أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

مقلّداً للمجتهد في عدم قيام الأمارة على التكليف. على أنّه لا مانع من الالتزام بذلك بأن يقلّده في إخباره بأنّه لم تقم عنده حجّة شرعية على التكليف.

وما أفاده بعض سادة مشايخنا قدس‌سرهم فيما حرّرته من أنّه لا دليل على صحّة تقليده في ذلك ، يمكن منعه استناداً إلى إطلاقات التقليد أو مطلق رجوع الجاهل إلى العالم ، إذ يصدق على ذلك المجتهد أنّه عالم بأنّ ذلك التكليف لم تقم عليه حجّة شرعية فتأمّل ، ويمكن أن يقال : إنّ هذا ـ أعني تقليد العامي للمجتهد في عدم قيام الحجّة والدليل على الحكم ـ هو المتعيّن.

أمّا ما ذكرناه من كون فحص العامي منحصراً بالفحص عن فتوى المجتهد فيمكن الخدشة فيه بأنّ الفحص اللازم في قبال البراءة في الشبهات الحكمية إنّما هو الفحص عن الأدلّة الأوّلية ، لا الفحص عن فتوى المجتهد ، ومجرّد أنّ العامي لا يمكنه الفحص عن الأدلّة الأوّلية لا يسوّغ له الرجوع إلى البراءة.

فالمتعيّن في حقّه هو تقليد المجتهد في أنّ هذه الشبهة لم يقم فيها دليل اجتهادي ، وحينئذ يدخل في موضوع من لم يقم عنده دليل اجتهادي ، فيقلّده أيضاً في حكم هذا الموضوع وهو البراءة الشرعية في قبال احتمال وجوب الاحتياط ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ أقصى ما عند المجتهد بعد فحصه هو أنّه لم يجد دليلاً على التكليف ، فأقصى ما يكون هو أن يخبر العامي بأنّه لم يجد دليلاً ، وهذا غير نافع للعامي في تنقيح إجراء البراءة المتوقّف على الفحص وعدم العثور ، فإنّ عدم وجدان المجتهد لا يكون فحصاً وعدم عثور للعامي ، وإن شئت فقل : إنّ عدم وجدان المجتهد لا يكون عدم وجدان للعامي ، فالمتعيّن هو ما ذكرناه.

وأمّا الإشكال عليه ، بأنّ الفحص اللازم هو الفحص عن الأدلّة الأوّلية ، وأنّ

١٨١

تعذّر ذلك عليه لا يسوّغ له الرجوع إلى البراءة بل يلزمه الاحتياط ، نظير ما لو تعذّر على المجتهد الفحص في كتاب الوسائل مثلاً ولم يكن الوسائل حاضرة لديه عند ابتلائه بالمسألة ، فإنّه يلزمه الاحتياط ، ففيه أنّ ذلك فيما لو انحصرت الحجّة فيما تعذّر ، وأمّا بعد البناء على أنّ حجّة العامي هي فتوى مقلّده وأنّه لا ينتفع بالفحص عن الحجج الأوّلية ، فالواجب عليه مقدّمة لإجراء البراءة هو الفحص عمّا هو حجّة عليه فعلاً وهو فتوى مقلّده ، دون ما لا يمكنه تحصيل شيء منه ، فلاحظ وتدبّر.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : وأمّا تعيين ما هو حكم العقل ، وأنّه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط ، فهو إنّما يرجع إليه الخ (١) ، فقد عرفت تفصيل الحال فيه فيما شرحناه في المقام الرابع (٢) ، فراجع وتأمّل.

ولا يخفى أنّ ما قرّرناه من رجوع العامي إلى المجتهد إنّما هو خصوص القائل بالانفتاح ، أو القائل بالانسداد لكن على نحو الكشف أو على نحو الحكومة بمعنى حكومة العقل بحجّية الظنّ في حال الانسداد كحكمه بحجّية القطع في حال الانفتاح ، فإنّ المجتهد في هذه الصور يمكنه الإخبار بالحكم الواقعي حسبما حصل له من الظنّ. نعم بناءً على الحكومة بمعنى تبعيض الاحتياط يشكل الأمر في صحّة الإخبار له حسب ظنّه ، إذ لم يقم عنده دليل على حجّية ذلك الظنّ ، فتأمّل (٣)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٦.

(٢) في الصفحة : ١٧٦.

(٣) [ وجدنا هنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بالأصل ، وقد ارتأينا إدراجها في

١٨٢

ــــــــــــــــــ

الهامش وهي كما يلي : ]

الارجاع في موارد الاحتياط إلى الغير إن كان المجوّز له هو أنّ المفتي في تلك المسألة يفتي واقعاً بعدم التكليف لكنّه لا يعلنه تورّعاً فلا إشكال ، وإن كان لا يفتي به واقعاً لكنّه متوقّف فكان الاحتياط عنده لازماً عليه ، لكن هذه المسألة حينئذ لا يكون للغير تقليده فيها ، بل يكون لزوم الاحتياط مختصّاً بذلك المجتهد ، وحينئذ يتعيّن على العامي أن يرجع فيها إلى الغير ، ولا يكون قوله فيها ارجع إلى فلان إلاّمن باب الشهادة بأنّه الأفضل.

وفيه تأمّل ، فإنّه إن كان من باب عدم الفتوى كان من موارد البراءة لو كان المورد ممّا يمكن أن يرجع إلى البراءة ، أو كان من موارد الاحتياط لو كان ممّا لا تجري فيه البراءة كما لو كان من موارد العلم الاجمالي بين تكليفين أو كان من موارد التردّد بين حقّين من حقوق الناس ونحو ذلك.

وبالجملة : لا محصّل للأمر بالرجوع إلى الغير في الموارد التي لم تحصل للفقيه الفتوى بأحد الوجهين مع كونها مورداً للاحتياط ، بل لعلّ الارجاع إلى الغير من قبيل الارجاع إلى غير العالم ، فتأمّل.

وحاصل التأمّل : أنّ الفقيه إن كانت له فتوى على نفي التكليف لا وجه لإرجاعه العامي إلى الغير إلاّمن باب التورّع عن الفتوى ، ولكنّه ربما وقع بما هو خلاف التورّع ، كما لو كان محتمل الوجوب من العبادات ، فإنّ إرجاعه إلى الغير ربما أوقع العامي بالاتيان به بداعي الوجوب مع أنّ الاحتياط يقتضي الاتيان به بداعي الاحتمال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه إن تأتّت منه نيّة القربة بداعي الوجوب ، فإن صادف الواقع فهو وإلاّ كان لغواً لا أثر له ، فلا يضرّ العامي الاتيان به بداعي الوجوب الجزمي.

وإن لم يكن له فتوى على نفي التكليف ، وكانت المسألة من الدوران بين التكليف وعدمه ، كانت من موارد البراءة ، ورجعت إلى الشقّ الأوّل أعني ما يكون الفتوى فيه

١٨٣

قال في الكفاية : بخلاف ما إذا انسدّ عليه بابهما ، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الإشكال ، فإنّ رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ـ إلى أن قال ـ وقضية مقدّمات الانسداد ليست إلاّحجّية الظنّ عليه لا على غيره ـ إلى أن قال ـ هذا على تقدير الحكومة ... الخ (١).

يمكن أن تقرّر الحكومة بمعنى حكومة العقل بحجّية الظنّ في حال الانسداد ، كحكومته بحجّية القطع في حال الانفتاح.

ويمكن أن تقرّر بمعنى حجّية الاحتمال في حال العلم الاجمالي مع تبعيض الاحتياط والالتزام به في المظنونات دون الموهومات والمشكوكات.

__________________

عدم التكليف.

وإن لم تكن المسألة من الدوران بين التكليف وعدمه بل كانت من الدوران بين المحذورين ، كانت حينئذ مورداً للفتوى بأنّ التكليف على طبق أحدهما ، وإذا أفتاه بذلك تحقّقت في حقّ العامي صغرى دوران الأمر بين المحذورين ، وحينئذ يفتيه بالتخيير.

وإن كانت من الدوران في الوجوب بين الفعلين وأمكن الاحتياط ، تحقّقت في حقّ العامي صغرى العلم الاجمالي ، وحينئذ يفتيه بما يلزم في نظر ذلك المجتهد من الاحتياط ، وإن لم يمكن الاحتياط خيّره بينهما.

وفي جميع هذه الصور لا يكون إرجاعه إلى الغير إلاّمن قبيل الارجاع من العالم إلى الجاهل ، لأنّ هذا المجتهد قد اطّلع على دليل المجتهد الآخر وجزم بعدم تماميته ، فكيف يصحّ الارجاع إليه ، خصوصاً فيما لو كانت النتيجة في نظر المجتهد الأوّل هي الاحتياط ، كما في مثل موارد الظهر والجمعة ، وكما في الحبوة ونحو ذلك ، لكن لا ضير في ذلك على المجتهد ، لأنّه لا فتوى له في تلك المسألة ، فيتعيّن على العامي أن يحتاط فيها أو يرجع فيها إلى غيره ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

١٨٤

وعلى الأوّل يصحّ ما أفاده بقوله : وقضية مقدّمات الانسداد ليست إلاّحجّية الظنّ عليه ، دون الوجه الثاني إذ بناءً عليه لا يكون الظنّ حجّة أصلاً ، وإنّما الحجّة هو الاحتمال ، لكن لو قلنا بالأوّل فالظاهر أنّه لا مانع من تقليد غيره له ، لأنّه يمكنه الإخبار بمقتضى ظنّه الذي هو حجّة عقلية عليه ، فإنّ حجّيته وإن كانت مختصّة به كالظنّ على الكشف بل كخبر الواحد على الانفتاح ، إلاّ أنّه ـ أعني الظنّ ـ سواء كان حجّة عقلية ، أو كان حجّة شرعية من باب الكشف ، أو كان حجّة من باب الظنّ الخاصّ على الانفتاح كما ينجّز الواقع عليه ، فكذلك يجوز له الإخبار بالواقع الذي تعلّق به ظنّه ، بل على الانفتاح يجوز له الإخبار حتّى لو لم يكن مظنوناً له ظنّاً شخصياً.

نعم ، بناءً على الثاني وإن كان الاحتمال حجّة عقلية من باب العلم الاجمالي ، إلاّ أنّه كالاحتمال في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، وكما لو قلنا بالاحتياط في موارد التردّد بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإنّ ذلك كلّه لا يوجب إلاّ انقطاع العذر ومنجّزية الواقع واستحقاق العقاب على مخالفته لو كان ، من دون تسويغ الإخبار ، فينسدّ فيه حينئذ باب الافتاء ، بل هو كذلك حتّى في موارد الاحتياط الشرعي كما لو قلنا به في الشبهات البدوية.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك الإشكال فيما أفاده المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية في هذا المقام ، وذلك قوله تعليقاً على قول المصنّف : وأدلّة جواز التقليد إنّما دلّت على جواز الخ : يمكن أن يقال يصدق العلم والمعرفة على مجرّد قيام الحجّة شرعاً أو عرفاً أو عقلاً على أحكامهم عليهم‌السلام كما يشهد له إطلاق المعرفة على مجرّد الاستفادة من الظواهر في قوله عليه‌السلام : « يعرف هذا وأشباهه من

١٨٥

كتاب الله » (١) وقوله عليه‌السلام : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » (٢) إذ ليس هناك بحسب المتعارف إلاّ الاستفادة من ظاهر الكتاب وظاهر كلامهم عليهم‌السلام ، مع وضوح أنّ حجّية الظاهر ببناء العرف ليس بمعنى جعل الحكم المماثل حتّى يتحقّق هناك العلم الحقيقي بالحكم الفعلي ، بل بمعنى صحّة المؤاخذة على مخالفته وتنجّز الواقع به الخ (٣).

فإنّك قد عرفت أنّ الحجّية بمعنى مجرّد صحّة المؤاخذة وتنجّز الواقع لا تحقّق العلم بالحكم الواقعي ، كما في الظنّ على الحكومة بمعنى تبعيض الاحتياط ، وكما في موارد الاحتياط العقلي في أطراف العلم الاجمالي وفي موارد الشبهات قبل الفحص ، وكما لو قلنا به عقلاً في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين أو شرعاً في الشبهات البدوية ، فإنّ ذلك كلّه ينجّز الواقع ويصحّح العقوبة على مخالفته ، إلاّ أنّه لا يوجب العلم به ، فلا يكون الرجوع إلى من تحقّقت في حقّه هذه المنجّزات من قبيل الرجوع إلى العالم ، بل هو لا يخرج بتحقّقها في حقّه عن كونه جاهلاً بالحكم.

نعم ، إنّ من قامت عنده الأمارات الشرعية والأُصول الاحرازية ، بل من حصل له الظنّ بناءً على الكشف ، يكون كلّ واحد من هؤلاء عالماً بالحكم الشرعي الواقعي بناءً على جعل العلم أو الاحراز أو الطريقية أو جعل الحجّية ، بل قد عرفت أنّ من حصل له الظنّ بالحكم الشرعي بناءً على الوجه الأوّل من وجهي الحكومة العقلية يمكن دعوى تحقّق كونه عالماً به في نظر العقل.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٤٦٤ / أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٧.

(٣) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٦٦.

١٨٦

ولكن ذلك وحده ـ أعني مجرّد صدق كونه عالماً ـ لا يكفي في إصدار الفتوى منه التي هي عبارة عن الإخبار بالحكم الواقعي إلاّبعد إثبات ما أشرنا إليه من أنّ تحقّق هذه الأُمور في حقّه كما يوجب تنجّز الواقع عليه فكذلك يجوّز له الإخبار به ، وإلاّ فمجرّد تنجّز الواقع عليه لكونه عالماً به وجداناً أو تنزيلاً لا يوجب تنجّزه على مقلّديه ، لأنّ منجّزية علمه الوجداني أو التنزيلي لا تسري منه إلى مقلّديه إلاّبواسطة إخباره لهم بذلك الحكم الواقعي الذي سوّغه له علمه بالحكم وجداناً أو تنزيلاً ، ليكون إخباره لهم حجّة عليهم ، لكون إخباره لهم محقّقاً للعلم التنزيلي في حقّهم.

ومنه تعرف أنّ حجّية هذه الأُمور على من قامت عنده لا تنحصر بجعل المماثل أو بجعل المنجّزية ، بل ليست هي إلاّما عرفت من جعل الحجّية أو جعل الاحراز والطريقية ونحو ذلك ممّا يرجع إلى تحقّق العلم بالحكم الواقعي في حقّ من قامت عنده علماً تعبّدياً تنزيلياً ، وأثر ذلك هو تنجيز الواقع عليه وجواز إخباره به ، ويمكننا ادّعاء كون ترتّب الأوّل عقلياً ، وكون ترتّب الثاني شرعياً وينفرد الأثر الثاني عن الأوّل فيما لا يكون من الأحكام متعلّقاً به بل كان متعلّقاً بمقلّديه ، ولا يتوقّف على النيابة والاستنابة.

ومنه يظهر لك الإشكال فيما أفاده قدس‌سره في حاشيته الثانية (١) فلاحظها وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ ما أفاده في هذه الحواشي مبني على أن جعل الحجّية هو عبارة عن جعل المنجّزية والمعذّرية ، وحينئذ يتوجّه النقض بالاحتمال في أطراف العلم الاجمالي وبالاحتمال في الشبهة الحكمية قبل الفحص ، فإنّ ذلك

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٦٧.

١٨٧

كلّه منجّز للواقع ومصحّح للعذر ، ومن الواضح أنّ قيام ذلك الاحتمال لا يجعله عالماً بالحكم أو عارفاً به ، ولا معنى لتقليده في ذلك لكون العامي مساوياً للمجتهد الذي انسدّ عليه باب العلم والعلمي ، إذ لا يكون لدى ذلك المجتهد إلاّ الاحتمال المقرون بذلك العلم الاجمالي الذي يكون أطرافه جميع الموارد التي يحتمل فيها التكليف ، وهذا بعينه حاصل لذلك العامي ، فما وجه تقليده له وبأي شيء يقلّده.

وكلّ هذه الإشكالات ناشئة عمّا عرفت من كون جعل الحجّية عبارة عن جعل المنجّزية ، وقد حقّق في محلّه أنّ ذلك ـ أعني جعل مجرّد المنجّزية ـ غير معقول ، بل إنّ المعقول هو جعل ما هو الموضوع لذلك الحكم العقلي ، وذلك هو جعل الطريقية أو جعل الاحراز أو تتميم الكشف أو جعل نفس الحجّية التي هي من مقولة الأحكام الوضعية نظير الزوجية والحرّية والملكية.

قال في الكفاية : هذا على تقدير الحكومة ، وأمّا على تقدير الكشف وصحّته فجواز الرجوع إليه في غاية الإشكال ، لعدم مساعدة أدلّة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختصّ حجّية ظنّه به الخ (١).

لعلّه قدس‌سره يريد أن يفرّق بين حجّية خبر الواحد على تقدير الانفتاح وحجّية الظنّ على تقدير الانسداد ، بأنّ حجّية خبر الواحد عامّة لجميع المكلّفين ، غايته أنّ العامي لا ينتفع بها لأنّها لم تصل إليه أو لأنّه لم يصل إليها ، والمجتهد بالنيابة عنه يوصلها إليه أو يوصله إليها ، فصحّ لنا أن نقول إنّ قيام الخبر عند المجتهد يكون حجّة على جميع المكلّفين ، وهذا بخلاف الانسداد على الكشف ، فإنّ

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٥.

١٨٨

المستكشَف ولو كان هو حجّية الظنّ شرعاً على عامّة المكلّفين ، إلاّ أنّه من قبيل مقابلة الجمع بالجمع القاضي بالتوزيع ، ليكون الحاصل هو أنّ ظنّ كلّ شخص حجّة على نفسه لا أنّه حجّة على غيره ، وحينئذ فلا يكون ظنّ المجتهد حجّة على العامي.

ومن ذلك تعرف أنّه لا يتوجّه عليه ما في حاشية العلاّمة الاصفهاني قدس‌سره ، قال في آخر الحاشية على قول المصنّف قدس‌سره : ولو سلّم أنّ قضيّتها كون الظنّ المطلق الخ ما هذا لفظه : ومع تمامية المقدّمات بالاضافة إلى مثل هذا الظنّ لا موجب لعدم حجّيته والاقتصار على الظنّ المتعلّق بحكم نفسه بملاحظة قيام الظنّ به ، فإنّ قيامه به لا يقتضي عدم كونه حجّة على حكم الله تعالى في حقّ الغير الخ (١) ، وحاصل ذلك هو أنّه إذا ثبت كون ظنّه حجّة على حكم الله تعالى يكون حجّة بالنسبة إلى عامّة المكلّفين.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ كون ظنّ المجتهد حجّة على حكم الله تعالى إنّما يكون على نفس الظانّ الذي هو المجتهد ، دون من لم يحصل له هذا الظنّ ، ولا محصّل للنيابة في نفس الظنّ ، نعم طريقة شيخنا قدس‌سره وهي كون يقين المجتهد وشكّه يقيناً لعامّة المكلّفين توجب التوسعة إلى العامي ، لأنّ ظنّ المجتهد ظنّ من جميع المكلّفين.

لكنّك قد عرفت التأمّل في ذلك كلّه ، وأنّ المتعيّن هو القول بأنّ حجّية الظنّ تخوّل الظانّ العمل على طبقه وتصحّح له إخبار الغير بمؤدّاه ، وذلك الإخبار يكون حجّة على ذلك الغير بمقتضى دليل حجّية الفتوى.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٧٠.

١٨٩

قال في الكفاية : إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الأُصول العقلية ليس إلاّ الرجوع إلى الجاهل الخ (١).

لا يخفى أنّ موارد فقد الأمارة المعتبرة لا يتعيّن كون المرجع فيها هو الأُصول العقلية ، بل لا يرجع إلى الأُصول العقلية إلاّبعد فقد الأُصول الشرعية ، لكنّه كأنّه يعني من الأمارة مطلق ما يقوم عند المجتهد ، سواء كان ما يقوم عليه هو الحكم الشرعي أو كان ما يقوم عليه مجرّد الوظيفة العملية عند الشكّ.

لكنّك قد عرفت أنّ قيام الدليل الشرعي على الترخيص مثلاً في مقام الشكّ عند المجتهد لا ينفع العامي المقلّد ، وقد تقدّم الكلام في ذلك الذي سمّيناه العمل الثالث من أعمال المجتهد (٢) ، فلاحظه وتأمّل.

ثمّ إنّه في الكفاية أجاب عن الإشكال المزبور ب :

قوله : قلت : رجوعه إليه فيها إنّما هو لأجل اطّلاعه على عدم الأمارة الشرعية فيها ، وهو عاجز عن الاطّلاع على ذلك ، وأمّا تعيين ما هو حكم العقل وأنّه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط ، فهو إنّما يرجع إليه ، فالمتّبع ما استقلّ به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده ، فافهم (٣).

تقدّم الإشكال في تقليده باخباره بعدم الأمارة الشرعية فيها ، وفي إيكال العامي هو وعقله في ذلك ، فراجع (٤)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٦.

(٢) لعلّه قدس‌سره يشير إلى ما تقدّم منه في الصفحة : ١٧٣ وما بعدها.

(٣) كفاية الأُصول : ٤٦٦.

(٤) الصفحة : ١٨١.

١٩٠

ولكن هنا أمر ينبغي الالتفات إليه ، وهو أنّ الكثير من الأحكام الشرعية مأخوذ من ملازمات عقلية ، مثل أنّ وجوب ذي المقدّمة يلزمه وجوب المقدّمة. ومثل أنّه لو اجتمع الوجوب والاستحباب على الوضوء يندكّ أحدهما بالآخر وينعدم الحدّ الاستحبابي ، وهل يجوز له بعد دخول الوقت الوضوء بداعي الأمر الاستحبابي. ومثل صحّة العبادة المأمور بضدّها كالصلاة في مورد وجوب إزالة النجاسة ، وهل إنّ الأمر بالازالة علّة للنهي عن الصلاة أو أنّه علّة لانعدام الأمر بها ، وأنّه هل يكفي في صحّتها الملاك أو أنّه هل يمكن الأمر بها مرتّباً على عصيان الأمر بالازالة.

ومثل ذلك باب التزاحم ذلك الباب ذو الطول والعرض وموجبات التقديم فيه ، ومنها ما لو لم يقدر في صلاته إلاّعلى قيام واحد ، فهل يجعله الأوّل أو الآخر ، وبعبارة أُخرى هل التقدّم الزماني يوجب التقديم ، ومن موارد التقديم ما لو كان أحدهما مشروطاً بالقدرة الشرعية وكان الآخر مشروطاً بالقدرة العقلية إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب التزاحم.

ومن ذلك باب اجتماع الأمر والنهي ، وهل تصحّ الصلاة في الدار المغصوبة ، وهل الفساد مختصّ بصورة العلم والعمد ، أو أنّه يشمل صورة الجهل بالحكم أو الموضوع أو النسيان. وهل تصحّ صلاة المضطرّ إلى الغصب كالمحبوس أو أنّه يصلّي إيماءً ، وماذا تكون صلاة الخارج من الدار المغصوبة إذا كان دخوله بسوء اختياره.

وهكذا باقي مباحث الاجتماع والفروع المترتّبة على ذلك وعلى النهي عن العبادة وعلى النهي عن المعاملة ، وهل يكون ذلك موجباً للفساد.

١٩١

وهلمّ جرّا في المعاملات ، مثل أنّ المعاملة المخالفة للشرط أو النذر تكون فاسدة ، ومثل أنّ الحقّ المتعلّق بالعين كالخيار والرهن يوجب فساد التصرّفات الناقلة ممّن عليه ذلك الحقّ ، ومثل أنّ فساد الشرط يوجب فساد المعاملة التي أُخذ فيها ذلك الشرط ، وهل يكون فساده موجباً لخيار من له الشرط لو لم نقل بكونه موجباً لفساد المعاملة ، وهل يكون تخلّف الشرط الصحيح موجباً للخيار أو أنّه لا يوجب إلاّ الاجبار ، وهل الخيار في طول الاجبار ، إلى غير ذلك من أمثال هذه المباحث التي لا مدرك فيها إلاّتلك البراهين العقلية التي يقيمها الفقيه في إثبات تلك الأحكام.

فهل يمكن أن يقال : إنّ الفقيه يوكل هذه الأحكام إلى العامي ويذره وما يحكم به عقله كما تضمّنته الكفاية ، أو أنّ بين ما تعرّضت له الكفاية وبين هذه المباحث فرقاً واضحاً ، فإنّ ما تعرّضت له الكفاية ليس إلاّحكماً عقلياً صرفاً ، وهذه المباحث يكون الحكم العقلي مدركاً للحكم الشرعي ، ويكون ذلك الاستدلال موجباً لقطع المستدلّ بالحكم ، وحينئذ يسوغ له الإخبار بذلك الحكم ، وهو معنى الافتاء؟ فلاحظ وتدبّر.

وعلى أيّ حال ، فإنّ هذه المدارك العقلية توجب القطع بالحكم الشرعي المأخوذ عنها ، فما ذكرناه من أنّ باب القطع بالحكم الشرعي منسدّ إنّما يتمّ فيما لو كان الدليل عليه هو الأدلّة السمعية كالكتاب والسنّة ، لا فيما يكون دليله الأحكام العقلية ، كما أنّ ما أنكرناه من الدليل الرابع ـ أعني دليل العقل ـ إنّما هو ما فسّروه به من قاعدة التحسين والتقبيح وقاعدة الملازمة ، دون هذه البراهين العقلية التي كانت هي المرجع في الأحكام الشرعية المذكورة ، فلاحظ وتدبّر.

١٩٢

ولقائل أن يقول : إنّ أغلب هذه البراهين العقلية أو كلّها راجع إلى الاستدلال والانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر ، وهو منحصر بالانتقال من العلّة إلى المعلول ، والانتقال من المعلول إلى العلّة ، والانتقال من أحد المعلولين إلى الآخر ولابدّ أن يكون المنتقل منه ثابتاً في الشريعة إمّا من الكتاب وإمّا من السنّة ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى الاستدلال بأحدهما ، وقد عرفت أنّ كلاً منهما لا يفيد القطع ، فكذلك ما يترتّب عليه. نعم فيما لو كان أحد المتلازمين ضرورياً من ضروريات الدين أو المذهب كان موجباً [ للقطع ].

وأمّا الاستدلال بمحالية اجتماع الضدّين كالوجوب والاستحباب أو بمحالية اجتماع النقيضين كالأمر والنهي بعد فرض التركّب الاتّحادي بين المتعلّقين ، فهو راجع إلى التلازم ، لأنّ وجود أحد الضدّين أو النقيضين يلزمه عدم الآخر.

وهكذا الحال في كون من عليه الخيار ممنوعاً عن التصرّف في متعلّق الخيار ، لأنّ حقّ الخيار في العين مضادّ لحقّ التصرّف من الآخر الذي عليه الخيار.

وهكذا الحال في كون تخلّف الشرط موجباً لخيار من له الشرط ، ببرهان أنّ التزامه مقيّد بوجود الشرط ، فيلزمه انتفاء اللزوم عند انتفاء الشرط ، ومن الواضح أنّ ثبوت كون التزامه مقيّداً إنّما هو بدليل شرعي مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (١) و « المؤمنون عند شروطهم » (٢) ونحو ذلك ، فلم يخرج الاستدلال عن كونه استدلالاً بالكتاب والسنّة.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ / أبواب المهور ب ٢٠ ح ٤.

١٩٣

قال في الكفاية : وأمّا لو كان المقتضي للحجّية في كلّ واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين فيما إذا كانا مؤدّيين إلى وجوب الضدّين أو لزوم المتناقضين ، لا فيما إذا كان مؤدّى أحدهما حكماً غير إلزامي ، فإنّه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء الخ (١).

ربما يقال : إنّ مراده من الحكم غير الالزامي هو الاباحة ، ومراده من كونها لا اقتضاء [ فيها ] هو ما قيل من كونها عبارة عن عدم الحكم ، كما ربما يتضمّن ذلك ما حرّرته عن درس أُستاذنا المرحوم السيّد أبي الحسن الاصفهاني قدس‌سره ، لكنّه بعيد جدّاً.

بل مراده من الحكم الغير الالزامي هو ما عدا الوجوب والتحريم ، وإنّما أخرجه عن التزاحم لأنّه إنّما يقع في مقام العمل والامتثال من جهة عدم قدرة المكلّف ، وإذا كان أحد الحكمين هو الوجوب مثلاً وكان الآخر هو الاستحباب ، فلا مزاحمة بينهما ، لإمكان العمل بكلّ منهما ولو بنحو اندكاك الاستحباب في الوجوب ، كما يظهر ذلك من مراجعة عبارته في الحاشية ، فإنّه قال : تتمّة : اعلم أنّ منشأ التنافي بين الخبرين بناءً على حجّية الأخبار من باب الطريقية المحضة إنّما هو أعمّ من عدم إمكان الجمع بينهما عملاً ، أو علماً بأن علم بكذب أحدهما ولو أمكن الجمع بينهما بحسب العمل ، وهذا بخلاف المنشأ على حجّيتها من باب السببية ، فإنّه خصوص عدم إمكان الجمع بينهما عملاً لا علماً الخ (٢) ، فراجع تمام كلامه قدس‌سره في هذه التتمّة تجده صريحاً في ذلك.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٠.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

١٩٤

وأمّا قوله قدس‌سره في الكفاية : إلاّ أن يقال بأنّ قضية اعتبار دليل الغير الالزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي ( الحكم ) الالزامي ، ويحكم فعلاً بغير الالزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي الغير الالزامي ، لكفاية عدم تمامية علّة الالزامي في الحكم بغيره الخ (١) فكأنّه ناظر به إلى نظير ما حقّقه الشيخ قدس‌سره في باب الشروط في الشرط الذي يكون محرّماً للحلال ، بأنّ بطلانه من جهة أنّه يستفاد من دليل حلّية التسري مثلاً أنّ الشارع أراد أن يكون متساوي الطرفين ، وأن لا يكون ما يوجب تركه ، فيكون شرط عدمه محرّماً للحلال ، فيبطل لكونه على خلاف الكتاب ، وحينئذ تنتهي المسألة فيما نحن فيه إلى عدم قدرة المكلّف على الجمع بين هذا النحو من الغير الالزامي والحكم الالزامي ، فيقع بينهما التزاحم.

لكن ينبغي حينئذ أن يقال بتقدّم الأقوى ملاكاً ، فإن لم يكن في البين ما هو الأقوى يسقط كلّ من الالزامي وغير الالزامي ، لأنّ كلاً منهما يكون مقتضياً لجهة لا يمكن اجتماعها مع الجهة الأُخرى ، فكما تسقط جهة الالزام فكذلك تسقط الجهة المقتضية لعدم الالزام ، لا أنّ الحكم يكون حينئذ هو عدم الالزام ، فتأمّل.

وقد شرح هذه العبارة أُستاذنا المرحوم السيّد أبو الحسن قدس‌سره بما محصّله : أنّ المراد من الاباحة الاقتضائية هو ما ينشأ عن مصلحة تقتضي تساوي الطرفين ، وبهذا صارت من الأحكام الخمسة ، وحينئذ يقع التزاحم بينها وبين الوجوب مثلاً ومع التساوي يسقطان ويكون الحكم عدم الالزام من باب عدم مقتضي الالزام ، لا من باب تحقّق مقتضي عدم الالزام ، فراجع ما حرّرناه عنه في هذا المقام (٢)

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٠.

(٢) مخطوط لم يطبع بعدُ.

١٩٥

قوله في الكفاية : نعم له الافتاء به في المسألة الأُصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار المقلّد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه (١).

لا يخفى أنّ الظهور الذي لا شبهة فيه إن رجع إلى النصّ كان عبارة عن الأوّل ، وإن كان أمراً آخر بمعنى أنّ الظهور في المعنى الفلاني مسلّم ، ففيه أنّه لا يمكن إيكاله إلى العامي ، لأنّ الظهور لا يكون حجّة في [ حقّه ].

نعم ، يمكن أن يقلّده في ظهور كلّ منهما وحجّيته في معناه ، ثمّ يقلّده في التخيير بين الحجّتين. وفيه تأمّل ، لأنّ الحجّية ولو في مقام الظهور مقصورة على المجتهد ، ولا محصّل لأن يقلّده العامي في حجّية هذا الظهور.

قوله : والتخيير للمستفتي في العمل بمضمون أحدهما لو كان التخيير في المسألة الفقهية ، إلاّفي مقام الترافع وفصل الخصومة فإنّه لا معنى لتخيير المتخاصمين في العمل بأحدهما ، بل لابدّ للحاكم من اختيار مضمون أحدهما والحكم على طبقه ، لعدم فصل الخصومة إلاّبذلك (٢).

هذا لو كان في البين حاكم واحد وكان قد ورد في المسألة التي هي محلّ المخاصمة روايتان متعارضتان إحداهما موافقة لأحد الخصمين والأُخرى موافقة للآخر ، ففي هذه الصورة يتخيّر الحاكم ، لكن لا ينحصر بالتخيير في المسألة الأُصولية ، بل يمكن أن يكون من قبيل التخيير في المسألة الفرعية وهي العمل ، فإنّ الحكم على طبق الرواية هو أحد موارد العمل بها ، وحينئذ يكون الحاكم مخيّراً بين الحكم على طبق هذه الرواية والحكم على طبق الرواية الأُخرى ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٧ ـ ٧٦٨.

١٩٦

ويكون ذلك من باب الفتوى بالتخيير في العمل ، لكن يكون الحاكم هو العامل بتلك الفتوى.

أمّا لو كان في البين حاكمان ، وكان كلّ منهما يروي رواية في المسألة تعارض رواية الحاكم الآخر ، فمع قطع النظر عن كون المسألة من قبيل قضاء التحكيم الذي هو مورد المقبولة (١) ، ينبغي أن يقال إنّ النافذ من الحكمين هو حكم السابق ، وأنّه لا يجوز للآخر أن يحكم على خلافه ، ولو اقترنا فالقاعدة تقتضي التساقط ، إلاّ أن نلتزم بالترجيح عملاً بالمقبولة.

والظاهر أنّ الحكم كذلك في صورة قضاء التحكيم إلاّفي نفوذ الحكم السابق وعدم جواز المداخلة للاحق ، فإنّ ذلك لا يتأتّى في قضاء التحكيم الذي هو مبني على مدخلية اجتماع الحكمين ، ففي صورة اجتماع الحكمين المتخالفين هل يكون المرجع هو ما تضمّنته المقبولة من الترجيح ، أو التساقط ، أو التخيير في العمل على أحد الحكمين إن اتّفقا على اختيار واحد منهما ، وإلاّ ففيه تأمّل وإشكال ، والمسألة محتاجة إلى مراجعة كتاب القضاء.

وقد تعرّض المرحوم المحقّق الميرزا حبيب الله قدس‌سره (٢) لذلك في إشكالاته على المقبولة ، فراجعه فإنّه بذلك حقيق.

ثمّ لا يخفى أنّ عدم تصوّر التخيير العملي بين مدلولي الروايتين لا ينحصر بما أُفيد من مقام التنازع ، بل هو جار فيما لو كان مدلول إحدى الروايتين هو الوجوب والأُخرى عدم الوجوب ، فإنّه لا معنى للتخيير العملي بين الوجوب وعدمه ، وهكذا الحال في جميع ما هو من هذا القبيل ، إلاّ إذا قلنا إنّ التخيير

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) بدائع الأفكار : ٤٣٥.

١٩٧

العملي مرجعه إلى الاباحة ، وفيه تأمّل.

نعم ، ينحصر التخيير العملي بما لو كان مفاد إحدى الروايتين هو وجوب أحد الضدّين والأُخرى وجوب الضدّ الآخر ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وبما ذكرنا يظهر أنّه لا مجال لاستصحاب بقاء التخيير بعد اختيار أحدهما ـ إلى قوله ـ نعم يمكن فرض الشكّ في كون التخيير في أيّ المسألتين ، بدعوى عدم استظهار أحد الوجهين من الأخبار ، فيشكّ في كون التخيير في المسألة الأُصولية أو في المسألة الفقهية ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بناءً على كون التخيير في المسألة الأُصولية لو ادّعى مدّع الشكّ في انقطاع التخيير بعد الاختيار ، وأراد التمسّك على بقائه بالاستصحاب ، كان الجواب عنه بعدم بقاء الموضوع في محلّه ، لأنّ الموضوع هو التحيّر ، ولا أقل من الشكّ في مدخليته في الحكم.

أمّا صورة الشكّ في كون التخيير تخييراً في المسألة الأُصولية أو كونه تخييراً في المسألة الفرعية ، فلا يستحسن الجواب عن التمسّك بالاستصحاب بعدم بقاء الموضوع ، بل لابدّ في الجواب عنه من التشبّث بطريقة أُخرى.

ولا بأس بنقل ما حرّرته عنه قدس‌سره هنا وهذا نصّه : إنّه بناءً على كون التخيير في المسألة الأُصولية يكون التخيير بدوياً ولا وجه لاحتمال كونه استمرارياً ، وبناءً على كونه في المسألة الفرعية يكون استمرارياً ولا وجه لكونه بدوياً ، وحينئذ لا يحصل الشكّ في كونه بدوياً أو استمرارياً كي يرجع في ذلك إلى الاستصحاب.

نعم ، لو لم يحصل الجزم بأحد الأمرين من كونه في المسألة الأُصولية وكونه في المسألة الفرعية ، لكان ذلك موجباً للشكّ في كون التخيير بدوياً أو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٨.

١٩٨

استمرارياً.

إلاّ أنّه لا معنى حينئذ للرجوع إلى الاستصحاب ، لعدم إحراز ما كان قبل عروض هذا الشكّ ، حيث إنّه بعد الاختيار لم يعلم أنّه كان قبل هذا مخيّراً في المسألة الأُصولية أم أنّه كان مخيّراً في المسألة الفرعية ، فما الذي يستصحبه.

نعم ، لو كان لنا قدر جامع بين نوعي التخيير وكان له أثر لأمكن استصحابه ، ولكان من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، إلاّ أنّه لا جامع بين التخييرين المذكورين ، وحينئذ لابدّ من المصير إلى الأُصول الأُخر.

والظاهر أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين التخيير والتعيين (١) وقد حقّقنا في محلّه أنّ الدوران بين التخيير والتعيين على ثلاثة أنحاء (٢) :

النحو الأوّل : دوران الأمر بين المذكورين أصالة ، كأن يتوجّه إلينا تكليف نشكّ في أنّه من قبيل التعيين أو من قبيل التخيير بينه وبين شيء آخر ، والمرجع في ذلك هو أصالة الاشتغال ، ولو قيل في ذلك بالبراءة ، فلا ريب في القول بالاشتغال في :

__________________

(١) ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يكون فيما بعد الاختيار ، وأمّا الحكم قبل الاختيارففيه تأمّل ، لأنّه حينئذ يكون من دوران الأمر بين الافتاء بالتعيين ، بأن يختار أحدهما فيفتي على طبقه بناءً على كون التخيير في المسألة الأُصولية ، وبين الافتاء بالتخيير بناءً على كونه في المسألة الفرعية. وإن شئت فقل : إنّه متردّد بين كونه مخيّراً في الفتوى على طبق أحدهما وبين كونه ملزماً بالافتاء بالتخيير العملي بين مدلولهما ، وحينئذ يكون من قبيل الدوران بين المتباينين ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) كما في فوائد الأُصول ٣ : ٤١٧ وما بعدها. وكذا أجود التقريرات ٣ : ٣٧٩ وما بعدها. ولا يخفى أنّ المذكور في تلك المباحث هو الأنحاء الثلاثة ، وقد أضاف قدس‌سره هنا النحو الرابع كما سيأتي قريباً.

١٩٩

النحو الثاني : وهو أن يكون ذلك الدوران من جهة التزاحم واحتمالِ أهميّة أحدهما المعيّن ، فيتعيّن ويكون تعيّنه تعجيزاً مولوياً عن الآخر ، فيكون مسقطاً للآخر دون العكس ، واحتمالِ تساويهما ، فيكون الاشتغال بكلّ منهما موجباً لسقوط الآخر ، والمختار أنّ المرجع في ذلك هو أصالة الاشتغال بما يحتمل أهميّته.

ثمّ إنّه لو قيل بالبراءة من التعيين في هذا النحو ، بناءً على أنّ التخيير بين المتزاحمين في مورد التساوي لا يكون من جهة كون الاشتغال بكلّ منهما تعجيزاً مولوياً عن الآخر ، بل من جهة أنّه بعد التحيّر يحكم العقل بالتخيير بينهما ، فإذا دار الأمر بين التعيين والتخيير بهذا المعنى ـ أعني حكم العقل بالتخيير ـ كان المرجع هو البراءة ، إلاّ أنّا قد حقّقنا في محلّه أنّه لا محيص عن القول بالاشتغال في :

النحو الثالث : وهو دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الحجّية ، كما في فتوى المجتهدين إذا احتمل كون أحدهما المعيّن أعلم من الآخر ، وهذا النحو لا إشكال في كون المرجع فيه هو الاشتغال وإن قلنا بالبراءة في النحو الثاني ، للقطع بكون فتوى من يحتمل أعلميته حجّة عليه ومبرئة للذمّة ، بخلاف فتوى من لا يحتمل أعلميته.

النحو الرابع : ما نحن فيه ، وهو دوران الأمر بين التعيين في مقام الحجّية بناءً على كون التخيير في المسألة الأُصولية ، وبين التخيير في العمل بناءً على كون التخيير في المسألة الفرعية ، وهذا أيضاً لا ينبغي الإشكال في كون المرجع فيه هو الاشتغال لا البراءة ، انتهى.

قلت : بل يمكن أن يقال : إنّ المقام ليس من قبيل الدوران بين التخيير

٢٠٠