أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

التخيير والتوقّف في زمان الغيبة بحاله.

إلاّ أن نسقط أخبار التخيير الخاصّ بزمان الحضور بدعوى عدم العمل به ، أو نرجّح أخبار التخيير المطلق على أخبار التوقّف فيما نحن فيه من زمان الغيبة بأنّها موافقة للمشهور ونحو ذلك من المرجّحات ، أو نحمل أخبار التوقّف المطلق على خصوص زمان الحضور ، ولو من جهة استبعاد الأمر بالتوقّف الدائمي الذي هو لازم جريانه في زمان الغيبة ، فإنّ ذلك لا يناسبه التعبير بالتوقّف ، وإنّما يناسبه التعبير بالاحتياط لو أمكن.

قوله : وقد عرفت أنّ النسبة بينهما العموم من وجه (١).

ينبغي أن يكون ذلك من سهو القلم ، لأنّ النسبة هي التباين ، والمعارضة معارضة التباين كما هو واضح.

قوله : والاستدلال على وجوب الأخذ بما يوافق الاحتياط بقوله عليه‌السلام في خبر عوالي اللآلي : « إذن فخذ بما فيه الاحتياط لدينك » ضعيف ... الخ (٢).

تشتمل رواية العوالي على قوله « قلت : ربما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط. قلت : إنّهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ قال : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (٣) وبواسطة هذا الذيل كانت هي الدليل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٥.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

١٦١

للقول الثالث المتقدّم حكايته في أوّل البحث ، وهو لزوم الأخذ بما يوافق الاحتياط منهما إن كان وإلاّ فالتخيير.

ثمّ إنّه قدس‌سره قد أشكل فيما حرّرته عنه على هذه الرواية أوّلاً : بأنّ فرض السائل كون كلّ منهما موافقاً للاحتياط فرض لا واقعية له ، بل لم نتعقّله ، لأنّ كون كلّ منهما موافقاً للاحتياط غير معقول.

وثانياً : بأنّ خلوّ باقي الروايات عن ذكر الاحتياط ممّا يوجب وهن هذه الرواية.

وثالثاً : بأنّها في نفسها موهونة بضعف راويها.

أمّا الأوّل ، فيمكن تحقّقه بأنّ إحداهما تدلّ على وجوب الشيء والأُخرى على حرمته (١)

__________________

(١) [ وجدنا هنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بالأصل ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش وهي كما يلي : ]

عيون الأخبار عن الميثمي « أنّه سئل الرضا عليه‌السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشيء الواحد ... فقال عليه‌السلام : فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله تعالى ، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وما

١٦٢

ــــــــــــــــــ

لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا » [ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠ ـ ٢١ / ٤٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢١ ].

ولا يخفى أنّه لا يبعد القول بحكومة قوله عليه‌السلام : « فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيّهما شئت ، وسعك » الخ ، على الأخبار القائلة بالتخيير حكومة شرح ، وأنّ مورد ذلك التخيير هو الأحكام الترخيصية مثل المكروهات والمستحبّات ، وأنّ ما عدا تلك الموارد من الأحكام الالزامية يكون المرجع فيه هو التوقّف والارجاع إليهم عليهم‌السلام ، وما أشبه هذه الحكومة بالحكومة المدعاة في قوله عليه‌السلام : « إنّهم لم يحفظوا عنّي ، إنّما قلت ذلك في الطلاق » [ لعلّه قدس‌سره يشير إلى ما روي في وسائل الشيعة ٢١ : ٣٣٣ / أبواب المهور ب ٥٨ ح ٢٤ ].

ومنه يظهر لك أنّ هذه الحكومة جارية حتّى على الرواية الآمرة بالتخيير في مورد الحكم الإلزامي ، كما ربما يظهر من مثل مرفوعة العوالي ونحوها ، فإنّ هذه الرواية الحاكمة بمنزلة المكذّب لتلك الرواية المحكومة.

واعلم أنّ صاحب الحدائق ذكر أخبار التعارض وذكر في الجمع بينها وجوهاً :

منها : حمل الأمر بالتخيير على العمل ، وحمل التوقّف على التوقّف في الفتوى.

ومنها : حمل التخيير على ما إذا كان التوقّف غير ممكن.

ومنها : حمل أخبار التخيير على ما عرفت من كون مورده هو الأحكام غير الالزامية ، إلى غير ذلك من المحامل التي أنهاها إلى ثمانية ، ثمّ قال : وكيف كان ، فتعدّد هذه الاحتمالات ممّا يدخل الحكم المذكور في حيّز المتشابهات التي يجب الوقوف فيها على جادّة الاحتياط ، فإنّه أحد مواضعه كما قدّمنا تحقيقه وأوضحنا طريقه [ الحدائق الناضرة ١ : ٩١ ـ ٩٦ ، ١٠٠ ـ ١٠٥ ].

١٦٣

ــــــــــــــــــ

ولا يخفى أنّ التخيير وإن أيّده جماعتنا وشيّدوه ، إلاّ أنّك لا تجد فقيهاً يقول في بعض موارد التعارض أنا أختار هذا الخبر دون مقابله ، بل هم لا يزالون يتعبون أنفسهم في تحقيق جهة من جهات التقديم ، بل تراهم يقولون بالتساقط في مثل تعارض العموم من وجه ، ومن ذلك ينفتح لك باب القول بأنّه لا أهميّة لإثبات كون المرجع هو التخيير ، فالعمدة هو النظر في المرجّحات ، وإذا انسدّ باب الترجيح لفرض التساوي ـ وما أقلّ ذلك ـ يكون المرجع هو التساقط ، وأمّا الاحتياط أو التوقّف في الفتوى فلو صدر من أحد فذلك من باب التورّع لا من جهة أنّ القاعدة تقتضيه ، فلاحظ وراجع وتدبّر. ٢٥ ربيع الثاني سنة ١٣٨١.

أمّا التفصيل بين زمان الحضور وزمان الغيبة ، فيمكن أن يتطرّق إليه المنع ، إذ ليس في الأخبار ما يدلّ على هذا التقييد. نعم يشتمل بعضها على الأمر بالارجاء حتّى تلقى إمامك ، ونحوه [ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ ، ٤٢ ] ممّا يشعر بإمكان اللقاء ، فينحصر بزمان الحضور ، لكن أنّى لنا باستفادة ذلك ، ولعلّ الغرض هو مجرّد التوقّف على بيان الإمام عليه‌السلام بعد الرجوع إليه ، وذلك لا يقتضي الانحصار بامكان الرجوع ، بل أقصى ما فيه هو الحكم بالتوقّف أو الحكم بالتخيير حتّى يلقاه ، ولا دخل لذلك بكون اللقاء قريب الأمد أو بعيد المدى كما في زمان الغيبة ، فيمكن للإنسان أن ينكر هذا التقييد ، بل هو كسائر ما علّق على مراجعته وعلى أخذ البيان منه ، وكلّه داخل فيما أفاده المحقّق الطوسي : إنّ وجوده عليه‌السلام لطف وإنّ تصرّفه لطف آخر وإن منعه منّا [ كشف المراد : ٣٦٢. لا يخفى أنّ الموجود في بعض النسخ : وعدمه منّا ، وفي بعضها الآخر : وغيبته منّا ].

والخلاصة : هي سقوط القول بالتخيير ، لما عرفت من حكومة رواية الميثمي على أخبار التخيير ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّك لا تجد فقيهاً منّا يقول أنا أختار هذا الخبر وأُفتي به وأطرح مقابله.

١٦٤

ــــــــــــــــــ

وحينئذ فلم يبق باليد إلاّ أخبار التوقّف والاحتياط والارجاء إلى لقاء الإمام عليه‌السلام والمنع عن القول بشيء في المسألة ، إلى غير ذلك من العبائر الواردة في أخبار الباب ، وهذه الأخبار وهذه المفادات كلّها من أدلّة الاحتياط في الشبهات الحكمية التي لا مجال لها فيما نحن فيه إلاّبعد إسقاط الخبرين المتعارضين ، وبعد سقوطهما تدخل المسألة فيما لا نصّ فيه ، فلا تكون هذه إلاّعبارة أُخرى عن تلك الأخبار التي يستدلّ بها المحدّثون على عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وأنّ المرجع في الشبهات الحكمية هو التوقّف والاحتياط كما ربما يظهر لك ذلك بمراجعة رسائل الشيخ [ فرائد الأُصول ٢ : ٦٤ وما بعدها ] في الأخبار التي استدلّ بها الأخباريون لمسلكهم ، فإنّ من جملة تلك الأخبار هي الأخبار الواردة في باب التعارض.

وعلى كلّ حال ، لا يكون لخصوص التعارض خصوصية توجب الاحتياط ، بل هي بعد التساقط يكون حالها حال ما لا نصّ فيه ، وحينئذ فلا يكون مفاد تلك الأخبار إلاّعبارة عن التساقط والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل فيما لم يقم فيه دليل على التكليف ، فليس في البين أمر آخر غير التساقط عند التعارض ، وما أفادته تلك الأخبار من التوقّف والاحتياط والارجاء كلّ ذلك مبني على التساقط ، غايته أنّها تكون من أدلّة الأخباريين على منع الرجوع إلى البراءة عند عدم ثبوت الحكم الالزامي بالدليل الشرعي ، فلاحظ وتأمّل.

فلم يبق بأيدينا من هذه الأخبار إلاّ أخبار الترجيح بتلك المرجّحات المنصوصة ، فإذا وفّقنا الله سبحانه وتعالى لإثبات أنّ الترجيح على القاعدة ، وأنّ العمل به لازم حتّى لو لم يرد النصّ به ، كان لنا أن نسجّل على هذه الأخبار بأنّها لم تأت بشيء تعبّدي ، بل إنّ كلّ ما تضمّنته وارد على القاعدة ، وأنّ القول به لازم حتّى ما تضمّنته من الارجاء والاحتياط فإنّه على طبق القاعدة ، غايته أنّه يوافق مسلك الأخباريين ، ونحن لمّا كان مسلكنا هو البراءة أسقطنا الاحتياط المذكور وحكّمنا البراءة في مورد التعارض

١٦٥

قوله : ولا تعمّ صورة اختلاف النسخ كما حكي وقوع ذلك كثيراً في كتاب التهذيب ، فإنّ التعارض إنّما جاء من قبل الكتّاب ، فلا يندرج في قوله « يأتي عنكم الخبران المختلفان » (١) ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام ما هذا نصّه : الأمر الثاني هل التخيير المذكور يشمل اختلاف النسخ في رواية واحدة أم لا؟ وببالي أنّ صاحب الجواهر قدس‌سره (٣) اختار الأوّل في بعض تحقيقاته ، ولا يبعد أن يكون تعرّضه لذلك في ذكر سجدتي السهو.

وغاية ما يمكن أن يقرّب شمول أدلّة التخيير لاختلاف النسخ أن يقال : إنّ مثل الكافي لمّا كان مروياً عن صاحبه بطريقين : أحدهما النعماني والآخر ... (٤) فلو وقع اختلاف في النسخة التي يرويها أحدهما لما يرويه عنه الآخر ، كانت النسختان داخلتين في عموم قوله : « يأتينا عنكم الخبران المتعارضان » (٥) ،

__________________

والتساقط ، كما حكّمناها في غيره من الموارد التي لم تقم الحجّة على إثبات التكليف فيه [ منه قدس‌سره ].

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩ ، ٣٠ ، ٣٤ ، ٤٨ ( مع اختلاف عمّا في المصدر ).

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٦.

(٣) قال قدس‌سره بعد أن ذكر الكلام في صورة الذكر : « وإن كان الأقوى التخيير جمعاً بين الجميع بناءً على أنّ اختلاف النسخ كاختلاف الأخبار » والله أعلم. [ منه قدس‌سره ، راجع جواهر الكلام ١٢ : ٤٥٥. ولا يخفى أنّ كلمة « جمعاً » وردت في الجواهر ١٢ : ٧٦٨ ( تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي ) ].

(٤) [ في الأصل هنا فراغ فلاحظ ].

(٥) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

١٦٦

فتكونان مشمولتين لدليل التخيير.

وفيه أوّلاً : أنّ اختلاف النسخ لا ينحصر فيما ذكر من اختلاف الراويين عن راوٍ واحد كما مثّل له برواية تلميذي الكليني قدس‌سره ، بل كثيراً ما يكون اختلاف النسخ واقعاً من غلط الكتّاب كما في نسخ التهذيب ، فإنّ الاختلاف الواقع في نسخه إنّما كان من سهو الكتّاب والنسّاخ لا ممّن يرويه عن الشيخ قدس‌سره.

وثانياً : أنّ أدلّة التخيير لا تشمل اختلاف النسخ حتّى إذا كان من قبيل الاختلاف في الرواية عن الراوي ، كما في اختلاف تلميذي الكليني قدس‌سره فيما ينقلانه عنه ، إذ ليس في البين إلاّرواية واحدة ينقلها كلّ منهما عن راويها بكيفية مغايرة للكيفية التي ينقلها عنه الآخر ، فليس ذلك من قبيل التعارض بين الروايتين.

قلت : لا يقال لو فرض اختلاف الرواة في نقل رواية واحدة عن المعصوم عليه‌السلام ، بأن ينقلها أحدهما عنه عليه‌السلام بلفظ وينقلها الآخر بلفظ آخر ، لكان داخلاً في تعارض الخبرين ، فكذلك فيما لو اختلفا في النقل عن الراوي.

لأنّا نقول : فرق واضح بين المقامين ، لأنّه يصدق على المثال المذكور أنّه أتى عنهم عليهم‌السلام الخبران المتعارضان ، بخلاف ما نحن فيه لأنّه لم يأت التعارض عنهم ، وإنّما أتى عن الكليني.

ولكنّه مع ذلك فيه مجال للتأمّل ، فإنّ ما عن الكليني إنّما هو من حيث اتّصال السند بالمعصوم ، فإذا تردّدنا فيما عن الكليني فقد تردّدنا في المتن المحكوم بصدوره عن المعصوم ، وإذا كان منشأ ذلك التردّد هو اختلاف من يروي عن الكليني كان داخلاً في قوله « يأتينا عنكم ».

بخلاف ما لو علمنا أنّ منشأ التردّد هو اختلاف النسخ وسهو الكاتب مع

١٦٧

فرض كون الراوي واحداً في جميع الطبقات ، كما في إجازة رواية ما في الكتاب من دون مقابلة ، فإنّ المجاز يرويه عن المجيز والمجيز يرويه عمّن أجازه ، وهكذا إلى أن تنتهي إلى صاحب الكتاب ، ومع ذلك لو راجعنا الكتاب لوجدنا فيه اختلافاً في النسخ ، فإنّه لا يصدق على كلّ نسخة أنّها رواية ، بل لا يكون في البين إلاّ رواية واحدة ، لكنّها بواسطة اختلاف النسخ تكون من قبيل المجمل فتسقط عن الاعتبار ، إلاّ إذا رجّحنا إحدى النسختين على الأُخرى.

قوله : فالفحص عن المرجّحات يرجع إلى الفحص عن الحجّة كالفحص عمّا يعارض الأُصول اللفظية والعملية ، ولا إشكال في وجوب الفحص عنه (١).

كأنّ التخيير بمنزلة الأصل العملي ، ورجحان أحد الخبرين يكون بمنزلة الدليل الوارد على ذلك الأصل العملي.

وقد يقال : إنّ مدرك لزوم الفحص عمّا يعارض الأُصول اللفظية والعملية هو العلم الاجمالي أو المعرضية ، وهما غير موجودين فيما نحن فيه ، نعم إنّ الحكم بكون ما يختاره حجّة شرعية موقوف على إحراز مساواته لطرفه ، نظراً إلى أدلّة وجوب ترجيح الراجح ، ومع عدم إحراز مساواته له لا يمكن الحكم بحجّيته ، فيكون الشكّ في المساواة موجباً للشكّ في حجّية ما يختاره ، فيلزمه الفحص عن رجحانه أو مرجوحيته لذلك.

ويمكن أن يستدلّ لذلك : بأنّ موضوع التخيير هو التساوي كما يعطيه ما تضمّنته رواية عوالي اللآلي من قوله عليه‌السلام بعد فرض السائل التساوي : « إذن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٦.

١٦٨

فتخيّر » (١) وحينئذ (٢) لابدّ في الرجوع إلى التخيير من إحراز موضوعه الذي هو التساوي لكونه موضوعاً وجودياً. وأجاب قدس‌سره عن ذلك حينما عرضته بخدمته : بأنّ الغرض من هذا العنوان الوجودي أمر عدمي ، وهو عدم رجحان أحدهما على الآخر.

قلت : كون المساواة أمراً عدمياً قابل للتأمّل ، مضافاً إلى أنّا لو أرجعناه إلى

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٢) وحينئذ يتوجّه الإشكال بأنّه لابدّ من إحراز التساوي ، والفحص وعدم العثور على الرجحان لا يحقّق التساوي بل لا يحرز عدم الرجحان ، وأصالة عدم الرجحان لا تنفع. إلاّ أن يقال : إنّ عدم إحراز التساوي كافٍ في التخيير.

وفيه : تأمّل ، إذ لا موجب للفحص حينئذ حتّى لو قلنا بأنّ المقام من قبيل التزاحم حتّى بناءً على الطريقية الصرفة ، فإنّ عدم إحراز الرجحان كافٍ في التخيير فلا موجب للفحص حينئذ ، إلاّ أنّ يدّعى عدم المعذورية قبل الفحص ، فلاحظ وتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ وجوب الفحص عن الراجح منهما تابع لما سيأتي من أنّ التخيير هل هو في المسألة الأُصولية أو أنّه في المسألة الفرعية ، فإن كان في المسألة الأُصولية واحتملنا أنّ أحدهما أرجح من الآخر كانت المسألة من الدوران بين التعيين والتخيير في الحجّية ، والمتعيّن فيه الاحتياط بالتعيين ، وحيث إنّ محتمل الرجحان غير معيّن لكون كلّ منهما محتمل الرجحان ، وجب علينا بحكم الاحتياط الفحص عنه للأخذ به عند العثور عليه ، إلاّ إذا عجزنا عن تحصيله ، وذلك لا يكون إلاّبعد الفحص وعدم العثور.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ التخيير في المسألة الفرعية ، فإنّ الاحتياط فيها غير واجب ، ولو قلنا بوجوب الاحتياط فهو إنّما يقال به في صورة كون محتمل التعيين معيّناً ، دون ما لو كان كلّ منهما محتمل التعيين ، بخلاف الدوران في مقام الحجّية ، فلاحظ وتأمّل [ منه قدس‌سره ].

١٦٩

عدم رجحان الآخر على هذا الذي اخترناه لكان أيضاً محتاجاً إلى إحراز ، وأصالة عدم رجحان الآخر عليه لا تجري ولا تنفع في إحراز كون هذا الذي اخترناه غير مرجوح أو كون طرفه غير راجح عليه إلاّبالأصل المثبت ، وأصالة عدم الرجحان بمفاد ليس التامّة لا تنفع فيه.

نعم ، يمكن الخدشة في هذا الاستدلال بضعف رواية العوالي ، لكن ذلك لا يخدش في أصل المطلب وهو كون التخيير في طول الترجيح ، فإنّه مسلّم وعليه البناء ولو بالجمع بين أخبار التخيير وأخبار الترجيح كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى في لزوم الترجيح قبل التخيير.

قوله : الرابع الأقوى كون التخيير في المسألة الأُصولية أي في أخذ أحدهما حجّة محرزة وطريقاً إلى الواقع ... الخ (٢).

قد حرّرت عنه قدس‌سره في هذا المقام ما نصّه : ينبغي قبل التكلّم في هذا الأمر التعرّض لما أفاده الشيخ قدس‌سره (٣) في هذا المقام من كون الحكم في المسألة الأُصولية مشتركاً بين المقلّد والمجتهد ، وأنّ المجتهد ينوب فيه عن المقلّد.

فنقول أوّلاً : أنّه لا معنى لكون الحكم المذكور مشتركاً بينهما ، فإنّ الأحكام الواقعية وكذلك الأحكام الظاهرية المأخوذة من الأمارات والأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية لا ريب في اشتراكها بين المجتهد والمقلّد ، لتحقّق موضوعها في حقّ الصنفين.

وأمّا الأحكام في المسألة الأُصولية مثل حجّية الخبر الواحد والاستصحاب

__________________

(١) في الصفحة : ٢٠٢ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٦٦.

(٣) لاحظ فرائد الأُصول ٤ : ٤١.

١٧٠

الجاري في الشبهات الحكمية ، فيتوقّف جريانها في حقّ الشخص على تحقّق موضوعها بالقياس إليه وعلمه بحجّيتها ، ولا ريب في أنّ المقلّد العامي فاقد لهذين الأمرين ، فلا معنى لكون الحكم المذكور مشتركاً بينه وبين المجتهد كي يقال إنّه ينوب عنه فيه المجتهد.

والحاصل : أنّ المقلّد العامي لكونه عاجزاً لا يتحقّق في حقّه موضوع الحجّية ، ويكون رجوعه إلى المجتهد في الحكم الفرعي المستنبط من ذلك من باب رجوع الجاهل إلى العالم ، لا أنّه يكون الحكم الأُصولي جارياً في حقّه وأنّ المجتهد ينوب عنه في ذلك.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا الاشتراك والنيابة المذكورين ، فلا ريب في أنّ التخيير المذكور إنّما هو وظيفة من يستنبط ، فإذا كان المستنبط هو خصوص المجتهد إمّا لعدم اشتراك المقلّد معه في ذلك الحكم ، وإمّا لأجل أنّه ينوب عنه فيه ، فلا جرم يكون التخيير المذكور مختصّاً بالمجتهد دون المقلّد (١).

قلت : في كون إجراء الأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية من وظائف المقلّدين إشكال ، وهو أنّ إجراء تلك الأُصول يتوقّف على البحث عن معارضها وما هو حاكم عليها ، وما هي حاكمة عليه ، إلى غير ذلك من المباحث المشكلة التي يعجز عنها أفضل المجتهدين فضلاً عمّن هو أحد المقلّدين ، كما هو غير خفي على من جاس خلال تلك الديار في مباحث الخلل من الصلاة وغيره من مباحث العلم الاجمالي.

فلابدّ أن نقول : إنّ الذي هو وظيفة العامي هو مجرّد الأخذ بما يفتيه به

__________________

(١) ينبغي مراجعة ما حرّرناه على أوائل الاستصحاب وأنّه من المسائل الأُصولية [ منه قدس‌سره ].

١٧١

المجتهد من الكبرى الكلّية ، وأمّا تعيين مورد تلك الكبرى من حيث الجهات المشار إليها فذلك أمر آخر لا يكون إلاّمن وظيفة المجتهد.

وبعبارة أوضح : أنّ وظيفة العامي هي إجراء هذه القواعد في موردها ، وأمّا الدليل على نفس القاعدة مثل قاعدة الفراغ ، وأنّ الاستصحاب محكوم لها ، وأنّ الوظيفة ما هي عند التصادم بين هذه القواعد ، فذلك وظيفة المجتهد ، ويكون العامي مقلّداً له في هذه الجهات كلّها ، ولأجل ذلك تراهم في رسائلهم العملية يذكرون تلك الفروع الموضوعية بخصوصياتها ، ويحكمون فيها بمقتضى ما حصل لهم من تلك التحكيمات والجمع بين هاتيك القواعد وتلك الأُصول المتعارضات ، ويرسمون نفس النتيجة الفتوائية في الرسالة.

وأمّا الأُصول الجارية في الشبهات الحكمية فهي من خصائص العالم المجتهد الذي يطرأه اليقين والشكّ ولو في حكم غيره ممّا لا يجري في حقّ ذلك المجتهد كأحكام الحائض مثلاً ، لكن في مثل البراءة وقاعدة الحل الجاريين في الشبهات الحكمية إشكال ، فإنّ المدار في مثلها على الشكّ وعدم العلم ، فلا يمكن أن يجريها المجتهد إلاّفي أحكام نفسه ، أمّا أحكام غيره فلا ، كما أنّ العامي لا يمكنه إجراؤها ، إذ لا يتحقّق في حقّه شكّ أو علم بالنسبة إلى موارد الشبهات الحكمية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المجتهد يجريها نيابة عن المقلّد. أو يقال : إنّ المكلّف العامي يصدق عليه الشكّ في ذلك الحكم وعدم العلم به ، باعتبار أنّ من قلّده واعتمد عليه في أخذ أحكامه منه كان عالماً أو كان شاكاً ، فتأمّل.

أو يقال : إنّ العامي شاكّ وجداناً ويصدق عليه أنّه غير عالم بالحكم ، غايته أنّ إجراءه البراءة مثلاً يتوقّف على الفحص عن الدليل وهو عاجز عنه ، فالمجتهد

١٧٢

ينوب عنه في هذه الجهة أعني جهة الفحص عن الدليل ، ففي الحقيقة إنّه يقلّده في خصوص هذه الجهة أعني جهة عدم الدليل على الحكم.

ثمّ لا يخفى أنّه لابدّ من النظر في أنّ المراد للقائلين بكون التخيير في المسألة الفرعية ، هل يقولون به في جميع موارد التعارض والتكافؤ حتّى في مثل ما يدلّ على طهارة الشيء وما يدلّ على نجاسته ممّا لا معنى فيه للتخيير في مقام العمل ، إلى غير ذلك من موارد التعارض ممّا لا يتأتّى فيه التخيير العملي.

وتفصيل الكلام في هذا المقام : هو أنّ الشبهات الموضوعية وإن كان مدار جريان الوظائف المقرّرة فيها من أمارات وأُصول شرعية إحرازية وغير إحرازية على شكّ المكلّف وعدمه ، فكان هو المطبّق لها وإن كان عامياً مقلّداً ، إلاّ أنّ ذلك بعد إثبات أصل تلك الوظائف وتحكيم بعضها على بعض ، وذلك راجع إلى المجتهد كما في تحكيم يد المسلم مثلاً على أصالة عدم التذكية ، وإخبار ذي اليد بالنجاسة على أصالة الطهارة مثلاً ، ومن ذلك تحكيم بعض هذه الأُصول الجارية في الشبهات الموضوعية على بعضها في أبواب الخلل ، بل تحكيم الأصل الواحد على نفسه كما في مثل « من فاتته سجدتان ولم يعلم أنّهما من واحدة أو من ركعتين » في أنّ الجاري هو قاعدة الفراغ أو التجاوز في الركعة الأُولى أو الثانية ، أو أنّهما متعارضتان ، كلّ ذلك شُغل المجتهد ، ولا حظّ فيه للمقلّد.

أمّا الشبهات الحكمية ، فحاصل الكلام فيها يكون في مقامات أربعة : الأمارات ، الأُصول الاحرازية ، الأُصول غير الاحرازية الشرعية ، الأُصول العقلية.

أمّا المقام الأوّل : فمثاله الرواية الدالّة على وجوب السورة وجزئيتها في الصلاة ، فقد قالوا إنّ إعمالها من خصائص المجتهد.

ولابدّ من شرح هذا الاختصاص ، فإنّ فيه خفاء ، حيث إنّ مدلول تلك

١٧٣

الأمارة ـ وهو وجوب السورة ـ لا يختصّ بالمجتهد ، كما أنّ حجّيتها وكشفها عن الواقع المستفاد من مثل آية النبأ أو الروايات أو السيرة الدالّة على ذلك لا يختصّ به أيضاً.

لكن لمّا كان أثر الحجّية وهو تنجيز الواقع فيما أصابت والعذر فيما أخطأت ، وكذلك صحّة الإخبار عن الحكم الواقعي وهو وجوب السورة ، كلّ هذه الآثار متوقّفة على الوصول والعلم بالحجّية المزبورة ، ولا يمكن حصول ذلك إلاّ للمجتهد ، كانت تلك الآثار منحصرة بالمجتهد ، ومن هذه الجهة صحّ لنا أن نقول إنّ حجّيتها منحصرة بالمجتهد.

لا يقال : بعد فرض كون الخطاب بمثل صدّق العادل عاماً شاملاً للعامي يكون خروج العامي لأجل عجزه ناشئاً عن تقصيره ، وبعبارة أُخرى أنّ عموم الخطاب يوجب تعيّن الاجتهاد على كلّ مكلّف.

لأنّا نقول : إنّ الأمر كذلك لولا ما يستفاد من مجموع أدلّة التقليد من ترخيص العوام في ترك الاجتهاد ، وبعد تركه الاجتهاد بترخيص من الشارع لا يكون الاجتهاد إلاّواجباً كفائياً ، ويكون هذا العامي معذوراً في تركه ، ولا يلزم تخصيص الأكثر ، لأنّ ذلك ليس من قبيل التخصيص بل هو من قبيل المعذورية.

ثمّ إنّ تلك الأمارة بعد تمامية حجّيتها عند المجتهد تنجّز عليه وجوب السورة ، فيلزمه العمل على طبقها ، فإن أصابت الواقع كانت منجّزة له ، وإن أخطأت كان معذوراً ، هذا بالقياس إلى عمل نفسه ، وبالقياس إلى عمل العامي المقلّد له يكون أثر قيام تلك الأمارة عند ذلك المجتهد هو كونها مصحّحة لإخباره عن الحكم الواقعي وأنّه وجوب السورة حسب قيام تلك الأمارة ، وهذا الإخبار هو عبارة عن الفتوى ، وهذا الإخبار هو الحجّة على المقلّد ، ويستحيل في حقّه

١٧٤

حجّية الأمارة نفسها لكونه عاجزاً عن قيامها لديه وعن وصولها إليه ، وحجّية ذلك على العامي إمّا من باب خبر العادل إن وسّعناه للخبر عن اجتهاد ، وإلاّ كان من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، أو من باب حجّية خصوص فتوى العالم على الجاهل.

ومن ذلك يظهر لك الكلام في الأُصول الاحرازية ، فإنّ المجتهد بعد إعماله لها يكون قد أحرز الواقع ، فيصحّ له الإخبار به حينئذ اعتماداً عليها ، وهذا الإخبار يكون حجّة على العامي ، من دون فرق في ذلك بين كون ذلك التكليف الثابت عند المجتهد بالأمارة أو الأصل الاحرازي مشتركاً بينه وبين مقلّده كما مثّلنا من وجوب السورة ، أو يكون مختصّاً بالمقلّد كما في مثل أحكام الحيض والنفاس ونحوهما ممّا لا تعلّق له بالمجتهد إلاّباعتبار الأثر الثالث ، وهو صحّة الإخبار عن الواقع الذي أدّت إليه تلك الأمارة أو أدّى إليه ذلك الأصل الاحرازي.

أمّا الكلام في المقام الثالث وهو موارد الأُصول الشرعية غير الاحرازية مثل البراءة الشرعية ونحوها ، مثل أصالة البراءة عن وجوب الاستعاذة مثلاً قبل الفاتحة ، ومثل أصالة البراءة عن حرمة حمل المصحف مثلاً للحائض ، فقد يشكل في مثل ذلك بأنّ البراءة الشرعية إنّما تجري في حقّ الشاكّ الذي يكون متعلّق شكّه تكليفاً راجعاً إليه نفسه دون غيره ، فالبراءة في المثال الأوّل وإن جرت في حقّ المجتهد باعتبار تكليف نفسه ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بالمقلّد ، لأنّ ذلك التكليف وإن كان تكليفاً للمقلّد أيضاً ، إلاّ أنّه لا عبرة بشكّه ، فلا يصدق عليه أنّه شاكّ في ذلك التكليف الواقعي كي تجري في حقّه البراءة المذكورة.

أمّا المثال الثاني ، فبناءً على الإشكال المذكور لا يكون فيه إجراء البراءة ممكناً لا بالنسبة إلى المجتهد لأنّه وإن كان شاكّاً إلاّ أنّ متعلّق ذلك الشكّ ليس تكليفاً له ، ولا بالنسبة إلى المقلّد لأنّ متعلّق الشكّ وإن كان تكليفاً راجعاً إليه إلاّ أنّه

١٧٥

لعدم العبرة بشكّه لا يكون داخلاً في عموم الشكّ وعدم العلم الذي هو موضوع البراءة الشرعية.

وهذا الإشكال إنّما نشأ من هذه الكلمة وهي أنّه لا عبرة بشكّ العامي الظاهرة في إلغاء شكّه ، وأنّه لا حكم لذلك الشكّ وعدم العلم مع أنّه متحقّق وجداناً ، وأقصى ما في البين أنّ كون عدم علمه وشكّه موضوعاً للبراءة الشرعية متوقّف على الفحص ، ولا ريب أنّ الفحص إنّما هو الفحص عن الحجّة في قبال البراءة المذكورة ، وتلك الحجّة التي يفحص عنها العامي ليست هي الحجّة الأوّلية على الحكم الواقعي ، أعني الرواية أو الاستصحاب الجاريين في الحكم المذكور ، لأنّ الحصول على ذلك النحو من الحجّة بل الفحص عنها لا يكون مقدوراً له ، فلا يكون فحصه حينئذ إلاّفحصاً عمّا يمكن أن يكون حجّة عليه ، وذلك منحصر بفتوى من كان هو مقلّداً له ، وبعد فرض أنّ ذلك المجتهد الذي يقلّده لا يمكنه الإخبار عن الحكم الواقعي لأنّه لم تقم لديه حجّة عليه ، يكون شكّ ذلك العامي وعدم علمه بالحكم الواقعي موضوعاً للبراءة الشرعية ، وعلى هذه الأُسس يفتيه بالجواز تسامحاً ، لأنّ ذلك ليس على نحو الحكاية عن أنّ الحكم الواقعي هو الجواز والاباحة ، بل روحه هو جواز الإقدام باعتبار كونه شاكّاً وأنّه جواز عذري منشؤه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » (١). وهكذا الحال في الفتوى بطهارة الحديد استناداً إلى قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية.

وأمّا الكلام في المقام الرابع ـ وهو موارد الأُصول العقلية مثل مسائل الدوران بين المحذورين الوجوب والحرمة ، فهل يحكم العقل بالتخيير أو يحكم بلزوم دفع المفسدة لكونه أولى من جلب المصلحة ، ومثل ما لو انتهت النوبة إلى

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

١٧٦

البراءة العقلية ، كما لو عجز الفقيه عن رفع التعارض بين أخبار الاحتياط والبراءة في الشبهات البدوية ، ورجعت النوبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل. ومن هذا القبيل ما لو انتهى الأمر إلى العلم الاجمالي ، سواء كان في الشبهة الحكمية كما في الظهر والجمعة ، أو كان في الشبهة الموضوعية ، فهل يحكم العقل بلزوم الاحتياط كما عليه الجل ، أو لا يحكم بذلك كما عليه المحقّق القمي قدس‌سره (١) ـ فحاصل الإشكال فيه أنّ الحكم العقلي لا يجري فيه التقليد لاشتراك العامي والمجتهد فيه.

ويمكن الجواب عنه بما حاصله : أنّ ذلك العامي بعد فرض الوصول إلى تلك الدرجة لو كان ممّن يمكن أن يميّز بين قاعدة دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة وقاعدة التخيير العقلي ، بحيث إنّه يحصل له العلم بفساد قاعدة دفع المفسدة أو العلم بصحّتها وتقديمها على قاعدة التخيير العقلي ، لم يصحّ له أن يقلّد في هذه الجهة ، وإن قلّد في تنقيح أنّ ما هو محلّ ابتلائه من صغريات هاتين القاعدتين ، ففي هذه الصورة ليس على المجتهد إلاّ أن يخبره بأنّ هذه المسألة التي هي محلّ ابتلائه هي من صغريات القاعدتين المزبورتين ، ويذره وما يحكم به عقله في تحكيم أيّ منهما.

وهكذا الحال فيما انتهت النوبة إلى قاعدة قبح العقاب من دون بيان ، أو قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فإنّ على المجتهد أن يخبره بأنّ محلّ ابتلائه من ذلك القبيل ، ويذره وما يحكم به عقله من تحكيم إحدى القاعدتين.

لكن أنّى للمقلّد أن يعرف معنى دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، أو معنى دفع الضرر المحتمل وكونه محكوماً لقاعدة قبح العقاب من دون بيان ،

__________________

(١) قوانين الأُصول ٢ : ٣٧.

١٧٧

وحينئذ فعليه أن يقلّد أيضاً في هذا الحكم العقلي بعد فرض كونه عاجزاً عن حقيقته وتحكيم إحدى قاعدتيه على الأُخرى.

ثمّ إنّك بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل التي ذكرناها تعرف أنّه لا حاجة في توجيه إجراء المجتهد الأُصول الشرعية في الشبهات الحكمية إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حرّر عنه في أوائل الاستصحاب من قوله : ولا عبرة بيقين المقلِّد وشكّه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكّه ، وهو الذي يجري الاستصحاب ويكون بوحدته بمنزلة كلّ المكلّفين الخ (١) ، لما عرفت من أنّه ـ أعني المجتهد ـ يصحّ له الإخبار على طبق مؤدّى الاستصحاب وذلك هو محصّل الفتوى ، من دون حاجة إلى دعوى كونه بمنزلة كلّ المكلّفين.

كما أنّه لا حاجة إلى دعوى كونه نائباً عنهم كما نقله قدس‌سره عن الشيخ (٢) في التخيير بين الخبرين المتعارضين بعد تكافئهما.

كما لا حاجة إلى دعوى كون المجتهد يخبره بالحدوث وهو يكمل ذلك بالاستصحاب.

كما أنّه لا حاجة إلى ما تكلّفه صاحب الكفاية في مبحث الاجتهاد والتقليد من توجيه رجوع المقلّد إلى المجتهد في موارد الأمارات في الشبهات الحكمية بأنّه وإن كان ذلك المجتهد جاهلاً بالحكم الواقعي إلاّ أنّه عالم بموارد قيام الحجّة الشرعية على الأحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم الخ (٣).

فإنّك قد عرفت أنّ رجوعه إليه في موارد الأمارات بل والأُصول التنزيلية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣١٠.

(٢) لاحظ فرائد الأُصول ٤ : ٤١.

(٣) كفاية الأُصول : ٤٦٥.

١٧٨

إنّما هو رجوع إليه باعتبار إخباره عن الحكم الواقعي الذي أحرزه بذلك ، فإنّه يكون عالماً بالحكم الواقعي تنزيلاً بواسطة قيام الحجّة الشرعية عليه عنده ، لا من باب أنّه عالم بموارد الطرق ، إذ همّ العامي إنّما هو السؤال عن الحكم الواقعي لا السؤال عمّا قامت عليه الطرق.

كما أنّ ما نقّحه المرحوم الأصفهاني في حاشيته (١) على هذا المقام من الكفاية من الاكتفاء بكونه عارفاً بالحكم أو عالماً به بقيام الحجّة عنده على الحكم لكونها محقّقة لتنجيز الواقع وموجبة لسدّ العذر في مخالفته ، غير نافع.

أمّا أوّلاً : فلأنّ مجرّد قيام الحجّة الموجبة لعدم المعذورية وللتنجّز لا توجب كونه عالماً بالحكم.

وثانياً : أنّ مجرّد كون الشخص عالماً لا ينفع في حقّ المقلّد ، لأنّ كون الشخص عالماً غير نافع في حقّ شخص آخر إلاّبنحو العناية ، كما صرّح به في حاشيته الثانية (٢).

فالعمدة هو ما عرفت من أنّ قيام الحجّة أو تحقّق العلم التعبّدي في حقّ المجتهد يجوّز له الإخبار بما قامت عليه الحجّة عنده ، وهذا الإخبار هو الحجّة على المقلّد ، لا لأجل مجرّد كونه خبراً كي يرد عليه أنّ حجّية الإخبار منحصرة في الحسّيات ، بل لأجل قيام الدليل بالخصوص على حجّية إخباره ، لأنّه من أهل الخبرة ، أو لأجل خصوص إخبار المجتهد لمن يقلّده.

والعمدة هو أنّ المجتهد بعد أن قامت عنده الأمارة أو الأصل الاحرازي على الحكم يجوز له أن يخبر به ليكون إخباره به حجّة على العامي ، وإلاّ فلو قلنا

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٦٦.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٣٦٧.

١٧٩

إنّ قيام الأمارة ـ كخبر الواحد ـ على تحقّق شيء لا يسوّغ لمن قامت عنده الأمارة الإخبار بذلك الشيء انسدّت باب الفتوى ، إذ ليس هي إلاّ الإخبار بالحكم الواقعي ، لكن قد تحقّق في محلّه أنّ ذلك مسوّغ للإخبار.

ولأجل ذلك صحّ لمن رويت له رواية عن الإمام عليه‌السلام وكانت تلك الرواية حجّة كاملة أن يروي المتن عن الإمام عليه‌السلام ويقول قال الإمام عليه‌السلام كذا وكذا ، وهي الرواية المرسلة. ولسنا بصدد إثبات حجّية الرواية المرسلة ، بل بصدد إثبات جواز نقل المتن عن الإمام بلفظ قال الإمام عليه‌السلام مع أنّه لم يسمعه ، وإنّما روي له ذلك عنه عليه‌السلام.

والظاهر أنّ الأُصول الاحرازية لها هذه المنزلة من تجويز الإخبار بمؤدّاها ، بل صرّحوا وصرّحت الروايات بجواز الشهادة بمقتضاها كما حقّق ذلك في القضاء.

ثمّ إنّه قدس‌سره (١) لم يتعرّض لموارد الأُصول الشرعية ، بل انتقل من الكلام على الطرق والأمارات إلى الأُصول العقلية ، وأفاد أنّ المقلّد إنّما يرجع إلى المجتهد في فقد الأمارة ، فكأنّه يقلّده في ذلك لا في الحكم الشرعي أو العقلي.

وقد عرفت أنّ رجوع المقلّد إليه في جميع موارد الشبهات الحكمية إنّما هو من باب الفحص عن الحجّة على التكليف ، وهي فتوى ذلك المجتهد ، فإذا فرضنا أنّ ذلك المجتهد لم تقم عنده الحجّة على إحراز التكليف ، كان ذلك العامي ممّن لم تقم عنده الحجّة على ذلك التكليف ، بمعنى أنّه لم يعثر على فتوى مقلّده بإثبات التكليف ، فيكون شكّه حينئذ مصداقاً لما هو موضوع الأُصول الشرعية على التفصيل الذي حرّرناه من دون حاجة إلى الالتزام بأنّ المقلّد يكون

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٦٦.

١٨٠