أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

ولا يخفى الجواب عنه ، فإنّ ما فرضه السائل إنّما هو التساوي في صفات الحاكم ، وبعد أن فرض السائل التساوي في صفات الحاكم انتقل عليه‌السلام إلى مرجّحات الرواية ، فأمره بالأخذ بالمشهور ، وأين هذا من التساوي في صفات الراوي ، انتهى.

قلت : كأنّه قدس‌سره لا يقول بدلالة الرواية المقبولة على الترجيح بالصفات ، وإنّما أقصى ما فيها هو الإشعار ، ولأجل ذلك لا يكون ذكره مقدّماً وفرض التساوي فيها ثمّ الترجيح بالشهرة دليلاً على تقدّمه عليها.

ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض عدم دلالة المقبولة على كونه مرجّحاً في مقام الرواية لا أثر ولا موضوع للكلام على تقدّمه على الشهرة أو تأخّره عنها ، ولو فرضنا دلالتها على كونه مرجّحاً في مقام الرواية كانت المقبولة وافية الدلالة على تقدّمه على الشهرة ، لكنّك قد عرفت فيما تقدّم (١) فيما نقلناه عنه قدس‌سره أنّ الترجيح بالصفات أجنبي عن الترجيح في مقام الرواية ، وأنّه لم يجد في الفقه من قدّم إحدى الروايتين على الأُخرى بكون راويها أعدل أو أفقه من راوي الأُخرى.

قوله : أمّا الشهرة الروايتية فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وتدوينها في كتب الأحاديث ، ولا إشكال في كونها مرجّحة لأحد المتعارضين ، بل هي المراد من قوله عليه‌السلام في المقبولة : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (٢).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته أنّ الشهرة على ثلاثة أنواع : شهرة الرواية وشهرة العمل وشهرة الفتوى. أمّا الأُولى : فتفصيل الكلام فيها أنّهم قسّموا الرواة إلى ثلاث

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٥ ـ ٧٨٦.

٢٨١

طبقات : أصحاب الأُصول ، وأصحاب الكتب ، وأصحاب المجاميع. أمّا أصحاب الأُصول فهم الذين أخذوا عن الإمام عليه‌السلام وكتبوا عنه بلا فصل ، وكلّ كتاب من تلك الكتب يسمّى أصلاً ، فيقال : فلان صاحب أصل ، أو إنّه من أصحاب الأُصول.

وبعد هذا جاءت طبقة ثانية وروت ما في تلك الأُصول عن أصحابها وحرّرته ، وسمّي ما حرّرته كتاباً ، فيقال : هو صاحب كتاب ومن أصحاب الكتب ، مثل كتاب حريز وغيره.

ثمّ جاء أصحاب المجاميع ، وجمعوا ما في تلك الكتب في كتاب واحد وسمّي مجموعاً ، مثل الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب.

إذا عرفت هذه الطبقات فنقول : المراد من الشهرة شهرة الرواية ، والمراد بها الشهرة في الطبقة الثانية ، لأنّ الشهرة في الطبقة الأُولى مساوقة للتواتر المفيد للعلم ، فيخرج عمّا نحن فيه. وكيف كان ، فلا يشمل الشهرة في الطبقة الثالثة ومن بعدها ، انتهى.

قلت : في كون أصحاب الأُصول طبقة أُولى وأصحاب الكتب طبقة ثانية تأمّل ، وإنّما الكلام في الفرق بين الأصل والكتاب ، فراجع مقباس الهداية للمامقاني قدس‌سره (١).

وعلى كلّ حال ، فليس المراد بالشهرة رواية هو اشتهارها في خصوص الأُصول أو في خصوص الكتب ، بل المراد بها هو المعنى الواضح العرفي ، وهو كون الرواية معروفة لدى الرواة مشهورة عندهم وإن لم يكن راويها الكثير منهم ، وذلك في قبال النادرة التي هي غير معروفة عندهم ، ولا مشهورة لديهم.

ثمّ إنّ تخصيص الشهرة بالطبقة الثانية الذين هم أصحاب الكتب وعدم

__________________

(١) مقباس الهداية ٣ : ٢٠ وما بعدها.

٢٨٢

شمولها لمن تقدّمهم لعلّه مناف لزمان صدور المقبولة المتضمّنة للترجيح بها ، فإنّ المروي عنه في المقبولة هو أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ، ولا يبعد القول بتأخّر زمان أصحاب الكتب عنه عليه‌السلام.

وكون المنظور به فيها هم أصحاب الأُصول لا يستلزم كون الشهرة بمعنى التواتر ، فإنّ الشهرة عند أرباب الأُصول لا تستلزم التواتر ، لما عرفت من أنّها ليست إلاّعبارة عن المعروفية ، وهي لا تستلزم كون كلّ [ واحد ] من تلك الطبقة راوياً لها ، مضافاً إلى أنّ كون كلّ [ واحد ] من الطبقة راوياً لها قد لا يوجب التواتر الذي هو عبارة عن استحالة توافقهم على الكذب أو الخطأ ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الشهرة العملية فهي عبارة عن عمل المشهور بالرواية واعتمادهم عليها واستنادهم إليها ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وأمّا الشهرة العملية فهي أن تكون الرواية وإن كانت غير مشهورة معمولاً بها عند الأصحاب ، يعني أنّهم يستندون إليها في فتواهم على طبقها ، بخلاف مجرّد الشهرة الفتوائية ، فإنّ مجرّد الفتوى على طبق رواية لا يدلّ على أنّهم عملوا بها ، لعدم العلم باستنادهم إليها ، لجواز استنادهم إلى شيء آخر غيرها ، وقد عرفت أنّ شهرة الرواية مرجّحة كما هو صريح المقبولة إلاّ أنّها لا يكون وجودها جابراً لضعف الرواية لو كانت في حدّ نفسها ضعيفة ، ولا عدمها موهناً لقوّتها لو كانت في حدّ نفسها قوية ، وأمّا الشهرة العملية فهي وإن كان ممّا يقطع بكونها مرجّحة ، لشمول المقبولة لكلّ ما اشتهر من الرواية ، سواء كان رواية أو عملاً ، فتأمّل ، ولا أقلّ من تنقيح المناط والأولوية القطعية ، وهي تكون جابرة وموهنة أيضاً كما لا يخفى ، انتهى.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٦.

٢٨٣

قلت : لو كانت موهنة لم تكن مرجّحة ، لأنّ عدمها حينئذ يخرج الطرف الفاقد لها عن الحجّية فيخرج عن باب الترجيح.

والإنصاف : أنّ كلاً من الشذوذ في الرواية والشذوذ في العمل موهن لا مرجّح. نعم قد يقال : إنّ الشذوذ في الرواية ملازم للشذوذ في العمل ، لكن الظاهر من زمان صدور الرواية هو عدم إمكان أخذ الشهرة بمعنى الفتوى على طبق الرواية والاستناد إليها في الفتوى ، إذ ليس ذلك الزمان زمان الفتوى ، وأقصى ما في البين هو العمل بالرواية ، وهو غير الفتوى مستنداً إليها.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك ـ أعني العمل على طبقها ـ هو عين الفتوى ، غايته أنّه ليس من قبيل الفتوى المصطلحة في هذه الأعصار من رجوع الجاهل فيها إلى العالم ، بل هو من مجرّد عمل الشخص نفسه على طبق ما يفهمه من الرواية ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الشهرة العملية فلا سبيل لنا إلى إحرازها ، لأنّها إنّما تكون في عصر الحضور أو ما قاربه قبل تأليف كتب الفتوى ... الخ (١).

لعلّ في العبارة سقطا ، والذي ينبغي أن يقال : هو أنّه لا سبيل لنا إلى إحراز كلّ من الشهرة الروايتية والشهرة العملية ، أمّا الأُولى فلأنّها إنّما تكون في عصر الحضور أو ما قاربه قبل تأليف كتب الفتوى ، بل قبل تأليف المجاميع ، وأمّا الثانية فلأنّ المراد بها كما سيأتي هي شهرة العمل عند المتقدّمين ، ولم يكن شأنهم إلاّ ذكر الفتوى من دون تعرّض لمستندها كي نحرز بذلك عملهم بالرواية ، ولو عثرنا على البعض منهم أنّه استند إلى الرواية فذلك أقلّ قليل لا يتكوّن منه شهرة عملية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٧.

٢٨٤

قوله : ولا إشكال في كون الشهرة الفتوائية على خلاف مضمون الرواية تكون موهنة لها على كلّ حال ـ إلى قوله ـ فإنّ الترجيح والجبر يتوقّف على الاستناد والاعتماد إلى الرواية ، ولا يكفي في ذلك مجرّد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية ... الخ (١).

أمّا كون فتوى المشهور غير جابرة فواضح ، وأمّا كونها غير مرجّحة فمشكل ، لما تقدّم من كونها موهنة للرواية التي هي على خلافها ، فلو كانت لنا روايتان متعارضتان ، وكانت فتوى المشهور مطابقة لإحداهما ومخالفة للأُخرى كانت الرواية الأُخرى موهونة بمصير المشهور إلى خلافها ، فيكون العمل حينئذ على ما كان منهما مطابقاً لفتوى المشهور ، وذلك أقوى من الرجحان ، لكونه حينئذ من قبيل تمييز الحجّة عن غيرها ، فتأمّل.

وبالجملة : بعد فرض كون الرواية مخالفة لفتوى المشهور موهناً لها لا نحتاج في تقديم الرواية الموافقة للشهرة عليها إلى كون تلك الشهرة عملية. نعم في كون الشهرة جابرة للضعف نحتاج إلى ذلك ولو بالطريق الذي أفاده قدس‌سره من استكشاف كون المستند هو تلك الرواية.

قوله : فإنّ اتّصال المتأخّرين بالمتقدّمين مع انحصار المستند عند المتأخّرين بما بأيدينا من الرواية يمنع عن احتمال اختلاف مستند المتقدّمين لمستند المتأخّرين ... الخ (٢).

قد يقال : إذا كانت لنا رواية تدلّ على طبق ما أفتى به المشهور من المتقدّمين أمكننا أن نقول إنّ مستند المشهور هو تلك الرواية ، ويكون ذلك كافياً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٨.

٢٨٥

في جبر الرواية بل في ترجيحها على غيرها ، من دون حاجة إلى ضمّ شهرة المتأخّرين واتّصالها بشهرة المتقدّمين.

وفيه : أنّ ذلك غير كاف في الحكم بكون مستند المتقدّمين هو تلك الرواية الموجودة بأيدينا ، لإمكان أن يكون مستند المتقدّمين رواية أُخرى كانت موجودة لديهم هي غير هذه الرواية الموجودة بأيدينا ، فلابدّ حينئذ من سدّ هذا الاحتمال ، وسدّه منحصر بما أُفيد من اتّصال شهرة المتأخّرين بشهرة المتقدّمين مع كون المستند عند المتأخّرين هو تلك الرواية الموجودة فيما بأيدينا.

وتوضيح ذلك يظهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، وهو : أنّ احتمال عدم استناد المشهور في فتواهم إلى هذه الرواية إنّما نشأ عن احتمال وجود رواية عندهم لم نعثر عليها لعدم وجودها في المجاميع ، وأنّها كانت موجودة في الكتب التي أُخذت عنها المجاميع ، والظاهر أنّ هذه الكتب أو بعضها بقي موجوداً إلى زمن العلاّمة قدس‌سره والشهيد الأوّل قدس‌سره ، فيحتمل أن لا تكون فتواهم مستندة إلى الرواية الموجودة بأيدينا المعارضة بمثلها ، ويكون المستند في تلك الفتوى هو رواية أُخرى موجودة فيما بقي بأيديهم من تلك الكتب كما اتّفق كثيراً (١) وحينئذ لا تتحقّق الشهرة العملية على تلك الرواية المبتلاة بالمعارض.

وسدّ هذا الاحتمال يتحقّق بأحد أمرين : الأوّل يحصل بتصريح منهم أو من بعضهم أنّ المستند في الفتوى هو الرواية المذكورة. الثاني : أن تبقى تلك الشهرة

__________________

(١) استشهد ( دام ظلّه ) في ذلك بمسائل فقهية كثيرة منها : مسألة الضربة والضربتين في التيمّم ، وأنّ مستند المشهور في التفصيل بين ما هو بدل الوضوء وما هو بدل الغسل رواية عثر عليها العلاّمة قدس‌سره. ومنها مسألة الخطّاف [ منه قدس‌سره. راجع منتهى المطلب ٣ : ١٠٣ ، وسائل الشيعة ٣ : ٣٦٣ / أبواب التيمّم ب ١٢ ح ٨ ].

٢٨٦

مستمرّة إلى ما بعد عصر العلاّمة والشهيد الأوّل ٠ أعني إلى ما بعد زمان انعدام تلك الكتب ، فإنّ بقاء الشهرة إلى ما بعد انعدام تلك الكتب كاشف عن أنّ المدرك عندهم في تلك الفتوى هو الرواية المذكورة ، فتكون معمولاً بها ، فلو كانت ضعيفة كان ذلك جابراً لها ، ولو كانت مبتلاة بالمعارض كان معارضها معرضاً عنه.

قلت : وفي الحقيقة ليس هذا من باب الترجيح ، بل من باب كون الرواية المعرض عنها ساقطة عن الحجّية ، فتكون الرواية المعمول بها بلا معارض. وقد أجاب ( دام ظلّه ) عن ذلك بما حاصله : أنّ الاعراض العملي لا يخرج الرواية الأُولى عن الابتلاء بالمعارض ، فتأمّل.

ثمّ إنّه ربما يتوهّم أنّه لا حاجة إلى سدّ هذا الاحتمال الذي ذكره ( دام ظلّه ) ، فإنّ أقصى ما فيه أن تكون الفتوى المشهورة مستندة إلى رواية أُخرى غير هذه الرواية ، وتكون تلك الرواية موافقة لهذه الرواية ومقدّمة على الرواية المعارضة لها ، فلا يظهر أثر عملي لاستناد الشهرة إلى هذه الرواية.

والحاصل : أنّ الشهرة المذكورة سواء كانت مستندة إلى هذه الرواية أو إلى رواية أُخرى موجودة عندهم ولم تصل إلينا ، تكون موجبة لسقوط الرواية المعارضة لكونها معرضاً عنها ، فلا داعي إلى إتعاب النفس في سدّ باب هذا الاحتمال.

ولكن لا يخفى أنّ الاعراض إنّما يكون موجباً للسقوط إذا كان الطرف الآخر المعمول به موجوداً فيما بأيدينا ، أمّا [ إذا ] لم يكن عندنا إلاّعمل برواية موجودة عندهم ولم تصل إلينا ، فلا يكون موجباً لسقوط ما بأيدينا من الرواية ، لاحتمال أنّهم إنّما قدّموا تلك على هذه لأجل أنّها في نظرهم مقدّمة دلالة على

٢٨٧

الرواية التي بأيدينا ، وأنّا إذا اطّلعنا على تلك الرواية التي كانت عندهم لم تكن دلالتها مقدّمة في نظرنا على دلالة هذه التي بأيدينا ، فتأمّل.

نقلت ذلك كلّه على علاّته من تحريراتي عنه قدس‌سره ، ولم أُغيّر فيه شيئاً ممّا له الدخل في أصل المطلب. والغرض من ذلك كلّه إنّما هو بيان أنّه إذا كانت شهرة المتأخّرين عن زمان وجود الكتب متّصلة بشهرة من كان في زمان وجودها ، كان ذلك كاشفاً عن أنّ المستند في تلك الفتوى المشهورة هو هذه الرواية التي هي بأيدينا التي استند إليها المتأخّرون عن ذلك الزمان ، هذا في كون الشهرة جابرة.

وأمّا في كونها موهنة ، فإنّ هذا الاحتمال أعني كون الاعراض عن هذه الرواية التي بأيدينا إنّما هو لأجل أنّهم يرون أنّ تلك الرواية التي كانت لديهم أقوى في الدلالة ممّا بأيدينا ، وأنّه لو اطّلعنا نحن على تلك الرواية التي كانت لديهم لم نجد لها تلك القوّة ، فذلك احتمال بعيد ، بل لابدّ من أن نقول : إنّ إعراض المشهور عن هذه الرواية التي بأيدينا كاشف عن أنّهم اطّلعوا على خلل في سندها أو على رواية تكون قرينة على التصرّف في دلالة هذه الرواية ، وكون تلك لو اطّلعنا عليها لا تكون عندنا قرينة بعيد غايته. ومن ذلك كلّه يظهر لك الوجه في كون الشهرة الفتوائية مرجّحة ، فتأمّل.

قوله : والفرق بين الشهرة والإجماع هو أنّ الإجماع يكشف عن وجود مستند تامّ الدلالة ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في توضيح ذلك : إنّهم ذكروا لمدرك حجّية الإجماع وجوهاً أوضحنا فسادها جميعاً في محلّه ، وحاصل ما اخترناه في مدرك حجّيته هو أنّه يكشف عن وجود دليل عندهم مأخوذ يداً بيد إلى الإمام عليه‌السلام لم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٨.

٢٨٨

يصل إلينا ، وهم جميعاً مطبقون على حجّية ذلك الدليل بالنسبة إلى تلك الفتوى التي أطبقوا عليها ، فيكون مدرك حجّية الإجماع مؤلّفاً من جهتين : الأُولى : كشفه عن وجود دليل. الثانية : إجماعهم على حجّية ذلك الدليل ، والأُولى عقلية صرفة ، والثانية شرعية.

والشهرة ربما تشارك الإجماع في الجهة الأُولى ، لأنّ حسن الظنّ بأُولئك الأجلّة الأعاظم تمنع قطعاً عن حمل فتواهم على أنّها بلا دليل ، فلابدّ أن يكون صدور الفتوى منهم عن دليل ، إلاّ أنّ الشهرة لمّا كانت فاقدة للجهة الثانية ، لعدم تحقّق الإجماع على حجّية ذلك الدليل المستكشف بالفتوى المشهورة ، لم يمكن القول بحجّيتها ، انتهى.

فإنّ أقصى ما في البين هو الشهرة على حجّية ذلك الدليل ، وهي غير كافية في حجّيته في حقّنا ، وهذا بخلاف الإجماع ، فإنّهم لمّا أجمعوا على الفتوى ، وكان إجماعهم كاشفاً عن وجود دليل يكون ذلك ملازماً لإجماعهم على دليلية ذلك الدليل الذي هو عبارة عن الإجماع على حجّيته ، وهو ـ أعني الإجماع على حجّية ذلك الدليل ـ كافٍ في حجّيته في حقّنا وإن لم نعرفه بعينه ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ إجماعهم على حجّية ذلك الدليل يحتاج إلى الدليل على حجّيته ، فلابدّ حينئذ من دعوى كون ذلك ـ أعني حجّية ذلك الدليل ـ مأخوذاً يداً بيد إلى أن ينتهي الأمر إلى الأخذ من الإمام عليه‌السلام ، وهي طريقة الكشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، وحينئذ لا يحتاج إلى توسّط حجّية ذلك الدليل ، بل نقول من أوّل الأمر إنّ إجماعهم على نجاسة الماء القليل مثلاً كاشف عن رأيه عليه‌السلام ، وأنّ ذلك مأخوذ يداً بيد حتّى ينتهي الأمر إليه عليه‌السلام كما هو الشأن في كلّ تابع ومتبوع.

٢٨٩

لكنّه قدس‌سره في مبحث الإجماع (١) قد منع من كون ذلك هو مبنى حجّيته ، لندرة الإجماع الكاشف عن رأيه عليه‌السلام ، وأوضح أنّ المدرك في حجّية الإجماع هو كشفه عن وجود الدليل المعتبر ، غايته أنّه لم يصل ذلك الدليل إلينا ، وحينئذ لابدّ لنا أن نقول : إنّ الفرق بين الإجماع والشهرة [ هو أنّهما ] وإن اشتركا في الكشف عن الدليل المعتبر ، إلاّ أنّ الشهرة إنّما تكشف عنه كشفاً ظنّياً ، بخلاف الإجماع فإنّ إطباقهم يكشف عن الدليل المعتبر كشفاً قطعياً.

لكن يبقى الإشكال في أنّ مجرّد القطع بأنّهم قد استندوا إلى دليل معتبر لديهم لا يوجب حجّية ذلك الدليل في حقّنا ، لإمكان أنّا لو اطّلعنا على ذلك الدليل لم يكن حجّة لدينا ، وتمام الكلام في مبحث الإجماع ، فراجع.

قوله : الأمر الثالث : قد ذكر الشيخ قدس‌سره للترجيح بمخالفة العامّة وجوهاً أربعة ، ولكن الظاهر رجوع بعضها إلى بعض ، فإنّ مرجع كون المخالفة للعامّة من حيث نفسها مطلوبة للشارع إلى التعبّد بمخالفة العامّة ، فلا يكون كلّ منهما وجهاً على حدة ... الخ (٢).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته عنه أنّ الثاني من هذه الوجوه راجع إلى الأوّل ، والرابع منها راجع إلى الثالث ، فينحصر الأمر في احتمالين ، احتمال كون الأخذ بالمخالف من باب الموضوعية ، واحتمال كونه من باب الطريقية لكشفه عن كون الطرف الآخر قد أعطى من جراب النورة ، ورجّح قدس‌سره الاحتمال الثاني على الأوّل لما في الأوّل من كونه غير مناسب لمقام هذه الطائفة المحقّة ، وإنّما جرى عليه العامّة كما ينقل عنهم في مسألة تسنيم القبور من أنّ الأصل هو التربيع ، وإنّما جعل التسنيم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٩.

٢٩٠

مرغوباً لأنّ الرافضة اتّخذت التربيع سنّة ، انتهى.

قلت : إنّ أوّل الوجوه الأربعة التي ذكرها الشيخ قدس‌سره (١) هو مجرّد التعبّد. ثانيها : هو كون الرشد في خلافهم. ثالثها : حسن مجرّد المخالفة. رابعها : الحكم بصدور الموافق تقية ، هذا حاصل الوجوه المذكورة.

والذي ينبغي أن يقال هو أنّ الأوّل راجع إلى الثالث ، وأنّ الثاني راجع إلى الرابع ، فإنّ التعبّد بالأخذ بمخالف العامّة الذي هو الوجه الأوّل إنّما هو لأجل الوجه الثالث الذي هو حسن مخالفتهم ، كما أنّ كون الرشد في خلافهم الذي هو الوجه الثاني يكون موجباً للحكم بكون الموافق لهم هو من باب التقية الذي هو الوجه الرابع.

فيكون الأمر منحصراً في احتمالين : أوّلهما اعتبار مخالفتهم من باب الموضوعية تعبّداً ، لكونها في حدّ نفسها حسنة. ثانيهما : اعتبارها من باب الطريقية ، لأنّ الرشد في خلافهم ، وأنّ ما يصدر عن أئمّتنا عليهم‌السلام ممّا هو موافق لهم لابدّ أن يكون من باب التقية.

وبعد ترجيح الاحتمال الثاني على الاحتمال الأوّل كما أفاده قدس‌سره يكون الحاصل هو أنّ ما يكون من الأخبار موافقاً لهم يكون من باب التقية ، ويكون مخالفاً للرشد ، سواء كان له معارض أو لم يكن ، فيكون ذلك من باب تمييز الحجّة عن غيرها.

نعم ، لا يكون ذلك من باب العلّة التامّة لسقوط الموافق لهم ، بل يكون من باب الأصل في مقام الشكّ في حجّية ما يكون موافقاً لهم ، وأنّ الأصل فيه هو التقية ، وأنّ الغالب هو كونهم مخالفين للرشد ، إلاّ أن يعضد ذلك الخبر الموافق

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١٢١ ـ ١٢٢.

٢٩١

لهم بجهة تؤيّد حجّيته.

والحاصل : أنّ الخبر الموافق لهم يكون بمنزلة الرواية الضعيفة التي لا يؤخذ بها إلاّمع وجود الجابر لضعفها فتأمّل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الثاني وهو كون الرشد في خلافهم لا ربط له بالرابع ، وهو كون الموافق لهم من باب التقية ، فإنّ الرابع مرجّح جهتي والثاني مرجّح مضموني ، وقد عرفت (١) رجوعه إلى المرجّح الصدوري ، وقد عرفت أنّ هذا ـ أعني الوجه الثاني ـ هو المتعيّن ، وهو الذي يستفاد من كون الرشد في خلافهم ، ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في ارجاع هذا المرجّح إلى الحمل على التقية بعد التصريح من الرواية بأنّ علّته هي كون الرشد في خلافهم.

نعم ، في بعض الروايات ما يدلّ على أنّ ما يصدر عنه عليه‌السلام ممّا يشابه قول الناس فهو محمول على التقية ، ومن الواضح أنّ هذا ليس في مقام الترجيح ، بل في مقام بيان أنّ ما تسمعه منّي ممّا يشبه قولهم لا تعمل به لأنّه صدر منّي تقية ، وأين هذا ممّا لا يكون محكوماً بصدوره إلاّبأصالة الصدور.

على أنّه ليس على إطلاقه ، إذ ليس كلّ ما يصدر منه عليه‌السلام ممّا يشبه أقوالهم فهو تقية ، بل هو مختصّ بما يكون من قبيل ما يتفرّدون به ، من مثل المنع عن نكاح المتعة ، ومثل إرث الزوجة من الأراضي ، ونحو ذلك ممّا هو من مختصّاتهم ، فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، إنّ قوله في هذا التحرير : ومعنى كون الرشد في خلافهم إلى آخر العبارة (٢) ، تصريح بعدم كون هذا المرجّح مرجّحاً جهتياً ، بل إنّه مرجّح

__________________

(١) في الصفحة : ٢٧٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٨٩.

٢٩٢

مضموني على حسب ما عرفت فيما تقدّم.

قوله : وأمّا في باب موافقة الكتاب ومخالفته ، فالذي يكون من شرائط الحجّية هو عدم مخالفة الخبر للكتاب بالتباين الكلّي ، فإنّه هو الذي لا يمكن صدوره عنهم صلوات الله عليهم ، فيكون زخرفاً وباطلاً ، فإذا كان الخبر أعمّ من وجه من الكتاب كان اللازم إعمال قواعد التعارض بينهما ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : وحاصل الإشكال في هذا المرجّح الثالث أعني موافقة الكتاب ومخالفته ، أنّ هذا المعنى في بعض الأخبار موجب لطرح الخبر وعدم حجّيته ، مثل ما تضمّن أنّه زخرف أو اطرحوه على الجدار أو لم نقله ونحو ذلك من الأخبار (٢) ، وبعض الأخبار الواردة في مقام الترجيح دالّة على الترجيح به كما تضمّنته المقبولة وغيرها (٣).

ولا يخفى ما بين هاتين الطائفتين من التدافع ، وقد أُجيب عنه بالجمع بينهما بحمل الطائفة الأُولى على المخالفة بالتباين ، والطائفة الثانية على المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ، فيكون حاصل الطائفة الثانية أنّه إذا ورد خبر أخصّ من العموم الكتابي وورد خبر آخر معارض له ، بأن كان الخاصّ الآخر موافقاً للكتاب ، يلزم ترجيح الخاصّ الموافق للكتاب على الخاصّ الآخر المخالف له ، وهذا موافق في النتيجة للحكم بتساقطهما والرجوع إلى العموم الكتابي.

ولا يخفى ما في هذا الجمع من كونه تبرّعياً صرفاً ، لأنّ العنوان وهو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٢ ، ١٤ ، ١٥ وغيرها.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، ١١ ، ٢١ ، ٢٩ وغيرها.

٢٩٣

المخالفة واحد ، فجعله في إحدى الطائفتين تباينياً ، وفي الطائفة الأُخرى بالعموم والخصوص المطلق تصرّف بلا قرينة.

ومجرّد كونه في الطائفة الأُولى في مقام الطرح وفي الثانية في مقام الترجيح لا يكون قرينة صالحة لذلك. مضافاً إلى أنّ مخالفة العموم والخصوص المطلق لا تعدّ عرفاً مخالفة.

ويمكن أن يقال : إنّ ما تضمّن من الأخبار لعنوان المخالفة محمول على ظاهره من المخالفة التباينية ، فيكون مفاده لزوم الطرح ، وما تضمّن من تلك الأخبار لعنوان عدم الموافقة للكتاب محمول على مخالفة العموم والخصوص المطلق ، لأنّ ذلك كافٍ في تحقّق عدم الموافقة ، فيكون مفاده لزوم ترجيح ما وافق الكتاب على ما لا يوافقه ، وهذا طريق حسن إلاّ أنّه موقوف على نظرة ثانية في أخبار البابين ، انتهى.

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد بعد ذلك ما محصّله : أنّ الأخبار المتعرّضة لذكر موافقة الكتاب ومخالفته قد ذكر في بعضها المخالفة فقط (١) وأنّها توجب طرح ما كان مخالفاً للكتاب وهي الأخبار المذكورة في شرائط الحجّية ، أمّا أخبار التراجيح فبعضها متعرّض لترجيح ما وافق الكتاب فقط (٢) بمثل ما وافق كتاب الله فخذوه ،

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ المذكور في بعضها عنوان عدم الموافقة كما في الحديث ١٢ و ١٤ و ٣٧ و ٤٧ ، وفي بعضها ذكر عنوان تحليل الحرام وتحريم الحلال كالحديث ٢١ ، وفي بعضها ذكر عنوان ما لا شاهد عليه من كتاب الله كما في الحديث ١٨. نعم قد يجعل من هذه الطائفة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » كما في الحديث ١٥ ، ولعلّ المتتبّع يجد غير ذلك أيضاً فراجع وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ وما بعدها / أبواب صفات القاضي ب ٩ ].

(٢) [ كما في ذيل الحديث ٢١ من قوله عليه‌السلام : « فاعرضوهما على كتاب الله فما كان في

٢٩٤

وبعضها متعرّض للأمرين بمثل ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه (١) ، والإشكال إنّما هو في الفقرة الثانية ، أمّا الأُولى فلا منافاة بينها وبين الأخبار المذكورة في شرائط الحجّية.

فنقول : إنّ الظاهر ممّا فيه التعرّض للأمرين أنّه قضية شرطية ، والجزء الثاني منها تصريح بمفهوم الجزء الأوّل منها ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ أمثال ذلك ممّا هو مشتمل على قضيتين والثانية منهما معلّقة على شرط ضدّ الشرط في الأُولى لا يكون الجزء الثاني فيه دليلاً مستقلاً ، وإنّما يكون في الظهور تابعاً للجزء الأوّل ، إذ لا يزيد الجزء الثاني على كونه تصريحاً بما هو المفهوم للجزء الأوّل ، وأنّ ضدّ الشرط في الأُولى إنّما ذكر في الثانية من باب التعرّض لبعض أفراد نقيض الشرط في الشرطية الأُولى.

وحينئذ نقول : حاصل مفهوم الشرطية الأُولى فيما نحن فيه أنّ ما لم يكن موافقاً للكتاب فذروه ، والتعبير بالمخالفة في الجزء الثاني قد عرفت أنّه تصريح بذلك المفهوم لا أنّه مقصود بنفسه ، بل لأجل أنّه كناية عن عدم الموافقة ، فليس المدار في المرجوحية على عنوان المخالفة كي يقال هي مختصّة بالمخالفة

__________________

كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب » الحديث. وفي الحديث ١١ ورد التعبير بوجدان الشاهد من كتاب الله أو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي الحديث ٤٠ ورد التعبير بما يشبه كتاب الله وأحاديثنا. نعم روى في المستدرك عن المفيد رحمه‌الله في رسالته العددية قول أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا أتاكم عنّا حديثان مختلفان فخذوا بما وافق منهما القرآن » الحديث ، فراجع مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١١ ].

(١) كما في مقبولة عمر بن حنظلة المروية في وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١. وكذا الحديث ٢٩ ، وغيرهما.

٢٩٥

التباينية ، بل المدار على عدم الموافقة للكتاب ، فتشمل مخالفة التباين ومخالفة العموم والخصوص المطلق ، غير أنّ المخالفة التباينية خارجة عنه ، لما تقدّم من الأخبار والإجماع على طرح الخبر المباين للكتاب وإسقاطه عن الحجّية ، انتهى.

قلت : فيه تأمّل ، حيث إنّ التعبير بالمخالفة في هذا المقام إمّا من جهة أنّه أحد أفراد عدم الموافقة الذي هو المفهوم الحقيقي ، وحينئذ لا يحسن أن يكون خارجاً عن هذا العموم ، لأنّه نصّ فيه أو كالنصّ ، فهو من قبيل جعل أحد فردي العام كناية عن الفرد الآخر ، وإن شئت فقل : إنّه راجع إلى ما تقدّم من كون الجمع تبرّعياً.

مضافاً إلى أنّ بعض الأخبار (١) وهو الرابع ممّا ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) تعرّض لهذه القضية الشرطية المشتملة على هذين الجزأين في مخالفة العامّة وموافقتها كما ذكرتها في موافقة الكتاب ومخالفته ، ومن الواضح أنّه ليس المراد من مخالفة أخبار العامّة المخالفة بالعموم والخصوص المطلق.

قوله : فإذا كان الخبر أعمّ من وجه من الكتاب كان اللازم إعمال قواعد التعارض بينهما ، ولا يندرج في قوله عليه‌السلام : « ما خالف الكتاب فهو زخرف » (٣) بل يقدّم ما هو الأظهر منهما ، وإلاّ فالتخيير أو الرجوع إلى الأصل ... الخ (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ ـ ١١١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٢ و ١٤. ولايخفى أنّ المذكور فيهما عنوان عدم الموافقة ، فلاحظ.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩١.

٢٩٦

لا يخفى أنّ ضمّ هذه الجملة إلى قوله فيما سيأتي : والمخالفة بالعموم من وجه تندرج فيما دلّ على الترجيح بموافقة الكتاب عند التعارض الخ (١) ، ينتج أنّ الخبر المخالف للكتاب بالعموم من وجه لو كان وحده يكون معارضاً للعام الكتابي ، لكن لو اتّفق أن وجد في الأخبار ما هو موافق للعام الكتابي يكون ذلك الموافق مقدّماً على ذلك الخبر المخالف.

ولا يخفى ما فيه من الغرابة ، فإنّ ذلك الخبر المخالف للعام الكتابي إن كان صالحاً للوقوف في قبال العام الكتابي في مقام المعارضة لم يكن انضمام الخبر الموافق للعام الكتابي مخرجاً له عن الصلاحية لمعارضة العام الكتابي ، وإن لم يكن الخبر المخالف للعام الكتابي صالحاً للقيام في قبال العام الكتابي ، بل كان العام الكتابي مقدّماً عليه ، لم يكن ضمّ الخبر الموافق للكتاب للعام الكتابي إلاّ كضمّ الحجر في جنب الإنسان.

قوله : وأمّا الذي يكون مرجّحاً لأحد المتعارضين فهو الموافقة والمخالفة للكتاب بالعموم من وجه ، وأمّا الموافقة والمخالفة بالعموم المطلق فهي ليست من المرجّحات أيضاً ، لعدم المعارضة بين العام والخاصّ كما تقدّم بيانه ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ المخالفة للكتاب قد تكون على وجه التباين ، وقد تكون على نحو مخالفة الظاهر للأظهر على وجه يكون من قبيل القرينة وذي القرينة ( أمّا إذا لم يكن من هذا القبيل فهو داخل في المخالفة التباينية ، وإن كان أحدهما أقوى ظهوراً من الآخر ) وقد تكون بالعموم من وجه ، وقد عرفت سقوط

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩١.

٢٩٧

ما كان مبايناً للكتاب عن الحجّية ولو في غير مورد المعارضة لما وافق الكتاب فضلاً عمّا إذا كان معارضاً بموافق الكتاب.

أمّا القسم الثاني ، ففيما كان منه غير معارض بموافق الكتاب ، لا ريب في الرجوع فيه إلى الجمع العرفي بينه وبين الكتاب ، أمّا ما كان منه معارضاً بموافق الكتاب ، فقد تقدّم أنّه مورد الترجيح بموافقة الكتاب ، فيقدّم الخبر الموافق للكتاب ويرجّح على غيره ، ويكون الحكم على طبق الكتاب.

ودعوى عدم الفرق بين القول بترجيح موافق الكتاب وبين القول بعدم الترجيح للحكم حينئذ بتساقط المتعارضين والرجوع حينئذ إلى العموم الكتابي ، إنّما تتمّ على القول بالتساقط ، وقد عرفت أنّ ذلك وإن كان هو الأصل في باب التعارض ، إلاّ أنّ أخبار الباب دلّت على وجوب الترجيح والتخيير إن لم يكن في البين مرجّح ، وحينئذ يدور الأمر فيما نحن فيه بين الترجيح والتخيير. وتظهر الثمرة بين القول بالترجيح والقول بعدمه ، بأنّه على القول بالترجيح يكون العمل على طبق العموم الكتابي متعيّناً ، بخلاف القول بعدم الترجيح والرجوع إلى التخيير ، لأنّه لا يتعيّن العمل حينئذ على طبق العموم الكتابي ، لجواز أن يختار ما لا يوافق العام الكتابي.

فتلخّص : أنّه إذا كان لنا خبران متعارضان تعارضاً تباينياً ، وكان أحدهما موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً له ، قدّم الموافق للكتاب على المخالف له ، وكان القدر المتيقّن من الأخبار الدالّة على الترجيح بموافقة الكتاب ، هذا فيما إذا كان كلا الخبرين أخصّ مطلقاً من العام الكتابي ، وكانا في أنفسهما متباينين ، وكان أحدهما مخالفاً للعموم الكتابي والآخر موافقاً له ، أمّا إذا كان الموافق له منهما أعمّ من المخالف له ، وكانا معاً أخصّ مطلقاً من العام الكتابي ، فلا يمكن أن يقدّم

٢٩٨

الموافق له على المخالف ، بل يلزم في ذلك أن يقدّم المخالف ويخصّص به الموافق ، وبعد تخصيصه به يخصّص العام الكتابي أيضاً ، لأنّه حينئذ بلا معارض ، وبالجملة : أنّه يخصّصهما معاً ، والوجه في ذلك أنّ الجمع العرفي مقدّم على جميع المرجّحات.

قلت : والفرق بين الصورة الأُولى والثانية ظاهر ، فإنّه في الصورة الأُولى يقع التعارض بين الخاصّين المتباينين ، ولابدّ حينئذ من إعمال الترجيح أو التساقط ، وحيث إنّ الموافق منهما للكتاب أرجح من الذي هو مخالف له ، كان اللازم تقديمه عليه وإن كان ذلك المخالف للكتاب أخصّ من عموم الكتاب.

وهذا بخلاف الصورة الثانية فإنّه لمّا كان المخالف للكتاب أخصّ ممّا هو موافقه ، لم تقع المعارضة بينهما كي يكون اللازم هو الترجيح أو التساقط ، بل كان اللازم هو كون ذلك الخاصّ مخصّصاً لما هو مقابله وللعموم الكتابي.

ومن الكلام في الصورة الثانية يظهر لك الحال في عكسها ، وهي ما لو كان الخبر المخالف للكتاب أعمّ من الخبر المقابل له الموافق للعموم الكتابي ، فإنّ ذلك الموافق للكتاب يخصّص المخالف له ، وبعد تخصيصه به يكون ذلك الخبر المخالف بما بقي تحته مخصّصاً للعموم الكتابي الذي هو أعمّ من الجميع ، مثلاً لو كان العموم الكتابي بمنزلة أكرم العلماء ، وورد لا تكرم النحويين ، وورد أيضاً أكرم النحوي من الكوفيين ، فإنّ الثالث يخصّص الثاني ، فيبقى تحت الثاني خصوص النحوي البصري وأنّه لا يجب إكرامه ، فيخصّص به العموم الأوّل ـ أعني أكرم العلماء ـ باخراج النحوي البصري.

ومن ذلك تعرف أنّ ما تعرّض له في الكتاب بقوله : فاللازم هو الجمع بين الكتاب وبين الخبر المخالف له بتخصيص العام الكتابي بما عدا مورد الخاصّ

٢٩٩

الخبري (١) لا ينطبق إلاّعلى الصورة الثانية ، وقوله : وكذا يندرج في أدلّة الترجيح ما إذا كان التعارض الخ (٢) لا ينطبق إلاّعلى الصورة الأُولى.

هذا كلّه فيما لو كان الخبران الموافق أحدهما للكتاب والآخر مخالف له اللذان يكون كلّ منهما أخصّ من العموم الكتابي متباينين ، أو كان أحدهما أخصّ من الآخر. ولو كان بينهما العموم من وجه مع كون كلّ منهما أخصّ من العموم الكتابي فهو داخل فيما سيأتي في الأمر الخامس.

ولو كان الخبر المخالف للكتاب أعمّ ، كان اللازم هو النظر إلى مقابله ـ أعني الخبر الموافق ـ هل هو مباين للمخالف ، أو أخصّ منه ، أو أعمّ ، أو أنّه بينهما عموم من وجه ، فيلزم إجراء القواعد الجارية ، فربما كان المرجع هو تخصيص الخبر المخالف بالكتاب ، كما لو كان الموافق له أخصّ من المخالف وكان مساوياً لما في الكتاب ، وربما كان المرجع هو ترجيح الخبر الموافق ، كما لو كان الموافق مبايناً للمخالف أو أعمّ منه من وجه فتأمّل ، ففي صورة كون الموافق مبايناً للمخالف هل يكون الكتاب مخصّصاً للمخالف ، وبعد تخصيصه به تنقلب النسبة بينه وبين الموافق ويكون حينئذ أخصّ من الموافق فيخصّصه ، أو أنّ الموافق يقدّم ويرجّح على المخالف لكونه موافقاً للكتاب ، ولو باعتبار اشتماله على حكم يعمّ ما في الكتاب؟ فيه تأمّل ، والظاهر أنّ المتعيّن هو الأوّل.

والخلاصة : هو أنّه تضمّن هذا التحرير صورتين لكون المخالفة للكتاب في أحد المتعارضين بالعموم المطلق :

الأُولى : أن ينوجد في الكتاب أو في السنّة مثل قوله أكرم العلماء ، وينوجد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٩٢.

٣٠٠