أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

فيه ، وبعد تحكيم ذلك العام الآخر فيه لابدّ من تخصيصه به ، وإسقاط أصالة العموم فيه ، لعدم معارضتها في هذه الرتبة مع أصالة العموم في الطرف الآخر.

نعم ، لو لم يكن دليل الجذام خاصّاً ، بل لم يكن عندنا إلاّعموم كون العيب موجباً للخيار ، لكان ذلك الدليل العام ـ أعني كون العيب موجباً للخيار ـ هو المخصّص بدليل مسقطية التلف ، يعني أنّه بعد تحكيم دليل الانعتاق يكون دليل مسقطية التلف أخصّ من عمومات كون العيب موجباً للخيار.

لكن قد يتأمّل في ذلك ، فإنّ الدليل القائل إنّ التلف مسقط للخيار عام لخيار العيب وخيار الغبن مثلاً ، ودليل كون العيب موجباً للخيار عام لصورة التلف وغيرها ، فيكون بينهما عموم من وجه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الوجه في تقديم دليل التلف على دليل خيار العيب مثلاً أنّه لو لم يقدّم عليه وعكس الأمر لم يبق مورد لعموم مسقطية التلف ، لأنّ حاله مع خيار العيب كحاله مع باقي الخيارات.

قوله : المبحث السابع : إذا لم يكن لأحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي الجمع العرفي بينهما فهل الأصل يقتضي سقوطهما رأساً مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير ، أو أنّ الأصل لا يقتضي سقوطهما (١).

بل يحكم بصدور كلّ منهما مع لزوم تأويل أحدهما أو تأويلهما معاً بما يرفع التنافي بينهما.

ولا يخفى أنّ الذي ينبغي في تحرير عنوان هذا المبحث هو أن يقال ـ مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير ـ : هل إنّ الأصل والقاعدة في الخبرين المتعارضين هو سقوط كلّ منهما ، أو إنّ الأصل والقاعدة هو التخيير بينهما.

ولو أُريد إدخال هذا القول أعني كون الجمع ولو بالتأويل أولى من الطرح ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٣.

١٢١

لكان ينبغي أن يقال : هل مقتضى القاعدة هو التساقط أو التخيير أو لا هذا ولا ذاك ، بل يحكم بصدور كلّ منهما مع التأويل في ظهور أحدهما أو ظهورهما.

وكأنّ القائل بأنّ الجمع مهما أمكن ولو مع التأويل أولى من الطرح ، قد أعرض عن أخبار الترجيح والتخيير ، والتزم باجراء دليل التصديق في كلّ خبر وإلحاقه بمقطوع الصدور ، ثمّ بعد الحكم بصدوره إن نافاه خبر آخر التزمنا بالجمع الدلالي بينهما ولو بنحو من التأويل ، وإن لم يمكن التأويل التزمنا بالإجمال فيهما ، فلا يكون الساقط إلاّ أصالة الظهور في أحدهما أو في كلّ منهما مع الالتزام بالصدور في كلّ منهما.

وعلى كلّ حال ، لا ينبغي إطالة الكلام في توجيه هذا القول وفي إبطاله ، فإنّه قد تقدّم (١) الكلام عليه ، وأنّه لا محصّل لهذه القاعدة أعني قاعدة أنّ الجمع ولو بالتأويل أولى من الطرح ، وأنّه لا محصّل للحكم بالصدور مع سقوط حجّية الظهور بالتأويل أو بالإجمال.

فالأولى صرف الكلام إلى القولين السابقين أعني أنّه هل الأصل هو التساقط أو الأصل هو التخيير؟

والظاهر أنّه لا ريب في سقوط الثاني ، إذ مع قطع النظر عن الروايات لا دليل عليه ، نعم أقصى ما عندنا هو عدم إمكان الجمع في الدخول تحت دليل صدّق العادل ، ولكن حيث كان إجراؤه في أحدهما المعيّن بلا دليل وكان ترجيحاً بلا مرجّح ، كان إجراؤه في هذا مزاحماً ومعارضاً باجرائه في ذلك ، فتكون النتيجة هي التساقط فيما تعارضا ، لكن مع الاحتفاظ بكون أحدهما لا مانع من كونه مشمولاً لدليل الحجّية لو كان هناك أثر يترتّب على حجّية أحدهما ، كما لو اشتركا

__________________

(١) لاحظ الهامش من الصفحة : ٣٥ ، وفوائد الأُصول ٤ : ٧٢٦.

١٢٢

في نفي الثالث ، بأن كان كلّ منهما مؤدّياً إلى خلاف ما يقتضيه الأصل الجاري في نفس المسألة ، إذ يكفي في نفي الأصل المذكور قيام الحجّة في الجملة على خلافه وإن لم يكن لتلك الحجّة أثر في خصوص ما تعارضا فيه ، بخلاف ما لو كان أحدهما مطابقاً لمقتضى الأصل ، فإنّه لا مانع بعد تساقطهما من الرجوع إلى ذلك الأصل.

ومن ذلك يتّضح الوجه في عدم تعارضهما فيما لو اشتركا في لازم واحد ولزوم ترتيب ذلك اللازم ، وإن قلنا بكون الدلالة الالتزامية تابعة للمطابقة وجوداً وحجّيةً ، لما عرفت من حجّية أحدهما في الجملة وإن لم يمكن الحكم بحجّيتهما معاً ، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الخراساني قدس‌سره في حاشيته على الفرائد (١).

ومن ذلك يظهر أنّه لا فرق في نفيهما الثالث بين كون التعارض بينهما ذاتياً ، أو كونه عارضياً بواسطة الإجماع على عدم لزوم فريضتين في يوم واحد.

ولكن ذلك محلّ تأمّل وإشكال ، إذ المدار في الحجّية على الوصول ، ولا معنى لحجّية إحدى الروايتين ، إذ لا وصول في البين ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فالأقوى أنّ القاعدة في المتعارضين تقتضي سقوطهما معاً سواء قلنا إنّ التعارض يكون بين الظهورين ، أو قلنا إنّه يكون بين السندين ، أو قلنا إنّه يكون بين سند كلّ منهما وظهور الآخر ، فإنّه على جميع التقادير أدلّة اعتبار السند والظهور لا تعمّ المتعارضين ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ من جملة المرجّحات في الروايات هي المرجّحات السندية ، وبناءً على أنّ التعارض إنّما يكون بين الظهورين أو بين ظهور أحدهما وسند

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٤.

١٢٣

الآخر ، لا وجه للرجوع إلى المرجّحات السندية ، بل إنّ ذلك ـ أعني الرجوع إلى المرجّحات السندية ـ لا يمكن ولا يعقل إلاّ إذا كان التعارض والتنافي واقعاً بين السندين.

وكيف كان ، نقول : إنّه لو كانا قطعيّي الدلالة بأن كانا نصّين وكانا ظنيّي السند لا ريب في أنّ المعارضة إنّما هي بين السندين ، وكذلك العكس بأن كانا ظنيّي الدلالة لكن كانا قطعيّي السند ، فإنّ المعارضة إنّما تكون بينهما في ناحية الظهور ، وإنّما الكلام فيما لو كانا ظنّيي الدلالة والسند ، ففيه نقول : إنّه كما أنّ التعبّد بالسند لا أثر له إلاّمع حجّية الظهور ، فكذلك التعبّد بالظهور لا أثر له إلاّمع حجّية السند ، فتكون الحجّية في كلّ منهما متوقّفة على الحجّية في الطرف الآخر ، ويكون الحاصل هو أنّ أصالة الصدور متوقّفة على أصالة الظهور ، كما أنّ التعبّد بالظهور يكون متوقّفاً على الصدور ، وهو الدور.

لكن لمّا كان الظهور له مرتبتان ، الأُولى مرتبة حاصل الجملة ، والثانية مرتبة الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ما هو حاصل الجملة ، والذي يتوقّف عليه الحكم بالصدور والتعبّد به إنّما هو المرتبة الأُولى ، ولا ريب أنّ المرتبة الأُولى من الظهور لا تحتاج إلى تعبّد بالصدور ، والذي يحتاج إلى التعبّد بالصدور إنّما هو المرتبة الثانية منه ، فالظهور الذي يتوقّف عليه الحكم بالصدور إنّما هو المرتبة الأُولى منه ، وهي وجدانية غير متوقّفة على الحكم بالصدور ، والذي يتوقّف على الحكم بالصدور إنّما هو المرتبة الثانية منه ، وبذلك يندفع توهّم الدور.

وحينئذ نقول : إنّه إذا حصل التعبّد بصدور هذه الجملة من الإمام عليه‌السلام المفروض كونها في حدّ نفسها واجدة للمرتبة الأُولى من الظهور ، ترتّب على ذلك التعبّد التعبّدُ بالمرتبة الثانية من الظهور ، فيحكم حينئذ بأنّ الإمام أراد ذلك

١٢٤

المعنى الذي هو حاصل الجملة ، فإذا كانت رواية أُخرى هي مخالفة لهذه الرواية في حاصل الجملة ، كان الحكم بصدور تلك الرواية بما يترتّب عليه من التعبّد بالمرتبة الثانية من الظهور معارضاً للحكم بصدور هذه الرواية التي بأيدينا ، فيكون التعارض بين السندين بما يترتّب على كلّ منهما من الحكم على المتكلّم بأنّه أراد حاصل الجملة ، أعني بذلك المرتبة الثانية من الظهور ، ولكن يكون التعارض بين السندين على النحو المسطور والحكم على كلّ منهما بالسقوط قبل الوصول إلى المرتبة الثانية من الظهور ، فلا وجه للقول بأنّه يقع التعارض بين الظهورين بعد الفراغ عن الحكم بصحّة سند كلّ منهما ، وأنّه لا معارضة بين السندين ، وأنّ المعارضة إنّما تقع بين الظهورين. وكذلك لا وجه حينئذ للقول بأنّ التعارض يكون واقعاً بين سند كلّ منهما وظهور الآخر.

لا يقال : إنّ الدور باقٍ بحاله ، فإنّ أصالة الصدور لا تجري فيما لا تتحقّق فيه المرتبة الثانية من الظهور ، فإنّ الحكم بصدور ما لم يمكن نسبة مضمونه إلى إرادة الإمام عليه‌السلام لغو لا أثر يترتّب عليه ، وحينئذ تكون أصالة الصدور متوقّفة على المرتبة الثانية من الظهور ، وقد قلتم إنّ المرتبة الثانية من الظهور متوقّفة على الصدور.

لأنّا نقول : إنّ المرتبة الثانية من الظهور ـ أعني الحكم فعلاً بأنّ الإمام عليه‌السلام أراد مفاد هذه الجملة ـ وإن توقّف على أصالة الصدور ، إلاّ أنّ أصالة الصدور لا تتوقّف على الحكم الفعلي بأنّه عليه‌السلام أراد مفاد هذه الجملة ، بل أقصى ما في البين هو توقّف أصالة الصدور على إمكان ذلك ، بمعنى أنّ أصالة الصدور لا تجري إلاّ في المتن الذي يمكننا أن ننسب مضمونه إليه عليه‌السلام في قبال ما لا يمكن ، نظير قولنا يجب ظلم اليتيم ، فإنّه لا يمكن الحكم بأنّه عليه‌السلام يريد مضمونه ، فلا تجري فيه

١٢٥

أصالة الصدور ، أمّا ما يكون نسبته إليه ممكناً فلا مانع من إجراء أصالة الصدور فيه ، وبعد الحكم بصدوره عنه يحكم فعلاً بأنّه عليه‌السلام أراد مضمونه ، وعلى ذلك يترتّب سقوط سند كلّ من المتعارضين ، إذ لا يمكن الحكم على أحدهما بأنّه عليه‌السلام أراد مضمونه لمعارضة الطرف الآخر له ، وهكذا الحال في الآخر.

وخلاصة ذلك : أنّ أصالة الصدور في الخبر تتوقّف على عدم المانع من نسبة مضمونه إلى الإمام عليه‌السلام ، ولا فرق في المانع بين كونه مثل المثال أعني ظلم اليتيم ، أو كونه من جهة وجود المعارض الموجب لعدم إمكان نسبة مضمون كلّ منهما إليه عليه‌السلام.

قوله : فلو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مفاد الآخر حرمة الدعاء في ذلك الوقت ، فبالنسبة إلى نفي الكراهة والاباحة والاستحباب عن الدعاء عند رؤية الهلال يتوافقان ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كان لنا عموم يدلّ على استحباب مطلق الدعاء في أيّ وقت ، كان مقتضى القاعدة هو الرجوع إلى ذلك العموم بعد تساقط الخاصّين المتباينين أعني ما يدلّ على وجوب الدعاء المذكور وما يدلّ على حرمته ، كما هو الشأن في الخاصّين المتعارضين ، فإنّ المرجع بعد تساقطهما هو العموم الذي يكون فوقهما.

لكن ذلك إنّما هو فيما لو كان أحد الخاصّين موافقاً للعام والآخر مخالفاً ، كما لو قال : أكرم العلماء ، وقال : أكرم النحويين ، وقال : لا تكرم النحويين ، فإنّه على الظاهر لا كلام في أنّه بعد تساقط هذين الخاصّين يكون المرجع هو العموم المذكور ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ممّا يكون كلّ من الخاصّين مخالفاً للعام ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٦ ـ ٧٥٧.

١٢٦

فإنّهما يتّفقان في نفي مفاد الحكم العام في موردهما ، وهذا المقدار كافٍ في سقوط العام وعدم إمكان التمسّك به في موردهما.

وقد يقال : إنّه لو حصل لنا العلم من الخارج بأنّ الحكم في مورد الخاصّين لا يخرج عن مفاد أحدهما ، لكان الموجب لسقوط العموم هو ذلك العلم ، وكان ذلك العلم موجباً للعلم الاجمالي بأنّ الحكم في مورد الخاصّين على طبق أحدهما ، وذلك خلاف ما هو المفروض ، إذ المفروض هو أنّه ليس لنا في قبال ذلك العام إلاّما يفيده هذا الخاصّ وما يفيده ذلك الخاصّ ، وبعد فرض سقوط حجّية كلّ منهما بالمعارضة لا يكون لدينا ما يوجب رفع اليد عن عموم ذلك العام في موردهما ، فلم يبق بأيدينا سوى اتّفاقهما في نفي مفاد العموم في موردهما استناداً إلى الدلالة الالتزامية لكلّ منهما ، من جهة أنّ ما يدلّ على كون حكم الدعاء المذكور هو التحريم يدلّ بالالتزام على نفي الاستحباب ، وكذلك ما يدلّ على أنّ حكمه هو الوجوب يدلّ بالالتزام على نفي استحبابه ، وحيث إنّهما لا معارضة بينهما في هذا اللازم ، لم يكن مانع من حجّيتهما فيه ، فتكون دلالتهما الالتزامية عليه مخصّصة لعموم العام.

وفيه : أنّ الدلالة الالتزامية لمّا كانت لازمة للمطابقية كانت تابعة لها وجوداً وحجّية ، وتوضيح ذلك هو ما عرفت مكرّراً من أنّ للدلالة والظهور مرتبتين :

الأُولى : مرتبة استفادة حاصل الجملة بمدلولها المطابقي ومدلولها الالتزامي ، وفي هذه المرتبة لا يعقل التفكيك بينهما ، وإلاّ خرجت الدلالة الالتزامية عن كونها دلالة على اللازم ، فإنّ التفكيك بينهما لازمه القول بعدم الملازمة بين المدلولين ، هذا خلف.

المرتبة الثانية : مرتبة نسبة حاصل الجملة إلى المتكلّم والحكم عليه بأنّه

١٢٧

أراده ، وفي هذه المرتبة أيضاً لا يعقل التفكيك بينهما ، لأنّ الحكم على المتكلّم بأنّه أراد اللازم فرع الحكم عليه بأنّه أراد الملزوم ، فما لم يمكن الحكم عليه بأنّه أراد الملزوم لا يمكن الحكم عليه بأنّه أراد اللازم ، وهذه المرتبة هي عبارة أُخرى عن حجّية الظهور.

وحينئذ نقول : إذا أسقطنا حجّية ظهور قوله : يجب الدعاء عند رؤية الهلال لوجود المعارض ، فلم يمكننا أن نحكم بأنّ المتكلّم أراد الوجوب ، وأسقطنا حجّية ذلك القول في كشفه عن إرادة المتكلّم ، أو أسقطنا حجّية سنده فلم يمكننا الحكم عليه بأنّه قد صدر منه ذلك الكلام ، وإذا لم نحكم عليه بأنّه قد صدر منه لم يمكننا الحكم عليه بأنّه أراد الوجوب ، ومع عدم إمكان الحكم عليه بأنّه أراد الوجوب كيف يمكننا الانتقال إلى أنّه أراد لازمه الذي هو عدم الاستحباب.

والحاصل : أنّ الحكم على المتكلّم بأنّه قد أراد ذلك اللازم الذي هو محصّل الحجّية بالنسبة إلى المدلول الالتزامي ، يتوقّف على الحكم عليه بأنّه قد أراد الملزوم ـ أعني المعنى المطابقي ـ الذي هو عبارة عن الحجّية بالنسبة إلى المعنى المطابقي ، فيكون سقوط الحجّية بالنسبة إلى المعنى المطابقي موجباً لسقوط الحجّية بالنسبة إلى المعنى الالتزامي.

والحاصل : أنّه مع عدم إمكان الحكم على المتكلّم بأنّه قد أراد المعنى المطابقي ، كيف يمكن الحكم عليه بأنّه قد أراد المعنى الالتزامي ، الذي عرفت أنّه لا يحكم على المتكلّم بأنّه أراده إلاّبعد الحكم عليه بأنّه قد أراد ملزومه.

ومنه يظهر حال البيّنة القائمة على ملاقاة هذا الماء القليل للدم ، والأُخرى القائمة على ملاقاته للبول ، فإنّه بعد سقوطهما لا مانع من الرجوع فيه إلى قاعدة الطهارة ، من جهة أنّ الحكم بالنجاسة إنّما هو من جهة الحكم بملاقاة البول ، فما

١٢٨

لم يمكن الحكم بأنّه لاقى البول لا يمكننا الحكم عليه بالنجاسة.

اللهمّ إلاّ أن يفرّق بين ما نحن فيه وبين تعارض البيّنات ، ففيما نحن فيه يكون التلازم بين الارادتين ، وما لم يمكن الحكم بإرادة الملزوم لا يمكن الحكم بإرادة اللازم ، بخلاف تعارض البيّنات فإنّ التلازم فيه يكون بين الملاقاة الواقعية للبول وبين النجاسة الواقعية ، وسقوط حجّية البيّنة في الملزوم لا يوجب سقوطها في اللازم.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ البيّنة لا تشتمل على حكايتين ، وإنّما تحكي ابتداءً عن الملزوم ، ونحن بعد إثبات الملزوم نرتّب اللازم وإن لم تكن الشهود في البيّنة شاعرة بذلك اللازم ، وحينئذ فإذا لم يمكننا إثبات الملزوم كيف يمكننا إثبات اللازم.

نعم ، لو كانت الشهود في البيّنة شهدوا باللازم كما شهدوا بالملزوم ، بأن قالوا : هذا نجس لأنّه قد لاقى البول ، أو قالوا : هذا قد لاقى البول فهو نجس ، لم يكن سقوطها في إثبات الجزء الثاني من مدلولها موجباً لسقوطها في إثبات الجزء الأوّل منه.

ويتفرّع على ذلك أنّه لو لم يكن لنا إلاّبيّنة واحدة ، لكن أحد الشاهدين شهد بملاقاة البول ، والآخر شهد بملاقاة الدم ، فهل نقول إنّه قد تمّت البيّنة بالنسبة إلى اللازم الذي هو النجاسة ، أو يفرّق في ذلك بين وحدة الواقعة فيترتّب اللازم ، وبين احتمال تعدّدها فلا يترتّب اللازم المذكور؟ وربما يقال في ذلك بالعكس ، فمع وحدة الواقعة لا يترتّب اللازم بخلاف احتمال تعدّدها.

والحاصل : إنّ الانتقال إلى اللازم تارةً يكون من قبيل الاستدلال ، بأن تكون الأمارة كخبر الواحد أو البيّنة حجّة في إثبات الملزوم ، ونحن بعد ثبوت الملزوم

١٢٩

ننتقل إلى لازمه ونحكم بثبوته لثبوت ملزومه ، كما لو أخبرنا المخبر أو قامت البيّنة على وجود الدخان ، فإنّا بعد ثبوت وجود الدخّان ننتقل إلى ملازمه وهو وجود النار فنحكم بوجودها ، فإذا كان هناك ما يمنع من كون ذلك الخبر أو تلك البيّنة مثبتة لمؤدّاها كوجود معارض لها في ذلك ، لم يكن لنا طريق نثبت به وجود الدخّان كي ننتقل منه إلى ملازمه وهو وجود النار ، حتّى لو كان ذلك المعارض مشاركاً لهذا الخبر أو لهذه البيّنة في كون ما يحكيه ملزوماً لوجود النار ، لأنّ هذين المحكيين لا يمكننا إثبات أحدهما كي ننتقل إلى ملازمه الذي هو وجود النار.

نعم ، لو قلنا بعدم سقوط كلا المتعارضين ، بل قلنا ببقاء أحدهما على الحجّية ، لكان إثبات ذلك الملازم بمكان من الامكان ، لكنّك قد عرفت أنّ التعارض يوجب سقوط كلّ من المتعارضين ، هذا إذا كان المقام من قبيل الاستدلال والانتقال من ثبوت الملزوم إلى ثبوت اللازم.

وإن كان المقام من قبيل الدلالة الالتزامية ، بمعنى كشف الظهور عن إرادة المتكلّم والحكم عليه بأنّه قد أراد اللازم ، فقد عرفت أنّ الحكم عليه بأنّه أراد اللازم يتوقّف على إرادته الملزوم ، أعني أنّ حجّية الظهور في كشفه عن إرادة اللازم تتوقّف على حجّية الظهور في كشفه عن إرادة الملزوم الذي هو المعنى المطابقي ، ووجود المعارض يمنع من حجّية الظهور في كشفه عن إرادة المتكلّم ذلك الملزوم الذي هو المعنى المطابقي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الدلالة ولو بالمرتبة الثانية ـ أعني الحكم على المتكلّم بأنّه أراد المعنى ـ تكون الالتزامية منها متوقّفة على المطابقية ، لكن حجّية تلك الدلالة مطلب آخر ، بمعنى أنّ حجّية الالتزامية لا تتوقّف على حجّية المطابقية ، وأمّا دعوى كون الكشف عن إرادة اللازم في عرض الكشف عن إرادة الملزوم ،

١٣٠

فذلك ممّا لا أظنّ أنّ أحداً يمكنه الالتزام به ، فتأمّل.

وممّا ينبغي الالتفات إليه : أنّ هذا الذي تقدّم البحث عنه من أنّه بناءً على الطريقية يكون الأصل هو التساقط ، وأنّه بناءً على التساقط هل يسقطان بالمرّة ، أو أنّ الساقط هو خصوص مورد التعارض منهما دون ما يتفّقان فيه من اللازم الذي هو نفي الثالث ، كلّه بحث علمي لا يترتّب عليه أثر عملي ، لما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى من دلالة الأخبار على الترجيح ثمّ التخيير.

نعم ، يظهر الأثر العملي في الأمارات التي لا تجري فيها أخبار التخيير مثل البيّنات ونحوها ، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو السقوط فيها في كلّ من المدلول المطابقي والالتزامي.

إلاّ أن تشهد البيّنة باللازم كما تشهد بالملزوم ، بأن تقول هذا الاناء نجس لأنّه لاقى البول مثلاً ، وأُخرى تقول إنّه نجس لأنّه لاقى الدم ، أمّا إذا لم تشهد إلاّ بملاقاة الدم أو بملاقاة البول ، فالذي ينبغي هو سقوطهما في اللازم الذي هو النجاسة ، والرجوع بعد التساقط إلى قاعدة الطهارة سيّما إذا كان الشهود في غفلة من ذلك اللازم ، أو كان ما في الاناء من الماء القليل وكان الشهود لا يرون نجاسته بملاقاة النجاسة.

وممّا يكشف عن ذلك ما سيأتي من قوله : فقد يكون التعارض موجباً للتساقط ، كما لو تداعى شخصان فيما يكون بيد ثالث وأقام كلّ منهما البيّنة ، فإنّ البيّنتين يتساقطان ويقرّ المال في يد ذي اليد إذا ادّعى الملكية الخ (٢) فإنّ البيّنتين يتّفقان في نفي ملكية الثالث الذي هو ذو اليد ، وبناءً على عدم سقوط الدلالة

__________________

(١) في الصفحة : ٢٠٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٢.

١٣١

الالتزامية ينبغي القول بانتزاعه من ذي اليد وتوزيعه بينهما بالسوية كما إذا لم يكن في البين صاحب اليد ، ولا أظن أحداً يلتزم بذلك ، وذلك من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من سقوط الدلالة الالتزامية وإن كانا متوافقين فيها.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الانتزاع من ذي اليد موقوف على قيام البيّنة على خلاف يده ، وقيام البيّنة على ملكية الغير ليس قياماً للبيّنة على خلاف اليد إلاّ باللازم ، والشهادة إنّما تكون شهادة بالنسبة إلى المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي ، وهذا بخلاف البيّنة القائمة على ملاقاة الماء القليل لدم مثلاً فإنّها وإن لم تكن شهادة بالنجاسة ، إلاّ أنّا نحن بعد ثبوت الملاقاة ننتقل إلى لازمها الذي هو النجاسة ، وهذا الترتّب كافٍ في الحكم بالنجاسة ، بخلاف الانتزاع من ذي [ اليد ] فإنّه يتوقّف على الشهادة على عدم ملكيته ، والشهادة إنّما كانت في المدلول المطابقي دون المدلول الالتزامي.

وفيه تأمّل ، فإنّ البيّنة القائمة على ملكية غير ذي اليد كافية في الانتزاع لو لم يكن في البين معارض ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من أنّ الحكم في الروايات هو التخيير عند التعارض والتكافؤ قليل الابتلاء جدّاً ، إذ لم نجد مورداً في الفقه قد عملوا فيه على التخيير ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن الأولى أن يقال في وجه نفيهما الثالث : هو أنّ كلاً من الروايتين مشمولة في حدّ نفسها لدليل حجّية السند أعني صدّق العادل ، إلاّ أنّا إنّما قلنا بعدم الشمول للمتعارضين باعتبار عدم ترتّب الأثر بواسطة التعارض ، فلا تكون حينئذ نتيجته إلاّوجوب التصديق فيما يكون في حدّ نفسه مجملاً ، وهذا إنّما يكون فيما لا يكون في البين أثر إلاّذاك الأثر وهو الاجمال ، على وجه لو كان لذلك المجمل

١٣٢

أثر وهو كونه مستلزماً لإجمال دليل آخر ، كان دليل التصديق شاملاً ، كما في مثل لا تكرم بعض العلماء بالقياس إلى عموم أكرم العلماء.

أمّا إذا كان هناك أثر آخر وهو نفي الثالث ، فلا مانع من وجوب التصديق في كلّ منهما ، فيكون كلّ منهما محكوماً بالصدور وهو معنى الحجّية من حيث السند ، غاية الأمر أنّه لا يمكن العمل بمدلوله المطابقي ، لكن مدلوله الالتزامي قابل للعمل ، وكفى به أثراً لوجوب التصديق.

فيكون الحاصل أنّ كلاً من هذين الخبرين صادر لكن لا يمكن العمل بمدلوله المطابقي ، لأنّ فرض إمكان العمل بمدلوله المطابقي كافٍ في صحّة الحكم بصدوره.

نعم ، يمكنك أن تقول : إنّ المدلول المطابقي لم تقم حجّة عليه لأجل وجود المعارض ، وليس ذلك عبارة عن الحكم بأنّ هذا الخبر غير صادر بحسب مدلوله المطابقي وصادر بحسب مدلوله الالتزامي ، بل معناه أنّ هذا المتن صادر وإن لم يمكننا العمل بمدلوله المطابقي ، لكفاية مدلوله الالتزامي في الحكم بصدوره.

ولأجل ذلك لو اشتملت الرواية على جملتين إحداهما غير معمول بها ، تكون تلك الرواية حجّة ومشمولة لدليل وجوب التصديق ، فيقولون إنّ اشتمال الرواية على ما لا يقول به أحد لا يضرّ بحجّيتها بالقياس إلى الجملة الأُخرى ، ولا محصّل لذلك إلاّ الحكم بصدور تمام المتن ، غير أنّه لا يمكن العمل بإحدى جملتيه ، لعدم القول بمقتضاها ، بخلاف الجملة الأُخرى وهي كافية في الحكم بصدور ذلك المتن برمّته.

١٣٣

وأمّا ما أفاده في الكفاية (١) من أنّ نفي الثالث بحجّية أحدهما ، حيث إنّا نعلم بأنّ أحدهما كاذب ، أمّا الآخر فلا علم بكذبه ، فيكون الحاصل هو أنّ أحدهما ليس بحجّة والآخر حجّة ، لكن لمّا كان ما هو الحجّة هو أحدهما بلا تعيين ، لم نتمكّن من تطبيقه على أحدهما المعيّن لكونه ترجيحاً بلا مرجّح ، فيكون تطبيقه على هذا معارضاً بتطبيقه على ذاك ، فيسقط كلّ منهما بخصوصه وتبقى الحجّية لأحدهما الغير المعيّن وهو كاف في نفي الثالث.

فقد أشكل عليه الأُستاذ العراقي (٢) بأنّه مبني على سراية العلم من مفهوم أحدهما إلى الخارج ، وقد حقّق في محلّه عدم السريان ، وسيأتي الكلام (٣) في ذلك إن شاء الله تعالى.

والأولى أن يقال : إنّ الحجّية منوطة بالوصول ، فلا محصّل لحجّية مفهوم أحدهما مع عدم العلم بحجّية هذا بعينه أو ذاك بعينه.

وأمّا ما عن الأُستاذ العراقي قدس‌سره (٤) من أنّ كلاً منهما يتضمّن مطابقة أو التزاماً تكذيب صاحبه ، فلو صدّقناهما لزم الحكم على كلّ منهما بأنّه صادق وكاذب ، فلا يشملهما دليل الحجّية لأجل لزوم هذا التناقض ، وهذا المانع مقصور على مدلولهما المطابقي الذي هو متعرّض لتكذيب صاحبه مطابقة أو التزاماً ، أمّا مدلولهما الالتزامي الذي هو نفي الثالث فلا يلزم من جريان دليل التصديق بالقياس إليه هذا المحذور أعني التناقض ، وحينئذ فلا مانع منه ، وبذلك يكونان نافيين للثالث.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٣٩.

(٢ و ٤) نهاية الأفكار ٤ ( القسم الثاني ) : ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٣) في الصفحة : ١٣٧.

١٣٤

ففيه : أنّ أقصى ما فيه هو أنّ سقوط الحجّية في الدلالة المطابقية لا يوجب سقوطها في الدلالة الالتزامية ، ويبقى عليه السؤال عن أنّه إذا سقطت الحجّية في الدلالة المطابقية كيف يمكن بقاؤها في الدلالة الالتزامية ، مع أنّ سقوط الحجّية عبارة عن عدم الحكم بالصدور.

ومن ذلك كلّه [ يعلم ] أنّا لا نحكم على المتعارضين بعدم الصدور كما أنّا لم نحكم عليهما بالصدور ، ولأجل [ ذلك ] يكون الأولى هو التعبير بالتوقّف لا بالسقوط ، ولكن ذلك كلّه فيما إذا لم يشتركا في شيء واحد كنفي الثالث ولو بالدلالة الالتزامية ، فإنّا حينئذ نحكم بصدورهما ، غايته أنّ أثره هو ترتيب ذلك الأثر الثالث الذي هو اللازم.

ولكن ربما يقع الاشتباه في اللازم بين ما هو مورد الانتقال اللمّي أو الانّي أو الانتقال من الموضوع إلى الحكم ، وبين ما هو مورد الحكاية والدلالة لمتن الخبر ، فإنّا حيث نقول إنّهما حجّة في اللازم فإنّما نعني به النحو الثاني ، أمّا النحو الأوّل فلا ، فلو دلّ أحد الخبرين على وجوب الشيء والآخر على حرمته مثلاً ، لا نقول إنّهما حجّة في نفي الثالث الذي هو الاباحة أو هو أصالة البراءة ، إذ ليس نفي الاباحة أو الأصل مدلولاً التزامياً لما دلّ على الوجوب أو ما دلّ على الحرمة.

نعم ، نحن إذا قام الدليل على وجوبه ننفي إباحته أو نسقط البراءة فيه ، ومن الواضح أنّه بعد التعارض في الوجوب والتحريم لم يكن بأيدينا حجّة على الوجوب ولا على التحريم ، فلا يمكننا الحكم بعدم إباحته.

وهكذا في الانتقال من الموضوع إلى الحكم ، فلو قامت بيّنة على أنّ هذا الماء لاقى البول وأُخرى على أنّه لاقى الدم ، لم يثبت عندنا موضوع النجاسة كي نرتّبه عليهما ، إلاّ إذا قلنا بالقدر الجامع وأنّهما حجّة فيه. وهكذا الحال في البيّنة

١٣٥

القائمة على جنون الموكّل والأُخرى القائمة على موته ، لا يمكننا الحكم بانعزال الوكيل إلاّبعد الارجاع إلى القدر الجامع.

ومن ذلك يتّضح لك الحال في تعارض بيّنتي الخارجين ، فإنّا لا نحكم بانتزاع المال من ذي اليد وتقسيمه بينهما ، لأنّ كلّ واحدة من البيّنتين لا تشهد بعدم ملكية ذي اليد ، نعم نحن بعد ثبوت أنّه لزيد مثلاً الذي هو الخارج نحكم بانتزاعه من ذلك ، أمّا إذا تعارضت البيّنات فلم يثبت أنّه لزيد ولم يثبت أنّه لعمرو ، وحينئذ تبقى يد صاحب اليد محكّمة ، فلا نحكم بانتزاعه منه.

ومن ذلك ما لو قال : يجب إكرام العلماء ، وقال : يستحبّ إكرام الصرفيين ، وقال : يكره إكرام النحويين ، وتعارضا في النحوي الصرفي ، [ فإنّه ] نرجع فيه إلى عموم يجب إكرام العلماء.

وكذلك الحال لو قال ـ بعد قوله يجب إكرام العلماء ـ : يحرم إكرام الفاسق من العلماء ، وقال : يكره إكرام الفاسق منهم ، فإنّا بعد التعارض نرجع إلى عموم يجب إكرام العلماء ، وذلك لأنّ هذين الخاصّين لا يدلاّن دلالة لفظية على عدم الوجوب في مورد المعارضة ، وأقصى ما في البين هو أنّا نقول إنّه إذا ثبت حرمة إكرام ذلك الخاصّ انتفى عنه الوجوب ، وحينئذ نقول : إنّ التعارض قد أوجب عدم ثبوت الحرمة وعدم ثبوت الكراهة ، وإذا لم يثبت كلّ من الحرمة والكراهة لم يكن مانع من كونه محكوماً بحكم العام الذي هو الوجوب ، إذ لم يدلّ كلّ من الخاصّين دلالة لفظية التزامية على نفي الوجوب.

وبالجملة : ينبغي التأمّل في الصغريات ، وأنّ المقام من قبيل الدلالة اللفظية ، أو هو من قبيل الانتقالات القهرية التابعة لثبوت المنتقل عنه ، فلاحظ وتأمّل.

١٣٦

ثمّ لا يخفى أنّ الاستدلال على نفي الثالث بما أُفيد من أنّ سقوط الدلالة المطابقية عن الحجّية لا يوجب سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجّية ، من جهة أنّ التلازم بينهما إنّما هو في مرحلة الوجود لا في مرحلة الحجّية ، إنّما يناسب مقطوعي الصدور دون ما نحن فيه ممّا يكون الصدور غير قطعي ، وأنّ المعارضة توجب عدم جريان دليل التصديق في كلّ من المتعارضين.

نعم ، إنّ عدم جريان دليل التصديق ليس عبارة عن الحكم بعدم الصدور ، كي يتوجّه عليه أنّه كيف يحكم بعدم الصدور من حيث الدلالة المطابقية وبالصدور من حيث الدلالة الالتزامية ، بل إنّ مرجع ذلك إلى عدم الحكم بالصدور ، وهذا فيما لا يترتّب أثر على صدوره ، أمّا ما يترتّب الأثر على صدوره ولو بحسب الدلالة الالتزامية ، فلا مانع من كونه مشمولاً لأدلّة الصدور وإن لم يمكن العمل به من ناحية الدلالة المطابقية.

ثمّ لا يخفى أنّه لا يرد على ما في الكفاية في تقريب الحجّية لأحدهما لا بعينه ، أنّ العلم المتعلّق بالصور الذهنية لا ينتقل إلى ما في الخارج كما حقّق في محلّه في مباحث العلم الاجمالي ، فإنّ صاحب الكفاية إنّما يلتزم في المقام بعدم الحجّية لما في الخارج من الخبرين المتعارضين ، لأنّ العلم بحجّية أحدهما لا بعينه لا يوجب الحجّية لواحد منهما بخصوصه.

والخلاصة : هي أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره لم يستدلّ على التساقط بمجرّد العلم بكذب أحدهما ليكون ذلك العلم موجباً لكون التمسّك في كلّ واحد منهما بدليل الحجّية تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، ليرد عليه أنّ العلم لا يسري من الصورة الذهنية إلى ما في الخارج ، بل هو يريد أن يولّد من العلم بكذب

١٣٧

أحدهما مع فرض عدم العلم بكذب الآخر كون الآخر معلوم الحجّية ، ليكون ذلك الآخر غير المعيّن نافياً للثالث ، أمّا سقوطهما فهو متولّد عن العلم بكون أحدهما حجّة لا بعينه ، الموجب لسلب الحجّية عن كلّ واحد منهما بخصوصه. نعم إنّه يدّعي أنّ أحدهما غير المعيّن حجّة وهو كافٍ في نفي الثالث.

ولا يرد عليه أنّ الحجّية تحتاج إلى الوصول المنوط بالعلم التفصيلي المتعلّق بهذا الخبر أو بذلك الخبر ، لإمكان الجواب عنه بأنّه إنّما يحتاج إلى ذلك من جهة أنّ ترتّب الأثر عليها متوقّف على ذلك ، فلو كان لنا أثر يترتّب على حجّية أحدهما لا على التعيين وهو نفي الثالث كفى في صحّة حجّية ذلك الغير المعيّن.

نعم ، يرد عليه أوّلاً : أنّ العلم بكذب أحدهما لا على التعيين يمكن المنع عنه ، وإنّما أقصى ما عندنا هو العلم بأنّ الحكم في أحدهما غير مطابق للواقع لا أنّه باطل السند ، إلاّ أن يكون ذلك هو مراده بكذب أحدهما.

وثانياً : أنّ ما أفاده من أنّ أحدهما لا تعيّن له واقعاً ، فلا يكون المقام من الترديد بين الحجّة واللاّحجّة ، يمكن المنع منه ، بأن يقال إنّ ما هو خارج عن الحجّية متعيّن في الواقع ، وهو ما كان مخالفاً للواقع منهما وإن كنّا لا نعلمه بعينه.

إلاّ أن يقال : إنّه ليس مراده أنّ ما هو المخالف للواقع لا تعيّن له واقعاً ، وإنّما مراده أنّ ما يعلم بعدم حجّيته لا تعيّن له واقعاً ، فيكون الآخر الذي لا يعلم بأنّه مطابق للواقع معلوم الحجّية.

ولكن يرد عليه المطالبة بسبب العلم بأنّ أحدهما لا بعينه ليس بحجّة أو ليس لدينا إلاّ العلم بأنّ أحدهما غير مطابق للواقع ، وإن شئت [ قلت ] ليس لدينا إلاّ العلم بعدم اجتماع هذين الحكمين ، وهو لا يولّد العلم بعدم حجّية أحدهما ،

١٣٨

بل إنّه بواسطة التعارض يوجب العلم بعدم حجّية كلّ منهما ، فلا يبقى لدينا إلاّما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من أنّ سقوط حجّيتهما في مدلولهما المطابقي لا يستلزم سقوطها في مدلولهما الالتزامي ، لإمكان التفكيك في الحجّية بين الدلالتين.

وأمّا ما أفاده في دعوى الملازمة في الحجّية بين الدلالتين في حاشيته الخطّية المرسومة على هامش حاشيته على الرسائل (٢) وقد نقله المرحوم الشيخ محمّد علي في هامش هذا التقرير (٣) وحاصله : أنّ ما دلّ على وجوب الشيء وإن دلّ على نفي الحرمة التي دلّ عليها الخبر الآخر وعلى نفي الاباحة التي هي الأمر الثالث ، إلاّ أنّ ثبوت نفي الاباحة إنّما هو في طول ثبوت الوجوب ، والمفروض أنّ الوجوب لم يثبت لوجود معارضه وهو ما دلّ على الحرمة.

ففيه : ما عرفت الاشارة إليه من أنّه لو كان المراد باللازم هو الانتقال من ثبوت المدلول المطابقي إليه انتقالاً لمّياً أو إنّياً أو الانتقال من ثبوت الموضوع إلى تحقّق حكمه ، فذلك مسلّم ، إذ ما لم يثبت الملزوم أو الموضوع لا يتمّ الانتقال إلى لازمه.

أمّا إذا كان المراد من اللازم هو ما يدخل تحت الدلالة الالتزامية بحيث يكون ما دلّ على الوجوب بالمطابقة دالاً على نفي الاباحة بالالتزام ، فكان له دلالتان لفظيتان مطابقية والتزامية ، فلا مانع من شمول دليل التصديق له باعتبار

__________________

(١) [ ليس للشيخ قدس‌سره في هذا المقام تصريح بذلك ، نعم قد يقتنص ذلك من بعض عباراته فراجع فرائد الأُصول ٤ : ٣٣ ـ ٤٥ ].

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٢٦٦. ولكنّه مذكور في متن الحاشية لا في هامشها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٧٥٥ ، الهامش ٢.

١٣٩

الدلالة الالتزامية ، وأقصى ما في البين هو أنّه بعد الحكم بصدور هذا الخبر الدالّ على الوجوب بالمطابقة وعلى عدم الاباحة بالالتزام ، نقول إنّه لا يمكن العمل به من ناحية المطابقة لوجود المعارضة مع وجوب العمل به من ناحية الالتزام ، إذ لا معارض له فيها ، أو لاشتراكه مع معارضه فيها ، وهذا هو المراد من أنّه ليس بحجّة من حيث المطابقة مع كونه حجّة من حيث الالتزام ، وليس المراد أنّه ليس بصادر من حيث المطابقة وصادر من حيث الالتزام ، لما عرفت من أنّ عدم الحجّية لا يلزمها الحكم بعدم الصدور ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه ربما يؤخذ هذا المعنى الذي أفاده المرحوم صاحب الكفاية قدس‌سره في الحاشية الخطّية دليلاً على سقوطهما وعلى نفيهما الثالث ، فأفاد ما محصّله : أنّ الخبر الدالّ على وجوب الشيء في قبال الخبر الدالّ على حرمته يدلّ بالمطابقة على الوجوب ، وبالالتزام على نفي التحريم وعلى نفي الاباحة ، وهكذا الحال في الخبر الدالّ على التحريم ، فلا يمكن الحكم بتصديقهما لأنّه ينتهي إلى التناقض فيما اختلفا فيه ، أمّا فيما لم يختلفا فيه وهو نفي الاباحة فلا مانع من تصديقهما ، هذا في المتضادّين.

وأمّا في المتناقضين مثل أن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على عدم الوجوب فهو أوضح ، لأنّ كلاً منهما يدلّ على نفي مدلول الآخر بالمطابقة ، فلا يمكن تصديقهما فيسقطان ، لكن يبقى لما دلّ على الوجوب دلالته الالتزامية على نفي ما عدا الوجوب الذي هو الاباحة مثلاً ، فلا مانع من تصديقه فيه.

ولا يخفى أنّ ما يدلّ على نفي الوجوب يدلّ بالالتزام على أنّ حكمه هو أحد الأحكام الأربعة الباقية ما عدا الوجوب ، إذ لا تخلو الواقعة عن حكم من

١٤٠