أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

الأحكام الخمسة ، وحينئذ فما يدلّ على الوجوب يدلّ بالالتزام على نفي ما عداه فتقع المصادمة بين الدلالتين الالتزاميتين.

ثمّ في النحو الأوّل لمّا كان خبر الوجوب يدلّ بالالتزام على نفي ما عدا الوجوب ، وخبر التحريم أيضاً كذلك ، كان اللازم التبعيض في الدلالة الالتزامية لكلّ منهما ، بمعنى أنّا نسقط الدلالة الالتزامية لخبر الوجوب في نفي التحريم ، ونسقطها من خبر التحريم في نفي الوجوب ، وتبقى دلالتهما الالتزامية في نفي ما عداهما ، وهذا غريب ، لأنّ أقصى ما عندنا هو التبعيض في الدلالة المطابقية عن الالتزامية ، أمّا التبعيض في نفس الدلالة الالتزامية فهو غريب.

ثمّ بعد اللتيا والتي يبقى الكلام في وجه بقاء الدلالة الالتزامية بعد سقوط المطابقية ، بل بعد سقوطها في بعض مواردها ، وكلّ هذه الأُمور متفرّعة عن تمامية كون نفي المقابل من الدلالات [ وليس كذلك ] ، بل هو من الاستكشافات.

ثمّ نعود لما نحن فيه فنقول : إنّ هذا التعارض كما لا ينفي الرجوع إلى العموم لا ينفي الرجوع إلى البراءة من الوجوب أو التحريم ، إلاّ إذا كان لنا من الخارج علم إجمالي بأنّ الحكم على طبق أحدهما ، ويكون ذلك من قبيل الرجوع إلى البراءة في مورد تعارض النصّين في مسألة دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّه لولا الحكم التعبّدي بالتخيير بين الخبرين لكان مقتضى القاعدة هو الرجوع إلى البراءة من كلّ منهما.

ومن ذلك يظهر الإشكال فيما أُفيد في مسألة الظهر والجمعة ، فإنّ الثالث إن كان هو البراءة منهما فالظاهر أنّه لا مانع منه لو لم يكن في البين إجماع على وجوب إحداهما ، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوبهما معاً.

١٤١

قوله : بل مفاد أحدهما وجوب خصوص فريضة الظهر ، ومفاد الآخر وجوب خصوص فريضة الجمعة ، وليس لكلّ منهما دلالة التزامية على عدم وجوب ما عدا المؤدّى ، فلا مانع من سقوط كلّ منهما في إثبات المؤدّى بالمعارضة والرجوع إلى البراءة عن وجوب فريضة ... الخ (١).

لا يخفى أنّهما في حدّ أنفسهما وإن لم يكن لكلّ منهما دلالة التزامية على عدم وجوب ما عدا المؤدّى ، إلاّ أنّهما لهما الدلالة على ذلك بواسطة الإجماع على عدم لزوم فريضتين ، فالرواية الدالّة على وجوب الظهر تكون بواسطة هذا الإجماع دالّة بالالتزام على عدم وجوب غير الظهر ، فلو كان هناك عموم يدلّ على وجوب فريضة ثالثة غيرهما لكانا متّفقين على نفيه بالدلالة الالتزامية.

وأمّا البراءة عن وجوب فريضة ، فإن كان المراد به هو البراءة عن غيرهما فهو موافق لهما ، وإن كان المراد به هو البراءة عن كلّ فريضة حتّى الظهر والجمعة كما هو ظاهر العبارة ، فذلك أمر ثالث اتّفقا على نفيه بالدلالة الالتزامية ، لأنّ وجوب الظهر مثلاً يلزمه ارتفاع حكم البراءة ، كما أنّ وجوب الجمعة يلزمه ذلك.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ البراءة ليست بأمر ثالث ، لأنّ المراد بالأمر الثالث ما يكون حكماً شرعياً على خلاف كلّ من الدليلين المتعارضين ، وفيه ما لا يخفى.

قوله : لمكان قبح التعبّد بالأمارات مع تمكّن المكلّف من استيفاء المصلحة الواقعية ... الخ (٢).

تقدّم التفصيل في أوائل تعارض الأُصول من خاتمة الاستصحاب ، وبيان الحاجة إلى المصلحة السلوكية في مورد انفتاح باب العلم وفي مورد انسداده على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٩.

١٤٢

كلّ من صورتي التمكّن من الاحتياط وعدم التمكّن منه ، فراجع الصور بتمامها (١).

قوله : ونحن قد منعنا عن المصلحة السلوكية حتّى في صورة انفتاح باب العلم ، وقلنا بكفاية مصلحة التسهيل في صحّة التعبّد بالأمارات ولو مع تمكّن المكلّف من إدراك الواقع ... الخ (٢).

قد تقدّم في المبحث المشار إليه (٣) أنّ مجرّد التسهيل لا يصحّح الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ، إلاّ أن يكون في نفس التسهيل مصلحة يتدارك بها ما يفوت المكلّف ، فراجع.

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم ـ إلى قوله ـ والذي يسهّل الخطب بطلان أصل المبنى وفساده ... الخ (٤).

لا يخفى أنّ القول بالسببية لمّا كان راجعاً إلى التصويب ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون الحكم الواقعي الثانوي الناشئ عن الأمارة تابعاً لحجّيتها ، فالقول بأنّها سبب للحكم الواقعي الثانوي لا يعني أنّها بمجرّد وجودها تكون سبباً لذلك الحكم وإن لم تكن تلك الأمارة حجّة ، بل إنّما تكون سبباً له بعد كمال حجّيتها من حيث السند والظهور.

وحينئذ فالأمارة المبتلاة بالمعارض لا تكون حجّة ، وإذا لم تكن حجّة لم تكن سبباً لذلك الحكم الواقعي الثانوي ، وبناءً على ذلك لا يكون القول بالسببية ملازماً لإسقاط قواعد التعارض من الترجيح والتساقط أو التخيير ، بل إنّ على

__________________

(١) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٢٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٩.

(٣) راجع المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٢٧.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٩ ـ ٧٦٠.

١٤٣

القائلين بالسببية أوّلاً هو إعمال قواعد التعارض وإكمال الحجّية بسدّ ثغور عدم الحجّية من ناحية السند والظهور ، وبعد سدّ هذه الثغور تتحقّق حجّية تلك الأمارة وتتحقّق سببيتها ، فلا يكون القول بالسببية ملازماً لكون التعارض بين الأمارتين من باب التزاحم ، بل المتعيّن أوّلاً هو إخراج تلك الأمارة عن عالم عدم الحجّية باعمال قواعد التعارض من الترجيح إن كان في البين مرجّح ، وإن لم يكن في البين مرجّح ، فإن قلنا بالتساقط فلا حجّة في البين كي تدخل في السببية ، وإن قلنا بالتخيير كان ما هو المختار هو الحجّة ، وكانت حجّيته على نحو السببية.

والحاصل : أنّ القول بالسببية فرع الحجّية ، وهي متوقّفة على إعمال قواعد التعارض من التساقط أو الترجيح والتخيير عند عدم المرجّح ، فلا يتحقّق صغرى لاجتماع الحجّتين كي يتكلّم على كونهما بناءً على السببية من قبيل المتزاحمين ، هذا أوّلاً.

وثانياً : نقول لو أُغضي النظر عن ذلك ، وقلنا إنّ السببية تكون ثابتة للأمارة قبل إعمال قواعد التعارض ، بمعنى أنّ ما هو السبب من الأمارات ما يكون في حدّ نفسه حجّة وإن كان مبتلىً بالمعارض ، والأوّل مبني على أنّ السبب هو الحجّة الفعلية ، بخلاف الثاني فإنّه مبني على أنّ السبب هو الحجّة الشأنية.

وبناءً عليه فالذي ينبغي حينئذ هو النظر إلى هذه السببية المدعاة ، فنقول : إنّ المراد بها هو أنّ قيام الأمارة يكون سبباً لوجوب العمل على طبقها الذي هو عبارة عن وجوب التصديق ، ولزوم البناء على أنّ ما تحكيه هو الواقع ، سواء كان ما تؤدّي إليه هو أحد الأحكام التكليفية كالوجوب أو الحرمة أو الاباحة أو الاستحباب أو الكراهة ، أو كان ما تؤدّي إليه هو أحد الأحكام الوضعية مثل الطهارة والنجاسة والملكية والرقّية ، أو غير ذلك ممّا تقوم عليه الأمارة من أحكام

١٤٤

وضعية وآثار شرعية من أجزاء وشرائط وموانع وحدود وديات ، وغير ذلك من الآثار من أوّل الفقه إلى آخره.

فمعنى سببية الأمارة في جميع ذلك هو سببيتها في وجوب العمل على طبقها ولو من حيث الاعتقاد والافتاء ، وإلاّ فأيّ أثر عملي في الأمارة القائمة على إباحة شرب العصير مثلاً كي نتكلّم في معنى سببيتها لذلك الأثر العملي غير الافتاء والاعتقاد ، فلو قلنا بسببية الأمارة في الفقه من أوّله إلى آخره لم يكن له معنى محصّل إلاّوجوب العمل على طبقها ، فإن كان هناك عمل وتعلّقت الأمارة بوجوبه كان معنى وجوب العمل على طبقها هو وجوب ذلك العمل ، وهكذا الحال في الأمارة القائمة على حرمة العمل ، فإنّ محصّل وجوب العمل على طبقها هو لزوم ترك ذلك العمل ، أمّا الأمارة القائمة على إباحة الفعل فلا محصّل لوجوب العمل على طبقها إلاّوجوب الفتوى بإباحته أو وجوب الاعتقاد بإباحته ، وبناءً عليه يكون محصّل السببية هو لزوم الجري على طبقها إمّا عملاً واعتقاداً أو اعتقاداً فقط.

وحينئذ ففي مورد اختلاف الأمارتين بأن دلّت إحداهما على وجوب الشيء والأُخرى دلّت على حرمته ، أو دلّت إحداهما على إباحته والأُخرى دلّت على استحبابه ، إلى غير ذلك من موارد التعارض ، لا يكون ذلك الاختلاف إلاّمن قبيل التزاحم ، إذ لا محصّل للسببية على هذا الوجه إلاّلزوم الأخذ بمقتضى الأمارة ، سواء كان وجوباً أو حرمة أو إباحة أو استحباباً أو غير ذلك من الآثار الشرعية.

وإذا كان الأخذ بكلّ من الأمارتين غير مقدور للمكلّف لتدافعهما وتنافيهما في كيفية الأخذ بكلّ منهما ، لم يكن ذلك إلاّمن قبيل التزاحم ، ولا يكون قوله :

١٤٥

يجب الأخذ بكلّ أمارة إلاّمن قبيل قوله : يجب إنقاذ كلّ غريق ، في أنّه عند اتّفاق فردين من الأمارات المتعارضة لا يمكن الجمع بينهما في الأخذ بكلّ منهما ، فتدخل المسألة في باب التزاحم ، من دون فرق في ذلك بين كون مؤدّى الأمارتين من قبيل الضدّين أو المتناقضين ، كانا متضمّنين لحكم إلزامي أو غير متضمّنين إلاّ لمثل إباحة الشيء واستحبابه ، فإنّ جميع ذلك لا يمكن فيه الأخذ بكلّ من الأمارتين ولو بمعنى الافتاء بمضمون كلّ منهما.

لا يقال : إنّ ذلك بعينه جارٍ في الطريقية ، إذ لا ريب عليها في وجوب تصديق العادل.

لأنّا نقول : قد حقّق في محلّه (١) أنّ الطريقية مجرّدة من كلّ أمر تعبّدي حتّى وجوب التصديق ، وليس في البين إلاّ الحجّية والكشف والطريقية ، فلاحظ مبحث جعل الطرق والأمارات ، ومبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية.

نعم ، إنّ من التزم بوجود أحكام ظاهرية تكليفية ولو بمثل صدّق العادل ، ينبغي أن يلتزم بالتزاحم ، وحينئذ يلزمه تقديم الأقوى إن كان ، وإلاّ كان الحكم هو التخيير.

لكن ما هي القوّة الموجبة للترجيح؟ الظاهر أنّها ليست هي القوّة في الملاك ، بل هي القوّة في ملاك وجوب التصديق مثل الأعدلية والأوثقية في الراوي ، وحينئذ يكون ذلك هو عين ما أفادته الروايات ، ويكون مقتضى القاعدة هو الترجيح بحسب السند ، ومع التساوي يكون الحكم هو التخيير ، ويكون ما تضمّنته تلك الروايات مطابقاً للقاعدة ، بل لعلّ ذلك كذلك حتّى في مثل تعارض البيّنات وحتّى على تقدير كون المجعول هو الحجّية ، بناءً على أنّ الأعدلية مثلاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٠٥.

١٤٦

موجبة لقوّة ملاك الحجّية على ما لا يكون أعدل ، فلاحظ وتأمّل. هذا كلّه لو كان معنى السببية هو ما ذكرناه من كون الأمارة سبباً لوجوب الأخذ بها ولو في مقام الاعتقاد والفتوى.

وأمّا لو كان المراد بها هو كون قيام الأمارة على حكم شرعي تكليفي أو وضعي سبباً لجعل ذلك الحكم الشرعي في حقّ من قامت عنده الأمارة ، بحيث يكون قيام الأمارة سبباً لتحقّق عنوان ثانوي في حقّ من قامت عنده ، ويكون ذلك العنوان الثانوي موضوعاً لحكم واقعي ثانوي مطابق لما تؤدّي إليه تلك الأمارة ، فمن قامت عنده الأمارة على حرمة النبيذ يكون معنوناً بعنوان كونه ممّن قامت الأمارة عنده على حرمة النبيذ ، ويكون هذا العنوان الثانوي موضوعاً لحرمة النبيذ عليه ، وإن كان النبيذ في حدّ نفسه حلالاً في الواقع باعتبار عنوانه الأوّلي.

وهكذا الحال في من قامت الأمارة عنده على حلّية النبيذ ، يكون قيام الأمارة عنده موجباً لانطباق عنوان ثانوي عليه ، ويكون ذلك العنوان الثانوي موجباً لحلّية النبيذ له ، وإن كان هو في حدّ نفسه حراماً في الواقع باعتبار عنوانه الأوّلي.

وحاصل حجّية الأمارة أنّ قيام الأمارات يكون موجباً لتحقّق عناوين ثانوية تكون تلك العناوين الثانوية موضوعات لأحكام شرعية ، غايته أنّ تلك الأحكام تكون على طبق مؤدّيات تلك الأمارات ، وحينئذ يكون حال هذه العناوين في استدعائها تلك الأحكام وموضوعيتها لها حال العناوين الأوّلية في استدعائها الأحكام المجعولة وكونها موضوعات لتلك الأحكام مثل عنوان العالم في وجوب الاكرام والفاسق في حرمة الاكرام ، فلا يكون اجتماع هذه العناوين الثانوية عند قيام الأمارات المختلفة المتدافعة إلاّكحال اجتماع العناوين الأوّلية المختلفة

١٤٧

الأحكام في كون الاجتماع من قبيل التزاحم تارةً وتعارض العموم من وجه أُخرى ، ومن باب اجتماع الأمر والنهي ثالثة ، هذا في الأحكام الالزامية.

وفي الأحكام غير الالزامية مثل إباحة الشيء وكراهته أو استحبابه ، لا تكون أيضاً إلاّمثل اجتماع عنوان أوّلي حكمه الاستحباب مثلاً وعنوان أوّلي آخر حكمه الاباحة مثلاً ، فلا يكون بينهما تدافع أصلاً ، وهكذا الحال في مثل الطهارة والنجاسة ، فلا يكون اجتماع الأمارة القائمة على نجاسة الشيء مع الأمارة القائمة على طهارته إلاّكحال اجتماع ملاقاة الماء القليل للبول مع ملاقاته للثوب الطاهر ، في أنّ الأوّل حكمه النجاسة والثاني حكمه الطهارة ، إلى آخر ما يرد من تعارض الروايات.

وحاصل الأمر : أنّه بناءً على هذا الوجه ـ أعني كون قيام الأمارة سبباً لجعل حكم شرعي على طبقها لكونها محقّقة لموضوع ثانوي يكون حكمه مطابقاً لمؤدّى الأمارة ـ لا يكون تعارض الأمارات إلاّمن قبيل اجتماع العناوين المختلفة الأحكام في كونه من قبيل التزاحم ، أو تعارض العموم من وجه ، أو من باب الاجتماع ، أو لا يكون إلاّمن قبيل اجتماع المقتضي وغير المقتضي.

نعم ، لو كان من قبيل التعارض لم يكن إلاّمن قبيل العموم من وجه حتّى في الأمارة القائمة على وجوب الشيء والأُخرى على حرمته ، لأنّ المتحصّل من السببية على هذا الوجه هو أنّ من قامت الأمارة عنده على وجوب شيء كان ذلك الشيء في حقّه واجباً ، سواء قامت عنده أمارة أُخرى على حرمته أو لم تقم ، وهكذا الحال من طرف العكس ، فيجتمعان في من قامت عنده الأمارتان ، وينفرد كلّ منهما عن الآخر في من لم تقم عنده إلاّ إحدى الأمارتين.

وهكذا الحال في كلّ ما يندرج في التعارض من هذا الباب ، مثل ما لو كان

١٤٨

مفاد إحدى الأمارتين هو وجوب الشيء ومفاد الأُخرى عدم وجوبه ، فإنّه يكون من قبيل انطباق عنوانين عليه ، وكان حكم أحد العنوانين هو الوجوب وحكم العنوان الآخر هو عدم الوجوب ، فإنّه يندرج في تعارض العموم من وجه ، إذ لا يكون ذلك إلاّمن قبيل قولنا : العالم يجب إكرامه وغير الهاشمي لا يجب إكرامه ، وقد اجتمعا في العالم غير الهاشمي.

ولو كان مفاد إحدى الأمارتين هو وجوب الشيء ومفاد الأُخرى هو حرمة نفس ذلك الشيء ، كان التعارض بالنسبة إلى دليل حجّيتهما بناءً على السببية بهذا المعنى من قبيل تعارض العموم من وجه أيضاً ، ولا دخل لذلك بمنزلة النذر وغيرها من الأسباب المعاملية ، ولا محصّل للحكم بالتساقط في مثل ذلك بالنسبة إلى نفس الروايتين. نعم يكون التساقط في مورد هذا الاجتماع لاحقاً لقوله : ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب وما قامت الأمارة على حرمته فهو حرام ، ويكون مورد اجتماع الأمارتين الذي هو مورد اجتماع

هذين العمومين محكوماً بعدم إمكان إدخاله تحت كلّ منهما ، فيلزم الرجوع فيه إلى حكم آخر من أصل ونحوه.

وهذا الطريق وإن اشترك في سقوط كلا الأمارتين مع الطريق الذي أُفيد في الكتاب ، إلاّ أنّ الجهة في هذا السقوط غير الجهة في ذلك السقوط.

ولو قامت إحدى الأمارتين على حرمة الكون في الكنيسة ، وقامت الأُخرى على وجوب صلاة جعفر مثلاً يوم الجمعة ما بين طلوع الشمس وزوالها ، كانت صلاة من قامت عنده الأمارتان في الكنيسة من قبيل اجتماع الأمر والنهي.

ولو قامت إحداهما على وجوب شيء والأُخرى على وجوب ضدّه ، كانت المسألة من باب التزاحم ، ويكون حال الأمارتين المذكورتين بالنسبة إلى قوله :

١٤٩

كلّ ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب ، كحال الغريقين بالنسبة إلى قوله : انقذ كلّ غريق.

قوله : ألا ترى أنّه لو نذر الشخص فعل شيء ونذر وكيله ـ بناءً على صحّة الوكالة في النذر ـ ترك الشيء لا يمكن القول بالتخيير ... الخ (١).

الأولى أن يمثّل لذلك بما لو وكّل زيداً وكالة مطلقة على بيع داره ، ووكّل عمراً أيضاً على بيع كتابه ، فاشترط الأوّل للمشتري على البائع أن يفعل [ الفعل ] الفلاني وشرط الثاني ترك ذلك الفعل أو شرط فعل ضدّه ، فإن سبق أحدهما الآخر بطل اللاحق لعدم إمكان ذلك الشرط فيه ، لكونه حينئذ مملوكاً عليه للأوّل ضدّه أو نقيضه ، نظير ما لو باع هو داره من زيد ثمّ باعها وكيله من عمرو.

ولو وقع العقدان المشتملان على الشرط المزبور في آن واحد بطلا معاً ، لما ذكرناه من كونهما من قبيل ما لو وقع بيعه الدار من زيد وبيع وكيله لها من عمرو في آن واحد ، ومن الواضح أنّ هذا السقوط في كلّ منهما ليس من جهة تعلّق أحدهما بوجوب الفعل والآخر بنقيضه ، بل هو ـ أعني السقوط ـ متحقّق فيما لو اشترط أحدهما فعل شيء وشرط الآخر ضدّه ، فلا يتمّ ما أُفيد من تسليم المزاحمة والتخيير فيما لو قامت الأمارة على وجوب فعل وقامت الأُخرى على وجوب ضدّه ، ومنعها فيما لو قامت إحدى الأمارتين على وجوب شيء وقامت الأُخرى على عدم وجوبه أو على حرمته ، قياساً على عدم جريان المزاحمة والتخيير في السبب المعاملي ، فإنّه لو تمّ هذا القياس في الصورة الثانية لجرى في الصورة الأُولى ، قياساً على ما لو نذر أو شرط هو فعل شيء ونذر وكيله أو شرط فعل ضدّه ، فإنّه لا يجري فيه التزاحم والتخيير بل يجري فيه التساقط ، فينبغي أن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٠.

١٥٠

يقال بذلك في الأمارتين القائمة إحداهما على وجوب الشيء والأُخرى على وجوب ضدّه.

والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من الفرق بين الأسباب المعاملية والعناوين الثانوية ، وأنّ عدم جريان التزاحم والتخيير في الأسباب المعاملية ولزوم التساقط فيها لا يجري في اجتماع العناوين المحكومة بأحكام شرعية متضادّة أو متناقضة أو متخالفة ، الذي يدخلها تارةً في باب التزاحم ، وأُخرى في باب اجتماع الأمر والنهي ، وثالثة في تعارض العموم من وجه ، ورابعة في اجتماع المقتضي واللاّمقتضي ، على اختلاف الأحكام اللاحقة لتلك العناوين المجتمعة.

بل يمكن الفرق بين ما نحن فيه من السببية وبين مثل لزوم إطاعة الوالدين فيما لو أمر أحدهما بخلاف ما أمر به الآخر ، فإنّ أوامرهما بالنسبة إلى وجوب الاطاعة من قبيل الأسباب المعاملية في الجهة التي شرحناها ، وهو أنّه لا ينفذ أمر أحدهما بخلاف ما سبقه من أمر الآخر ، ولو اقترنا سقطا.

نعم ، لو قلنا إنّ في البين أحكاماً ثانوية مجعولة على طبق ما يأمران ، دخل عنوان ما أمر به الوالدان تحت العناوين الثانوية ، وكان الكلام فيه عين الكلام فيما تقدّم من أنّه ربما يكون اختلافهما من قبيل التزاحم وربما كان من قبيل التعارض إلى آخره ، كلّ ذلك بالنسبة إلى تلك القضية العامّة القائلة بأنّ ما يأمر به الوالدان هو حكم الله في حقّ ولدهما.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام منافٍ لما هو موجود في الكتاب ، قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه (١) بعد تقدّم الأبحاث المتعدّدة فيما يتعلّق بباب التعارض ، ومنها البحث عن الأمارتين المتعارضتين ، وهل يكون التعارض بناءً

__________________

(١) درس ليلة الاثنين ٢١ ج سنة ١٣٤٥ [ منه قدس‌سره ].

١٥١

على السببية من باب التزاحم ، قال ما هذا لفظه فيما حرّرته عنه قدس‌سره : والحاصل أنّ مراد الشيخ قدس‌سره أن يفرق بين القول بالطريقية والقول بالسببية ، وأنّه على القول بالطريقية يكون مقتضى القاعدة في المتعارضين هو التساقط ، وأنّ أخبار الترجيح على خلاف القاعدة ، وعلى القول بالسببية يكون التعارض من قبيل التزاحم ومقتضى القاعدة فيه هو الترجيح ، فتكون أخبار الترجيح والحكم بترجيح ما كان راجحاً والتخيير مع عدم المرجّح على القاعدة.

وفيه : أنّ إرجاع باب التعارض إلى باب التزاحم لا يتمّ ، سواء قلنا بالسببية الصرفة المعبّر عنها بالسببية التصويبية ، أو قلنا بالسببية الطريقية التي يقول هو بها أعني وجود المصلحة في سلوك الطريق.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ التنافي بين الأمارتين إمّا لأجل أنّ مؤدّى إحداهما مناقض لمؤدّى الأُخرى ، بأن يكون مفاد إحداهما هو وجوب شيء ومفاد الأُخرى عدم وجوبه أو حرمته أو إباحته أو استحبابه أو كراهته ، وإمّا لأجل أنّ مفاد إحداهما مضادّ لمفاد الأُخرى ، بأن يكون مؤدّى إحداهما وجوب شيء ومؤدّى الأُخرى وجوب ضدّه ، ولا يمكن الجمع بينهما ، إمّا لأجل أنّ مورد ذينك الضدّين فعل واحد ، كأن تؤدّي إحدى الأمارتين إلى وجوب الجهر في قراءة ظهر يوم الجمعة والأُخرى إلى وجوب الاخفات فيها ، والمفروض أنّه ليس لنا إلاّظهر واحدة ، وإمّا لأجل قيام الدليل القطعي على عدم وجوب الجمع بينهما ، بل تدلّ إحدى الأمارتين على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة وتدلّ الأُخرى على وجوب صلاة الجمعة ، مع قيام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

وعلى أي حال ، لا يكون ذلك من باب التزاحم ، فإنّ ضابط التزاحم هو أن

١٥٢

يكون كلّ واحد من الحكمين غير مناف للآخر في مقام الجعل والتشريع ، وإنّما تحصل المنافاة بينهما في مقام الامتثال ، لاتّفاق التضادّ بينهما وعدم إمكان الجمع بين متعلّقيهما.

ولا ريب أنّ التنافي الواقع في جميع هذه الأمثلة لم يكن في مقام الامتثال ، وإنّما كان في مقام الجعل والتشريع ، لاستحالة انقداح إرادة الفعل الواحد مع عدم إرادته في نفس المولى ، أو انقداح إرادته مع إرادة عدمه أو إرادة ضدّه إلى آخر الأمثلة ، فلا يكون ذلك من باب التزاحم في مقام الامتثال ، وإنّما يكون من التزاحم في جهات الأحكام في مقام تأثيرها في تشريع الأحكام.

نعم ، في الصورة الأخيرة وهي ما لو أدّت إحدى الأمارتين إلى وجوب شيء ، وأدّت الأُخرى إلى وجوب شيء آخر مع قيام الإجماع على عدم وجوبهما ، لا يكون التزاحم في مقام الجعل والتشريع ، ويكون من باب التزاحم في مقام الامتثال ، إلاّ أنّه لا يكون ملاكه كون أحد الخطابين رافعاً للقدرة على امتثال الآخر ، بل يكون ملاكه أنّ أحدهما رافع لمصلحة الآخر ، فيكون ذلك من قبيل التزاحم في باب الزكاة ، كما ذكرناه في من كان مالكاً لخمس وعشرين من الإبل وفي وسط الحول صارت ستّاً وعشرين.

وأمّا على الثاني ـ أعني السببية الطريقية ـ فلما قدّمناه سابقاً من أنّ المصلحة لمّا كانت في سلوك الطريق كان تحقّقها متوقّفاً على كونه طريقاً معتبراً ، ولا يمكن أن يكون كلّ منهما طريقاً معتبراً ، لأجل كون كلّ منهما منافياً في مقام الحكاية للآخر ، فلا يمكن أن يشملهما دليل الحجّية.

ولا يخفى أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من السببية في هذا المقام إنّما هو هذا المعنى الثاني ، لأنّه هو المختار عنده ولتصريحه بكون الحكم المجعول ظاهرياً ، فإنّه

١٥٣

على المعنى الأوّل من السببية يكون الحكم المجعول واقعياً. انتهى.

قلت : لو كان مراد القائلين بالسببية أنّ الشارع لم يجعل حكماً كلّياً على عنوان ما قامت الأمارة على حكمه ، بل إنّما يكون إنشاء الحكم الشرعي وتحقّقه عند قيام الأمارة ، بحيث إنّه لم يكن قبل قيامها حكم على طبقها لا جزئي ولا كلّي إنشائي ، وإنّما يكون جعل الحكم وإنشاؤه من جانب الشارع عند قيامها ، فيكون الشارع عند قيام كلّ أمارة يجعل لنا حكماً وينشؤه على طبقها عند قيامها ، فلا جعل ولا تشريع قبل قيامها ، وإنّما يكون الجعل والتشريع عند قيامها.

فعلى هذا التقدير يكون التزاحم عند قيام الأمارتين المختلفتين واقعاً في مقام التشريع ، وحيث إنّ جعل الحكمين المختلفين المتنافيين محال في حقّ الشارع ، وأنّه لابدّ أن يكون الحكم في تلك الواقعة على طبق ما هو الأقوى ملاكاً في نظر الشارع ، وعلى تقدير التساوي بينهما في نظره يكون الحكم في تلك الواقعة على خلاف كلّ منهما ، ولا طريق للمكلّف إلى إحراز ذلك الحكم المجعول في تلك الواقعة ، فيمكن القول في ذلك بأنّ تكليفه على البناء على التساقط ، كما يمكن القول بأنّ تكليفه يكون على التخيير بينهما.

ولكن ينبغي القطع بأنّ هذا ليس هو المراد للقائلين بالسببية ، بل مرادهم بذلك هو أنّ الشارع قد جعل أحكاماً واقعية للأشياء بعناوينها الواقعية ، وهناك أحكام كلّية قد جعلها الشارع على العناوين الثانوية وهي ما قامت عليه الأمارة ، ليكون محصّل ذلك هو أنّ ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب ، وما قامت على حرمته فهو حرام ، وما قامت على إباحته فهو مباح ، إلى آخر الأحكام الفقهية

١٥٤

تكليفية كانت أو وضعية (١) ، وتكون نسبة هذه الأحكام الثانوية إلى الأحكام الواقعية الأوّلية نسبة الكسر والانكسار في مورد المخالفة ونسبة التأكّد في مورد الموافقة.

وأمّا نسبة هذه الأحكام الثانوية بعضها إلى بعض في مورد اختلاف مؤدّيات الأمارات وتدافعها وتعارضها ، فهي كنسبة تلك الأحكام الواقعية الأوّلية بعضها إلى بعض عند اجتماع موضوعاتها في كونها من قبيل التزاحم تارةً ، والتعارض أُخرى ، واجتماع الأمر والنهي ثالثة ، ومن قبيل اجتماع المقتضي واللاّمقتضي رابعة ، على ما تقدّم تفصيله ، فراجع وتأمّل.

والذي تلخّص : أنّ القول بالسببية إن كان المراد هو السببية بعد تحقّق الحجّية ، كان اللازم لهم هو إجراء حكم التعارض على الأمارات المتعارضة ، وإن كان المراد هو سببية ما يكون في حدّ نفسه حجّة ولو مع وجود المعارض ، وكان المسبّب هو وجوب العمل على طبق الأمارة ولو بنحو الاعتقاد والفتوى ، كان اللازم هو إجراء قواعد التزاحم في جميع الأمارات المتعارضة ، وإن كان المسبّب المجعول هو ما تؤدّي إليه الأمارة ، كان حال هذا العنوان ـ وهو ما قامت الأمارة على وجوبه فهو واجب وما قامت على حرمته فهو حرام إلخ ـ حال العناوين الأوّلية واجتماعها في كونه من قبيل التزاحم تارةً ، والتعارض أُخرى ، واجتماع الأمر والنهي ثالثة ، واجتماع المقتضي واللاّمقتضي رابعة ، وإن كان المسبّب في كلّ أمارة هو المجعول بنفسه لا بذلك العنوان الكلّي ، بحيث إنّه لم يكن قبل قيام هذه الأمارة مثلاً تشريع أصلاً ، كان تعارض الأمارات من قبيل التزاحم في مقام

__________________

(١) [ في الأصل : « موضوعية » بدل « وضعية » ].

١٥٥

الجعل والتشريع.

قوله : هذا ، ولكن للنظر فيه مجال ، فإنّ المصلحة السلوكية على القول بها إنّما تكون قائمة بالطريق ، فإنّ سلوك الطريق ذو مصلحة ... الخ (١).

الظاهر أنّ هذا الإشكال هو عين ما وجّهناه من الإشكال أوّلاً على القول بالسببية التصويبية من كونها في طول الحجّية ، وأنّه لابدّ عليها من إصلاح التعارض أوّلاً ثمّ بعد سلامة الأمارة من حيث الدلالة والسند نقول بأنّ حجّيتها من قبيل السببية ، فراجع (٢) وتأمّل.

قوله : مضافاً إلى أنّ التزاحم إنّما يكون بين الأحكام الشرعية ، ولا يكفي التزاحم بين المصلحتين كما تقدّم (٣).

يمكن الجواب عنه بالالتزام بتحقّق التكليف الناشئ عن المصلحة السلوكية وذلك التكليف هو لزوم التطرّق بذلك الطريق إلى الواقع ، ونعبّر عنه بلزوم العمل على طبق الأمارة الذي هو عبارة عن الحكم الظاهري.

قوله : هذا كلّه إذا وقع التعارض بين الطرق والأمارات في الأحكام التكليفية الشرعية ، وإن وقع التعارض بينها في حقوق الناس ، فقد يكون التعارض موجباً للتساقط كما لو تداعى شخصان ... الخ (٤).

قد عرفت أنّ التعارض لا ينحصر في موارد الأحكام التكليفية ، بل إنّه جارٍ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦١.

(٢) الصفحة : ١٤٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦١.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٢.

١٥٦

في جميع موارد الشبهات الحكمية من أوّل الفقه إلى آخره ، وقد عرفت (١) الحكم في ذلك على القول بالسببية.

وأمّا الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية ، فالظاهر أنّ القائلين بالسببية لا يقولون بها فيما يجري في الشبهات الموضوعية ، وإنّما يقولون بذلك في خصوص الشبهات الحكمية ، ولو فرضنا أنّهم يقولون بالسببية حتّى فيما يجري من الأمارات في الشبهات الموضوعية بالنسبة إلى ما يترتّب على تلك الموضوعات من الأحكام الشرعية ، فالكلام فيها حينئذ هو الكلام في الشبهات الحكمية على ما مرّ تفصيله.

وأمّا باب تعارض البيّنات في مقام الخصومات والمنازعات فله أحكام أُخر وقواعد خاصّة مذكورة في كتاب القضاء.

وأمّا باب الأسباب في المعاملات وما يلحق بها من أسباب الملك كالحيازة ونحوه ، فهو أيضاً باب آخر له حكمه الخاصّ به كما عرفت تفصيله فيما تقدّم (٢).

ولا بأس بذكر ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، فإنّ فيه بعض الاختلاف لما هو محرّر في هذا الكتاب ، وهذا نصّه : إنّ تعارض الأسباب في باب العقود يكون موجباً للبطلان في كلا السببين ، كما لو صدر منه عقد وصدر من وكيله عقد مناف لعقده ، وفي باب الأمارات إن كانت السببية بالنسبة إلى حكم آخر غير المؤدّى وكان في حقوق الناس فحكمه التنصيف ، كما في تعارض البيّنتين ، فإنّ البيّنة سبب لأن يكون لذيها حقّ المطالبة بالحكم على طبق بيّنته ، فيكون قيامها سبباً لحكم الحاكم بمالكية صاحبها ، وهكذا الحال من الطرف الآخر ، فيكونان حينئذ

__________________

(١) في الصفحة : ١٤٣ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٥٠ وما بعدها.

١٥٧

نظير وضع شخصين يدهما على ما يملك بالحيازة ، ولا ريب أنّ الحكم في ذلك هو التنصيف ، وإلى الآن لم نتصوّر هذه السببية في حقوق الله تعالى.

وأمّا إذا كانت سببية الأمارة بالنسبة إلى الحكم الذي هو مؤدّاها ، فهو غير متصوّر على مذهب المخطّئة ، وأمّا على مذهب المصوّبة فالذي ينبغي أن يقال : إنّه إذا كان مؤدّى إحداهما وجوب شيء والأُخرى وجوب ضدّه مع عدم إمكان الجمع بينهما ، فالحكم هو الرجوع إلى باب التزاحم ، وإن كان مؤدّى إحداهما هو وجوب شيء ومؤدّى الأُخرى حرمته فالحكم هو التخيير ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذه الأسطر مجمل من تفصيلات أفادها قدس‌سره في ليالي متفرّقة يفصل بينها تعطيلات ، فلذلك لم أتمكّن من ضبط ما أفاده مفصّلاً مع ما كنت عليه من الابتلاء بكثرة الأشغال ، هذا من ليلة ٢١ ج ٢ سنة ١٣٤٥ إلى ليلة ٢٦ رجب ، وقد أفاد في تلك الليلة أنّ الأمارتين المتعارضتين بالنسبة إلى نفي الثالث حجّة ، وأمّا بالنسبة إلى الأصل ، فإن كان احتياطاً على خلافهما أسقطاه ، لدلالة كلّ منهما على نفي موضوعه وهو احتمال التكليف في الواقع ، وإن كان المخالف لهما غير الاحتياط كان جارياً بعد تساقطهما ، لأنّ موضوعه عدم العلم بالتكليف الواقعي ، وأمّا الأصل الموافق لإحداهما فيجري بعد تساقطهما ، وهو واضح.

قوله : ولم أقف على رواية تدلّ على التوقّف مطلقاً حتّى في زمان الغيبة ، ولكن حكي ما يدلّ على ذلك أيضاً ، فتكون الأخبار على طوائف أربع ... الخ (١).

قال في الكفاية في تعداد طوائف الأخبار : ومنها ما دلّ على التوقّف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٤.

١٥٨

مطلقاً (١).

ولكن لا يبعد أن يكون مراده ممّا دلّ على التوقّف مطلقاً ليس هو وجود رواية دالّة على إطلاق التوقّف وشموله لزمان الغيبة ، بل مراده بذلك الاطلاق إنّما هو في قبال الأخبار الآمرة بالاحتياط أو الآمرة بالأخذ بالراجح ، فيكون المراد حينئذ هو أنّ هناك أخباراً دالّة على التوقّف ، سواء كانت إحدى الروايتين موافقة للاحتياط والأُخرى مخالفة له أو لم يكونا كذلك.

والشاهد على ما ذكرناه من أنّه ليس مراده من الاطلاق ما هو في قبال التوقّف في زمان الحضور ، هو أنّه عدّ من جملة أخبار التخيير المطلق رواية الحارث بن المغيرة (٢) ، وهي من أخبار التخيير في خصوص زمان الحضور.

والأقرب أنّ مراده من إطلاق التخيير وإطلاق التوقّف وإطلاق الأخذ بما هو الحائط كلّ ذلك في قبال القسم الأخير ، وهو ما دلّ على الترجيح بالمزايا.

لكن بعضهم استدلّ على التوقّف المطلق الشامل لزمان الغيبة بأخبار التوقّف الواردة في باب الاحتياط في الشبهات الحكمية ، وأُجيب عنه بأنّ ذلك لا دخل له بباب التعارض (٣).

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لم توجد رواية تدلّ على التوقّف المطلق الشامل لزمان الغيبة ، وتنحصر الطوائف حينئذ بالثلاثة المذكورة : أخبار التخيير المطلق ،

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٤٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٣) وربما يستدلّ بعموم التعليل الوارد في ذيل المقبولة [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ] فإنّ المورد وإن كان مختصّاً بصورة التمكّن من لقاء الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّ عموم التعليل فيها يدلّ على الاطلاق [ منه قدس‌سره ].

١٥٩

وأخبار التخيير في زمان الحضور ، وأخبار التوقّف في زمان الحضور.

ومقتضى المعارضة بين الأخيرين سقوطهما والرجوع إلى إطلاقات أخبار الطائفة الأُولى ، ولا محصّل للقول بأنّ مقتضى العمل بعموم أخبار التخيير هو التخيير بين الطائفتين الأخيرتين ، لأنّ الأخذ بالتخيير إنّما هو بعد الفراغ عن الجمع بين هذه الطوائف الثلاث ، أمّا في مرتبة الجمع بينها فلا يجري إلاّعلى قاعدة التساقط (١) ، فتأمّل.

ولا يمكن دفع هذا التعارض بأنّه خارج عن محلّ ابتلائنا ، لأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا يدفع التعارض ، فإنّه يترتّب عليه ثمرة ، وهي أنّه إذا كانت أخبار التوقّف في زمان الحضور سليمة عن المعارض كانت مخصّصة أو مقيّدة لأخبار الطائفة الأُولى ، أعني التخيير المطلق.

نعم ، لا يترتّب على هذا التقييد ثمرة عملية بالنسبة إلينا ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الأولى أن يقال : إنّ شمول أخبار التخيير المطلق لزمان الغيبة لا معارض له ، سواء قيّدناه وخصّصناه بخصوص زمان الغيبة لتقديم أخبار التوقّف في زمان الحضور عليها ، أم لم نقيّده بذلك.

نعم ، لو ثبتت عندنا رواية تدلّ على التوقّف مطلقاً لكانت معارضة لأخبار التخيير المطلق تعارض التباين ، من دون فرق في ذلك بين أن نسقط طائفة التخيير في زمان الحضور وطائفة التوقّف في زمان الحضور ، لتعارضهما أو لخروجهما عن محلّ ابتلائنا ، أو نعمل بهما معاً في التخصيص أو التقييد ، فإنّه بعد خروج زمان الحضور عن كلّ من إطلاق التخيير والتوقّف يبقى التعارض بين

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، ويمكن إصلاح العبارة بحذف « على » أو إضافة « عدم » قبل « التساقط » ].

١٦٠