أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

والتعيين ، أمّا قبل الاختيار فواضح ، لما عرفت من أنّه يكون بين المتباينين ، وأمّا بعد الاختيار فلأنّ الكلام حينئذ فيما اختاره ذلك المكلّف ، وأنّه هل اختار كون أحدهما حجّة فيتعيّن عليه البقاء عليه ، أو أنّه اختار العمل على أحدهما فيجوز له العدول إلى العمل على الآخر ، وليس هذا من الدوران بين التخيير والتعيين بل هو من قبيل الدوران بين تعيّن شيء والتخيير في شيء آخر.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الدوران قبل العمل يكون من قبيل الترديد بين المتباينين مع فرض عدم إمكان الجمع بينهما ، مثلاً لو وردت رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وأُخرى تدلّ على حرمته ، وانتهى الأمر إلى التخيير المستفاد من قوله عليه‌السلام « إذن فتخيّر » (١) والمفروض تردّد ذلك التخيير المأمور به بين كونه تخييراً في المسألة الأُصولية ، الذي تكون نتيجته عند اختيار الرواية الدالّة على الوجوب هو إفتاء ذلك المجتهد للعامي بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبين كونه تخييراً في المسألة الفرعية الذي تكون نتيجته إفتاءه العامي بأنّه مخيّر بين الفعل والترك ، والمفروض أنّه لا يمكن الجمع بين هاتين الطريقتين لعدم إمكان الجمع بين هاتين النتيجتين ، فهل يكون قوله عليه‌السلام « فتخيّر » إلاّ من قبيل المجمل المردّد بين المتباينين اللذين لا يمكن الاحتياط فيهما بالجمع بينهما الموجب لسقوط تلك الجملة عن الحجّية ، وحينئذ فأي شيء يكون حاصلاً لذلك المجتهد قبل اختياره كي يتكلّم في أنّه مجرى للاستصحاب أو أنّه من قبيل الدوران بين التخيير والتعيين ، وما كيفية ذلك الاختيار الذي وقع منه ، وهل كان هو الاختيار في مقام الحجّية أو كان هو الاختيار في مقام العمل.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

٢٠١

قوله : وقد حكي عن بعض القول بالتخيير مطلقاً ، لإطلاق أدلّة التخيير وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ... الخ (١).

لا يخفى أنّا لو تمّ لنا ما تقدّم (٢) من تقديم رواية العيون على أخبار التخيير ، إمّا من جهة الحكومة أو من جهة تقيّدها بما عدا الرُخَص ، لم يبق عندنا ما يدلّ على إطلاق التخيير كي نحتاج إلى دعوى كون أخبار الترجيح مخصّصة لأخبار التخيير.

نعم ، بعد إسقاط أخبار التخيير ، وحمل أخبار التوقّف والارجاء على التساقط ، نحتاج إلى دعوى التخصيص ، وأنّ هذا التساقط إنّما يكون بعد فقد المرجّح ، ومع قطع النظر عمّا ذكرناه من تحكيم رواية العيون على أخبار التخيير فلابدّ من إثبات إطلاق في ناحية أخبار التخيير كي نحتاج إلى دعوى التخصيص.

فنقول : إنّ عمدة أخبار التخيير هي رواية الحسن بن الجهم ، ورواية الحارث بن المغيرة بعد إسقاط الغاية فيها عن كونها مقيّدة بزمان الحضور.

أمّا رواية الحسن بن الجهم فقد عرفت أنّها مقيّدة بما أفاده صدرها من الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة.

وأمّا رواية الحارث بن المغيرة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام فيها : « فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام » (٣) هو تلك التوسعة التي تضمّنتها إحدى موثّقتي سماعة أعني قوله عليه‌السلام : « يرجئه حتّى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه » (٤) التي قرنها مع الارجاء الذي هو التوقّف الذي عرفت أنّه عبارة عن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٠.

(٢) في الصفحة : ١٦٢ وما بعدها.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٥.

٢٠٢

التساقط ، فيكون المراد بقوله عليه‌السلام : « فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام » هو الأمر بإسقاط الخبرين ، وأنّه في سعة من ناحيتهما حتّى يرى القائم عليه‌السلام ، فلا ربط لذلك بالتخيير.

بل يمكن أن يقال : إنّ ذلك هو المراد من قوله عليه‌السلام في رواية الحسن بن الجهم : « فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (١) بأن يكون المراد هو التوسعة من حيث العمل ، غايته أنّه لمّا كان الغالب في التوسعة العملية هو أنّ العمل يكون على طبق أحدهما عبّر عن التوسعة العملية بقوله : « فموسّع عليك بأيّهما أخذت » ولا أقل من الشكّ في ذلك ولو بضميمة باقي الروايات المانعة من العمل بأحدهما ، كما في الموثّقة الأُخرى لسماعة أعني قوله عليه‌السلام : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك » (٢) فلاحظ وتأمّل.

وأمّا قوله عليه‌السلام في المكاتبة في التكبيرات الانتقالية : « وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » (٣) وكذلك فيما ورد من النهي عن صلاة الفجر في السفر إلاّ على الأرض (٤) ، وما ورد من الاتيان بها في المحمل أعني قوله عليه‌السلام : « موسّع عليك بأيّة عملت » (٥) فقد عرفت أنّه خارج عمّا نحن فيه ، وأنّه داخل في رواية العيون (٦).

مضافاً إلى أنّه لا تعارض في روايتي التكبير ، فإنّ الأوّل منهما عام والثاني

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٣٩.

(٤ و ٥) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٤.

(٦) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢١.

٢٠٣

أخصّ منه.

وإن شئت فقل : إنّهم ذكروا أنّ باب المستحبّات لا يجري فيها الجمع العرفي كحمل المطلق على المقيّد ولا حمل العام على الخاصّ ، فكذلك لا يجري فيها أحكام الجمع السندي من الترجيح أو التخيير بين الحجّتين أو إسقاطهما ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه لو تمّ لنا ما تقدّم ممّا استفدناه من رواية العيون من الحكومة على أدلّة التخيير ، يكون المرجع الأصل الأوّلي أعني التساقط في المتعارضين ، ولا يكون لنا شيء في قبال أدلّة الترجيح ، أمّا بناءً على هذا الوجه من الاستناد إلى موثّقة سماعة في تفسير التوسعة في خبر الحارث بن المغيرة ، بل في خبر الحسن ابن الجهم أيضاً ، يكون مفاد الخبرين حينئذ هو التوقّف والتساقط ، وحينئذ فأدلّة الترجيح تكون في قبال هذه الأدلّة وتكون مخصّصة لها ، فلاحظ.

قوله في المقبولة : « قلت فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر ، قال عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان » (١) ... الخ (٢).

لا يبعد أن يكون المقام من الأوّل إلى هنا من قبيل الاختلاف في الفتوى وحيث إنّ المسألة من الشبهات الحكمية يكون المتعيّن فيها هو الرجوع إلى الأفضل في هذه الصفات كما أمر به عليه‌السلام بقوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » الخ ، لأنّ تنزيل المسألة على الحكومة ربما يأباه فرض صدور الحكمين ، لأنّ السابق في الحكم يكون هو المقدّم ، إلاّ أن نفرض صدور الحكم منهما في آن واحد.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٧٠.

٢٠٤

وعلى كلّ حال ، سواء نزّلنا مورد الرواية على قضاء التحكيم أو على الرجوع إليهما في بيان الفتوى ، لم يكن إشكال في لزوم تقديم ما أمر به الأعلم منهما ، سواء كان بنحو الفتوى أو كان بنحو الحكم.

أمّا الأوّل فواضح ، فإنّ المكلّف وإن كان مخيّراً في تقليد كلّ منهما ، إلاّ أنّه لمّا كان المقام مقام خصومة لم يكن فيه مجال للتخيير في التقليد ، لأنّ كلاً منهما يختار تقليد من فتواه على رغبته.

وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ النزاع في الشبهة الحكمية ، وفي مثله يتعيّن حكم الأعلم حتّى لو سبقه حكم غير الأعلم ، على تأمّل في ذلك ، نعم مع فرض تساويهما من حيث الأعلمية ينبغي أن يكون النافذ هو السابق ، ومع عدم السبق يسقطان ، ولعلّ ما أمر به عليه‌السلام من الرجوع إلى المرجّحات ناظر إلى صورة الاقتران.

وعلى كلّ حال ، إنّ الظاهر من الرواية هو أنّ الترجيح الأوّل كان لأحد الحكمين أو الفتويين على الآخر ، ومع التساوي لابدّ من قطع الخصومة بغيرهما ، وحينئذ كأنّ الإمام عليه‌السلام نظر إلى لزوم إعمال الاجتهاد بعد ذلك بترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى ، ومع التساوي من الجهات الآتية لا ينفتح باب الاجتهاد في المسألة ، ويتعيّن الارجاء والتوقّف في الفتوى على طبق إحدى الروايتين ، ويكون الحال كما لو اتّفق التنازع على الحبوة مثلاً من ناحية الشبهة الحكمية واتّفق أنّ المجتهد الذي تخاصما إليه لم يرجّح ما دلّ على عدمها على ما دلّ على ثبوتها ولا العكس ، فإنّه يرجع في فصل الخصومة بينهما إلى الطرق الأُخر بفرض عدم وجود هاتين الروايتين.

وعليه فصدر الرواية ليس في مقام الترجيح بين الروايتين ، بل هو في مقام ترجيح إحدى الفتويين أو الحكمين على الآخر ، ولعلّها من هذه الجهة من أقوى

٢٠٥

أدلّة لزوم تقليد الأعلم ولزوم تحكيمه في التخاصم في الشبهات الحكمية ، نعم باقي الرواية في مقام الترجيح ، ويمكن القول بأنّه في مقام التمييز بين الحجّة وغيرها ، فلاحظ وتأمّل ، فتسقط الرواية حينئذ عن الدلالة على الترجيح.

تنبيه : إنّ من جملة ما يمكن أن يستدلّ به على التخيير من الروايات غير رواية الحسن بن الجهم (١) وغير رواية الحارث بن المغيرة (٢) وغير رواية العوالي (٣) ، ما رواه الشيخ قدس‌سره في الصحيح عن علي بن مهزيار ، قال : « قرأت في كتاب لعبدالله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلّهما في المحمل ، وروى بعضهم أن لا تصلّهما إلاّعلى الأرض ، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع عليه‌السلام : موسع عليك بأيّة عملت » (٤).

وما رواه في الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام « يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد. الجواب : في ذلك حديثان ، أمّا أحدهما فإنّه إذا انتقل من حالة إلى أُخرى فعليه التكبير ، وأمّا الحديث الآخر فإنّه روي إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٤ ( مع اختلاف يسير ).

٢٠٦

فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » (١).

لكنّ في كون هاتين الروايتين من أدلّة التخيير إشكالاً ، لاحتمال كون التخيير فيهما لأجل كون الحكم الذي تضمّنتاه استحبابياً.

مضافاً إلى إمكان الخدشة في الثانية من حيث تعرّضها لما هو ليس من وظيفته عليه‌السلام من نقل الروايات ، وإن أجاب عنه الشيخ قدس‌سره في مبحث البراءة (٢) بأنّه من قبيل التعليم لكيفية الاستدلال.

بل إنّ في النفس شيئاً من رواية الحسن بن الجهم التي هي العمدة في إثبات التخيير المطلق الشامل لزمان الغيبة ، فإنّ في الحدائق رواية يمكن القول بكونها حاكمة وشارحة للمراد بالتخيير فيها وفي غيرها من روايات التخيير ، قال في الحدائق : ومنه ما رواه الصدوق رحمه‌الله في كتاب عيون أخبار الرضا عليه‌السلام بسنده عن أحمد بن الحسن الميثمي « أنّه سئل الرضا عليه‌السلام يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشيء الواحد ، فقال عليه‌السلام : ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله [ فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام أو مأموراً به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام ] فاتّبعوا ما وافق نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٣٩ ، الاحتجاج ٢ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ / ٣٥٥ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ١٦٧.

٢٠٧

الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً أو بأيّهما شئت ، ويسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ـ وأنتم طالبون باحثون ـ حتّى يأتيكم البيان من عندنا » (١).

وقد ذكر هذه الرواية في الوسائل (٢) ، ولكن متنها في الوسائل أوسع ممّا في الحدائق ، ولعلّ تلك التوسعة توجب كونها أقرب إلى المعنى الذي ادّعيناه من متن ما في الحدائق ، فكأنّ هذه الرواية الشريفة متعرّضة لشرح المراد ممّا ورد في غيرها من الروايات ممّا اشتمل على مثل « وبأيّها أخذت وسعك » (٣) وغير ذلك (٤) ممّا مفاده التخيير ، وأنّ المراد به هو ما يكون من قبيل الرخصة في قبال الكراهة ، وما كان خارجاً عن ذلك يجب فيه البحث والتوقّف حتّى يأتي البيان منهم عليهم‌السلام (٥)

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٩٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ ـ ١١٥ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢١.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٦ ، ١٩ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٤.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٦ ، ١٩ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٤.

(٥) لا يقال : إنّ الحكومة إنّما تتمّ لو كان قوله عليه‌السلام : « فذلك الذي يسع الأخذ بهماجميعاً وبأيّهما شئت وسعك » الخ ناظراً إلى ما ورد في روايات التخيير من هذه الجمل ، ولكن ما تضمّنته هذه الرواية إنّما هو ناظر إلى ما تقدّم فيها من قوله عليه‌السلام : « فما كان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي إعافة أو أمر فضل ، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه ، إذا ورد عليكم عنّا الخبر فيه باتّفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق النقلة فيهما ، يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعاً أو بأيّهما

٢٠٨

وذلك وإن كان مختصّاً بخصوص إمكان ورود البيان منهم عليهم‌السلام ، إلاّ أنّه يستفاد منه أنّه لا يمكن البتّ في شيء من ذلك ، فيشمل الأخذ بإحدى

ــــــــــــــــــ

شئت وأحببت ، موسع لك ذلك من باب التسليم » ... الخ.

لأنّا نقول : إنّ هذه الجملة المتقدّمة في هذه الرواية ناظرة إلى تلك الجمل الموجودة في باقي الروايات ، فعلى أيّ حال تكون حاكمة على تلك الروايات ، لكونها شارحة لتلك الروايات ومبيّنة للمراد بتلك الجمل فيها ، ولو أُغضي النظر عن الحكومة والشرح فلا أقل من كونها مقيّدة لتلك الجمل في تلك الروايات ، لأنّها قد حكمت بالتخيير في هذا المورد الخاصّ وهو مورد الرخص ، ومصرّحة بأنّه لا تخيير في غير ذلك المورد بقوله عليه‌السلام : « وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه برأيكم » الخ.

ولا يخفى أنّ حصر التوسعة في موارد الرخص لا ينافيه ما تضمّنته موثّقة سماعة القائلة « فهو في سعة حتّى يلقاه » في خصوص قوله : « أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه » ، فإنّ ذلك الذي تضمّنته الموثّقة الأُولى لسماعة بعد منعه عليه‌السلام من العمل بأحدهما من قبيل الدوران بين المحذورين ، والتخيير فيه بين الفعل والترك قهري ، هذا إذا حملنا الأمر والنهي فيها على الالزاميين وإلاّ كان موردها من الرخص ، نعم لا يبعد إرادة الالزاميين منها ولو بقرينة موثّقته الأُخرى التي تضمّنت أنّه لابدّ من العمل بأحدهما ، فلاحظ ما سيأتي في شرحهما [ في الصفحة : ٢١١ ، ٢١٤ ].

ولا يخفى أنّا لو سلكنا في رواية الميثمي مسلك الحكومة أمكن القول بأنّ محصّلها هو تكذيب ما تضمّن التخيير في الأحكام الالزامية ، ليكون نظير قوله عليه‌السلام في المهر عند موت الزوج قبل الدخول : « إنّهم لم يحفظوا عنّي ، إنّما قلت ذلك في الطلاق » [ وسائل الشيعة ٢١ : ٣٣٣ / أبواب المهور ٥٨ ح ٢٤ ( نقل بالمضمون ) ] ولا يبعد أن يكون هؤلاء الجماعة الذين حضروا بخدمته عليه‌السلام وكانوا يتنازعون قد ذكروا أخبار التخيير والتوسعة في أثناء مباحثاتهم ، والإمام عليه‌السلام أراد الردّ عليهم بقوله عليه‌السلام : « فذلك الذي يسع الأخذ » الخ [ منه قدس‌سره ].

٢٠٩

الروايتين تخييراً والفتوى على طبقها ، ولازم هذا التوقّف هو سقوط كلّ من الروايتين.

ولا يبعد أن يكون ذلك هو المراد من ذيل المقبولة المشتمل على قوله عليه‌السلام : « فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (١) بأن يكون الأمر بالإرجاء عبارة عن الأمر بترك الخبرين وعدم العمل بأحدهما ، وهو عبارة أُخرى عن التساقط ، والمقصود من قوله : « فإنّ الوقوف » الخ التوقّف في الفتوى على طبق أحدهما ، وقوله عليه‌السلام : « حتّى تلقى إمامك » لا يوجب اختصاصه بإمكان ذلك.

ويمكن حمل كلام الكليني قدس‌سره (٢) فيما مفاده التخيير على هذا المعنى ، فراجع وراجع ما حرّرناه (٣) في شرح ذلك في تحرير الكفاية عن درس بعض أساتذتنا السادة قدس‌سرهم ، بل راجع الوافي (٤) فيما يتعلّق بهذا المبحث سيّما في شرح عبارة الكليني قدس‌سره ، ونقله (٥) عبارة الطبرسي في الاحتجاج ، فإنّك تجده صريحاً في أنّ مراد الجماعة من التخيير ، التخييرُ في العمل لا الفتوى ، وحينئذ فبعد انحصار التخيير العملي بالموارد المذكورة ـ أعني موارد الترخيص كما تضمّنته هذه الرواية ـ يكون التخيير في باب التعارض ساقطاً إلاّفي خصوص الأُمور غير الالزامية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٧.

(٣) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٤) الوافي ١ : ٢٩٤.

(٥) الوافي ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، الاحتجاج ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

٢١٠

والحاصل : أنّه يمكن أن يدّعى أنّ المراد من التوقّف في كثير من هذه الروايات الآمرة بالتوقّف هو التوقّف في الفتوى على طبق إحدى الروايتين المتعارضتين ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن الالتزام بتساقطهما والرجوع إلى ما تقتضيه الأُصول والقواعد لو لم يكن في البين هاتان الروايتان.

ولعلّ أقوى شاهد على هذا التفسير ما نقله في الحدائق عن الكافي في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » (١) فإنّ تفريع قوله عليه‌السلام : « فهو في سعة حتّى يلقاه » على قوله عليه‌السلام : « يرجئه حتّى يلقى من يخبره » يدلّ على أنّ المراد من الارجاء والتوقّف هو عدم لزوم العمل بإحدى الروايتين ، وأنّه لا حرج عليه من طرحهما والبناء على عدم وجودهما الذي هو عبارة أُخرى عن التساقط.

ولا يضرّ في ذلك كون ذلك الارجاء مغيّىً بلقاء من يخبره الذي هو الإمام عليه‌السلام ، فإنّه لا يكون موجباً لتقيّد الحكم المذكور بإمكان ذلك ، فإنّ تعليق الحكم على غاية لا يوجب التقيّد بإمكان حصول الغاية ، كما في مثل « كلّ شيء لك حلال أو طاهر حتّى تعرف ... » (٢) ، وإلاّ لاختصّت قاعدة الطهارة والحل بما يمكن فيه حصول العلم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٥ ، الحدائق الناضرة ١ : ٩٣ ـ ٩٤ ، الكافي ١ : ٥٣ / ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ و ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ و ٤ ، ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ ( مع اختلاف يسير ).

٢١١

والسرّ في ذلك هو أنّ المستفاد من أمثال هذه الغايات أنّ الحكم مقيّد بعدمها ، سواء كان وجودها ممكناً فعلاً أو اتّفق أنّه غير ممكن. نعم إنّ الجهة التي تكون دائماً غير ممكنة الحصول لا يصحّ أخذها غاية ، لأنّ أخذ ما لا يمكن حصوله دائماً يكون لغواً ، لكن ذلك لا يوجب انحصار الغاية بما يمكن الحصول دائماً ، بل أقصى ما في البين هو لغوية أخذ ما يمتنع حصوله دائماً ، أمّا ما يكون ممكن الحصول ولكن قد يتّفق عدم إمكان حصوله ، فلا مانع من أخذه غاية للحكم ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذه الدعوى ـ أعني كون أخبار التوقّف مختصّة بزمان الحضور استناداً إلى الغاية المذكورة ـ أشار إليها الشيخ في الرسائل ، فإنّه قدس‌سره بعد فراغه من السببية والطريقية ، وبيان أنّ الحكم على الثاني هو التوقّف لكن الأخبار المستفيضة دلّت على عدم التساقط مع فقد المرجّح ، [ قال : ] وحينئذ فهل يحكم بالتخيير أو العمل بما طابق منهما الاحتياط أو بالاحتياط ولو كان مخالفاً لهما ـ إلى أن قال ـ وأمّا أخبار التوقّف الدالّة على الوجه الثالث من حيث إنّ التوقّف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل كما فيما لا نصّ فيه ، فهي محمولة على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام كما يظهر من بعضها ، فيظهر منها أنّ المراد ترك العمل وإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام لا العمل فيها بالاحتياط (١).

وقال في الأمر الثاني ـ بعد أن ذكر الأخبار الواردة ـ ما هذا لفظه : وأخبار التوقّف على ما عرفت وستعرف محمولة على صورة التمكّن من العلم (٢).

وقال في آخر مبحث التراجيح عند الكلام على كون دليل الحرمة مقدّماً

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ٧٠.

٢١٢

على دليل الوجوب ما هذا لفظه : والحقّ هنا التخيير وإن لم نقل به في الاحتمالين ، لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار على وجه لا يرتاب فيه هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصاً مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام الذي يحمل عليه أخبار التوقّف والارجاء (١).

لكنّك تراه كغيره قدس‌سرهم يحمل أخبار التوقّف على صورة التمكّن من لقائه عليه‌السلام ، لا أنّ نفس الأخبار المذكورة مقيّدة بذلك ، وأمّا قوله : كما يظهر من بعضها (٢) فكأنّه استظهار محض ، لا أنّه من جهة الغاية وإلاّ فإنّها جميعاً مشتملة على الغاية المذكورة.

نعم ، نقل في الوافي عن الطبرسي قدس‌سره في الاحتجاج كلاماً مفصّلاً قال فيه : وأمّا قوله عليه‌السلام للسائل : « أرجه وقف حتّى تلقى إمامك » أمره بذلك عند تمكّنه من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، فأمّا إذا كان غائباً ولا يتمكّن من الوصول إليه والأصحاب كلّهم مجمعون على الخبرين ولم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على رواة الآخر بالكثرة والعدالة ، كان الحكم بهما من باب التخيير يدلّ على ما قلناه ما روي عن الحسن بن الجهم ، عن الرضا عليه‌السلام قال « قلت له : يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، قال : ما جاءك عنّا فاعرضه على كتاب الله عزّوجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا. قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ ، فقال عليه‌السلام : إذا لم تعلم فموسع عليك

__________________

(١) فرائد الأُصول ٤ : ١٥٨.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ٤٠.

٢١٣

بأيّهما أخذت » (١) وما رواه الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فترد إليه » (٢) انتهى كلامه (٣).

وممّا يشهد بما ذكرناه من أنّ المراد بالتوقّف هو إسقاط كلّ من الروايتين وعدم الفتوى ، الرواية الأُخرى عن سماعة التي هي عن الاحتجاج ـ ولعلّها هي عين ما تقدّم (٤) عن الكافي مع الاختلاف في التعبير لكونه من قبيل النقل بالمعنى ـ أعني بتلك الرواية الثانية التي ذكرها الشيخ قدس‌سره (٥) عن الاحتجاج بسنده عن سماعة ابن مهران ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه ، قال عليه‌السلام : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأله عنه. قلت : لابدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما خالف العامّة » (٦).

فإنّ قوله عليه‌السلام في مورد كون التعارض من قبيل الأمر والنهي عن الشيء الواحد : « لا تعمل بواحد منهما » لابدّ أن يكون المراد منه عدم العمل من حيث الفتوى والاعتقاد والالتزام ، وإلاّ فإنّ العمل الخارجي في مورد هذا التعارض لا ينفكّ عن كونه على طبق أحدهما ، فكيف ينهاه الإمام عليه‌السلام عن العمل بواحد منهما ، وكيف فرض السائل فرضاً آخر وهو أنّه لابدّ من العمل ، كلّ ذلك شاهد

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

(٣) الوافي ١ : ٢٩٣ ، الاحتجاج ٢ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ( مع اختلاف يسير ).

(٤) في الصفحة : ٢١٠.

(٥) فرائد الأُصول ٤ : ٦٥.

(٦) الاحتجاج ٢ : ٢٦٥ / ٢٣٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٢ ( مع اختلاف يسير ).

٢١٤

على أنّ المراد من عدم العمل هو عدم الفتوى ، وحينئذ يكون المراد من فرض السائل أنّه لابدّ لنا من العمل هو كون المسألة من قبيل النزاع في الميراث ونحوه من موارد الشبهات الحكمية المتعلّقة بحقوق الناس في مورد التخاصم.

ولكن مع ذلك لا يكون هذا الفرض مصداقاً لكونه لابدّ من العمل بواحد منهما ، لإمكان طرحهما والرجوع في مورد المسألة إلى ما تقتضيه القواعد الأُخر ، ولعلّه فرض تسامحي ، ولذلك اكتفى السائل بما أجابه الإمام عليه‌السلام بقوله : « خذ بما خالف العامّة » وإلاّ فلو لم يكن في البين هذا المرجّح فماذا يعمل هذا السائل فيما فرضه من أنّه لابدّ من العمل بواحد منهما.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ فرض المسألة هو ما لو كان قد ابتلي بمثل هاتين الروايتين قبل حضور وقت العمل ، بأن ترد إحدى الروايتين بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال والأُخرى بحرمته ، وذلك في أواسط الشهر مثلاً ، ويكون محصّل الأمر بعدم العمل حتّى يلقاه هو لزوم ملاقاته عليه‌السلام قبل حضور وقت العمل ، ويكون محصّل الجواب أنّه قد حضر وقت العمل فلا يمكننا التأخير ، لكن هذا فرض بعيد.

بل يمكن أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام في رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فترد إليه » (١) المراد من التوسعة هو التوسعة من ناحية الخبرين ، بمعنى عدم لزوم الأخذ بواحد منهما حتّى يرى القائم عليه‌السلام فيردهما إليه ، فإنّ ردّهما إليه عليه‌السلام كناية عن عدم الأخذ بواحد منهما قبل لقائه ، بل هو في سعة منهما بحيث إنّهما حينئذ في حكم العدم ، وهو عبارة أُخرى عن التساقط والرجوع في

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

٢١٥

موردهما إلى ما تقتضيه القواعد والأُصول الجارية في ذلك المورد.

فالذي تخلّص : هو اختصاص ما دلّ على التخيير والتوسعة بموارد الرُّخص والنواهي التنزيهية ، وفيما عداها يكون المرجع هو التوقّف الذي عرفت أنّ محصّله هو التساقط.

ولو تنزّلنا عن تفسير التوقّف الذي تضمّنته أخباره بما عرفت ممّا يرجع إلى التساقط ، بل أخذناه بمعنى الأخذ بما يوافق الاحتياط منهما ، أو بما هو الاحتياط واقعاً وإن لم يكن هو ـ أعني الاحتياط ـ على طبق أحدهما ، فلا أقل من القول بأنّ مورد تلك الأخبار الدالّة على التوقّف منحصر بموارد التمكّن من لقائه عليه‌السلام ، فيبقى زماننا مورداً لمقتضى القاعدة الأوّلية من التساقط.

وأمّا الترجيح فإنّ أجمع خبر يتضمّن الترجيح هو المقبولة ، فإن تمّت دلالتها على لزومه فهو ، وإلاّ كان الترجيح أيضاً ساقطاً ، ولو بأن نقول إنّ ما تضمّنته المقبولة أوّلاً من الترجيح بصفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية في الحديث والأورعية إنّما هو مرجّح لأحد الحكمين على الآخر ، وليس في ذكر الأصدقية في الحديث قرينة على كون الترجيح للرواية لا للحكم ، لإمكان كونها ـ أعني الأصدقية ـ مرجّحة للحكم أيضاً فيما لو كان مستنده الرواية كما هو المفروض.

مضافاً إلى عدم وجود هذه الفقرة في رواية الاحتجاج لهذه المقبولة كما حكاه عنه في مستدرك الوسائل (١) وإن كان المعتمد هو ما عن الكافي (٢) ، وقد

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٥٤ / ١٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١.

٢١٦

راجعت الاحتجاج المطبوع (١) فوجدته مشتملاً على الفقرة المذكورة.

نعم ، في بعض الروايات التي ذكرها في الوسائل الاقتصار على الأفقهية والأعلمية والأورعية ، مثل ما عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال عليه‌السلام : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر » (٢).

وفي بعضها الاقتصار على الأعدلية والأفقهية ، وهي ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : وكيف يختلفان؟ قال : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال عليه‌السلام : ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه » (٣) ولم أعثر في الوسائل على رواية تدلّ على الترجيح بالصفات إلاّ المقبولة وهاتين الروايتين الواردتين في تعارض الحكمين.

وما تضمّنته [ المقبولة ] أخيراً من الترجيح بالشهرة ومخالفة العامّة وموافقة الكتاب والسنّة لم تكن من باب الترجيح ، بل كانت من باب تميّز الحجّة عن غيرها ، وذلك لكثرة الروايات الدالّة على سقوط ما خالف الكتاب والسنّة حتّى في غير مورد المعارضة ، بل دلّ بعضها على سقوط ما وافق العامّة ، مثل ما في

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦١ / ٢٣٢.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٠.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٥.

٢١٧

الوسائل عن الشيخ عن [ عبيد بن ] زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « ما سمعته منّي ممّا يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » (١) ، بل ما يدلّ على لزوم الأخذ بخلافهم حتّى مع عدم وجود الرواية عندنا ، كالرواية المشتملة على تعليل الأمر بالأخذ بخلافهم لأنّهم قد أخذوا بخلاف ما كان قد صدر من أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأحكام (٢) ، حتّى أنّ بعضها مشتمل على قوله عليه‌السلام : « إئت فقيه البلد فاستفته فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه » (٣) وإن أوّلها في الوسائل بما لا ينافي ما ذكرناه.

أمّا الشهرة (٤) فكونها من مميّزات الحجّة عن غيرها واضح ، خصوصاً بعد ما تقرّر من أنّ المدار في حجّية الخبر على الوثوق والاطمئنان ، مع ما اشتملت عليه المقبولة من التعليل بأنّه لا ريب فيه.

وممّا يشهد بما ذكرناه من إنكار التخيير وإنكار الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية مع فرض الاشتراك في هذه الموادّ ، أنّك لا تجد في الفقه من رجّح إحدى الروايتين على الأُخرى بكون راويها أفقه أو أعدل أو أورع من راوي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٦ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٥ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٣.

(٤) ولم أعثر على ما اشتمل على الترجيح بها سوى المقبولة والمرفوعة ، إلاّما أرسله في الوسائل بقوله : قال : « وروي عنهم عليهم‌السلام أنّهم قالوا : إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا فإنّه لا ريب فيه ».

والظاهر أنّ القائل المحكي عنه هو الطبرسي المذكور في صدر السند ، وقد راجعت الاحتجاج فوجدته مشتملاً على ذلك [ منه قدس‌سره. راجع وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٣ ، الاحتجاج ٢ : ٢٦٥ / ذيل ح ٢٣٥ ].

٢١٨

الأُخرى مع اشتراك الراويين في الفقه والعدالة والورع ، ولو رجع ذلك إلى المقابلة بين السلب والايجاب رجع إلى تمييز الحجّة من عدم الحجّة.

كما أنّك لا تجد مورداً يقول فيه الفقيه إنّ في البين روايتين متعارضتين في الطهارة والنجاسة أو الوجوب والحرمة ، ولا مرجّح لإحدى الروايتين على الأُخرى ، ولكنّي مع ذلك أختار رواية النجاسة أو أختار رواية الحرمة ، فالحكم في هذه المسألة هو النجاسة أو الحكم فيها هو الحرمة ، فلو كان الحكم في باب التعارض بعد فرض التساوي هو التخيير في الفتوى أو الافتاء بالتخيير ، لوقع ذلك من أحد الفقهاء في مورد من الموارد ، ولم أتوفّق على العثور في الفقه على صدور مثل ذلك من أحد من الفقهاء ، فتتبّع لعلّك تعثر عليه.

وقد تعرّض المرحوم المحقّق الرشتي قدس‌سره لهذا الإشكال فقال : إيقاظ ، هذا البحث الطويل ـ أي بحث التخيير ـ قليل الجدوى ، بل قيل أو يقال إنّه عادمها ، لأنّا لم نجد موضعاً حكموا فيه بالتخيير لتعارض الخبرين ، بل إن قالوا قالوا بالتخيير الواقعي ـ وذكر من أمثلة ذلك ما يذكر في سجود السهو وبعض منزوحات البئر ، إلى أن قال ـ لكن هذا في غير الواجبات لا يتأتّى ، بل لابدّ فيه من التعارض ، ولكن ليس ببالي ما حكموا فيه بالتخيير الظاهري لتعارض الأخبار (١) فراجعه.

نعم ، إنّ كلّ همّهم في موارد التعارض هو إسقاط إحدى الروايتين باعراض المشهور ونحوه ممّا يوجب الوهن فيها وإسقاطها عن الحجّية ، فراجع وتتبّع وتأمّل.

قال في الوسائل بعد أن ذكر رواية سماعة المشتملة على قوله عليه‌السلام : « يرجئه

__________________

(١) بدائع الأفكار : ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٢١٩

حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » (١) : قال الكليني : وفي رواية أُخرى « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » (٢) أقول : وجه الجمع حمل الأوّل على الماليات والثاني على العبادات المحضة ، لما يظهر من موضوع الأحاديث ، أو تخصيص التخيير بأحاديث المندوبات والمكروهات لما يأتي من حديث الرضا عليه‌السلام المنقول في عيون الأخبار (٣).

ثمّ إنّه سرد باقي الروايات ، ومنها رواية العيون إلى أن وصل إلى مكاتبة الحميري الواردة في التكبير المشتملة على قوله عليه‌السلام : « وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً » قال : أقول يفهم من هذا ومن حديث عمر بن حنظلة وجه الجمع بين التوقّف والتخيير ، وقد ذكرناه ، والله أعلم. على أنّ الاختلاف من غير وجود مرجّح منصوص أصلاً لا وجود له في أحاديثهم عليهم‌السلام إلاّنادراً كما ذكره الطبرسي في الاحتجاج وغيره (٤).

قلت : وهو إنّما يكون كذلك فيما لو كان التعارض على نحو التباين ، فإنّه غالباً يكون مقروناً بأحد المرجّحات ، وإن شئت فقل بأحد مميّزات الحجّة عن غيرها مثل موافقة الشهرة ومخالفة العامّة ، ولا أقل من الموهن الأعظم وهو إعراض المشهور ، وحينئذ فلا يظهر أثر مهم عملي بين القول بالتخيير والقول بالتوقّف الذي عرفت أنّ مرجعه إلى التساقط ، أمّا تعارض العموم من وجه فهو وإن كان كثيراً إلاّ أنّه ليس المرجع فيه هو الترجيح المذكور أو التخيير ، بل يتعيّن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ و ١٠٩ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٦.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ و ١٠٩ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٦.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ذيل ح ٣٩.

٢٢٠