤)

وجملتها كافية في الدلالة على صحة وصيته لعبده. نعم وقع الخلاف في استسعاء العبد لما زاد من قيمته على الموصى به : فذهب بعض ، الى الاستسعاء مطلقا ، وان كان الموصى به نصف قيمته فما دون ، كما عن جمّ غفير. بل عن إيضاح النافع : انه المشهور ، وعن الخلاف : الإجماع عليه وقيده بعض بما إذا كان الموصى به أكثر من نصف قيمته بأن يملك العبد من نفسه أكثر من ضعفه ـ كما عن الشيخين في المقنعة والنهاية والقاضي في المهذب والكامل والمراسم وظاهر الشرائع ـ أولا ـ وان استحسن الأول ـ ثانيا ـ ولا حجة لهم عليه إلا مفهوم خبر الحسن بن صالح المتقدم ، بعد تنزيل الربع على المثال لما دون النصف ، وهو ـ مع ضعف دلالة المفهوم

__________________

(١) نفس المصدر والباب الآنفين من الوسائل ، حديث (٢).

(٢) نفس المصدر الآنف الذكر من الوسائل ، حديث (٣).

(٣) المصدر الآنف من الوسائل ، حديث (٤).

(٤) راجع من الفقه الرضوي طبع إيران حجري ، أوائل باب الوصية للميت.

١٤٨

وعدم العمل بظاهره إلا بالتنزيل المذكور ـ لا يكافؤ غيره من الأخبار المطلقة وان كان أخص ، سيما مع ترك الاستفصال في بعضها واعتضادها بالشهرة المحققة والإجماع المنقول. فاذا القول بالاستسعاء مطلقا هو الأقوى.

وبالجملة إذا أوصى لعبده بشي‌ء ، ينظر الى الموصى به وقيمة العبد : فان تساويا عتق العبد ولا شي‌ء له ولا عليه ، وان تفاضلا ، وكان الموصى به أكثر عتق وأعطي الفاضل ، وان كان أقل عتق بقدره واستسعى في الباقي مطلقا ـ على الأقوى ـ خلافا لمن عرفت ، والموصى به للوارث في الصور كلها بدلا عن عتق العبد أو ما يعتق منه. ومخرج الموصى به هو الثلث ، فان زاد عليه توقف على إجازة الوارث. ولو كانت الوصية لأم ولده عتقت منها لا من نصيب ولدها ، لا لما قيل : من تأخر مرتبة الإرث عن الوصية لأن المقصود من التأخر هنا أن ما زاد على الدين والثلث يرثه الوارث لا التأخر في الزمان ، بل للأخبار المتقدّمة المصرحة بذلك ، وهي أخص مما دل على عتقها من نصيب ولدها.

(الخامسة) تصح الوصية للحمل الموجود حين الوصية ، ولو قبل ولوج الروح فيه ، إذا تولّد حيّا (١) فان انفصل ميتا ـ ولو كان سقطا بالجناية ـ بطلت بلا خلاف في ذلك ـ كما قيل ـ بل عن (التحرير) وغيره الإجماع عليه.

ويدل عليه ـ مضافا اليه ـ عمومات الوصية (٢) ولا يشك في قابليّة

__________________

(١) وهذه المسألة من تفريعات شرط الوجوه في تصحيح الوصية ـ كما عليه عامة الفقهاء ـ وإنما صححوا له الوصية بشرطين : وجوده حال الوصية ، وانفصاله حيا ـ كما في المتن.

(٢) من آيات وروايات فإنها مطلقة وعامة من هذه الجهة ، فتشمل الحمل.

١٤٩

للتملك حتى لا يصح التمسك بالعمومات (١) ، ولذا يقبل الملك بالإرث ويعزل له نصيبه من الميراث ، وفي كون انفصاله حيا شرطا لأصل الملك فلا يملك قبله ، أو لاستقراره كما في (الشرائع) و (القواعد) وغيرهما ممن عبّر بهذه العبارة الظاهرة في تحقق الملك قبله ـ في الجملة ـ أو كونه كاشفا عن الملك التام من حين موت الموصي كما في إجازة الفضولي ، وبانفصاله ميتا ينكشف البطلان رأسا ، كما هو أحد الاحتمالين في عبارة من قال (تصح للحمل أن ولد حيا) أو بشرط انفصاله حيا ، كما عن الكافي والجامع ، والنافع ، والتذكرة ، والتحرير ، والإرشاد ، والتبصرة ، والدروس والروضة ، وان استظهر منها في (مفتاح الكرامة) أنه انما يملك بعد انفصاله لا من حين موت الموصي؟ وجوه ، خيرها أخيرها (٢).

والنماء المتخلل بين الوصية والولادة يتبع العين في الملكية ، فيملكه الحمل إن تولد حيا من حين موت الموصي على الأخيرين ، دون الأول (٣)

وفي اشتراط القبول هنا أيضا ، كغيره من الوصية التمليكية لمعين محصور فيقبل وليّه عنه ، لعموم أدلة الولاية ، ودعوى انصرافها الى غير الحمل ممنوعة ، ولو سلّم فبدوي لا تعويل عليه ، ولو سلم أيضا فإنما هو بالنسبة إلى الجنين وإلا فالمولود مولى عليه في جميع ما يرجع اليه ، أو عدمه

__________________

(١) فإن أهلية الموجود للتملك مأخوذة في تصحيح الوصية فالموجود حال الوصية إذا لم تتوفر فيه أهلية التملك كالحيوان ـ مثلا ـ لا تصح الوصية اليه ولا له ـ كما عرفت.

(٢) وهو إناطة الملكية بالانفصال حيا لا بمحض موت الموصي.

(٣) حيث أن مفاد الأول عدم الملكية قبل انفصاله حيا ، فلا نماء له حينئذ ، بخلاف مفاد الأخيرين اللذين يعطيان الملكية غير المستقرة قبل الانفصال حيا.

١٥٠

كما في التمليك للجهات العامة لأن القبول عن الطفل كسب له ولا يجب على الولي الاكتساب؟

قولان والأول هو الأقوى ، لما تقدم : من أنها عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول وحينئذ فالانتظار في القبول الى البلوغ تعريض للمال إلى التّلف فيقبل عنه الولي ، وليس القبول عن الطفل من الكسب له ، بل يعد عدمه تفويتا لما له عرفا ، وان كان الأقرب كون القبول منه بعد الولادة لا في حال الحمل ، وحكم تأثير الرد وعدمه قبل القبول وبعده قد تقدم سابقا في الوصية.

ولو انفصل حيّا ثم مات بعده ولو بيسير كانت الوصية لوارثه بالإرث لا بالوصية ، مع سبق القبول ، وإلا فبعد قبوله ، لانتقال حق القبول إليه أيضا كما تقدم في أصل الوصية.

ولو تعدد الحمل وزع عليهم بعد التولد على عددهم بالسوية ، وان اختلفوا في الذكورة والأنوثة ما لم ينص على التفاضل ، لأنه عطية لا ميراث.

ولو رضعت حيا وميتا ففي استحقاق الحي الكل أو النصف احتمالان : أقواهما الأول أما بناء على النقل والكشف فواضح : وأما بناء على كونه شرطا للاستقرار ، فلان الملكية حال الحمل ليست موضوعا للحكم لضعفها في مرتبة الملكية ، لأنها نظير ملك ان يملك ما لم تشتد وتتقو بانفصاله حيا ، والمفروض كون الوصية للحمل من حيث هو الذي مصداقه هو المنفصل حيا فتختص الوصية به.

(البحث الخامس)

في الأوصياء ولنذكر المهم من مسائله ، فنقول : الوصاية هي الولاية على إخراج حق واستيفائه أو على طفل أو مجنون يملك الموصي الولاية عليه أصالة كالأب والجدّ له أو بالعرض كالوصي عن أحدهما المأذون له

١٥١

في الإيصاء وتمام الكلام فيها يتم في مسائل.

(الأول) يشترط في الوصي أمور :

(الأول) البلوغ ، فلا تصح الوصية إلى الصغير لقصوره عن أهلية الولاية ، وكونه مولى عليه ، فكيف يكون وليا ، وليس المراد كون الصغير مانعا عن تصرفه كالمحجور ، كما لعله يظهر ممن جعل حيثية التصرف قيدا للمنع ، بل المقصود قصوره عن منصب الولاية التي لا تكون إلا لتكميل الغير ـ كما تقدم مفصلا في البحث عن الولاية (١) فكيف تعطى لفاقد الكمال ، فلو ضم الى كامل كانت الوصاية إلى الكامل مستقلا الى بلوغ الصغير ، فيشتركان بعده. ومرجع ذلك في الحقيقة إلى تعليق الوصاية على زمن البلوغ بحيث لا يحتاج بعده إلى إنشاء جديد ، لا أنه وصى فعلا وزمان البلوغ ، وقت للتصرف. ومن ثم لم يكن لولي الطفل المداخلة مع الكامل ، ولو كانت الوصاية فعلية : لوجب قيام الولي نيابة عنه ، ويأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله.

(الثاني) العقل فلا تصح الوصية إلى المجنون إذا كان مطبقا بلا خلاف فيه ، بل إجماعا بقسميه ، مضافا الى ما عرفت في الصغير : من قصوره عن أهلية الولاية ، ولعل المجنون أولى فهو شرط ابتداء واستدامة ، فتبطل بطرو الجنون عليه. وهل تعود بعوده؟ وجهان : مبنيان على بطلان الولاية بعروضه فلا تعود إلا بدليل مع أن الأصل عدمه ، وعدم البطلان وان منع عن التصرف حينه كالأب والجدّ له مع طرو الجنون على أحدهما ، والأقرب هو الأول ، لما عرفت. والقياس بالأب قياس مع الفارق ، لأن السبب لها فيه هو عنوان الأبوة غير المنفك عنه بطروّ الجنون عليه ، بخلاف الوصي

__________________

(١) وهي الرسالة الرابعة من محتويات الجزء الثالث المطبوع في النجف سنة ١٣٩٦ ه‍.

١٥٢

فان الجنون يزيل سبب ولايته ، وهو الوصاية ، والحاكم يتولى الأمر ، في الموردين ، غير أنه في الوصي أصالة لفرض انتفاء الوصاية ، وفي الأب بالنيابة عنه ما دام مجنونا لقصوره عن المباشرة.

وهل تصح إلى الأدواري فتنصرف الوصية إلى أوقات إفاقته ، وهو الفارق بينه وبين طرو الجنون ، لانصرافها فيه الى دوام عقله المفروض عدمه ، أو لا تصح كالوصية الى المطبق والصبي منفردا لقصور المجنون مطلقا عن منصب الولاية؟ قولان : ولعل الأول هو الأقرب فتنحل الوصاية حينئذ إلى التعليق على أوقات الإفاقة بحيث لا يحتاج فيها إلى إنشاء جديد كالوصية إلى الصبي منضما ، بل ومنفردا أيضا المعلقة على بلوغه أن لم يقم إجماع على المنع عنه بخصوصه الذي قيل : دون ثبوته خرط القتاد

(الثالث) الإسلام فلا تصح وصية المسلم الى الكافر مطلقا ، وان كان ذميا بلا خلاف فيه ، بل الإجماع يحكى عليه وهو الحجة ، مضافا الى أن الولاية على المسلم ـ ولو في ماله ـ نوع سبيل ، ولا سبيل للكافر على المسلم (١) والى أنها نوع ركون الى الظالم المنهي عنه (٢) وتصح وصية الكافر الى المسلم قطعا فيما يكون العمل به مشروعا.

وأما وصيته الى مثله فلا حاجة لنا في التعرض لمعناها ولا لحكمها وفي اعتبار الإيمان زيادة على الإسلام ـ ان لم تعتبر العدالة في الوصي ـ احتمال ، لكنه على تقدير عدم الاعتبار ينفيه إطلاق الوصية.

وهل تعتبر فيه العدالة مع ذلك ـ كما عن المشهور ، أولا كما عن

__________________

(١) بحكم الآية الكريمة (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) سورة النساء ـ ١٤١.

(٢) بحكم الآية الكريمة (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ) سورة هود ـ ١١٣.

١٥٣

بعض منهم العلّامة في (المختلف) ويكتفي بعدم ظهور الفسق فيه ، أو يفصل بين ما يكون متعلقها حق الغير ـ ولو كان بنحو العموم كالفقراء والجهات العامة وبين ما لا تتعلق إلا بنفسه فتعتبر في الأول دون الثاني؟

احتمالات ، بل غير الأخير منها أقوال. وقد عرفت المشهور منها.

ويدل عليه ـ مضافا الى الإجماع المحكي عن (الغنية) المعتضد بالشهرة المحققة فضلا عن منقولها مستفيضا ـ أن الوصية استيمان ، والفاسق ليس أهلا له لوجوب التثبت عند خبره (١) وأنه حق للغير ـ ولو بالوصية ـ وتسليط الفاسق عليه تعريض له إلى التلف وجعل صاحبه عرضة للضرر ، بل هو كذلك حتى فيما يرجع صرفه الى نفسه من المثوبات والخيرات ونحو ذلك بعد حبس المال في صرفه على المصرف الخاص وارتفاع سلطنة عليه بعد موته. ولذا ذهب المشهور ـ كما قيل ـ إلى اعتبارها في وكيل الوكيل مع أنه منجز بنظر الموكلين ، فهنا أولى لانقطاع سلطانا الموصي بموته وعدم مداخلة أحد في عمل الوصي حتى ينكشف له الحال ، ومداخلة الحاكم بعد انكشافه لا توجب الصحة حتى يجبر عند ظهور الخيانة. (ودعوى) أن المنع عن تسليطه على حق الغير فرع كونه حقا للغير ـ أولا ـ والمفروض أن كونه حقا للغير والتسليط عليه مجعولان بجعل واحد ، وهو الوصية ، فيكون هذا التسليط نحوا من كيفياتها. وبعبارة أخرى حقيته له منوطة بهذه الكيفية (مدفوعة) بمنع كون التسليط من الكيفيات المقومة للوصية ولذا لا يلزم من موت الوصي أو عجزه أو خيانته انتفاءها ـ إجماعا ـ مع أن القيود المقومة يلزم من انتفائها انتفاء المقوم ، وإطلاق الوصية لا يثبت

__________________

(١) لقوله تعالى ـ كما في سورة الحجرات ـ ٦ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

١٥٤

كونه من كيفياتها المقومة ، فهو نظير الشرط في ضمن العقد اللازم.

مؤيدا ذلك كله بما قيل : من أن ذلك ركون الى الظالم المنهي عنه (١) إذ الفاسق ظالم ، ولو لنفسه.

وبالنصوص المستفيضة الواردة : في من مات وله مال وورثته صغار ولا وصي له ، حيث اشترطت عدالة المتولي لذلك (٢) وليس ذلك الا لاعتبارها في التسليط على حق الغير ، وهذا المناط موجود هنا ، وإن كان خارجا عن مورد تلك النصوص ، لعدم الفرق بينهما من حيث التسليط إلا كونه ـ هناك ـ منصوبا من الشرع ، وهنا من الموصي الذي لا سلطنة له على المال بعد موته ، الذي هو وقت التسليط.

حجة القول بعدم اعتبارها أصلا ، أنها نيابة ، فنتبع اختيار المنوب عنه.

وأن إيداع الفاسق وتوكيله جائزان ـ إجماعا ـ مع أنهما استيمان.

وأن للميت الثلث من ماله فله وضعه حيثما شاء (٣).

__________________

(١) لقوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) .. هود ـ ١١٣

(٢) وقد عقد لها في الوسائل. كتاب الوصايا بابا مستقلا عنونه هكذا (٨٨ باب حكم من مات ولم يوص) من ذلك : رواية علي بن رئاب يسأل الامام الكاظم (ع) عمن يتولى شئون المماليك والصغار فيبيع عليهم ويشتري منهم ، فيجيبه الامام (ع) بجواز ذلك : «إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم» ، ورواية سماعة عن الامام الصادق (ع) يسأله بمضمون ذلك فيجيبه الامام (ع) بقوله : «إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس» وغيرهما في هذا الباب وفي باب الولاية كثير بهذا المضمون.

(٣) أشار الماتن ـ قدس سره ـ إلى مضمون هذا الحديث فيما سبق ـ

١٥٥

وما ورد من النصوص؟ في جواز نصب المرأة وصيا ، ونصب الصبي قبل البلوغ ـ ولو منضما الى الكامل ـ فيشترك معه في التصرف عند البلوغ (١) مع منع غلبة العدالة في النساء وعدم معلومية حصولها في الصبي عند بلوغه ، بل لعل الغالب عدم تحققها فيه.

وان تحصيل العدل مما يتعسر غالبا مع مسيس الحاجة الى الوصاية فالتوقف عليه موجب للتعطيل غالبا.

ويضعف الأول : بأنها شرط في الاستنابة ، لا في أصل النيابة ، ولذا يجب على العاجز عن الحج استنابة العادل دون غيره ، وان جاز للفاسق التبرع عن الغير بالنيابة فيه.

ويضعف الثاني : بأن جواز ذلك في الوكالة والوديعة لكون الحق فيهما راجعا الى نفسه ، فله أنحاء التصرف فيه ، ولذا جاز هبته للفاسق ، فلا يقاس به ما يرجع الى الغير.

ويضعف الثالث : بأنه ـ مع كونه أخص من المدعى لاختصاصه بثلث ماله دون الولاية على صغار ولده ـ نمنع دلالة عمومه أو إطلاقه على ما يشمل المقام ، لكونه مسوقا لجواز اختياره ما شاء من كيفيات الصرف والمصرف ، نظير قوله : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» فيكون مهملا من هذه الحيثية. وبالجملة : لا دلالة في أدلة الوصية حتى مثل قوله : «جائز للميت ما أوصى على ما أوصى به إن شاء الله» على (٢) جواز

__________________

ـ في طي المسألة الثانية من المبحث الرابع ـ وأشرنا هناك الى تخريج تلك المضامين فراجع.

(١) كما سيذكرها المصنف ـ قدس سره ـ في المسألة الثانية من مسائل التكميل الآتية : في عدم صحة الوصية إلى الصبي منفردا.

(٢) في الوسائل : كتاب الوصايا ، باب ٦٣ من أحكامها بعنوان ـ

١٥٦

التسليط المذكور : إما لاختصاصها بالقيود المقومة لها ، أولاهما لها من هذه الحيثية ، ولو سلم شمولها لذلك ، فهي معارضة بعموم ما دل على وجوب التثبت في خبر الفاسق المستفاد ومن عموم التعليل فيه ، وهو خوف الندامة من الاعتماد عليه (١) النهي عن مطلق الاعتماد على أموره : تعارض العموم من وجه (٢) والترجيح له بما عرفت من الإجماع المحكى والشهرة المحققة على اعتبار العدالة ، إن لم نقل بحكومة ما دل على التثبت عليها.

ويضعف الرابع بعدم معارضة ما دل على جواز نصبهما لما دل على اشتراط العدالة ، لكونه مسوقا لبيان أصل الصحة ، غير ناظر الى ما يعتبر فيه من الشرائط حتى يؤخذ بإطلاقه ، ولو سلم فهو مقيد بأدلة اشتراطها.

ومنه يظهر الجواب عن الوجه الخامس ، كيف ولو كان مسيس الحاجة بنفسه مسقطا لاعتبار العدالة ، لجرى مثله فيما كان المسيس إليه أكثر كالجماعة والطلاق وغيرهما مما تعتبر فيه.

وأما الاكتفاء بعدم ظهور الفسق ، لاختصاص وجوب التبين بخبر

__________________

ـ (حكم من أوصى لمواليه ومولياته) حديث واحد ، وهو «محمد بن علي ابن الحسين بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار : أنه كتب الى أبي محمد الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ أوصى بثلث ماله في مواليه ومولياته :

الذكر والأنثى فيه سواء ، أو للذكر مثل حظ الأنثيين من الوصية؟

فوقّع (ع) : جائز للميت ما أوصى به على ما أوصى إن شاء ، ونقل الحديث نفسه عن الكليني وعن الشيخ ـ قدس سرهما.

(١) أشار الى قوله تعالى ـ في آية النبإ ـ (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

(٢) كلمة (النهي) مرفوعة في مقام نيابة عن كلمة (المستفاد) وكلمة (تعارض) منصوبة على المفعول المطلق من كلمة (معارضة)

١٥٧

الفاسق مع عدم الملازمة بين عدم الفسق والعدالة لثبوت الواسطة بينهما ، فيدفعه عموم العلة الموجبة للتثبت ، وهو خوف الوقوع في الندامة الذي لا يؤمن منه إلا بإحراز العدالة ، إذ لا واسطة بينهما ، مضافا الى أن جواز التسليط على مال الغير منوط بما يوجب إحراز حفظه ، لا بعدم إحراز تلفه حتى يكتفي فيه بمجهول الحال.

وأما التفصيل بين ما يرجع الى نفسه أو الى غيره ، فقد عرفت ضعفه بتساوي الحكم فيهما ، بعد حبس المال بالوصية على المصرف الخاص في وقت لا ولي عليه.

فاذا القول باعتبار العدالة مطلقا هو الأقوى :

هذا وليعلم أن العدالة بناء على اعتبارها ليست شرطا واقعيا بمعنى توقف صحة العمل عليها في الواقع ، قال جدي في (الرياض) تبعا للتذكرة والروضة : «واعلم أن هذا الشرط انما اعتبر ليحصل الوثوق بفعل الوصي ويقبل خبره به كما يستفاد ذلك من دليله ، لا في صحة الفعل في نفسه ، فلو أوصى الى ـ من ظاهره العدالة ـ وهو فاسق في نفسه ـ ففعل مقتضى الوصية ، فالظاهر نفوذ فعله وخروجه عن العهدة. ويمكن كون ظاهر الفسق كذلك لو أوصى اليه فيما بينه وبينه فعل مقتضاها ، بل لو فعله كذلك لم تبعة الصحة ، وان حكم ظاهرا بعدم وقوعه وضمانه ما ادعى فعله ، وتظهر الفائدة لو فعل مقتضى الوصية باطلاع عدلين أو باطلاع الحاكم» (١) انتهى.

وهو حسن ومرجع ذلك الى اعتبار الوثوق الخاص الحاصل بالعدالة

__________________

(١) راجع ذلك في كتاب الوصايا منه ، الفصل الرابع في الأوصياء وما يعتبر فيهم من التكليف والعقل والإسلام. في شرح قول المحقق (وفي اعتبار العدالة تردد).

١٥٨

في جواز التسليط على حق الغير ، لقيام الإجماع على الاكتفاء به في ذلك وأما مطلق الوثوق فلم يقم دليل معتبر على الاكتفاء به فيه ، الا إذا بلغ حدّ القطع بعدم التخلف الذي دون تحققه خرط القتاد ، فهو نظير الظن الخاص والظن المطلق في حجية الطريق.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عما قيل : من أن مقتضى ذلك اعتبار الوثوق دون العدالة التي نصوا على اشتراطها في كلامهم فمن الغريب استغراب شيخنا في (الجواهر) هذا الكلام من هؤلاء الإعلام ، مع أنه في غاية المتانة وكيف كان فلو أوصى الى عادل ثم فسق بعد موت الموصي بطلت الوصاية ، بناء على اشتراطها لأنها شرط حينئذ ابتداء واستدامة وانعزل عن العمل من غير توقف على عزل الحاكم ، وان أوهمه ظاهر عبارة (الشرائع) وغيرها ، الا أن المقصود من عزله منعه عن التصرف ، ولا تعود بعود العدالة ، لما تقدم في طرو الجنون. وأما على القول بعدم الاشتراط ، ففي بطلانها نظر : ينشأ : من استلزام عدم اعتبارها ابتداء عدمه استدامة مع ان الأصل يقتضي بقائها أيضا ، ومن ـ دعوى ظهور تخصيص الوصاية به في كون الباعث عليها هو وصف العدالة فتنتفي بانتفائه دون ذاته المقارنة للوصف ، إلا انها على عهدة مدعيها. نعم لو علم كون الإيصاء إليه من حيث كونه عدلا على وجه كانت الحيثية قيدا فلا إشكال ـ بل لا خلاف ـ في بطلانها. وعليه تنزل عبارة من ادعى عدم الخلاف فيه هذا ولو فسق ثم عادت إليه العدالة قبل موت الموصي فلا ينبغي الإشكال في استمرار صحة الوصية ، لأن المانع يضر وجوده عند الموت.

(الخامس) : الحرية فلا تصح الوصية إلى المملوك بغير إذن سيده وتصح باذنه ، بلا خلاف فيهما ـ كما قيل ـ بل الإجماع محكي في (الغنية) على الأول منهما ، مضافا الى استلزامها تصرفاته الممنوع عنها شرعا

١٥٩

لكونها مزاحمة لحق المولى ، فيرتفع المانع باذنه ـ كما عللوا به في المنع والجواز ـ وهو يعطي المفروغية عندهم : من قابليته للوصاية بذاته ، غير أنه محجور عليه مع عدم الاذن.

من غير فرق في المنع بين عبد الغير وعبد نفسه ، والوصية إليه في الثاني حين كونه ملكه لا تجدي بعد أن كان عند المباشرة ملك الوارث فيعتبر إذنه (واحتمال) كون ذلك من باب الوصية ببعض منافعه (يدفعه) عدم اندراجه في ذلك عرفا ، بل هو إثبات ولاية له ، ولذا لا يلتزم بتقويمها وإخراجها من الثلث.

وكذا لا فرق عند الأكثر بين القن وغيره ممن تشبث بالحرية. نعم عن المفيد وسلّار : جواز الوصية إلى المدبّر والمكاتب : إما مطلقا ـ كما عنهما في ظاهر المختلف والدروس ـ وقيدا بعبد نفسه ـ كما في التنقيح ـ ومال اليه ، وهو قوي في المدبر ، لحصول الاذن من مولاه بالوصية لتضمنها الاذن بالقبول حينما هو ملكه مع ارتفاع الحجر عنه عند الموت بالحرية ، فلا مانع من الوصية ـ فيه لا فعلا ولا مآلا الا احتمال قصور الثلث عن قيمته الموجب لتبعضه في الحرية ، ولكن غايته المراعاة والتوقف الى انكشاف الحال دون البطلان رأسا. نعم تعليلهم الجواز في المكاتب بلزوم عقد الكتابة لا يجدي نفعا حتى لو تحرر بعضه ، لان مقتضاه ـ وان كان جواز الاكتساب ـ الا أن كون الوصية منه ممنوع ، وان استلزم العمل بها الأجرة في بعض الأحوال.

البعض منه بحكم الرق ، إذ لا يعقل تجزي الولاية في حقه ، وان قلنا باستحقاقه من الوصية له بقدر حريته ، لوضوح الفرق بين الوصية والوصاية ، فإن الملكية تتبعض ، بخلاف الولاية ، فإنها لا تتجرأ بنفسها ، وان تبعض متعلقها.

١٦٠