أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

قوله : ولا وجه لما في بعض الكلمات من أنّه يعتبر في الحكومة أن يتقدّم تشريع مفاد المحكوم على تشريع مفاد الحاكم بحيث يلزم لغوية التعبّد بدليل الحاكم ... الخ (١).

بعد أن بنينا على أنّ مفاد الحكومة هو كون الدليل الحاكم متعرّضاً لنفي الحكم بلسان نفي الموضوع تنزيلاً ، فلا ريب أنّه لا يصحّ نفي الموضوع تنزيلاً لنفي حكمه منزلة نفي نفسه إلاّبعد أن يتحقّق الحكم لذلك الموضوع ليكون المصحّح لنفي ذلك الموضوع هو نفي حكمه ، وحينئذ فلابدّ أن يتقدّم الدليل المحكوم. نعم هذا إذا كان الدليل الحاكم متعرّضاً ابتداءً لنفي الموضوع أو إثباته بحيث كان لسانه المطابقي هو نفي الموضوع أو إثباته كما هو الغالب.

وأمّا حكومة الأمارات على الأُصول الشرعية ، فإن قلنا إنّ مفاد دليل حجّيتها هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، فلابدّ أن يكون مسبوقاً بدليل يثبت الآثار للواقع ، وكذلك لو قلنا إنّ مفاده هو تنزيل قيامها لدى المكلّف منزلة العلم الطريقي المتعلّق بالواقع ، فلابدّ أيضاً من أن تكون مسبوقة بذلك ، وبعد ثبوت هذا التنزيل تكون حاكمة على الأُصول الشرعية قهراً ، وحينئذ لا يحتاج دليل حجّيتها إلاّ [ إلى ] تقدّم ذلك الدليل دون تقدّم دليل حجّية الأُصول ، لأنّ المصحّح للتنزيل هو ذلك الدليل لا دليل حجّية الأُصول.

وفي الحقيقة أنّ لدليل حجّية الأمارة حكومتين : إحداهما بالنسبة إلى الأدلّة الواقعية ، وهذه الحكومة حكومة ظاهرية ، وهي تستدعي تقدّم الدليل المحكوم ، والحكومة الأُخرى بالنسبة إلى الأُصول الشرعية ، وهذه الحكومة أشبه بالحكومة الواقعية ، وهي لا تستدعي تقدّم الدليل المحكوم. وأمّا تقدّمها على الأُصول

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧١٣.

٢١

العقلية فهو بالورود ، هذا كلّه على تقدير القول بأنّ مفاد دليل حجّية الأمارة هو التنزيل في نفس قيام الأمارة أو مؤدّاها.

وهكذا الحال بناءً على ما هو التحقيق من أنّ مفاد دليل حجّيتها ليس هو التنزيل ، بل هو جعل الحجّية لها ابتداءً ، فإنّها وإن حكمت حينئذ على الأُصول العملية باعتبار أنّ جعل حجّيتها المذكورة يلزمه رفع موضوع الأُصول الذي هو الشكّ ، إلاّ أنّ ذلك لا يستدعي تقدّم دليل حجّية الأُصول عليها ، إذ لم يكن المدلول المطابقي لدليل حجّيتها هو نفي الشكّ ابتداءً كي يكون متوقّفاً على جعل تلك الأُصول أحكاماً للشكّ ، بل كان مدلوله المطابقي هو جعل الحجّية ابتداءً ، وبلازم هذا المدلول ـ أعني ارتفاع الشكّ ـ تكون حاكمة على أدلّة الأُصول ، بل بناءً على هذا الوجه لا تحتاج إلى تقدّم دليل أصلاً حتّى الدليل المثبت للأحكام الواقعية ، إلاّمن ناحية أنّ جعل الحجّية يستدعي جعل أحكام واقعية تكون تلك الحجّة مثبتة لها.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وتقدّم الأمارات على الأُصول ، والأُصول الاحرازية على غير الاحرازية ، والأمارات بعضها على بعض ، والأُصول غير الاحرازية بعضها على بعض ، كلّه من باب الحكومة ، فإنّ ما يتعبّد به في الأمارات لمّا كان هو تتميم جهة كشفها ، كان ذلك رافعاً لموضوع الأُصول وهو الشكّ ، وما يتعبّد به في الأُصول الاحرازية لمّا كان هو إحراز الواقع ، كان ذلك رافعاً لموضوع الأُصول الغير الاحرازية ، كما أنّه ربما تتّفق الحكومة في غير ذلك من الموضوعات الواقعية ، كما تقدّم في حكومة « لا شكّ لكثير الشكّ » على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكّ.

نعم ، بين هذه الحكومة وبين الحكومة في الأمارات والأُصول فرق ، فإنّها

٢٢

وإن اشتركت في أنّ الدليل الحاكم متصرّف في موضوع الدليل المحكوم برفعه عن مورد الدليل الحاكم ، إلاّ أنّ الفرق بينهما هو أنّ مثل « لا شكّ لكثير الشكّ » يكون بالتخصيص أشبه ، فإنّ محصّله هو بيان أنّ الشكّ المحكوم عليه بتلك الأحكام هو ما عدا [ شكّ ] كثير الشكّ ، فتكون نتيجته نتيجة التخصيص ، وفي باب حكومة الأمارات على الأُصول والأُصول بعضها على بعض تكون بالورود أشبه ، فإنّ ما يتعبّد به في الأمارات يكون مزيلاً لموضوع الأُصول الذي هو الشكّ ، لا أنّه يبيّن أنّ المحكوم بالأُصول من الشكّ هو ما عدا مورد الأمارات.

ثمّ قال فيما حرّرته عنه قدس‌سره : وحاصل الفرق بين الحكومة في باب الأمارات والأُصول والحكومة في الموضوعات الخارجية مثل « لا شكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى مثل « من شكّ بين الأقل والأكثر فليبن على الأكثر » ومثل لا حرج ولا ضرر بالنسبة إلى الأحكام في مورد الحرج والضرر ، أنّ الحاكم في الثاني يضيّق دائرة موضوع المحكوم عليه ويحصره بما عدا مورد الحاكم ، فتكون نتيجته نتيجة التخصيص ، بل هو تخصيص بلسان الحكومة ، والحاكم في الأوّل يكون موجباً لانعدام موضوع الدليل المحكوم ، فتكون نتيجته نتيجة الورود.

قلت : والسرّ في هذا الفرق هو ما أشرنا إليه ، هو أنّ الأوّل لمّا كان مدلوله المطابقي أمراً آخر غير نفي الموضوع في الدليل المحكوم ، بل كان لازم ذلك الأمر الآخر هو انتفاء ذلك الموضوع ، كان أشبه شيء بالورود ، ولم يكن مستدعياً لتقدّم الدليل المحكوم ، لأنّ مدلوله المطابقي الذي هو مركز التنزيل لم يكن بالنظر إلى الأحكام التي تضمّنها ذلك الدليل المحكوم ، وهذا بخلاف الثاني فإنّه لمّا كان مدلوله المطابقي هو نفي موضوع الدليل المحكوم نفياً تنزيلياً ، وكان من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، كان أشبه شيء بالتخصيص ، وكان مستدعياً لتقدّم

٢٣

ذلك الدليل المحكوم ليكون مصحّحاً لذلك النفي التنزيلي الذي تكفّله الدليل الحاكم.

نعم ، إدخال مثل لا حرج ولا ضرر ممّا يكون رافعاً للحكم في مثل هذه الحكومة لا وجه له على الظاهر ـ ولعلّ الخلط منّي ـ فإنّ مثل هذه الحكومات لا تنزيل فيها أصلاً ، ولكن مع ذلك لا يبعد القول بأنّها تستدعي تقدّم الأدلّة المحكومة ، فتأمّل.

قوله : فقد يصحّ الجواب عن السؤال بأنّه أراد ما يكون الكلام ظاهراً فيه بحسب المحاورات إذا لم يعتمد المتكلّم على القرائن المنفصلة ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : ثمّ إنّ الاحتمالات المخالفة لهذه المرحلة ـ أعني مرحلة الحكم بأنّ المتكلّم أراد هذا المعنى ـ وإن كانت كثيرة ، لأنّه يحتمل أن يكون مراده هو غير هذا المعنى ولكنّه أخفاه لغرض مثل التقية ونحوها ، أو أنّه غفل عن ذكر القرينة المتّصلة ، أو أنّ المخاطب غفل عنها ونحو ذلك من الاحتمالات ، إلاّ أنّ أغلب هذه الاحتمالات لا شبهة في عدم الاعتناء بها ، لما جرت عليه السيرة العقلائية ، لكن العمدة منها هو احتمال اعتماد المتكلّم في إرادة غير ذلك المعنى على قرينة منفصلة سابقة أو لاحقة ، فللمحقّقين في نفي هذا الاحتمال وعدم الاعتناء به قولان : أحدهما هو أنّ نفي الاحتمال المذكور والحكم بأنّ المتكلّم أراد هذا المعنى الذي هو الظاهر من مجموع كلامه ، يتوقّف على إحراز عدم القرينة المنفصلة ، وهناك قاعدة عقلائية يتبعها العقلاء في محاوراتهم ، وهي أنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان مراده فعليه أن يذكر كلّ ما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧١٧.

٢٤

يتوقّف عليه بيانه وإفادته ، وهذه القاعدة محرزة لعدم القرينة المنفصلة. والقول الثاني أنّ الحكم المذكور لا يتوقّف على إحراز عدم القرينة ، بل يكفي فيه مجرّد ظهور كلامه في إرادة ذلك المعنى ، انتهى.

ثمّ إنّه قدس‌سره تعرّض لبيان الحقّ في هذين القولين ، وأنّ الحقّ فيه هو التفصيل الآتي (١) ببيان أوضح وأوفى فراجعه.

قلت : لعلّ مرجع هذا النزاع إلى النزاع في أنّ أصالة الظهور هل هي من الأُصول العدمية الراجعة إلى أصالة عدم القرينة أعم من المتّصلة ، أو أنّ أصالة الظهور أصل مستقل برأسه من الأُصول الوجودية ، وهي لزوم الأخذ بظاهر الكلام ما لم يكن في البين قرينة على إرادة خلافه. أمّا القرينة المنفصلة فيمكن القول بأنّها لا توجب الخدشة في الظهور ، غايته أنّها لو تحقّقت كانت موجبة لرفع اليد عن حجّية ذلك الظهور في كشفه عن إرادة المتكلّم ، بمعنى أنّها تكون مزاحمة لحجّية ذلك الظهور في كشفه عن المراد ، وحيث إنّها مقدّمة في مقام التزاحم يلزمنا رفع اليد عن هذه الحجّية التي كانت بأيدينا ، هذا بعد العثور عليها ، أمّا قبل العثور عليها فلا يكون في البين إلاّمجرّد احتمالها سابقة أو لاحقة ، وهذا الاحتمال لا يوجب الوقفة في حجّية ما بيدنا من الظهور خصوصاً فيما يحتمل لحوقها ، وأقصى ما في البين هو احتمال أنّ المتكلّم أراد خلاف الظاهر ، وهذا الاحتمال ملغى بواسطة ذلك القانون المحاوري الذي حاصله هو أنّه على المتكلّم إذا كان في مقام بيان مراده أن يذكر كلّ ما له دخل فيه ، وأنّ اعتماده على القرينة المنفصلة يكون غير معتنى به عند العقلاء ، وإن قلنا بأنّه غير مناف لحكمة المتكلّم ، لأنّه لم يكن إلاّلغرض صحيح ، إلاّ أنّه على كلّ حال يكون على خلاف

__________________

(١) في فوائد الأُصول ٤ : ٧١٨ ـ ٧١٩.

٢٥

مجرى قانون المحاورة.

وبالجملة : أنّ قانون المحاورة قاض بأنّ المتكلّم الذي هو في مقام الافادة يندفع إلى ذكر كلّ ما له دخل في مراده ، ولا يخفي شيئاً منه ولو اعتماداً على قرينة لاحقة إلاّلمانع يمنعه من إظهاره فعلاً ، وهذا الاحتمال ـ أعني احتمال وجود المانع من الاظهار ـ منفي بما تقدّم ذكره ، كما أنّ احتمال الاعتماد في عدم البيان فعلاً على قرينة سابقة أيضاً منفي بنفس ذلك الأصل العقلائي ، وكلّ ذلك لا دخل له بالتوقّف على الحكم بعدم القرينة سابقة أو لاحقة. وحينئذ فلا تكون حجّية أصالة الظهور موقوفة على أصالة عدم القرينة فضلاً عن كونها عبارة عنها.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من التفصيل ففيه تأمّل ، حيث إنّ ذلك الذي هو بصدد تحصيل مراد المتكلّم لا بصدد الاحتجاج إن كان غرضه مترتّباً على الواقع بحيث إنّه لا تفيده الأُصول العقلائية فلا تنفعه أصالة عدم القرينة ، وإن كان غرضه كسائر الأغراض العقلائية التي يرتّبونها على ما بأيديهم من الطرق والأُصول العقلائية كانت أصالة الظهور نافعة له ، بناءً على أنّها أصل مستقل برأسه.

وبالجملة : أنّ حاله من هذه الجهة حينئذ حال من هو بصدد الاحتجاج في الاكتفاء بالأصل العقلائي الكاشف عن مراد المتكلّم أيّ شيء كان ذلك الأصل.

ثمّ إنّ ما أُفيد من قوله : إذ ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبّد (١) يمكن التأمّل فيه ، فإنّ بناءهم على الأخذ بمقتضى الظنّ النوعي أو على أصالة عدم القرينة لابدّ أن ينتهي إلى تعبّد ، وإلاّ فما الذي أوجب عليهم الأخذ بمقتضى ذلك الظنّ النوعي أو أصالة عدم القرينة ، لابدّ أن نقول إنّ ذلك ارتكاز طبعي أو دافع فطري جروا عليه بمقتضى طباعهم وفطرتهم ، وإن لم يمكن لنا ولا لهم تعليله.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧١٨.

٢٦

قوله : لأنّ الخاصّ يكون بمنزلة القرينة على التصرّف في العام ... الخ (١).

يمكن الالتزام بأنّ ملاك التقديم هو أقوائية الظهور حتّى في القرينة المتّصلة حتّى في مثل أسد يرمي ، وإلاّ فمن هو الذي فرض علينا أن تكون يرمي قرينة على التصرّف في المراد بالأسد حتّى نقول إنّ ظهورها وإن كان ضعيفاً يكون حاكماً على ظهوره وإن كان أقوى ، ولِمَ لا يكون الأسد قرينة على التصرّف في لفظ يرمي.

ولا يخفى أيضاً أنّ أقوائية الظهور أمر ارتكازي يحكم به الطبع والجبلّة وهو غير داخل تحت حد ولا ينضبط بضابط ، ومجرّد كون أحدهما وضعياً والآخر إطلاقياً لا يوجب أقوائية الأوّل ولا أضعفية الثاني.

ثمّ يمكن أن يدّعى أنّ الخاصّ والمقيّد غالباً أقوى ظهوراً من العام والمطلق ، لكنّه ليس بدائمي ، ولأجل ذلك ترى أنّهم ربما أسقطوا الخاصّ والمقيّد في قبال العام والمطلق ، لكنّك تراهم يعلّلون ذلك بعلل أُخرى ، مثل كون ذلك العام أو المطلق آبياً عن التخصيص والتقييد ، أو غير ذلك من العلل التي يستندون إليها في إسقاط الخاصّ أو المقيّد ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ كون تقديم الخاصّ على العام لأجل كونه أقوى ظهوراً لا يخرجه عن الحكومة ، أعني حكومة أصالة الظهور في ناحية الخاصّ على أصالة الظهور في ناحية [ العام ] ، فإنّ الخاصّ بعد كونه أظهر من العام يكون قرينة على أنّ المتكلّم بالعام أراد خلاف ظاهره ، وقد كانت حجّية أصالة الظهور في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٠.

٢٧

ناحية العام ـ أعني الحكم على المتكلّم بأنّه أراد العموم ـ مقيّدة بأن لا يكون ما يدلّ على أنّه أراد خلافه ، وبذلك تكون أصالة الظهور في الخاصّ حاكمة على أصالة الظهور في ناحية العام ، وإن كان ذلك بعد تحقّق كون ظهور الخاصّ أقوى من ظهور العام ، وحينئذ تكون الأظهرية هي الملاك في ذلك التقديم والحكومة ، ولعلّ هذا هو المراد للشيخ قدس‌سره.

قوله : وقد تقدّم في المباحث السابقة أنّ ضابط الورود هو أن يكون أحد الدليلين رافعاً لموضوع الآخر بنفس التعبّد ولو مع عدم ثبوت المتعبّد به ، بحيث لو فرضنا انفكاك التعبّد عن ثبوت المتعبّد به لكان رافعاً لموضوع الآخر ، وأمّا إذا توقّف الرفع على ثبوت المتعبّد به فلا يكون أحدهما وارداً على الآخر ، بل يكون حاكماً عليه ، فما نحن فيه لا يندرج في ضابط الورود ... الخ (١).

الذي عرفناه فيما تقدّم من الفرق بين الورود والحكومة أنّه بعد تحقّق التعبّد في ناحية الدليل المقدّم إن كان ارتفاع موضوع الدليل المقدّم عليه ارتفاعاً وجدانياً كان ذلك من قبيل الورود ، كما في تقدّم الأمارات على الأُصول العقلية ، وإن كان الارتفاع المذكور ارتفاعاً غير وجداني بل كان ارتفاعاً تنزيلياً ، كان ذلك من قبيل الحكومة ، كما في تقدّم الأمارات على الأُصول الشرعية ، فإنّها بعد التعبّد بها لا يرتفع موضوع الأُصول الشرعية الذي هو الشكّ إلاّ ارتفاعاً شرعياً تنزيلياً ، مع اشتراك التقديمين في توقّف الارتفاع على ثبوت المتعبّد [ به ] ، فإنّ الأمارة القائمة على وجوب الشيء مثلاً لا يكون مجرّد التعبّد بها رافعاً لموضوع البراءة العقلية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٤.

٢٨

أعني قبح العقاب بلا بيان ، بل إنّما يرتفع موضوع هذه البراءة العقلية بالنظر إلى ثبوت المتعبّد به ، بحيث إنّه لو فرضنا محالاً انفكاك التعبّد عن ثبوت المتعبّد به لم تكن الأمارات المذكورة رافعة لموضوع البراءة العقلية.

وبعد أن فرضنا أنّ موضوع حجّية الظهور في كشفه عن إرادة المتكلّم مقيّد بعدم ثبوت ما يدلّ على إرادة خلافه ، يكون الخاصّ المذكور وارداً على ظهور العام لا حاكماً عليه ، لارتفاع موضوعه بذلك ارتفاعاً وجدانياً ، من دون فرق في ذلك بين القول بأنّ أصالة الظهور متوقّفة على أصالة عدم القرينة ، أو القول بأنّها في حدّ نفسها كاشفة كشفاً نوعياً عن إرادة المتكلّم ، لارتفاعها ولو على هذا القول بقيام الدليل على حجّية ذلك الخاصّ.

نعم ، لو كانت حجّية أصالة الظهور مقيّدة بعدم العلم الوجداني بإرادة المتكلّم خلاف الظاهر ، لكان الدليل على حجّية ذلك الخاصّ حاكماً عليها لا وارداً ، لأنّ الدليل على حجّية ذلك الخاصّ حينئذ لا يرفع موضوع ذلك الظهور للعام رفعاً حقيقياً ، بل إنّما يرفعه تنزيلاً.

والظاهر أنّه لا فرق في ذلك كلّه بين كون الخاصّ ظنّي الدلالة والسند وكونه ظنّياً من إحدى الجهتين. نعم لو كان قطعي الدلالة وقطعي السند لكان تقدّمه عليه من باب التخصّص لا الورود ولا الحكومة ، فتأمّل جيّداً.

قوله : فتأمّل في أطراف ما ذكرناه جيّداً ، وتأمّل في عبارة الشيخ قدس‌سره حقّ التأمّل (١).

قال الشيخ قدس‌سره : ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جارٍ في الأُصول اللفظية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٥.

٢٩

أيضاً ، فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز ، فإن كان المخصّص ـ مثلاً ـ دليلاً علمياً كان وارداً على الأصل المذكور الخ (١).

والذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّ القرينة التي اعتبر عدم العلم بها في حجّية ظهور العام هي ما يكون نصّاً في الخصوص ، بدلالة قوله في آخر المطلب : نعم لو فرض الخاصّ ظاهراً أيضاً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين ، فربما يقدّم العام (٢). وكذلك قوله : فالظاهر أنّ النصّ وارد عليها مطلقاً وإن كان النصّ ظنّياً (٣) يعني ظنّي السند ، وحينئذ يكون محصّل الوجه الأوّل المعبّر عنه بكون أصالة العموم من باب أصالة عدم القرينة هو كون أصالة العموم مقيّدة بعدم العلم بإرادة خلافها ، ومن الواضح حينئذ أنّ الخاصّ القطعي السند والدلالة يكون وارداً على أصالة العموم ، وأنّ ما هو نصّ وقطعي الدلالة لكنّه ظنّي السند يكون حاكماً على أصالة العموم المفروض كونها مقيّدة بعدم العلم ، ودليل اعتبار سند ذلك الخاصّ لا يجعله علماً وجدانياً ، وإنّما يجعله علماً تنزيلياً ، فيكون خروجه عن موضوع حجّية أصالة العموم خروجاً تعبّدياً لا وجدانياً ، فلا يكون إلاّمن باب الحكومة.

نعم ، بناءً على التوسعة في موضوع حجّية أصالة العموم بجعله عبارة عن عدم ثبوت ما يخالفه ، يكون تقدّم هذا الخاصّ عليه من باب الورود. وهذا الأخير

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١٥.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ١٧.

(٣) فرائد الأُصول ٤ : ١٦ ـ ١٧.

٣٠

هو الذي أفاده بقوله : ويحتمل أن يكون الظنّي أيضاً وارداً الخ (١) ، هذا محصّل ما أفاده على الوجه الأوّل ، وهو كون أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرينة.

ثمّ شرع في الوجه الثاني ـ وهو كونها من باب الظنّ النوعي ـ فجزم بالورود ، لأنّ الظنّ النوعي مقيّد بأن لا يكون ظنّ نوعي على خلافه ، وهذا القيد وجداني ، لعدم اجتماع [ الظنّ ] النوعي بالعموم مع الظنّ النوعي بالتخصيص ، ومع وجود الخاصّ الظنّي السند القطعي الدلالة يحصل الظنّ النوعي بما هو على خلاف العموم ، فينعدم موضوع حجّية العموم انعداماً وجدانياً ، فيكون تقدّم الخاصّ المذكور عليه من باب الورود.

ولا يبعد أن يكون مراده من الأصل بقوله هنا : فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل (٢) هو الأصل العقلي كقبح العقاب بلا بيان ، فإنّ تقدّم الدليل على الأصل الشرعي إنّما يكون بالحكومة لا بالورود.

نعم ، مراده بالأصل العملي في قوله فيما تقدّم في الوجه الأوّل : فالعمل بالنصّ القطعي ( يعني قطعي الصدور ) في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي (٣) ، هو مطلق الأصل وإن كان شرعياً ، لأنّ تقدّم الدليل المفيد للعلم على الأصل يكون بالورود ، سواء كان الأصل شرعياً أو كان عقلياً.

نعم ، هناك إشكال آخر ، وهو أنّ الغالب من هذه الموارد التي حكم فيها بالورود يكون التقديم فيها من قبيل التخصّص لا الورود ، فلاحظ.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١٦.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ١٧.

(٣) فرائد الأُصول ٤ : ١٥.

٣١

ثمّ إنّ الذي يظهر منه قدس‌سره هو اختيار الوجه الأخير ، ولأجل ذلك برهن عليه بقوله : ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا مورداً يقدّم فيه العام ـ من حيث هو ـ على الخاصّ ، وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة الخ (١) ، ومراده من الخاصّ ما يكون قطعي الدلالة مع كونه ظنّي السند.

ولكن لا يخفى أنّ هذا البرهان لا يكشف عن الوجه الأخير ، بل هو يلتئم مع الوجه الأوّل أيضاً بكلا شقّيه أعني الورود والحكومة ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : نعم لو فرض الخاصّ ظاهراً أيضاً خرج عن النصّ وصار من باب تعارض الظاهرين الخ ، شامل لما إذا كان الخاصّ الظنّي الدلالة قطعي السند أو ظنّي السند ، لأنّ الخاصّ لو كان ظنّي الدلالة كانت المقابلة بين ظهوره وظهور العام ، سواء كان العام قطعي السند أو كان ظنّي السند ، وهذا بخلاف ما لو كان الخاصّ قطعي الدلالة وظنّي السند ، فإنّ المقابلة فيه إنّما تكون بين سند الخاصّ وظهور العام ، لا بين سند الخاصّ وسند العام ، لتحقّق هذه المقابلة حتّى لو كان سند العام قطعياً. وتبقى المناقشة في جعل هذه الصورة ـ أعني صورة كون الخاص ظاهراً ـ من باب تعارض الظهورين لا من باب الورود ولا الحكومة ، ولعلّ ما ذكره من البرهان آت فيها ، فإنّا لم نجدهم توقّفوا في تقديم الخاصّ على العام في مورد من الموارد حتّى فيما لا يكون الخاصّ قطعي الدلالة ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ دلالة الخاصّ على حكم مورده دائماً تكون أقوى من دلالة العام عليه ، ولأجل ذلك لم يتوقّفوا في التقديم في مورد من تلك الموارد إلاّفي بعض الموارد التي يدّعى فيها أنّ العام آب عن التخصيص.

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١٧.

٣٢

ثمّ إنّ ما أفاده في الوجه الأخير ممّا حاصله ورود الظنّ النوعي الحاصل من سند الخاصّ القطعي الدلالة على الظنّ النوعي الحاصل من ظهور العام بحيث كان الظنّ الأوّل رافعاً للظنّ الثاني ، لعلّه لا يخلو عن تأمّل ، إذ ليس ذلك بأولى من العكس ، إلاّ أن يدّعى قوّة الظنّ الأوّل على الثاني ، فيرجع إلى نظير ما أفاده في آخر المطلب من كونهما من تعارض الظهورين ، أو يدّعى إمكان اجتماع الظنّين لعدم كونهما من الظنّ الفعلي ، بل هما من الظنّ الشأني المعبّر عنه بالظنّ النوعي ، ويدّعى كون حجّية الثاني مقيّدة بعدم الأوّل بخلاف حجّية الأوّل ، فتأمّل ، هذا ما حرّرناه سابقاً.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التقديم ـ أعني تقديم ما نسمّيه بالقرينة على ذي القرينة الشامل لما يكون من قبيل التقييد وما يكون من قبيل التخصيص ، وغير ذلك من مسائل الجمع الدلالي حتّى مسألة الجمع بكون أحد النهيين للتحريم والآخر للكراهة وغير ذلك ـ كلّه من باب تقديم أقوى الظهورين على الآخر ، ففي المتّصل يكون الأقوى كاسراً لظهور الأضعف ، وفي المنفصل لا يكسر ظهوره بل إنّما يكسر حجّيته ، فما أشبه هذه المسألة بمسألة أقوى الملاكين ، حيث إنّ ذلك إن كان في مقام التشريع اندحر الأضعف ولم يؤثّر ، وإن كان في مقام التزاحم والامتثال لم يسقط الأضعف إلاّخطاباً.

ثمّ إنّ معنى كسره حجّيته أنّ المنكسر لا يكون كاشفاً عن مراد المتكلّم ، بل الكاشف عنه هو الأقوى ، وليس ذلك إلاّذوقيّاً ، ربما كانت أذواق الأشخاص وبالأحرى المقامات فيه مختلفة ، إذ إنّ الشائع هو كون ظهور الخاصّ هو المقدّم ، ولكن ربما نعثر على مورد يتقدّم فيه العام ، بدعوى أنّ المنظور إليه في الدليل

٣٣

الخاصّ هو العموم ، لكن ذكر الخاصّ من باب المثال أو من باب أنّه الغالب أو الأكثر أو لبيان تحريك العاطفة أو نحو ذلك من الجهات ، كما في تقييد الربائب بأنّها في الحجور ، فليس هناك [ ورود ] ولا حكومة ولا قرينة وذو القرينة ، وإنّما جلّ ما هناك الذوق والارتكاز ، وهذا هو محصّل الاجتهاد في فهم مرادات المتكلّمين من كلامهم ، ولا يختصّ به أهل لسان خاصّ ، بل هو جارٍ في جميع المحاورات.

ولو راجعت الفقه لرأيت أنّ أغلب الاختلافات في الفروع راجع إلى هذا النحو من الاختلاف ، وليس لذلك حدّ محدود ولا قانون مضبوط ، بحيث إنّه يكون التخلّف عنه واضحاً ظاهراً ، وأقصى ما في البين أن نقول إنّه تساعد عليه طريقة العقلاء في المحاورة ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يكون من الضوابط الواضحة التي توقف المخالف عند حدّه ، بل كلّ يرى أنّ ما صار إليه من الجمع بين الدليلين بل ما أخذه من الدليل الواحد وإن لم يكن له معارض هو المطابق للطريقة العقلائية.

وما أشبه ذلك بدعوى فهم العرف المعنى الفلاني من اللفظ الفلاني في حين أنّه لم يسأل العرف ولم يذهب إلى محكمتهم وأين هي ، وما العرف إلاّهو ، وما الطريقة العقلائية إلاّمنه ، سنّة الله تعالى في خلقه ليجري النظام وتنفتح أبواب الاجتهاد ، فإنّه يدور على ذلك. بل لعلّ الاختلاف في كثير من المسائل العقلية يدور على ذلك ، كمسائل التحسين والتقبيح العقليين ونحو ذلك ممّا يكون الحاكم به هو عقل الإنسان نفسه ، وبالأحرى أنّ الحاكم به هو نفس مدّعيه ، لا أنّ هناك محكمة مفتوحة تصدر تلك الأحكام ابتداءً منها أو بعد الاستفهام والسؤال.

٣٤

قوله : المبحث الخامس في حكم التعارض (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ الكلام يقع في ثلاثة مباحث ، فإنّ المتعارضين إمّا أن يمكن الجمع بينهما من حيث الدلالة بحمل أحدهما على الآخر بنحو يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، وإمّا لا يمكن فيهما ذلك ، وعلى الثاني فإمّا أن لا يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٥.

[ وجدنا ورقة منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بالأصل ، فيها ما يلي : ]

وأمّا قولهم : الجمع مهما أمكن فهو أولى من الطرح ، فليس هو في هذا المقام ، بحيث إنّه لو كانت إحدى الروايتين أقوى سنداً من الأُخرى لكن أمكن تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها على وجه ترجع إلى مفاد الأُخرى ، كان ذلك التأويل أولى من الرجوع إلى المرجّحات السندية القاضية بطرح الأُخرى ، بل هو في مقام احترام الرواية وأنّها لو عورضت بأُخرى هي أقوى منها وكانت قواعد التعارض قاضية بالعمل على تلك الأُخرى ، فالذي ينبغي هو إرجاع مضمون هذه مهما أمكن ولو بالتأويل إلى مضمون تلك ، فإنّ ذلك أولى من طرحها وإلقائها ـ كما في لسان أهل عصرنا ـ في سلّة المهملات ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بالجمع الدلالي السابق في الرتبة على الجمع السندي ليرد عليه أنّه لو فتحنا هذا الباب لانسدّ باب التعارض ، فإنّه بقرينة مقابلته بالطرح يكون المراد به هو أنّه بعد إعمال قواعد التعارض القاضية بتقديم هذه وطرح تلك يكون تأويل تلك وإرجاع مفادها إلى مفاد هذه أولى من طرحها.

نعم ، يرد عليه أنّ ذلك لا يكون من القواعد التي ينبغي أن تحرّر ، بل هو حكم احترامي لا يترتّب عليه أثر عملي في مقام الاستنباط ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ المراد هو أنّ تأويل الرواية التي هي ضعيفة سنداً أولى من طرحها ، لا أنّ تأويل الأقوى سنداً أولى من طرح الأُخرى ، ولا أنّ تأويل الروايتين أولى من طرح ما هي الأضعف سنداً منهما ، ولا أنّ تأويلهما معاً أولى من طرحهما معاً لو قلنا بالتساقط عند التساوي في المرجّحات السندية [ منه قدس‌سره ].

٣٥

في البين رجحان سندي أو جهتي لأحدهما على الآخر أو يكون ، فالمبحث الأوّل في الجمع الدلالي. الثاني : في التعادل وأنّ الأصل فيه التخيير أو التساقط. الثالث : في التراجيح.

وهذا الترتيب أولى ممّا صنعه الشيخ قدس‌سره من جعل باب التعارض مشتملاً على مقصدين هما التعادل والتراجيح ، وجعل قاعدة الجمع مقدّمة ، وذلك لأنّ قاعدة الجمع قاعدة مهمّة ينبغي أن تفرد في مبحث على حدة. ثمّ أخذ قدس‌سره في بيان الجمع الدلالي وموارده.

قلت : ولا يخفى أنّ قاعدة الجمع الدلالي مع أهميّتها التي أشار إليها قدس‌سره هي ذات مزية أُخرى ينبغي أن تنفرد بالبحث ، ويكون البحث عنها سابقاً على المبحثين المشار إليهما أعني مبحث التعادل ومبحث التراجيح ، لأنّ هذين البحثين في طول قاعدة الجمع ، فبعد عدم إمكان الجمع الدلالي بين الخبرين المتنافيين يقعان مورداً للتعادل أو للتراجيح.

قوله : وكذا لا عبرة بما ذكروه في تعارض الأحوال من الشيوع والغلبة وكثرة الاستعمال ونحو ذلك ، فإنّه لا أثر لشيء منها في رفع التعارض (١).

قلت : ولكن ربما قدّم الفقيه أحد الخبرين على الآخر لأجل بعض هذه الأُمور أو لما هو أضعف منها حسب ما يراه في ذوقه العرفي مرجّحاً دلالياً ، فإنّ هذه الأُمور لا تدخل تحت ضابط ، لأنّها كما أشرنا إليها ذوقية ، فربما رأى الفقيه أنّ كثرة الاستعمال في بعض الموارد موجبة لتمامية الظهور على وجه تلحق بالقرينة المتّصلة ، ويكون الفقيه الآخر على خلاف ذلك.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٧.

٣٦

قوله : بل طريق رفع التعارض ينحصر بأحد أمرين ، إمّا أن يكون أحدهما نصّاً في مدلوله والآخر ظاهراً ، وإمّا أن يكون أحدهما بظهوره أو أظهريته ... الخ (١).

مثال الأوّل : الخاصّ القطعي الدلالة ، ويتأتّى تقديم النصّ على الظاهر في المتباينين كما لو قال : لا تشرب التتن ، وورد أنّه يجوز له شربه ، فإنّ الثاني لكونه نصّاً في الجواز يكون قرينة على أنّ المراد بقوله : « لا تشرب » الكراهة. ومثال الثاني : الخاصّ الظاهر الدلالة.

وللأوّل ملحقات كما أنّ للثاني ملحقات ، فملحقات الأوّل هي ما أشار إليها بقوله : ومنها ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب ـ إلى قوله ـ هذا كلّه فيما يندرج في الأمر الأوّل (٢). وأمّا ملحقات الثاني فهي ما أشار إليها بقوله : وأمّا ما يندرج في الأمر الثاني الخ (٣).

ولعلّ هذا الترتيب أولى ممّا في هذا التحرير من إدخال الأوّل في ملحقاته وجعل الموارد خمسة ، ولا يخفى ما فيه ، كما أنّه على التحرير المذكور لم يذكر الخاصّ الظاهر في التخصيص.

ثمّ لا يخفى أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن لم يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد ، إلاّ أنّه على الأقل يوجب سقوط حجّية المطلق في الاطلاق ، وتنحصر حجّيته في خصوص القدر المتيقّن ، وحينئذ يكون أخصّ من العام الآخر ، لكن لا من باب ظهوره في التخصيص ، بل من باب اختصاص حجّيته

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٨ ـ ٧٢٩.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٩.

٣٧

بالخاصّ ، وحينئذ يشكل تقدّمه على العام ، لأنّ المتيقّن من موارد التقديم هو كون الظهور مقصوراً على الخاصّ ، لا أنّ الحجّية مقصورة عليه بعد فرض عدم كون ظهوره مقصوراً عليه.

ولا يرد على ذلك ما هو مسلّم من عدم التوقّف في تخصيص العام بالقدر المتيقّن من الخاصّ المنفصل المردّد بين الأقل والأكثر على نحو الشبهة المفهومية مثل ما لو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، وتردّد الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة أو مطلق المرتكب حتّى الصغيرة ، لأنّ ذلك إنّما يكون بعد فرض كون الخاصّ أخصّ مطلقاً من العام حتّى لو أخذ الأكثر منه بأن أخذ الفاسق بمعنى مطلق المرتكب ، بخلاف ما نحن فيه ممّا يكون الأكثر غير أخصّ من العام بل كان بينهما العموم من وجه.

وعلى كلّ حال ، لو قلنا بالتقديم في الصورة المزبورة لا يكون ذلك من القسم الأوّل أعني النصّ ، بل يكون من القسم الثاني.

لكنّه قدس‌سره في باب المطلق والمقيّد قد حقّق أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يوجب سقوط [ ظهور ] المطلق في الاطلاق ، ولم يجعل عدمه من مقدّمات الحكمة (١) ، فلأجل ذلك عدّه فيما نحن فيه من ملحقات النصّ على التخصيص.

وبالجملة : أنّ القدر المتيقّن سواء كان في مقام التخاطب أو لم يكن في مقام التخاطب بل كان من قبيل القدر المتيقّن إرادته من المطلق ، يكون ذلك المطلق نصّاً فيه ، فيكون بذلك مقدّماً على الدليل الآخر الذي هو أعمّ منه من

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ٢ : ٤٣٢ ـ ٤٣٤ ، وراجع أيضاً المجلّد الخامس من هذا الكتاب ص ٤٢٩ وما بعدها.

٣٨

وجه ، فإنّ هذا المطلق وإن كان في حدّ نفسه ظاهراً في الاطلاق ، إلاّ أنّه لمّا كان إرادة ما هو مورد المعارضة منه قطعية كان بالنسبة إلى مورد المعارضة نصّاً ، فيقدّم على معارضه وإن لم يكن بالنسبة إلى مورد الانفراد الذي هو خارج عن المعارضة إلاّ ظاهراً لا نصّاً.

لكن لا يخفى أنّ هذه النصوصية إنّما هي بالنسبة إلى ما هو خارج عن المعارضة ، بمعنى أنّ هذا العام من وجه تكون دلالته بالنسبة إلى مورد المعارضة قطعية بالقياس إلى ما هو خارج عن المعارضة ممّا ينفرد فيه هو عن العام الآخر (١) وذلك لا يوجب كون دلالته على مورد المعارضة أظهر من دلالة العام الآخر عليه ، فضلاً عن كونها نصّاً بالقياس إليه.

وبالجملة : أنّ تقديم الخاصّ المطلق على العام المطلق سواء كان الخاصّ نصّاً أو ظاهراً ، إنّما هو من جهة كون الخاصّ في نظرهم مقدّماً على العام ، بحيث إنّه لو جمع بينهما في كلام واحد لكان ظهور ذلك العام منقلباً إليه ، وهذا المعنى لا يتأتّى في العامين من وجه اللذين يكون أحدهما نصّاً في مورد المعارضة ، فينبغي أن يقال إنّه لا يمكن الجمع الدلالي بينهما ، وينحصر فيهما بالرجوع إلى

__________________

(١) بحيث لا يمكن إخراج مورد المعارضة عنه وإبقاء ما هو خارج عن موردالمعارضة ، وهذا لا يقتضي كون هذا العام نصّاً في مورد الاجتماع بالنسبة إلى الآخر على وجه لو كان الآخر بالنسبة إلى مورد الاجتماع أيضاً كذلك بحيث كان كلّ من العامين من وجه وارداً مثلاً في مورد الاجتماع لكان تعارضهما من قبيل تعارض النصّين ، ولا أظن أنّهم يعاملونهما معاملة النصّين المتعارضين ، بل الظاهر أنّهم يجرون عليهما أحكام تعارض الظاهرين ، لكن لا يبعد إجراء حكم تعارض النصّين عليه ، كما لو سئل عن إكرام العالم الفاسق فقال : يجب إكرام العلماء ، وسئل أيضاً عن إكرام الفاسق العالم فقال : يحرم إكرام الفسّاق [ منه قدس‌سره ].

٣٩

المرجّحات الجهتية أو المضمونية إن كانت وإلاّ فالتساقط أو التخيير.

لكن يمكن أن يقال بما أشرنا إليه سابقاً من اختلاف المقامات ، وأنّه ربما أو كثيراً ما كان ظهور العام المطلق الذي هو بهذه الكيفية بالنسبة إلى مورد المعارضة ظهوراً قوياً ، على وجه يلحق عند أهل اللسان بالخاصّ المطلق في تقديمه على العام وجعلهما من قبيل القرينة وذيها ، وهكذا الحال في باقي هذه الملحقات.

وحاصل الإشكال في جميع هذه الملحقات الأربعة : هو أنّا لسنا بمجبورين على تخصيص أحد العامين من وجه بالآخر كي نقول إنّ المتعيّن للتقديم هو الواجد لإحدى هذه الجهات الأربع ، لأنّا لو عكسنا لزم خروج ما هو القدر المتيقّن الارادة ، أو لزم التخصيص المستهجن ، أو لزم خروج الدليل عمّا هو ظاهر فيه من التحديد ، أو لزم خروج مورد العام المعبّر عنه بتخصيص المورد ، بل إنّا نرى التعارض بينهما ، فيلزم الرجوع إلى قواعد التعارض من المرجّحات أو التساقط والتخيير ، إلاّ إذا كانت جهة من هذه الجهات توجب الأظهرية لذيها على وجه تعدّ عند أهل اللسان بالقرينة المتّصلة الموجبة لقلب الظهور في الطرف الآخر ، لكن لا يبعد أنّ الأمر كذلك في غالب هذه الموارد.

نعم ، بعد فرض التعارض والتكافؤ في مثل هذه العمومات المتعارضة وبعد الرجوع إلى التخيير ربما نقول : إنّه بعد ثبوت التخيير بينهما ولزوم العمل بأحدهما إنّ الأولى هو ترجيح الأخذ بذي المزية المذكورة ، على تأمّل في لزوم ذلك.

ولا يخفى أنّ القول بالتساقط لا يدفع الإشكال ، لأنّه حينئذ يخرج القدر المتيقّن أو يبقى العام على مورد نادر ، أو يخرج عنه مورده ، إلى آخر المحاذير

٤٠